حفيد الصالحين
07-08-2011, 11:10 PM
http://www.ferkous.com/image/gif/C0.gif
مقدمة
إنَّ الحمد لله نحمدُه ونستعينُه ونستغفره، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا ومن سيِّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضلَّ له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إلهَ إلاَّ اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبدُه ورسولُه،.وصلاة الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه أجمعين إلى يوم الدِّين. أمَّا بعد:
فإنَّ الحافظ أبا الوليد سليمان بن خلف الباجي المتوفى سنة (474ه) أحد قادة الفكر الأندلسي الذين بلغوا ذروة المجد العلمي والنبوغ الفكري في القرن الخامس الهجري، قد أسهم في إثراء وتعزيز الثروة العلمية العظيمة بما تركه من آثار علمية قيِّمة، نافعةٍ جليلةٍ، جمعت بين الرواية والدراية، والمنقول والمعقول، فبرع في القرآن والحديث وعلومهما، والفقه وأصوله، والعربية وقواعدها، والعقليات وغوامضها، فكان خبيرًا بها، قادرًا على التأليف فيها، ومن مصنَّفاته الأصولية: كتابه المختصر الموسوم ب «الإشارة في معرفة الأصول، والوجازة في معنى الدليل»، ومن خلال مضامين كتابه يظهر تأثُّره بشيخه الأصولي الفقيه: أبي إسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي الشافعي المتوفى سنة (476ه) في مسائل تعرَّض لها في كتبه الأصولية والجدلية، مثل: «التبصرة» و«شرح اللمع» و«المعونة في الجدل»، كما هو الحال في اصطلاح: «لحن الخطاب» و«فحوى الخطاب» و«إطلاقه لفظ الراوي» وغيرها، كما اعتمد على كتبه في نقل الآراء الأصولية للمذهب الشافعي، وعلى كتب شيخه الفقيه القاضي: أبي جعفر محمَّد بن أحمد السمناني المتوفى سنة (444ه) في نقل اجتهادات المذهب الحنفي، وأفاد المؤلِّف - أيضًا - من كتاب «التقريب» في أصول الفقه للقاضي: أبي بكر محمَّد بن الطيب الباقلاني المتوفى سنة (403ه) في مسائل عديدة منها: «الأوامر والنواهي» و«العموم والخصوص»، و«أفعال النبي صلى الله عليه وآله وسلم»، ومسائل أخرى، وقد كان للمصنِّف رأيٌ مع الاجتهادات التي يوردها، فإن حصل توافق مع رأيه أخذ بها وإلاَّ ناقشها وفنَّدها، لذلك جاء كتاب «الإشارة» لأبي الوليد الباجي -رحمه الله- على صغر حجمه واختصاره مستوعبًا لمعلومات أصولية نفيسة، مفيدة للمبتدئ والباحث، راعى المؤلِّفُ فيه التيسيرَ والتسهيل، واختصره من كتابه المفصَّل في الأصول الموسوم ب «إحكام الفصول في أحكام الأصول» فأشار فيه إلى أهمِّ أبواب أصول الفقه، وأوجز العبارة في إيراده لمعاني الأدلة سواء النقلية منها أو العقلية بإيجاز غير مخلٍّ، تسهيلاً للفهم، وتمكينًا للقارئ من تحصيل المراد منه دون عناء ولا نَصَب، مكتفيًا بذكر الأقوال في المسائل الأصولية المطروحة، لذلك سماه «الإِشَارَة فِي مَعْرِفَةِ الأُصُولِ، وَالوِجَازَة فِي مَعْنَى الدَّلِيلِ»، فكانت عبارة المصنِّف علمية دقيقة سلسة، بعيدة عن التعقيد اللفظي والتعصُّب المذهبي، ولم يسلك فيه المصنِّف نهج المقارنة بين الآراء الأصولية المتعارضة بإيراد أدلتها ثمَّ مناقشتها ونقضها، وإبراز الراجح منها كما هو صنيعه في الأصل إلاَّ نادرًا، فتراه يبيِّن ما ترجَّح عنده من الآراء الأصولية المالكية مدعِّمًا ترجيحَه بالحُجَّة النقلية والعقلية، وتارة يكتفي بدليل نقلي أو عقلي.
أمَّا التعريفات الاصطلاحية الواردة في النصِّ فقد استقاها كلَّها من كتابه: «الحُدود في أصولِ الفقه» كما يظهر - أيضًا - رجوع المؤلِّف إلى كتابه في الجدل المسمَّى: ب «تفسير المنهاج في ترتيب الحجاج»، فقد أفاد منه مسائل عديدة منها: «باب الترجيح» بمُعظم فصوله.
واقتصر المصنِّف في مؤلَّفه على أقوال وآراء علماء المذاهب الثلاثة: الحنفي والمالكي والشافعي من غير أن يتعرَّض للمذهب الحنبلي، ولعلَّ اقتصاره هذا كان نتيجة اطِّلاعه على الاجتهادات الأصولية لعلماء المذاهب الثلاثة من خلال تَتَلْمُذِهِ على شيوخه من الحنفية والمالكية والشافعية.
وجاء كتاب «الإشارة» حافلاً بجملة من أقوال علماء المالكية ممَّن لم تنل اجتهاداتهم حظَّها من الطباعة والنشر، أمثال: القاضي أبي إسحاق إسماعيل ابن إسحاق البصري المتوفى سنة (282ه)، وأبي الفرج عمرو بن محمَّد ابن عمرو الليثي البغدادي المتوفى سنة (331ه)، وأبي بكر محمَّد بن عبد الله ابن محمَّد بن صالح الأبهري المتوفى سنة (375ه)، وأبي الحسن علي بن عمر ابن أحمد الشهير بابن القصَّار المتوفى سنة (398ه)، وأبي محمَّد عبد الوهاب ابن علي بن نصر بن أحمد التغلبي المتوفى سنة (422ه)، وأبي عبد الله محمَّد بن أحمد ابن عبد الله بن خويز منداد البصري المتوفَّى في (أواخر القرن الرابع الهجري)، وغيرهم من أعلام المالكية المعروفين بالإجادة والإتقان في علم أصول الفقه وغيره من علوم الشريعة، بغض النظر عن أئمَّة المذاهب الأخرى.
وضِمن الاهتمام بمضامين كتاب «الإشارة» فلا أعلم من تناوله بالشرح والتوضيح إلاَّ ما ذكره لسان الدِّين بن الخطيب في ترجمته لمحدث الأندلس: أبي جعفر بن الزبير الثقفي(1 )، حيث عدَّ من جملة مصنَّفاته المفيدة «شرح الإشارة للباجي في الأصول»(2)، وما ذكره السخاوي في «الضوء اللامع» في ترجمته لأبي العباس أحمد حلولو القروي(3 )، وهذان الشرحان -حاليًّا- في حكم المعدوم إذ لم يصل إلينا منهما شيء.
هذا، وكتاب «الإشارة في معرفة الأصول» قد تناولته -فيما مضى- بالدراسة والتحقيق في محاولةٍ لإخراجه على صورةٍ قريبةٍ من الصورة التي وضعها المصنِّف، وقد سلكت فيه خطوات منهجية متمثِّلة في القسم الدراسي أوَّلاً، حيث رتَّبت فيه الخِطَّة على مقدّمة شاملة لأهمِّية ما يتضمَّنه الكتاب من قِيمةٍ علميةٍ مع الإشادة بمكانة المصنِّف العلمية، وبسطت منهجي في الكتاب، ثمَّ مهَّدت لترجمة أبي الوليد الباجي ‑رحمه الله‑ وحياته العلمية بتمهيد بيَّنت فيه -باختصار- الوضع السياسي في القرن الخامس الهجري بالأندلس -وهو عصر ملوك الطوائف الذي عاش فيه الإمام الباجي رحمه الله- وانعكاساته السلبية على الوضع الاجتماعي المتردِّي لأَصِلَ إلى ذِكْرِ بعضِ ملامحِ الواقع العلمي وعوامل الازدهار الفكري.
وفي القسم التحقيقي تجسَّد عملي باتباع خطوات منهجية، لا تخرج في الجملة عمَّا يسلكه أهلُ التحقيق في مناهجهم الحديثة في تحقيق التراث الإسلامي وغيره، وختمتُ الكتابَ بإعداد فهارسَ فَنِّيةٍ عِلميةٍ عامَّةٍ للكتاب تسهيلاً للرجوع إليه، ولم أدَّخر وُسْعًا فيه لينال حظَّه من الدراسة والتحقيق، والحمد لله الذي سهَّل لإخراجه ويسَّر لطبعه عِدَّة طبعات داخل الجزائر وخارجها.
ومن أيام التحقيق وأنا تشدُّني رغبة مُؤكَّدة في الشرح والتعليق على بعض جوانب محتوى الكتاب على ما تضمَّنه من معلومات وقواعد أصولية نافعة، غير أنَّ الهِمَّةَ به فترت لأسباب أو لأخرى، لولا إلحاح بعض إخواني الذين نحسبهم من أهل الحِرص على دراسة كُتب التراثِ وتحصيلِ منافعها، دفعني إلى الاهتمام بالشرح والتعليق على الجوانب التي تحتاج إلى شرح وتوضيح ممَّا لا يحتويه كتابه «إحكام الفصول في أحكام الأصول»، وممَّا قوَّى استجابتي لطلبهم ما وقفت عليه من ملاحظات عامَّة على منهجية المصنِّف في هذا الكتاب كإدراجه الفصل المتعلِّق ب «التعارض والترجيح» في «باب العموم وأقسامه»، إذ لا يخفى ما جرت به عادةُ علماءِ الأصولِ عند تَعَرُّضِهم لمسألة التعارض والترجيح بوضعها في باب مستقلٍّ ويجعلونها مع أواخر المباحث الأصولية الذي هو مكانها الأصلي لها، ومن ناحية ثانية يكتفي المصنِّف في العديد من المسائل الاجتهادية بذكر القول منسوبًا إلى أهله ومقرونًا بدليله، من غير إشارة إلى كون المسائل مختلفًا فيها على نحو ما يفعله في المسائل الأخرى التي تعرَّض لها بالبيان، كمسألة «تخصيص العموم بخبر الواحد»، و«تخصيص عموم القرآن وأخبار الآحاد بالقياس الجلي والخفي»، و«فحوى الخطاب»، و«لحن الخطاب»، و«الحصر» وغيرها. كما أنَّ المصنِّفَ يُعَنْوِنُ في كتابه الأبواب والفصولَ لكن يغيب التوازن بينها، فنجد أبوابًا تتراوح فصولها من ثلاثة إلى أحد عشر فصلاً، وأبوابًا أخرى بفصل واحد فريد: ك «باب أحكام الاستثناء»، و«باب الأسماء العُرفية»، و«باب أحكام الترجيح»، وأبوابًا ثالثة مجرَّدة من الفصول: ك «باب حكم المطلق والمقيَّد وما يتَّصل بالخاصِّ والعامِّ»، و«باب حكم المجمل»، وتارة تتعرَّى بعض المباحث الأصولية عن الأبواب والفصول كمسائل «النهي». وقد ألصقت في تعليقي على الفصول المعراة عناوين مناسبةً وضعتها بين معقوفين ليسهل الرجوع إليها.
وممَّا تجدر ملاحظته -أيضًا- أنَّ المصنِّف قد يقسِّم المسألةَ إلى ضربين أو أكثر، فيترك الضرب الأوَّل ضِمن باب والأضرب الأخرى ضمن فصول لاحقة لها، مثل ما فعل في «باب الكلام في معقول الأصل»، وقد يعمد -أحيانًا- إلى تقسيم المسألة إلى قسمين: يضع القسم الأوَّل في فصل، والثاني في باب، مثل ما هو حاصل في «باب أحكام الترجيح»، ولا يخفى أنَّ مثل هذه الجوانب من منهجية التأليف مُؤاخَذٌ عليها من الناحية الشكلية، فضلاً عن الملاحظات والتعليقات التي أوردتها على متن المصنِّف، وقد جاءت إكمالاً لمضمون القاعدة، وإتمامًا للفائدة وتعميمًا للخير وخدمةً للعلم، وذلك بتنوير مقاطعَ من نصِّ المصنِّف وزيادةِ توضيحِها، وقد وسمت شرحي وتعليقي عليه بعنوان: «الإنارة شرح كتاب "الإشارة"».
هذا، وحريٌّ بالتنبيه أنَّ المقطع المشروحَ على نصِّ المؤلِّف قد رمزتُ له بحرف [م]، آخذًا مِن أوَّل حرف لفظ [المعلق]، وتركت الإحالةَ على المصادر في بعض الجهات من الشرح والتعليق اكتفاءً بالمصادر المثبتة على هامش التحقيق السابق لنصِّ المصنِّف.
وقد رأيتُ من المفيد أن أعقد ترجمةً موجزةً لأعلام «الإنارة» الذين لم يحظوا بترجمةٍ في كتاب «الإشارة» استكمالاً لقائمة الأعلام المشهورين والمغمورين.
كما وضعتُ عناوين فرعيةً للفصول الواردة في نصِّ المؤلف، والخالية منها، وكذا الفقرات المحتاجة إلى عناوين جزئية تسهيلاً للرجوع إليها، وجعلتها بين معقوفين للتمييز بين نصِّ المعلِّق ونصِّ المؤلِّف.
واللهَ تعالى أسألُه أن ينفعنَا بعِلم السابقين، ويحشرَنا مع الصالحين، ويغفرَ لنا أجمعين، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على محمِّد، وعلى آله وصحبه وزوجاته أُمَّهات المؤمنين، وإخوانه إلى يوم الدِّين.
القاضي أبو الوليد الباجي
في ترجمة مختصرة(4)
هو سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب بن وارث التُّجِيبِي(5 )، الباجي، القرطبي، البَطَلْيَوْسي، الذهبي(6) الأندلسي، القاضي المالكي، المُكَنَّى بأبي الوليد، ولد الباجي -رحمه الله- يوم الثلاثاء 15 من ذي القعدة سنة 403ه، وكان مسقط رأسه ببطليوس، ثمَّ رُحِلَ به في صباه إلى باجة الأندلس، ثمّ انتقل إلى قرطبة، وينتسب أبو الوليد الباجي -رحمه الله- إلى أسرة علم وتقوى ونُبْلٍ وحسن تديُّن، فكان والده أبو سليمان خلف بن سعد من أهل العِفَّة والصلاح، ووالدته أُمُّ سليمان فقيهة عابدة، وهي بنت فقيه الأندلس: أبي بكر محمَّد بن موهَب القبري المعروف بالحصار فهو جدّه لأمِّه، وإخوته الأربعة: إبراهيم وعلي وعمر ومحمَّد، على وتيرة أبيهم من حسن التديُّن، وأعمامه الثلاث بنو سعد: سليمان، وعبد الرحمن وأحمد فقد نُعِتُوا بكثرة العبادة والخير، أمَّا أخواله فكانوا من أهل العلم والعبادة، ومنهم خاله العالم الخطيب أبو شاكر عبد الواحد ابن محمَّد المعروف بابن القبري، وهو أحد شيوخ القاضي أبي الوليد الباجي. أمَّا أبناؤه فمنهم: محمَّد وكنيته: أبو الحسن، توفي في حياة والده وكان شابًّا يتَّصف بالذكاء والنبل، ومن أشهر أولاده: أبو القاسم، الذي برع في علم الأصول وخلَف أباه في حلقته بعد وفاته، وأذن له في إصلاح كتبه الأصولية وجمع ديوانه، وصَلَّى عليه يوم وفاته، وله ابنة نجيبة زوَّجها للفقيه المحدِّث: أبي العباس أحمد ابن عبد الملك المُرسي أحد طلبة الباجي.
وفي وسط هذه الأسرة العربية الأصيلة، وفي كنف هذه البيئة العلمية نشأ أبو الوليد الباجي ونال حظَّه من التربية الحسنة، وأخذ تعليمَه الأوَّلي في سِنٍّ مُبكِّرة، ساعده ذلك على تنمية قدراته الذِّهنية ومواهبه الفكرية، الأمر الذي فسح أمامَه آفاقًا واسعةً تبشِّر بغدٍ مُشرقٍ بالعلم والمعرفةِ.
وفي مراحله التعليمية توجَّه أبو الوليد الباجي برغبة أكيدة إلى طلب العلم، وعَمِل على تحصيل مدارك العلوم والمعرفة بشتى الوسائل تدريجيًّا، فأخذ من علماء بلده بالأندلس غربًا أَوَّلاً، ففي قُرْطُبَة أخذ عن خاله: أبي شاكر عبد الواحد، وعن المحدِّث اللغوي: يونس بن مُغيث، وعن الإمام المقرئ الكبير: أبي محمَّد مكي بن أبي طالب، وبطُرطُوشَة أخذ عن أبي سعيد الجعفري، وبطُلَيْطِلَة أخذ عن ابن الرحوي، وبسَرَقُسْطَة أخذ عن بن فُورْتش القاضي، وبوَشْقَة أخذ عن ابن أبي درهم، فلمَّا استوعب أبو الوليد الباجي علوم الأندلس وجد في نفسه عزمًا قويًّا في المزيد من طلب العلوم، فقرَّر الرحيل صوب المشرق الإسلامي ثانيًا، فأخذ من علماء الحجاز والعراق بصبرٍ عريضٍ واجتهاد دؤوب وهمَّة عالية، وكان أوَّل منازله الحجاز، ففي مكَّة لزم أبا ذرٍّ الهَرَوي، وسمع من شيوخ الحرم كأبي بكر المُطَّوَّعي وأبي بكر بن سَحْنَوَيْه الإسفرائيني، وأبي القاسم بن مُحْرِزٍ وغيرهم، ومن الحجاز اتجه صوب العراق وهو لا يزال متعطِّشًا إلى المزيد من العلوم، ولتحقيق رغبته استأجر نفسه أيام إقامته ببغداد لحراسة الدروب، فكان ينفق ما يعطى له من أجر على معاشه دون أن تفوته مجالسة العلماء، ويستعين بضوء الدروب ليلاً ليطالع ما حصَّله من العلم ويراجعه.
ومن أشهر شيوخه ببغداد القاضي: أبو الطيِّب طاهر الطَّبَري الشافعي، وأبو إسحاق إبراهيم الشِّيرازي، وأبو الفضل بن عَمروس، وأبو عبد الله الصَّيمَري، وأبو عبد الله الصُّوري وغيرهم، ثمَّ دخل الشام، وفي دمشق مكث ثلاثة أعوام، أخذ عن جملة من كبار العلماء منهم: أبو الحسن بن السَّمسار، وأبو محمَّد بن جُميع، وأبو القاسم بن الطُّبَيز وغيرهم، ورحل إلى المَوْصِل، وبها أقام عامًا كاملاً يدرس العقليات على أبي جعفر السِّمْنَاني، ودخل مصر وبها سمع من أبي محمَّد بن الوليد وغيره، هكذا قضى أيامه الدراسية بالمشرق نحو ثلاث عشرة سنة من المثابرة في الطلب والاجتهاد في التحصيل لا يَهاب في سبيل تحقيق رغبته حرَّ الصيف ولا بردَ الشتاء.
فلما حقَّق رغبتَه وأشبع حاجتَه وقضى منيته، وبرع في القرآن والحديث وعلومِهما، والفقه والأصول، والعربية وقواعدها، والعقليات وتوابعها، وجد في نفسه حنين الديار وأحسَّ بالشوق للأهل والأحباب، فقرَّر العودة إلى الأندلس بعد رحلته المشرقية. وقد كان لطائفة من أهمِّ شيوخ أبي الوليد الباجي الأثر البالغ على شخصيَّته، ومفعولاً في تكوينه العلمي وسلوكه الخُلُقي، كما كان لأقرانه الذين لهم نصيب في تكوين شخصيته العلمية من خلال التنافس في البحث والتحصيل والتأليف والتدوين والمناظرات العلمية، ومن أقرانه: أبو محمَّد بن حزم الظاهري، وأبو عمر بن عبد البر النَّمَرِي، وأبو بكر الخطيب البغدادي وغيرهم، وفي أرض الأندلس قام أبو الوليد الباجي بعِدَّة نشاطات علمية تمثَّلت في دروسه العامَّة والتوجيهية، وحلقاته التربوية الخاصَّة التي كان يلقيها في مختلف جهات الأندلس من خلال تنقُّلاته المتعدِّدة بين الأمصار وحواضر الأندلس لنشر العلم وبثِّ المعرفة، وقد كانت حلقاته من أكبر حلقات الاستماع في الأندلس عددًا، وسهَّلت تنقلاتُه للعديد من الطلاَّب الذين لم تسمح لهم ظروف التنقُّل من الأخذ والرواية عنه ومن التحديث والمذاكرة، ومن أهمِّ تلامذة أبي الوليد الباجي الذين تفقَّهوا بملازمته وانتفعوا بعلمه ونشروه: ابنه أبو القاسم أحمد بن سليمان، وأبو علي الحسين بن أحمد الغسَّاني الجِيَّاني، وأبو علي حسين الصَّدَفي السَّرَقُسْطِي المعروف بابن سكرة، وأبو بكر الطُّرطوشي المعروف بابن أبي رَنْدَقَة، وأبو بكر محمَّد بن حَيدرة المَعَافري، وأبو بكر عبد الله الإِشبيلي، وأبو بكر بن دُرَيد الأَسدي، وغيرهم كثير ممّن أثر في تكوينهم العلمي والتربوي وتفقّهوا على يديه.
هذا، وقد كانت للمناظرات العلمية التي أجراها بالأندلس، وظهور تآليفه الأصولية والفقهية، وانتشار علمه وذيوع صيته، وما يتميّز به من صفة خَلْقِية في هيئته وسمته ووقاره، فضلاً عن اتصافه بالديانة والتقوى، الأثر البالغ في نفوس الناس، كما كان تكوينه العلمي والأدبي محلَّ ثقتهم، الأمر الذي فتح مجالاً للحكَّام ليتَّصلوا به ويتقرَّبوا إليه، وكانت صلته بهم عملية تتمثَّل في مهام ميدانية، فقد أسند إليه مهمَّة القضاء وكلِّف به، ثمَّ ندب ليطوف بحواضر الأندلس قصد توحيد جهود المسلمين وجمع كلمة الملوك، ولَمِّ الشَّعَثِ والوقوف صفًّا واحدًا متراصًّا ضدّ «ألفونس السادس» العدو المشترك الذي كان يتربَّص بهم الدوائر بعد ما قويت شوكته، وتكثَّفت ضغوطه على طُلَيْطِلَة، فلم يزل أبو الوليد الباجي في سفارته بين ملوك الطوائف مجتهدًا يؤلِّفهم على نصرة الإسلام ونبذ أحقادهم، وجمع كلمتهم، والاستعانة بجيش المرابطين بقيادة «يوسف بن تاشفين» لصدِّ العدو الصليبي الحاقد حتى وافاه أجله بمدينة «المَريَّة» من ليلة الخميس -بين العشائين- في التاسع عشر [ 19 رجب من سنة 474ه] عن عُمْرٍ يناهز الواحد والسبعين سنة، رحمه الله ورحم المسلمين أجمعين.
هذا، وإنَّ اشتغال أبي الوليد الباجي بالمهام القضائية والأمانات والسفارة بين ملوك الطوائف لإصلاح ذات البين لم يَثْنِهِ عن نشر العلم والمعرفة والتدريس والتأليف، فلقد ترك -رحمه الله- آثارًا علميةً نافعةً، وثروةً وافرةً قيِّمةً من الكتب والرسائل في مجالات شتَّى وفنون متنوِّعة جمعت بين المنقول والمعقول، والرواية والدراية، تشهد له بالمعرفة، وسعة علمه، ومكانته الراقية بين علماء زمانه، وقد حَفِظَتْ لنا مختلفُ المصادر والمراجع عناوين كتبه ومسائله منها ما خرج إلى حيِّز الوجود مطبوعًا ومتداولاً، ومنها ما بقي مخطوطًا، فله مؤلَّفات في فقه أحاديث الموطَّأ والمسائل الفرعية عليها مثل: «الاستيفاء»، و«المنتقى»، و«الإيماء»، وله في شرح المسائل الفقهية في المدوَّنة أو في اختصارات عليها وتهذيبها منها: «شرح المدوَّنة»، و«مختصر المختصر»، و«المهذب»، وفي المجال الفقهي أيضًا له: «المقتبس في علم مالك بن أنس»، وكتاب «فصول الأحكام وبيان ما مضى عليه العمل عند الفقهاء والحكام».
وله في مجال الحديث والرجال والتراجم مؤلَّفات منها: «التعديل والتجريح لمن خرج له البخاري في الجامع الصحيح»، و«اختلاف الموطآت»، و«فرق الفقهاء»، و«التبيين لمسائل المهتدين»، و«فهرست».
أمَّا مُصنَّفاته الأصولية والجدلية فمنها: «إحكام الفصول في أحكام الأصول»، و«الإشارة إلى معرفة الأصول والوجازة في معنى الدليل»، و«الحدود في أصول الفقه»، و«الناسخ والمنسوخ في الأصول»، و«تفسير المنهاج في ترتيب طرق الحجاج».
وله مُصنَّفات في الزهد والرقائق منها: «سنن الصالحين وسنن العابدين»، وكتاب «سبيل المهتدين».
كما له مصنَّفات في علوم أخرى مثل: «التسديد إلى معرفة التوحيد»، و«تفسير القرآن»، و«الانتصار لأعراض الأئمَّة الأخيار»، وفي اللغة: «تهذيب الزاهر لابن الأنباري».
وللقاضي أبي الوليد الباجي -أيضًا- رسائل ومسائل، ومن رسائله: «الردّ على رسالة الراهب الفرنسي»، و«تحقيق المذهب في أنَّ رسول الله قد كتب»، و«الوصية لولديه»، و«شرح حديث: البَيِّنَةُ عَلَى المُدَّعِي وَاليَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ»، ومن المسائل التي عالجها الباجي والتي تحمل الصبغة الفقهية والطابع الخِلافي مثل: «مسألة مسح الرأس»، و«مسألة غسل الرجلين»، و«مسألة اختلاف الزوجين في الصداق» وغيرها.
كما أنَّ له شِعرًا ونثرًا اهتمَّ بهما منذ صغره، فجعل قراءة الأدب شِعرًا ونثرًا أحد محاور عنايته، وشاعرية أبي الوليد الباجي متَّفق عليها عند علماء التراجم، فقد كان شاعرًا مطبوعًا جيِّد العبارة، حَسَنَ النظم، فشِعره هادف يعمل على خدمة أغراض بنَّاءة بمعان في عقود مصروفة عن الإسفاف والهذر، وجملة أبياته وشعره تدلُّ على ذوقه الأدبي ونبوغه الشعري.
ومن شعره قوله في فساد الطبائع والأخلاق:
مَضَى زَمَنُ المَكَارِمِ وَالكِرَامِ
وَكَانَ البِرُّ فِعْلاً دُونَ قَوْلٍ
سَقَاهُ اللهُ مِنْ صَوْبِ الغَمَامِ
فَصَارَ البِرُّ نُطْقًا بِالكَلامِ
هذا، وملخَّص حياة أبي الوليد الباجي -رحمه الله-، في الجملة أنه ابتدأ حياته الفكرية بالأدب فبرز في ميادينه، وانتهى تحصيله بعلوم الديانة غربًا وشرقًا، وجعل خاتمة أمره ومنتهى طوافه السفارة الإصلاحية بين ملوك الطوائف جمعًا لكلمة المسلمين ولَمًّا لشملهم، فضلاً عن المهام القضائية والأمانات التي أسندت إليه، كلّ ذلك لم يمنعه من أداء واجبه في نشر العلم والمعرفة وتكريسهما بالتدريس والتأليف، وقد خلف لنا آثارًا وثروةً علميةً نافعةً تَرْبُو عن ثلاثين مؤلَّفًا في مختلَف أنواع العلوم الشرعية التي أحيت ذكره، وخلَّدت اسمه، وأكَّدت عظمة شخصيته العلمية البارزة.
بسم الله الرحمن الرحيم
وصَلَّى اللهُ على محمَّدٍ، وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا
بـاب أقسام أدلة الشرع
فـصل [ في المجـاز ]
• قال الباجي -رحمه الله- في [ص 156]:
«…فَأَمَّا المَجَازُ: فَهُوَ كُلُّ لَفْظٍ تُجُوِّزَ بهِ عَنْ مَوْضُوعِهِ، وَهُوَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ…».
[م] والمجاز مشتقٌّ من الجواز، والجواز في الأماكن حقيقة وهو العبور، ويستعمل في المعاني، فهو طريق المعنى بالقول، ويسمَّى بذلك لأنَّ أهل اللغة يجاوزون به عن أصل الوضع توسُّعًا منهم.
واستعمل المصنِّف لفظ «تُجُوِّزَ» في الحدِّ، وهو تعريف لفظ المُعَرَّفِ، ويستحسن عند العلماء صون الحدود عن ذلك، ويمكن تعريفه بأنه: «اللفظ المستعمَل في غير ما وُضع له أصلاً لعلاقة بينهما مع وجود قرينة صارفةٍ عن إرادة المعنى الأصلي»(7).
وقد جعل المصنِّفُ قسمةَ المجاز في القرآن الكريم رباعيةً تبعًا لأبي إسحاق الشيرازي(8)، كما جاء في «شرح اللمع»(9) و«التبصرة»(10)، والقسمة نفسها ذكرها الكلوذاني(11 ) في «التمهيد»(12)، وزاد آخرون أقسامًا أخرى(13)، قال الشوكانيُّ(14 ) مُعقِّبًا على من قَيَّدَ آحادَ المجاز بعدد: «واعلم أنَّه لا يُشترط النقلُ في آحاد المجاز بل العلاقة كافيةٌ والمعتبَرُ نوعها، ولو كان نقل آحاد المجاز معتبرًا لتوقَّف أهل العربية في التجوُّز على النقل، ولو وقعت منهم التخطئة لمن استعمل غير المسموع من المجازات وليس كذلك بالاستقراء، لذلك لم يدوِّنوا المجازات كالحقائق، وأيضًا لو كان نقليًّا لاستغنى عن النظر في العلاقة لكفاية النقل… وكلُّ من له عِلمٌ وفَهمٌ يعلم أنَّ أهل اللغة العربية ما زالوا يخترعون المجازاتِ عند وجود العلاقة ومع نصب القرينة، وهكذا من جاء بعدهم من أهل البلاغة في فَنَّي النَّظْم والنَّثْرِ، ويتمادحون باختراع الشيء الغريب من المجازات عند وجود المصحِّح للتجوّز، ولم يُسمَعْ عن واحد منهم خلاف هذا»(15).
[ في مسألة وقوع المجاز في القرآن ]
• قال الباجي -رحمه الله- من الفصل نفسه في [ص 158]:
«وَاحْتَجُّوا بأَنَّ القُرْآنَ كُلَّهُ حَقٌّ، وَمُحَالٌ أَنْ يَكُونَ حَقًّا مَا لَيْسَ بحَقِيقَةٍ…».
[م] في مسألة وقوع المجاز في القرآن الكريم خلافٌ، وما عليه جمهور العلماء وقوعه مُطْلَقًا في القرآن والحديث واللغة.
وذهب محمَّد بن خويز منداد(16) وابن القاص(17 ) وابن حامد(18 ) وأبو الحسن التميمي(19 ) وغيرُهم إلى عدم وقوعه في القرآن الكريم وواقعٌ في غيره، ويرى المذهب الثالث عدمَ وقوعِه في القرآن والحديث وواقع فيما عداهما، وهو محكيٌّ عن داود(20) الظاهري وابنه أبي بكر(21)، وإن كان المشهور عنهما القول بمنع وقوعه في القرآن خاصَّة. وبالغ - في إيضاح منع المجاز - أبو العباس بن تيمية(22 )، وتلميذه ابن القيم، بل أوضحَا منعه في اللغة أصلاً، وبه قال أبو إسحاق الإسفرائيني(23 )، وأبو علي الفارسي(24 )، كما عزاه لهما ابن السبكي في «جمع الجوامع»(25).
قال الشنقيطي(26 ) في «منع جواز المجاز»: «وأوضح دليل على منعه في القرآن: إجماع القائلين بالمجاز على أنَّ كلَّ مجاز يجوز نفيه ويكون نافيه صادقًا في نفس الأمر، فتقول لمن قال: رأيت أسدًا يرمي ليس هو بأسد، وإنما هو رجلٌ شجاع، فيلزم على القول بأنَّ في القرآن مجازًا أنَّ في القرآن ما يجوز نفيه، ولا شكَّ أنه لا يجوز نفي شيء من القرآن، وهذا اللزوم اليقيني الواقع بين القول بالمجاز في القرآن وبين جواز نفي بعض القرآن قد شوهدت في الخارج صحَّتُه، وأنه ذريعة إلى نفي كثير من صفات الكمال والجلال الثابتة لله تعالى في القرآن العظيم»(27).
قلت: مَن تأوَّل صفات الله تعالى الواردة في القرآن، ونفى حقيقتها بشبهات عقلية أثبت المجاز فيها، وهو مذهب المثبتين للمجاز من المتكلِّمين ومن وافقهم، وعليه فالقول بالمجاز على هذا الرأي ذريعة إلى تأويل الصفات ونفيها، وهذا على خلاف مذهب المثبتين للمجاز من أهل السُّنَّة، فأثبتوا صفات الله تعالى في القرآن على حقيقتها ومنعوا دخول المجاز فيها، وماعدا آيات الصفات فالمجاز يدخل فيها ولا تلازم بين القسمين، إذ لا يلزم من إثبات المجاز تأويل الصفات أو نفيها؛ لأنَّ المجاز يحتاج إلى قرينة وهي منتفية عن آيات الصفات عند أهل السنَّة، لذلك كان الخلاف بين أهل السنَّة في إثبات المجاز ونفيه خلافًا لفظيًّا كما صرَّح ابن قدامة -رحمه الله- بقوله: «..وذلك كلُّه مجاز؛ لأنَّه استعمال للفظ في غير موضوعه ومن منع فقد كابر، ومن سلم وقال: لا أسميه مجازًا فهو نزاع في عبارة لا فائدة في المشاحة فيه، والله أعلم»(28).
فـصل
[ في الحقيــقة ]
• قال الباجي -رحمه الله- في [ص 160]:
«وَأَمَّا الحَقيقَةُ فَهُوَ: كُلُّ لَفْظٍ بَقيَ عَلَى مَوْضُوعِهِ».
[م] الحقيقة: هو فعيلة من حَقَّ الشيءُ بمعنى ثبت، والتاء لنقل اللفظ من الوصفية إلى الاسمية الصرفة، قال الشوكاني: «وفعيل في الأصل قد يكون بمعنى الفاعل، وقد يكون معنى المفعول، فعلى التقدير الأوَّل معنى الحقيقة: الثابتة، وعلى التقدير الثاني يكون معناها: المثبتة»(29). قال أبو النور زهير في «أصوله»: «والحقيقة إن كانت بمعنى فاعل فالتاء فيه للتأنيث؛ لأنَّ فعيلاً بمعنى فاعل، ويفرق فيه بين المذكر فيه والمؤنث بالتاء، يقال: رجل كريم وامرأة كريمة، ورجل عليم وامرأة عليمة، وإن كانت بمعنى مفعول فالتاء للنقل وليست للتأنيث؛ لأنَّه يستوي فيه المذكر والمؤنث يقال: رجل قتيل وامرأة قتيل، إلاَّ إذا سمي به أو جرى مجرى الأسماء بأن استعمل بدون الموصوف مثل: النطيحة، أي: البهيمة المنطوحة، فإنه يؤتى فيه بالتاء لتكون دالة على النقل من الوصفية إلى الاسمية، والحقيقة من هذا القبيل»(30).
والحقيقة تنقسم إلى: شرعية وعُرفية ولغوية، ومتى أمكن حمل اللفظ على الحقيقة وجب حمله عليها، ومتى تعذَّر حمله على الحقيقة حُمل على المجاز إذا وجدت القرينة الدالة على امتناع حمله على الحقيقة، وعليه فالمجاز خلاف الأصل، ومتى وقع احتمال اللفظ لهما فإنَّ الحقيقة ترجّح عليه لأصالتها.
هذا، والحقيقة لا تستلزم المجاز اتفاقًا، بينما يستلزم كلّ مجاز وجود حقيقته في شيء آخر لتفرعه عنها، وهو مذهب الجمهور.
[ في معنى «المفصَّل» ]
• قال الباجي -رحمه الله- بعدها في الصفحة نفسها:
«وَأَمَّا المُفَصَّلُ: فَهُوَ مَا فُهِمَ المُرَادُ بهِ مِنْ لَفْظِهِ وَلَـمْ يَفْتَقِرْ فِي بَيَانِهِ إِلَى غَيْرِهِ، وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: غَيْرِ مُحْتَمَلٍ، وَمُحْتَمَلٍ».
[م] المراد بالمفصَّل - عند المصنِّف - المفسَّر، ويكون تعريف المُجمل الذي يقابل المفصَّل أنه: «ما لا يُفهم المراد به من لفظه ويفتقر في بيانه إلى غيره»(31)، وهذا المجمل الذي عناه المصنِّف إنما هو المجمل عند السلف وهو: ما لا يكفي وحده في العمل، فلا بدَّ أن يُعرَفَ ببيان، مثل قوله تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا﴾ [التوبة: 103]، فإنَّ الصدقة المطهِّرة والمزكِّية تحتاج إلى بيان(32)، وهو ما أفصح عنه المصنِّف على متن «الإشارة» (ص 220)، أمَّا المجمَل عند الأصوليِّين فهو: «ما له دلالة على مَعنَيين لا مزيةَ لأحدهما على الآخر»، أو هو: «ما تردَّد بين محتملين فأكثر على السواء»، فقد أورده المصنِّف في الضرب الثاني من المفصَّل، حيث قَسَّم المفصَّل إلى غير المحتمل: وهو النصُّ الذي يجب المصير إليه ولا يعدل عنه إلاَّ بناسخ أو معارض، وإلى محتمل، وقَسَّمه إلى ضربين:
فجعل المجمل -عند الأصوليِّين- وهو: «الذي لا يجوز العمل بأحد احتمالاته إلاَّ بدليلٍ خارجي صحيح»، أي: لا يصار إليه إلاَّ بعد البيان في الضرب الأوَّل حيث نصَّ عليه على متن «الإشارة» (ص 161) بقوله: «أن لا يكون في أحد محتملاته أظهر منه في سائرها»، وألحقه بالضرب الثاني الذي هو «الظاهر» مُبيِّنًا حكمه بأنه: «لا يجوز العدول عن معناه الظاهر إلى سائر المحتملات إلاَّ بدليلٍ أقوى منه»، فإن دلَّ دليل أقوى على صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه فإنه يعدل عنه إلى المحتمل المرجوح وهذا ما يسمَّى بالمؤوَّل.
قلت: النصُّ يتفق مع الظاهر في رجحان الإفادة، غير أنَّ النصَّ مانع من احتمال غيره، في حين أنَّ الظاهر لا يمنعه، وهذا القدر المشترك بينهما يسمَّى ب «المُحْكَم»، ويعرف بأنه: «ما يتَّضح معناه»، أمَّا المجمل والمؤوَّل فيتَّفقان في عدم الرجحان، غير أنَّ المجمل وإن لم يكن راجحًا فهو غير مرجوح من جهة الوضع، بخلاف المؤوّل فهو مرجوح، والقدر المشترك بينهما يسمى: «المتشابه»، فالمتشابه هو: «ما لم يتَّضح معناه»، فالمحكم -إذن- نوعان: نصّ وظاهر، والمتشابه نوعان: مجمل ومؤوّل.
• قال الباجي -رحمه الله- في [ص 161]:
«فَأَمَّا غَيْرُ المُحْتَمَلِ فَهُوَ النَّصُّ، وَحَدُّهُ: مَا رُفِعَ فِي بَيَانِهِ إِلَى أَرْفَعِ غَايَاتِهِ» نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ﴾ [البقرة: 228] فَهَذَا نَصٌّ فِي الثَّلاَثَةِ لاَ يَحْتَمِلُ غَيْرَ ذَلِكَ».
[م] قال القرافي(33 ) -رحمه الله-: «والنَّصُّ فيه ثلاثة اصطلاحات، قيل: ما دَلَّ على معنى قطعًا لا يحتمل غيرَه قطعًا كأسماء الأعداد، وقيل: ما دَلَّ على معنى قطعًا وإن احتمل غيره كَصِيَغِ الجموع في العموم، فإنها تدلُّ على أقلِّ الجمع قطعًا وتحتمل الاستغراق، وقيل: ما دلَّ على معنى كيف ما كان وهو غالب استعمال الفقهاء»(34).
قلت: والمثال الذي ساقه المصنِّفُ من قبيل الاصطلاح الأوّل للنصِّ، وهو العدد الذي يشمل أفراده على وجه الحصر، مثل قوله تعالى: ﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾ [البقرة: 196]، فهو مانع من إرادة احتمال غيره، لكن «القرء» في الآية مجمل لتردُّده بين الحيض والطهر فهو محتاج إلى بيان، والأمر بالتربّص من قبيل الظاهر وإن ورد بالصيغة الخبرية فهي في معنى الإنشاء، والأصل في الأوامر أن تحمل على الوجوب لكونها أظهر في الوجوب من سائر محتملات الأمر، ولا يعدل عنه إلاَّ بدليل أقوى. فالآية - إذن - تضمَّنت النصَّ والظاهرَ والمجملَ.
فـصل
[ فـي اقتضاء الأمر المطلق الوجوب ]
في معرض الاستدلال على أنَّ لفظ الأمر المطلق إذا ورد عاريًا من القرائن وجب حمله على الوجوب ما لم يدلَّ عليه دليل أنه أريد به الندب.
• يقول الباجي -رحمه الله- في [ص 168]:
«وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ: قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لإِبْلِيسَ: ﴿قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ﴾ [الأعراف: 12]، فَوَبَّخَهُ وَعَاقَبَهُ لَمَّا لَمْ يَمْتَثِلْ أَمْرَهُ بالسُّجُودِ لآدَمَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُقْتَضَاهُ الوُجُوبَ لَمَا عَاقَبَهُ وَلاَ وَبَّخَهُ عَلَى تَرْكِ مَا لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ فِعْلُهُ».
[م] والخصم وإن كان يعترض على هذا الدليل بخروجه عن محلِّ النِّزاع؛ لأنَّه ورد في أمر عُلِم كونه واجبًا بقرائن اتصلت به فإنَّ أهل التحقيق -بغضِّ النظر عن صحَّة هذا الاحتمال- يحتجُّون على أنَّ الأوامر تقتضي الوجوب بأنَّ تارك المأمور به عاصٍ كما أنّ فاعله مطيع بقوله تعالى:﴿ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي﴾ [طه: 93]، وقوله تعالى: ﴿وَلاَ أَعْصِي لَكَ أَمْرًا﴾ [الكهف: 69]، وقوله تعالى: ﴿لاَ يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ﴾ [التحريم: 6]، وإذا كان تارك المأمور عاصيًا استحقَّ العقاب سواء أكان ذلك في أوامر الله تعالى أو أوامر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم لقوله تعالى: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النور: 63]، ولقوله تعالى: ﴿وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ﴾ [الجن: 23]، ولقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ [الأحزاب: 36]، وقد امتنع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الأمر بالسواك لأجل المشقَّة مع أنَّ السواك مندوب إليه فلو كان أمره للندب لما امتنع منه(35).
هذا، والمسألة اتسع الخلاف - في المعنى الحقيقي للأمر - على ما يربو عن ستة عشر قولاً، وما عليه مذهب الجمهور أنَّ الأمر على الوجوب حقيقة، وإنما يصرف إلى غيره بقرينة، وهو قول الشافعي(36 ) وظاهر كلام أحمد، وهو مذهب الأحناف وجمهور المالكية، ورجَّحه المصنِّف، وصحَّحه ابن الحاجب(37 )، والبيضاوي(38 )، وقال الفخر الرازي(39 ) إنه: «الحقّ»(40)، غير أنهم يختلفون في دلالته على الوجوب هل هو بوضع اللغة أم بالعقل أم بالشرع ؟ والصحيح أن اقتضاء الصيغة للوجوب إنما ثبت عن طريق اللغة لا عن طريق الشرع ولا العقل؛ لأنّ إلحاق العصيان على من خالف الأمر بمجرَّد ذكر الأمر، وقد ثبت عن أهل اللغة تسمية من خالف مطلق الأمر عاصيًا؛ ولأنَّ الوعيد مستفاد من اللفظ كما يستفاد منه الاقتضاء الجازم، وإذا تقرَّر أنَّ صيغة «ﭐفعل» مقتضية للوجوب بوضع اللغة لزم حمل الأمر على الوجوب سواء كان الأمر الوارد من جهة الشرع أو من غيره إلاَّ ما خرج بقرينة أو دليل، خلافًا لمن رأى أنها تقتضي الوجوب بوضع الشرع فيقصرها على أوامر الشرع، أو تقتضي الوجوب عن طريق العقل فيقصرها على الأوامر التي يقتضي العقل أنها الوجوب دون غيرها.
فـصل
[ في ورود الأمر بعد الحَظْر ]
• قال المصنِّف -رحمه الله- في [ص 169]:
«إِذَا وَرَدَتْ لَفْظَةُ «ﭐفْعَلْ» بَعْدَ الحَظْرِ اقْتَضَتِ الوُجُوبَ أَيْضًا عَلَى أَصْلِهَا، وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابنَا: إِنَّهَا تَقْتَضِي الإِبَاحَةَ، وَبهِ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ».
[م] مسألة ورود الأمر بعد الحظر خلافية، وهي على الوجوب عند عامَّة الحنفية والمعتزلة، وهذا القول مروي عن الباقلاني(41) ورجَّحه المصنِّف والفخر الرازي، وتوقّف فيه الجويني(42 )، أمَّا ما عليه أكثر الفقهاء والمتكلِّمين أنها تقتضي الإباحة، وهو ظاهر قول الشافعي وأحمد(43 )، واختاره الآمدي(44 ) ورجَّحه ابن الحاجب.
هذا، ولعلَّ أقرب الأقوال إلى الصواب مذهب القائلين بأنَّ الأمر بعد الحَظْرِ يفيد رجوع الفعل إلى ما كان عليه قبل الحظر، فإن كان قبله جائزًا رجع إلى الجواز، وإن كان واجبًا رجع إلى الوجوب، وهذا المذهب هو المعروف عند السلف والأئمَّة، ويدلُّ عليه الاستقراء، فمن ذلك قوله تعالى: ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ﴾ [المائدة: 2]، فرجع إلى ما كان عليه قبل التحريم وهو الإباحة، وقوله تعالى: ﴿فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ﴾ [التوبة: 5]، فرجع إلى ما كان عليه قبل المنع وهو الوجوب، قال ابن كثير(45 ) -رحمه الله-: «والصحيح الذي تثبت على السير أنه يَرُدُّ الحكمَ إلى ما كان عليه قبل النهي، فإن كان واجبًا ردَّه واجبًا، وإن كان مستحبًّا فمستحب أو مباحًا فمباح، ومن قال بالوجوب ينتقض عليه بآيات كثيرة، ومن قال إنه للإباحة ترد عليه آيات أخرى، والذي ينتظم الأدلة كلّها هذا الذي ذكرناه»(46)، وهذا القول هو اختيار محمَّد الأمين الشنقيطي(47) -رحمه الله-.
مقدمة
إنَّ الحمد لله نحمدُه ونستعينُه ونستغفره، ونعوذُ بالله من شرور أنفسنا ومن سيِّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضلَّ له، ومن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إلهَ إلاَّ اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبدُه ورسولُه،.وصلاة الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه أجمعين إلى يوم الدِّين. أمَّا بعد:
فإنَّ الحافظ أبا الوليد سليمان بن خلف الباجي المتوفى سنة (474ه) أحد قادة الفكر الأندلسي الذين بلغوا ذروة المجد العلمي والنبوغ الفكري في القرن الخامس الهجري، قد أسهم في إثراء وتعزيز الثروة العلمية العظيمة بما تركه من آثار علمية قيِّمة، نافعةٍ جليلةٍ، جمعت بين الرواية والدراية، والمنقول والمعقول، فبرع في القرآن والحديث وعلومهما، والفقه وأصوله، والعربية وقواعدها، والعقليات وغوامضها، فكان خبيرًا بها، قادرًا على التأليف فيها، ومن مصنَّفاته الأصولية: كتابه المختصر الموسوم ب «الإشارة في معرفة الأصول، والوجازة في معنى الدليل»، ومن خلال مضامين كتابه يظهر تأثُّره بشيخه الأصولي الفقيه: أبي إسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي الشافعي المتوفى سنة (476ه) في مسائل تعرَّض لها في كتبه الأصولية والجدلية، مثل: «التبصرة» و«شرح اللمع» و«المعونة في الجدل»، كما هو الحال في اصطلاح: «لحن الخطاب» و«فحوى الخطاب» و«إطلاقه لفظ الراوي» وغيرها، كما اعتمد على كتبه في نقل الآراء الأصولية للمذهب الشافعي، وعلى كتب شيخه الفقيه القاضي: أبي جعفر محمَّد بن أحمد السمناني المتوفى سنة (444ه) في نقل اجتهادات المذهب الحنفي، وأفاد المؤلِّف - أيضًا - من كتاب «التقريب» في أصول الفقه للقاضي: أبي بكر محمَّد بن الطيب الباقلاني المتوفى سنة (403ه) في مسائل عديدة منها: «الأوامر والنواهي» و«العموم والخصوص»، و«أفعال النبي صلى الله عليه وآله وسلم»، ومسائل أخرى، وقد كان للمصنِّف رأيٌ مع الاجتهادات التي يوردها، فإن حصل توافق مع رأيه أخذ بها وإلاَّ ناقشها وفنَّدها، لذلك جاء كتاب «الإشارة» لأبي الوليد الباجي -رحمه الله- على صغر حجمه واختصاره مستوعبًا لمعلومات أصولية نفيسة، مفيدة للمبتدئ والباحث، راعى المؤلِّفُ فيه التيسيرَ والتسهيل، واختصره من كتابه المفصَّل في الأصول الموسوم ب «إحكام الفصول في أحكام الأصول» فأشار فيه إلى أهمِّ أبواب أصول الفقه، وأوجز العبارة في إيراده لمعاني الأدلة سواء النقلية منها أو العقلية بإيجاز غير مخلٍّ، تسهيلاً للفهم، وتمكينًا للقارئ من تحصيل المراد منه دون عناء ولا نَصَب، مكتفيًا بذكر الأقوال في المسائل الأصولية المطروحة، لذلك سماه «الإِشَارَة فِي مَعْرِفَةِ الأُصُولِ، وَالوِجَازَة فِي مَعْنَى الدَّلِيلِ»، فكانت عبارة المصنِّف علمية دقيقة سلسة، بعيدة عن التعقيد اللفظي والتعصُّب المذهبي، ولم يسلك فيه المصنِّف نهج المقارنة بين الآراء الأصولية المتعارضة بإيراد أدلتها ثمَّ مناقشتها ونقضها، وإبراز الراجح منها كما هو صنيعه في الأصل إلاَّ نادرًا، فتراه يبيِّن ما ترجَّح عنده من الآراء الأصولية المالكية مدعِّمًا ترجيحَه بالحُجَّة النقلية والعقلية، وتارة يكتفي بدليل نقلي أو عقلي.
أمَّا التعريفات الاصطلاحية الواردة في النصِّ فقد استقاها كلَّها من كتابه: «الحُدود في أصولِ الفقه» كما يظهر - أيضًا - رجوع المؤلِّف إلى كتابه في الجدل المسمَّى: ب «تفسير المنهاج في ترتيب الحجاج»، فقد أفاد منه مسائل عديدة منها: «باب الترجيح» بمُعظم فصوله.
واقتصر المصنِّف في مؤلَّفه على أقوال وآراء علماء المذاهب الثلاثة: الحنفي والمالكي والشافعي من غير أن يتعرَّض للمذهب الحنبلي، ولعلَّ اقتصاره هذا كان نتيجة اطِّلاعه على الاجتهادات الأصولية لعلماء المذاهب الثلاثة من خلال تَتَلْمُذِهِ على شيوخه من الحنفية والمالكية والشافعية.
وجاء كتاب «الإشارة» حافلاً بجملة من أقوال علماء المالكية ممَّن لم تنل اجتهاداتهم حظَّها من الطباعة والنشر، أمثال: القاضي أبي إسحاق إسماعيل ابن إسحاق البصري المتوفى سنة (282ه)، وأبي الفرج عمرو بن محمَّد ابن عمرو الليثي البغدادي المتوفى سنة (331ه)، وأبي بكر محمَّد بن عبد الله ابن محمَّد بن صالح الأبهري المتوفى سنة (375ه)، وأبي الحسن علي بن عمر ابن أحمد الشهير بابن القصَّار المتوفى سنة (398ه)، وأبي محمَّد عبد الوهاب ابن علي بن نصر بن أحمد التغلبي المتوفى سنة (422ه)، وأبي عبد الله محمَّد بن أحمد ابن عبد الله بن خويز منداد البصري المتوفَّى في (أواخر القرن الرابع الهجري)، وغيرهم من أعلام المالكية المعروفين بالإجادة والإتقان في علم أصول الفقه وغيره من علوم الشريعة، بغض النظر عن أئمَّة المذاهب الأخرى.
وضِمن الاهتمام بمضامين كتاب «الإشارة» فلا أعلم من تناوله بالشرح والتوضيح إلاَّ ما ذكره لسان الدِّين بن الخطيب في ترجمته لمحدث الأندلس: أبي جعفر بن الزبير الثقفي(1 )، حيث عدَّ من جملة مصنَّفاته المفيدة «شرح الإشارة للباجي في الأصول»(2)، وما ذكره السخاوي في «الضوء اللامع» في ترجمته لأبي العباس أحمد حلولو القروي(3 )، وهذان الشرحان -حاليًّا- في حكم المعدوم إذ لم يصل إلينا منهما شيء.
هذا، وكتاب «الإشارة في معرفة الأصول» قد تناولته -فيما مضى- بالدراسة والتحقيق في محاولةٍ لإخراجه على صورةٍ قريبةٍ من الصورة التي وضعها المصنِّف، وقد سلكت فيه خطوات منهجية متمثِّلة في القسم الدراسي أوَّلاً، حيث رتَّبت فيه الخِطَّة على مقدّمة شاملة لأهمِّية ما يتضمَّنه الكتاب من قِيمةٍ علميةٍ مع الإشادة بمكانة المصنِّف العلمية، وبسطت منهجي في الكتاب، ثمَّ مهَّدت لترجمة أبي الوليد الباجي ‑رحمه الله‑ وحياته العلمية بتمهيد بيَّنت فيه -باختصار- الوضع السياسي في القرن الخامس الهجري بالأندلس -وهو عصر ملوك الطوائف الذي عاش فيه الإمام الباجي رحمه الله- وانعكاساته السلبية على الوضع الاجتماعي المتردِّي لأَصِلَ إلى ذِكْرِ بعضِ ملامحِ الواقع العلمي وعوامل الازدهار الفكري.
وفي القسم التحقيقي تجسَّد عملي باتباع خطوات منهجية، لا تخرج في الجملة عمَّا يسلكه أهلُ التحقيق في مناهجهم الحديثة في تحقيق التراث الإسلامي وغيره، وختمتُ الكتابَ بإعداد فهارسَ فَنِّيةٍ عِلميةٍ عامَّةٍ للكتاب تسهيلاً للرجوع إليه، ولم أدَّخر وُسْعًا فيه لينال حظَّه من الدراسة والتحقيق، والحمد لله الذي سهَّل لإخراجه ويسَّر لطبعه عِدَّة طبعات داخل الجزائر وخارجها.
ومن أيام التحقيق وأنا تشدُّني رغبة مُؤكَّدة في الشرح والتعليق على بعض جوانب محتوى الكتاب على ما تضمَّنه من معلومات وقواعد أصولية نافعة، غير أنَّ الهِمَّةَ به فترت لأسباب أو لأخرى، لولا إلحاح بعض إخواني الذين نحسبهم من أهل الحِرص على دراسة كُتب التراثِ وتحصيلِ منافعها، دفعني إلى الاهتمام بالشرح والتعليق على الجوانب التي تحتاج إلى شرح وتوضيح ممَّا لا يحتويه كتابه «إحكام الفصول في أحكام الأصول»، وممَّا قوَّى استجابتي لطلبهم ما وقفت عليه من ملاحظات عامَّة على منهجية المصنِّف في هذا الكتاب كإدراجه الفصل المتعلِّق ب «التعارض والترجيح» في «باب العموم وأقسامه»، إذ لا يخفى ما جرت به عادةُ علماءِ الأصولِ عند تَعَرُّضِهم لمسألة التعارض والترجيح بوضعها في باب مستقلٍّ ويجعلونها مع أواخر المباحث الأصولية الذي هو مكانها الأصلي لها، ومن ناحية ثانية يكتفي المصنِّف في العديد من المسائل الاجتهادية بذكر القول منسوبًا إلى أهله ومقرونًا بدليله، من غير إشارة إلى كون المسائل مختلفًا فيها على نحو ما يفعله في المسائل الأخرى التي تعرَّض لها بالبيان، كمسألة «تخصيص العموم بخبر الواحد»، و«تخصيص عموم القرآن وأخبار الآحاد بالقياس الجلي والخفي»، و«فحوى الخطاب»، و«لحن الخطاب»، و«الحصر» وغيرها. كما أنَّ المصنِّفَ يُعَنْوِنُ في كتابه الأبواب والفصولَ لكن يغيب التوازن بينها، فنجد أبوابًا تتراوح فصولها من ثلاثة إلى أحد عشر فصلاً، وأبوابًا أخرى بفصل واحد فريد: ك «باب أحكام الاستثناء»، و«باب الأسماء العُرفية»، و«باب أحكام الترجيح»، وأبوابًا ثالثة مجرَّدة من الفصول: ك «باب حكم المطلق والمقيَّد وما يتَّصل بالخاصِّ والعامِّ»، و«باب حكم المجمل»، وتارة تتعرَّى بعض المباحث الأصولية عن الأبواب والفصول كمسائل «النهي». وقد ألصقت في تعليقي على الفصول المعراة عناوين مناسبةً وضعتها بين معقوفين ليسهل الرجوع إليها.
وممَّا تجدر ملاحظته -أيضًا- أنَّ المصنِّف قد يقسِّم المسألةَ إلى ضربين أو أكثر، فيترك الضرب الأوَّل ضِمن باب والأضرب الأخرى ضمن فصول لاحقة لها، مثل ما فعل في «باب الكلام في معقول الأصل»، وقد يعمد -أحيانًا- إلى تقسيم المسألة إلى قسمين: يضع القسم الأوَّل في فصل، والثاني في باب، مثل ما هو حاصل في «باب أحكام الترجيح»، ولا يخفى أنَّ مثل هذه الجوانب من منهجية التأليف مُؤاخَذٌ عليها من الناحية الشكلية، فضلاً عن الملاحظات والتعليقات التي أوردتها على متن المصنِّف، وقد جاءت إكمالاً لمضمون القاعدة، وإتمامًا للفائدة وتعميمًا للخير وخدمةً للعلم، وذلك بتنوير مقاطعَ من نصِّ المصنِّف وزيادةِ توضيحِها، وقد وسمت شرحي وتعليقي عليه بعنوان: «الإنارة شرح كتاب "الإشارة"».
هذا، وحريٌّ بالتنبيه أنَّ المقطع المشروحَ على نصِّ المؤلِّف قد رمزتُ له بحرف [م]، آخذًا مِن أوَّل حرف لفظ [المعلق]، وتركت الإحالةَ على المصادر في بعض الجهات من الشرح والتعليق اكتفاءً بالمصادر المثبتة على هامش التحقيق السابق لنصِّ المصنِّف.
وقد رأيتُ من المفيد أن أعقد ترجمةً موجزةً لأعلام «الإنارة» الذين لم يحظوا بترجمةٍ في كتاب «الإشارة» استكمالاً لقائمة الأعلام المشهورين والمغمورين.
كما وضعتُ عناوين فرعيةً للفصول الواردة في نصِّ المؤلف، والخالية منها، وكذا الفقرات المحتاجة إلى عناوين جزئية تسهيلاً للرجوع إليها، وجعلتها بين معقوفين للتمييز بين نصِّ المعلِّق ونصِّ المؤلِّف.
واللهَ تعالى أسألُه أن ينفعنَا بعِلم السابقين، ويحشرَنا مع الصالحين، ويغفرَ لنا أجمعين، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على محمِّد، وعلى آله وصحبه وزوجاته أُمَّهات المؤمنين، وإخوانه إلى يوم الدِّين.
القاضي أبو الوليد الباجي
في ترجمة مختصرة(4)
هو سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب بن وارث التُّجِيبِي(5 )، الباجي، القرطبي، البَطَلْيَوْسي، الذهبي(6) الأندلسي، القاضي المالكي، المُكَنَّى بأبي الوليد، ولد الباجي -رحمه الله- يوم الثلاثاء 15 من ذي القعدة سنة 403ه، وكان مسقط رأسه ببطليوس، ثمَّ رُحِلَ به في صباه إلى باجة الأندلس، ثمّ انتقل إلى قرطبة، وينتسب أبو الوليد الباجي -رحمه الله- إلى أسرة علم وتقوى ونُبْلٍ وحسن تديُّن، فكان والده أبو سليمان خلف بن سعد من أهل العِفَّة والصلاح، ووالدته أُمُّ سليمان فقيهة عابدة، وهي بنت فقيه الأندلس: أبي بكر محمَّد بن موهَب القبري المعروف بالحصار فهو جدّه لأمِّه، وإخوته الأربعة: إبراهيم وعلي وعمر ومحمَّد، على وتيرة أبيهم من حسن التديُّن، وأعمامه الثلاث بنو سعد: سليمان، وعبد الرحمن وأحمد فقد نُعِتُوا بكثرة العبادة والخير، أمَّا أخواله فكانوا من أهل العلم والعبادة، ومنهم خاله العالم الخطيب أبو شاكر عبد الواحد ابن محمَّد المعروف بابن القبري، وهو أحد شيوخ القاضي أبي الوليد الباجي. أمَّا أبناؤه فمنهم: محمَّد وكنيته: أبو الحسن، توفي في حياة والده وكان شابًّا يتَّصف بالذكاء والنبل، ومن أشهر أولاده: أبو القاسم، الذي برع في علم الأصول وخلَف أباه في حلقته بعد وفاته، وأذن له في إصلاح كتبه الأصولية وجمع ديوانه، وصَلَّى عليه يوم وفاته، وله ابنة نجيبة زوَّجها للفقيه المحدِّث: أبي العباس أحمد ابن عبد الملك المُرسي أحد طلبة الباجي.
وفي وسط هذه الأسرة العربية الأصيلة، وفي كنف هذه البيئة العلمية نشأ أبو الوليد الباجي ونال حظَّه من التربية الحسنة، وأخذ تعليمَه الأوَّلي في سِنٍّ مُبكِّرة، ساعده ذلك على تنمية قدراته الذِّهنية ومواهبه الفكرية، الأمر الذي فسح أمامَه آفاقًا واسعةً تبشِّر بغدٍ مُشرقٍ بالعلم والمعرفةِ.
وفي مراحله التعليمية توجَّه أبو الوليد الباجي برغبة أكيدة إلى طلب العلم، وعَمِل على تحصيل مدارك العلوم والمعرفة بشتى الوسائل تدريجيًّا، فأخذ من علماء بلده بالأندلس غربًا أَوَّلاً، ففي قُرْطُبَة أخذ عن خاله: أبي شاكر عبد الواحد، وعن المحدِّث اللغوي: يونس بن مُغيث، وعن الإمام المقرئ الكبير: أبي محمَّد مكي بن أبي طالب، وبطُرطُوشَة أخذ عن أبي سعيد الجعفري، وبطُلَيْطِلَة أخذ عن ابن الرحوي، وبسَرَقُسْطَة أخذ عن بن فُورْتش القاضي، وبوَشْقَة أخذ عن ابن أبي درهم، فلمَّا استوعب أبو الوليد الباجي علوم الأندلس وجد في نفسه عزمًا قويًّا في المزيد من طلب العلوم، فقرَّر الرحيل صوب المشرق الإسلامي ثانيًا، فأخذ من علماء الحجاز والعراق بصبرٍ عريضٍ واجتهاد دؤوب وهمَّة عالية، وكان أوَّل منازله الحجاز، ففي مكَّة لزم أبا ذرٍّ الهَرَوي، وسمع من شيوخ الحرم كأبي بكر المُطَّوَّعي وأبي بكر بن سَحْنَوَيْه الإسفرائيني، وأبي القاسم بن مُحْرِزٍ وغيرهم، ومن الحجاز اتجه صوب العراق وهو لا يزال متعطِّشًا إلى المزيد من العلوم، ولتحقيق رغبته استأجر نفسه أيام إقامته ببغداد لحراسة الدروب، فكان ينفق ما يعطى له من أجر على معاشه دون أن تفوته مجالسة العلماء، ويستعين بضوء الدروب ليلاً ليطالع ما حصَّله من العلم ويراجعه.
ومن أشهر شيوخه ببغداد القاضي: أبو الطيِّب طاهر الطَّبَري الشافعي، وأبو إسحاق إبراهيم الشِّيرازي، وأبو الفضل بن عَمروس، وأبو عبد الله الصَّيمَري، وأبو عبد الله الصُّوري وغيرهم، ثمَّ دخل الشام، وفي دمشق مكث ثلاثة أعوام، أخذ عن جملة من كبار العلماء منهم: أبو الحسن بن السَّمسار، وأبو محمَّد بن جُميع، وأبو القاسم بن الطُّبَيز وغيرهم، ورحل إلى المَوْصِل، وبها أقام عامًا كاملاً يدرس العقليات على أبي جعفر السِّمْنَاني، ودخل مصر وبها سمع من أبي محمَّد بن الوليد وغيره، هكذا قضى أيامه الدراسية بالمشرق نحو ثلاث عشرة سنة من المثابرة في الطلب والاجتهاد في التحصيل لا يَهاب في سبيل تحقيق رغبته حرَّ الصيف ولا بردَ الشتاء.
فلما حقَّق رغبتَه وأشبع حاجتَه وقضى منيته، وبرع في القرآن والحديث وعلومِهما، والفقه والأصول، والعربية وقواعدها، والعقليات وتوابعها، وجد في نفسه حنين الديار وأحسَّ بالشوق للأهل والأحباب، فقرَّر العودة إلى الأندلس بعد رحلته المشرقية. وقد كان لطائفة من أهمِّ شيوخ أبي الوليد الباجي الأثر البالغ على شخصيَّته، ومفعولاً في تكوينه العلمي وسلوكه الخُلُقي، كما كان لأقرانه الذين لهم نصيب في تكوين شخصيته العلمية من خلال التنافس في البحث والتحصيل والتأليف والتدوين والمناظرات العلمية، ومن أقرانه: أبو محمَّد بن حزم الظاهري، وأبو عمر بن عبد البر النَّمَرِي، وأبو بكر الخطيب البغدادي وغيرهم، وفي أرض الأندلس قام أبو الوليد الباجي بعِدَّة نشاطات علمية تمثَّلت في دروسه العامَّة والتوجيهية، وحلقاته التربوية الخاصَّة التي كان يلقيها في مختلف جهات الأندلس من خلال تنقُّلاته المتعدِّدة بين الأمصار وحواضر الأندلس لنشر العلم وبثِّ المعرفة، وقد كانت حلقاته من أكبر حلقات الاستماع في الأندلس عددًا، وسهَّلت تنقلاتُه للعديد من الطلاَّب الذين لم تسمح لهم ظروف التنقُّل من الأخذ والرواية عنه ومن التحديث والمذاكرة، ومن أهمِّ تلامذة أبي الوليد الباجي الذين تفقَّهوا بملازمته وانتفعوا بعلمه ونشروه: ابنه أبو القاسم أحمد بن سليمان، وأبو علي الحسين بن أحمد الغسَّاني الجِيَّاني، وأبو علي حسين الصَّدَفي السَّرَقُسْطِي المعروف بابن سكرة، وأبو بكر الطُّرطوشي المعروف بابن أبي رَنْدَقَة، وأبو بكر محمَّد بن حَيدرة المَعَافري، وأبو بكر عبد الله الإِشبيلي، وأبو بكر بن دُرَيد الأَسدي، وغيرهم كثير ممّن أثر في تكوينهم العلمي والتربوي وتفقّهوا على يديه.
هذا، وقد كانت للمناظرات العلمية التي أجراها بالأندلس، وظهور تآليفه الأصولية والفقهية، وانتشار علمه وذيوع صيته، وما يتميّز به من صفة خَلْقِية في هيئته وسمته ووقاره، فضلاً عن اتصافه بالديانة والتقوى، الأثر البالغ في نفوس الناس، كما كان تكوينه العلمي والأدبي محلَّ ثقتهم، الأمر الذي فتح مجالاً للحكَّام ليتَّصلوا به ويتقرَّبوا إليه، وكانت صلته بهم عملية تتمثَّل في مهام ميدانية، فقد أسند إليه مهمَّة القضاء وكلِّف به، ثمَّ ندب ليطوف بحواضر الأندلس قصد توحيد جهود المسلمين وجمع كلمة الملوك، ولَمِّ الشَّعَثِ والوقوف صفًّا واحدًا متراصًّا ضدّ «ألفونس السادس» العدو المشترك الذي كان يتربَّص بهم الدوائر بعد ما قويت شوكته، وتكثَّفت ضغوطه على طُلَيْطِلَة، فلم يزل أبو الوليد الباجي في سفارته بين ملوك الطوائف مجتهدًا يؤلِّفهم على نصرة الإسلام ونبذ أحقادهم، وجمع كلمتهم، والاستعانة بجيش المرابطين بقيادة «يوسف بن تاشفين» لصدِّ العدو الصليبي الحاقد حتى وافاه أجله بمدينة «المَريَّة» من ليلة الخميس -بين العشائين- في التاسع عشر [ 19 رجب من سنة 474ه] عن عُمْرٍ يناهز الواحد والسبعين سنة، رحمه الله ورحم المسلمين أجمعين.
هذا، وإنَّ اشتغال أبي الوليد الباجي بالمهام القضائية والأمانات والسفارة بين ملوك الطوائف لإصلاح ذات البين لم يَثْنِهِ عن نشر العلم والمعرفة والتدريس والتأليف، فلقد ترك -رحمه الله- آثارًا علميةً نافعةً، وثروةً وافرةً قيِّمةً من الكتب والرسائل في مجالات شتَّى وفنون متنوِّعة جمعت بين المنقول والمعقول، والرواية والدراية، تشهد له بالمعرفة، وسعة علمه، ومكانته الراقية بين علماء زمانه، وقد حَفِظَتْ لنا مختلفُ المصادر والمراجع عناوين كتبه ومسائله منها ما خرج إلى حيِّز الوجود مطبوعًا ومتداولاً، ومنها ما بقي مخطوطًا، فله مؤلَّفات في فقه أحاديث الموطَّأ والمسائل الفرعية عليها مثل: «الاستيفاء»، و«المنتقى»، و«الإيماء»، وله في شرح المسائل الفقهية في المدوَّنة أو في اختصارات عليها وتهذيبها منها: «شرح المدوَّنة»، و«مختصر المختصر»، و«المهذب»، وفي المجال الفقهي أيضًا له: «المقتبس في علم مالك بن أنس»، وكتاب «فصول الأحكام وبيان ما مضى عليه العمل عند الفقهاء والحكام».
وله في مجال الحديث والرجال والتراجم مؤلَّفات منها: «التعديل والتجريح لمن خرج له البخاري في الجامع الصحيح»، و«اختلاف الموطآت»، و«فرق الفقهاء»، و«التبيين لمسائل المهتدين»، و«فهرست».
أمَّا مُصنَّفاته الأصولية والجدلية فمنها: «إحكام الفصول في أحكام الأصول»، و«الإشارة إلى معرفة الأصول والوجازة في معنى الدليل»، و«الحدود في أصول الفقه»، و«الناسخ والمنسوخ في الأصول»، و«تفسير المنهاج في ترتيب طرق الحجاج».
وله مُصنَّفات في الزهد والرقائق منها: «سنن الصالحين وسنن العابدين»، وكتاب «سبيل المهتدين».
كما له مصنَّفات في علوم أخرى مثل: «التسديد إلى معرفة التوحيد»، و«تفسير القرآن»، و«الانتصار لأعراض الأئمَّة الأخيار»، وفي اللغة: «تهذيب الزاهر لابن الأنباري».
وللقاضي أبي الوليد الباجي -أيضًا- رسائل ومسائل، ومن رسائله: «الردّ على رسالة الراهب الفرنسي»، و«تحقيق المذهب في أنَّ رسول الله قد كتب»، و«الوصية لولديه»، و«شرح حديث: البَيِّنَةُ عَلَى المُدَّعِي وَاليَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ»، ومن المسائل التي عالجها الباجي والتي تحمل الصبغة الفقهية والطابع الخِلافي مثل: «مسألة مسح الرأس»، و«مسألة غسل الرجلين»، و«مسألة اختلاف الزوجين في الصداق» وغيرها.
كما أنَّ له شِعرًا ونثرًا اهتمَّ بهما منذ صغره، فجعل قراءة الأدب شِعرًا ونثرًا أحد محاور عنايته، وشاعرية أبي الوليد الباجي متَّفق عليها عند علماء التراجم، فقد كان شاعرًا مطبوعًا جيِّد العبارة، حَسَنَ النظم، فشِعره هادف يعمل على خدمة أغراض بنَّاءة بمعان في عقود مصروفة عن الإسفاف والهذر، وجملة أبياته وشعره تدلُّ على ذوقه الأدبي ونبوغه الشعري.
ومن شعره قوله في فساد الطبائع والأخلاق:
مَضَى زَمَنُ المَكَارِمِ وَالكِرَامِ
وَكَانَ البِرُّ فِعْلاً دُونَ قَوْلٍ
سَقَاهُ اللهُ مِنْ صَوْبِ الغَمَامِ
فَصَارَ البِرُّ نُطْقًا بِالكَلامِ
هذا، وملخَّص حياة أبي الوليد الباجي -رحمه الله-، في الجملة أنه ابتدأ حياته الفكرية بالأدب فبرز في ميادينه، وانتهى تحصيله بعلوم الديانة غربًا وشرقًا، وجعل خاتمة أمره ومنتهى طوافه السفارة الإصلاحية بين ملوك الطوائف جمعًا لكلمة المسلمين ولَمًّا لشملهم، فضلاً عن المهام القضائية والأمانات التي أسندت إليه، كلّ ذلك لم يمنعه من أداء واجبه في نشر العلم والمعرفة وتكريسهما بالتدريس والتأليف، وقد خلف لنا آثارًا وثروةً علميةً نافعةً تَرْبُو عن ثلاثين مؤلَّفًا في مختلَف أنواع العلوم الشرعية التي أحيت ذكره، وخلَّدت اسمه، وأكَّدت عظمة شخصيته العلمية البارزة.
بسم الله الرحمن الرحيم
وصَلَّى اللهُ على محمَّدٍ، وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليمًا
بـاب أقسام أدلة الشرع
فـصل [ في المجـاز ]
• قال الباجي -رحمه الله- في [ص 156]:
«…فَأَمَّا المَجَازُ: فَهُوَ كُلُّ لَفْظٍ تُجُوِّزَ بهِ عَنْ مَوْضُوعِهِ، وَهُوَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ…».
[م] والمجاز مشتقٌّ من الجواز، والجواز في الأماكن حقيقة وهو العبور، ويستعمل في المعاني، فهو طريق المعنى بالقول، ويسمَّى بذلك لأنَّ أهل اللغة يجاوزون به عن أصل الوضع توسُّعًا منهم.
واستعمل المصنِّف لفظ «تُجُوِّزَ» في الحدِّ، وهو تعريف لفظ المُعَرَّفِ، ويستحسن عند العلماء صون الحدود عن ذلك، ويمكن تعريفه بأنه: «اللفظ المستعمَل في غير ما وُضع له أصلاً لعلاقة بينهما مع وجود قرينة صارفةٍ عن إرادة المعنى الأصلي»(7).
وقد جعل المصنِّفُ قسمةَ المجاز في القرآن الكريم رباعيةً تبعًا لأبي إسحاق الشيرازي(8)، كما جاء في «شرح اللمع»(9) و«التبصرة»(10)، والقسمة نفسها ذكرها الكلوذاني(11 ) في «التمهيد»(12)، وزاد آخرون أقسامًا أخرى(13)، قال الشوكانيُّ(14 ) مُعقِّبًا على من قَيَّدَ آحادَ المجاز بعدد: «واعلم أنَّه لا يُشترط النقلُ في آحاد المجاز بل العلاقة كافيةٌ والمعتبَرُ نوعها، ولو كان نقل آحاد المجاز معتبرًا لتوقَّف أهل العربية في التجوُّز على النقل، ولو وقعت منهم التخطئة لمن استعمل غير المسموع من المجازات وليس كذلك بالاستقراء، لذلك لم يدوِّنوا المجازات كالحقائق، وأيضًا لو كان نقليًّا لاستغنى عن النظر في العلاقة لكفاية النقل… وكلُّ من له عِلمٌ وفَهمٌ يعلم أنَّ أهل اللغة العربية ما زالوا يخترعون المجازاتِ عند وجود العلاقة ومع نصب القرينة، وهكذا من جاء بعدهم من أهل البلاغة في فَنَّي النَّظْم والنَّثْرِ، ويتمادحون باختراع الشيء الغريب من المجازات عند وجود المصحِّح للتجوّز، ولم يُسمَعْ عن واحد منهم خلاف هذا»(15).
[ في مسألة وقوع المجاز في القرآن ]
• قال الباجي -رحمه الله- من الفصل نفسه في [ص 158]:
«وَاحْتَجُّوا بأَنَّ القُرْآنَ كُلَّهُ حَقٌّ، وَمُحَالٌ أَنْ يَكُونَ حَقًّا مَا لَيْسَ بحَقِيقَةٍ…».
[م] في مسألة وقوع المجاز في القرآن الكريم خلافٌ، وما عليه جمهور العلماء وقوعه مُطْلَقًا في القرآن والحديث واللغة.
وذهب محمَّد بن خويز منداد(16) وابن القاص(17 ) وابن حامد(18 ) وأبو الحسن التميمي(19 ) وغيرُهم إلى عدم وقوعه في القرآن الكريم وواقعٌ في غيره، ويرى المذهب الثالث عدمَ وقوعِه في القرآن والحديث وواقع فيما عداهما، وهو محكيٌّ عن داود(20) الظاهري وابنه أبي بكر(21)، وإن كان المشهور عنهما القول بمنع وقوعه في القرآن خاصَّة. وبالغ - في إيضاح منع المجاز - أبو العباس بن تيمية(22 )، وتلميذه ابن القيم، بل أوضحَا منعه في اللغة أصلاً، وبه قال أبو إسحاق الإسفرائيني(23 )، وأبو علي الفارسي(24 )، كما عزاه لهما ابن السبكي في «جمع الجوامع»(25).
قال الشنقيطي(26 ) في «منع جواز المجاز»: «وأوضح دليل على منعه في القرآن: إجماع القائلين بالمجاز على أنَّ كلَّ مجاز يجوز نفيه ويكون نافيه صادقًا في نفس الأمر، فتقول لمن قال: رأيت أسدًا يرمي ليس هو بأسد، وإنما هو رجلٌ شجاع، فيلزم على القول بأنَّ في القرآن مجازًا أنَّ في القرآن ما يجوز نفيه، ولا شكَّ أنه لا يجوز نفي شيء من القرآن، وهذا اللزوم اليقيني الواقع بين القول بالمجاز في القرآن وبين جواز نفي بعض القرآن قد شوهدت في الخارج صحَّتُه، وأنه ذريعة إلى نفي كثير من صفات الكمال والجلال الثابتة لله تعالى في القرآن العظيم»(27).
قلت: مَن تأوَّل صفات الله تعالى الواردة في القرآن، ونفى حقيقتها بشبهات عقلية أثبت المجاز فيها، وهو مذهب المثبتين للمجاز من المتكلِّمين ومن وافقهم، وعليه فالقول بالمجاز على هذا الرأي ذريعة إلى تأويل الصفات ونفيها، وهذا على خلاف مذهب المثبتين للمجاز من أهل السُّنَّة، فأثبتوا صفات الله تعالى في القرآن على حقيقتها ومنعوا دخول المجاز فيها، وماعدا آيات الصفات فالمجاز يدخل فيها ولا تلازم بين القسمين، إذ لا يلزم من إثبات المجاز تأويل الصفات أو نفيها؛ لأنَّ المجاز يحتاج إلى قرينة وهي منتفية عن آيات الصفات عند أهل السنَّة، لذلك كان الخلاف بين أهل السنَّة في إثبات المجاز ونفيه خلافًا لفظيًّا كما صرَّح ابن قدامة -رحمه الله- بقوله: «..وذلك كلُّه مجاز؛ لأنَّه استعمال للفظ في غير موضوعه ومن منع فقد كابر، ومن سلم وقال: لا أسميه مجازًا فهو نزاع في عبارة لا فائدة في المشاحة فيه، والله أعلم»(28).
فـصل
[ في الحقيــقة ]
• قال الباجي -رحمه الله- في [ص 160]:
«وَأَمَّا الحَقيقَةُ فَهُوَ: كُلُّ لَفْظٍ بَقيَ عَلَى مَوْضُوعِهِ».
[م] الحقيقة: هو فعيلة من حَقَّ الشيءُ بمعنى ثبت، والتاء لنقل اللفظ من الوصفية إلى الاسمية الصرفة، قال الشوكاني: «وفعيل في الأصل قد يكون بمعنى الفاعل، وقد يكون معنى المفعول، فعلى التقدير الأوَّل معنى الحقيقة: الثابتة، وعلى التقدير الثاني يكون معناها: المثبتة»(29). قال أبو النور زهير في «أصوله»: «والحقيقة إن كانت بمعنى فاعل فالتاء فيه للتأنيث؛ لأنَّ فعيلاً بمعنى فاعل، ويفرق فيه بين المذكر فيه والمؤنث بالتاء، يقال: رجل كريم وامرأة كريمة، ورجل عليم وامرأة عليمة، وإن كانت بمعنى مفعول فالتاء للنقل وليست للتأنيث؛ لأنَّه يستوي فيه المذكر والمؤنث يقال: رجل قتيل وامرأة قتيل، إلاَّ إذا سمي به أو جرى مجرى الأسماء بأن استعمل بدون الموصوف مثل: النطيحة، أي: البهيمة المنطوحة، فإنه يؤتى فيه بالتاء لتكون دالة على النقل من الوصفية إلى الاسمية، والحقيقة من هذا القبيل»(30).
والحقيقة تنقسم إلى: شرعية وعُرفية ولغوية، ومتى أمكن حمل اللفظ على الحقيقة وجب حمله عليها، ومتى تعذَّر حمله على الحقيقة حُمل على المجاز إذا وجدت القرينة الدالة على امتناع حمله على الحقيقة، وعليه فالمجاز خلاف الأصل، ومتى وقع احتمال اللفظ لهما فإنَّ الحقيقة ترجّح عليه لأصالتها.
هذا، والحقيقة لا تستلزم المجاز اتفاقًا، بينما يستلزم كلّ مجاز وجود حقيقته في شيء آخر لتفرعه عنها، وهو مذهب الجمهور.
[ في معنى «المفصَّل» ]
• قال الباجي -رحمه الله- بعدها في الصفحة نفسها:
«وَأَمَّا المُفَصَّلُ: فَهُوَ مَا فُهِمَ المُرَادُ بهِ مِنْ لَفْظِهِ وَلَـمْ يَفْتَقِرْ فِي بَيَانِهِ إِلَى غَيْرِهِ، وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: غَيْرِ مُحْتَمَلٍ، وَمُحْتَمَلٍ».
[م] المراد بالمفصَّل - عند المصنِّف - المفسَّر، ويكون تعريف المُجمل الذي يقابل المفصَّل أنه: «ما لا يُفهم المراد به من لفظه ويفتقر في بيانه إلى غيره»(31)، وهذا المجمل الذي عناه المصنِّف إنما هو المجمل عند السلف وهو: ما لا يكفي وحده في العمل، فلا بدَّ أن يُعرَفَ ببيان، مثل قوله تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا﴾ [التوبة: 103]، فإنَّ الصدقة المطهِّرة والمزكِّية تحتاج إلى بيان(32)، وهو ما أفصح عنه المصنِّف على متن «الإشارة» (ص 220)، أمَّا المجمَل عند الأصوليِّين فهو: «ما له دلالة على مَعنَيين لا مزيةَ لأحدهما على الآخر»، أو هو: «ما تردَّد بين محتملين فأكثر على السواء»، فقد أورده المصنِّف في الضرب الثاني من المفصَّل، حيث قَسَّم المفصَّل إلى غير المحتمل: وهو النصُّ الذي يجب المصير إليه ولا يعدل عنه إلاَّ بناسخ أو معارض، وإلى محتمل، وقَسَّمه إلى ضربين:
فجعل المجمل -عند الأصوليِّين- وهو: «الذي لا يجوز العمل بأحد احتمالاته إلاَّ بدليلٍ خارجي صحيح»، أي: لا يصار إليه إلاَّ بعد البيان في الضرب الأوَّل حيث نصَّ عليه على متن «الإشارة» (ص 161) بقوله: «أن لا يكون في أحد محتملاته أظهر منه في سائرها»، وألحقه بالضرب الثاني الذي هو «الظاهر» مُبيِّنًا حكمه بأنه: «لا يجوز العدول عن معناه الظاهر إلى سائر المحتملات إلاَّ بدليلٍ أقوى منه»، فإن دلَّ دليل أقوى على صرف اللفظ عن ظاهره المتبادر منه فإنه يعدل عنه إلى المحتمل المرجوح وهذا ما يسمَّى بالمؤوَّل.
قلت: النصُّ يتفق مع الظاهر في رجحان الإفادة، غير أنَّ النصَّ مانع من احتمال غيره، في حين أنَّ الظاهر لا يمنعه، وهذا القدر المشترك بينهما يسمَّى ب «المُحْكَم»، ويعرف بأنه: «ما يتَّضح معناه»، أمَّا المجمل والمؤوَّل فيتَّفقان في عدم الرجحان، غير أنَّ المجمل وإن لم يكن راجحًا فهو غير مرجوح من جهة الوضع، بخلاف المؤوّل فهو مرجوح، والقدر المشترك بينهما يسمى: «المتشابه»، فالمتشابه هو: «ما لم يتَّضح معناه»، فالمحكم -إذن- نوعان: نصّ وظاهر، والمتشابه نوعان: مجمل ومؤوّل.
• قال الباجي -رحمه الله- في [ص 161]:
«فَأَمَّا غَيْرُ المُحْتَمَلِ فَهُوَ النَّصُّ، وَحَدُّهُ: مَا رُفِعَ فِي بَيَانِهِ إِلَى أَرْفَعِ غَايَاتِهِ» نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ﴾ [البقرة: 228] فَهَذَا نَصٌّ فِي الثَّلاَثَةِ لاَ يَحْتَمِلُ غَيْرَ ذَلِكَ».
[م] قال القرافي(33 ) -رحمه الله-: «والنَّصُّ فيه ثلاثة اصطلاحات، قيل: ما دَلَّ على معنى قطعًا لا يحتمل غيرَه قطعًا كأسماء الأعداد، وقيل: ما دَلَّ على معنى قطعًا وإن احتمل غيره كَصِيَغِ الجموع في العموم، فإنها تدلُّ على أقلِّ الجمع قطعًا وتحتمل الاستغراق، وقيل: ما دلَّ على معنى كيف ما كان وهو غالب استعمال الفقهاء»(34).
قلت: والمثال الذي ساقه المصنِّفُ من قبيل الاصطلاح الأوّل للنصِّ، وهو العدد الذي يشمل أفراده على وجه الحصر، مثل قوله تعالى: ﴿تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ﴾ [البقرة: 196]، فهو مانع من إرادة احتمال غيره، لكن «القرء» في الآية مجمل لتردُّده بين الحيض والطهر فهو محتاج إلى بيان، والأمر بالتربّص من قبيل الظاهر وإن ورد بالصيغة الخبرية فهي في معنى الإنشاء، والأصل في الأوامر أن تحمل على الوجوب لكونها أظهر في الوجوب من سائر محتملات الأمر، ولا يعدل عنه إلاَّ بدليل أقوى. فالآية - إذن - تضمَّنت النصَّ والظاهرَ والمجملَ.
فـصل
[ فـي اقتضاء الأمر المطلق الوجوب ]
في معرض الاستدلال على أنَّ لفظ الأمر المطلق إذا ورد عاريًا من القرائن وجب حمله على الوجوب ما لم يدلَّ عليه دليل أنه أريد به الندب.
• يقول الباجي -رحمه الله- في [ص 168]:
«وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا نَقُولُهُ: قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لإِبْلِيسَ: ﴿قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ﴾ [الأعراف: 12]، فَوَبَّخَهُ وَعَاقَبَهُ لَمَّا لَمْ يَمْتَثِلْ أَمْرَهُ بالسُّجُودِ لآدَمَ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُقْتَضَاهُ الوُجُوبَ لَمَا عَاقَبَهُ وَلاَ وَبَّخَهُ عَلَى تَرْكِ مَا لاَ يَجِبُ عَلَيْهِ فِعْلُهُ».
[م] والخصم وإن كان يعترض على هذا الدليل بخروجه عن محلِّ النِّزاع؛ لأنَّه ورد في أمر عُلِم كونه واجبًا بقرائن اتصلت به فإنَّ أهل التحقيق -بغضِّ النظر عن صحَّة هذا الاحتمال- يحتجُّون على أنَّ الأوامر تقتضي الوجوب بأنَّ تارك المأمور به عاصٍ كما أنّ فاعله مطيع بقوله تعالى:﴿ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي﴾ [طه: 93]، وقوله تعالى: ﴿وَلاَ أَعْصِي لَكَ أَمْرًا﴾ [الكهف: 69]، وقوله تعالى: ﴿لاَ يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ﴾ [التحريم: 6]، وإذا كان تارك المأمور عاصيًا استحقَّ العقاب سواء أكان ذلك في أوامر الله تعالى أو أوامر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم لقوله تعالى: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النور: 63]، ولقوله تعالى: ﴿وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ﴾ [الجن: 23]، ولقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ [الأحزاب: 36]، وقد امتنع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الأمر بالسواك لأجل المشقَّة مع أنَّ السواك مندوب إليه فلو كان أمره للندب لما امتنع منه(35).
هذا، والمسألة اتسع الخلاف - في المعنى الحقيقي للأمر - على ما يربو عن ستة عشر قولاً، وما عليه مذهب الجمهور أنَّ الأمر على الوجوب حقيقة، وإنما يصرف إلى غيره بقرينة، وهو قول الشافعي(36 ) وظاهر كلام أحمد، وهو مذهب الأحناف وجمهور المالكية، ورجَّحه المصنِّف، وصحَّحه ابن الحاجب(37 )، والبيضاوي(38 )، وقال الفخر الرازي(39 ) إنه: «الحقّ»(40)، غير أنهم يختلفون في دلالته على الوجوب هل هو بوضع اللغة أم بالعقل أم بالشرع ؟ والصحيح أن اقتضاء الصيغة للوجوب إنما ثبت عن طريق اللغة لا عن طريق الشرع ولا العقل؛ لأنّ إلحاق العصيان على من خالف الأمر بمجرَّد ذكر الأمر، وقد ثبت عن أهل اللغة تسمية من خالف مطلق الأمر عاصيًا؛ ولأنَّ الوعيد مستفاد من اللفظ كما يستفاد منه الاقتضاء الجازم، وإذا تقرَّر أنَّ صيغة «ﭐفعل» مقتضية للوجوب بوضع اللغة لزم حمل الأمر على الوجوب سواء كان الأمر الوارد من جهة الشرع أو من غيره إلاَّ ما خرج بقرينة أو دليل، خلافًا لمن رأى أنها تقتضي الوجوب بوضع الشرع فيقصرها على أوامر الشرع، أو تقتضي الوجوب عن طريق العقل فيقصرها على الأوامر التي يقتضي العقل أنها الوجوب دون غيرها.
فـصل
[ في ورود الأمر بعد الحَظْر ]
• قال المصنِّف -رحمه الله- في [ص 169]:
«إِذَا وَرَدَتْ لَفْظَةُ «ﭐفْعَلْ» بَعْدَ الحَظْرِ اقْتَضَتِ الوُجُوبَ أَيْضًا عَلَى أَصْلِهَا، وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابنَا: إِنَّهَا تَقْتَضِي الإِبَاحَةَ، وَبهِ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ».
[م] مسألة ورود الأمر بعد الحظر خلافية، وهي على الوجوب عند عامَّة الحنفية والمعتزلة، وهذا القول مروي عن الباقلاني(41) ورجَّحه المصنِّف والفخر الرازي، وتوقّف فيه الجويني(42 )، أمَّا ما عليه أكثر الفقهاء والمتكلِّمين أنها تقتضي الإباحة، وهو ظاهر قول الشافعي وأحمد(43 )، واختاره الآمدي(44 ) ورجَّحه ابن الحاجب.
هذا، ولعلَّ أقرب الأقوال إلى الصواب مذهب القائلين بأنَّ الأمر بعد الحَظْرِ يفيد رجوع الفعل إلى ما كان عليه قبل الحظر، فإن كان قبله جائزًا رجع إلى الجواز، وإن كان واجبًا رجع إلى الوجوب، وهذا المذهب هو المعروف عند السلف والأئمَّة، ويدلُّ عليه الاستقراء، فمن ذلك قوله تعالى: ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُواْ﴾ [المائدة: 2]، فرجع إلى ما كان عليه قبل التحريم وهو الإباحة، وقوله تعالى: ﴿فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ﴾ [التوبة: 5]، فرجع إلى ما كان عليه قبل المنع وهو الوجوب، قال ابن كثير(45 ) -رحمه الله-: «والصحيح الذي تثبت على السير أنه يَرُدُّ الحكمَ إلى ما كان عليه قبل النهي، فإن كان واجبًا ردَّه واجبًا، وإن كان مستحبًّا فمستحب أو مباحًا فمباح، ومن قال بالوجوب ينتقض عليه بآيات كثيرة، ومن قال إنه للإباحة ترد عليه آيات أخرى، والذي ينتظم الأدلة كلّها هذا الذي ذكرناه»(46)، وهذا القول هو اختيار محمَّد الأمين الشنقيطي(47) -رحمه الله-.