المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : -الجزء الرابع- في اللفظ العام الوارد ابتداء للشيخ محمد علي فركوس


حفيد الصالحين
07-08-2011, 11:51 PM
http://www.ferkous.com/image/gif/C0.gif
.

الجزء الرابع

فـصل
[ في اللفظ العامِّ الوارد على سبب ]

• قال المصنِّف -رحمه الله- في [ص 206]:
«…فَأَمَّا المُسْتَقِلُّ بنَفْسِهِ فَمِثْلُ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ بئْرِ بُضَاعَةَ، فَقَالَ: «المَاءُ طَهُورٌ لاَ يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ»(1)، فَمِثْلُ هَذَا اللَّفْظِ العَامِّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ، فَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ -رحمه الله- أَنَّهُ يُقْصَرُ عَلَى سَبَبهِ وَلاَ يُحْمَلُ عَلَى عُمُومِهِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى عُمُومِهِ وَلاَ يُقْصَرُ عَلَى سَبَبهِ، وَإلَيْهِ ذَهَبَ إِسْمَاعِيلُ القَاضِي وَأَكْثَرُ أَصْحَابنَا».

[م] مذهبُ الجمهور أنَّ اللفظَ العامَّ الواردَ على سببٍ خاصٍّ لا يختصُّ به بل يكون عامًّا لمن تسبَّب في نزول الحكم ولغيره، أي أنَّ «العِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لاَ بِخُصُوصِ السَّبَبِ».
وخالف في ذلك مالكٌ وأحمد في رواية عنهما، والمزنيُّ(2) وأبو ثور(3) والقفال والدقاق(4) والأشعري ورأوا أنَّ العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ، وفصل في المسألة فريق ثالث، وتوقَّف آخرون.
ويكفي لصِحَّة مذهبِ الجمهور قُوة إجماع الصحابة رضي الله عنهم على تعميم الأحكام الواردة على أسبابٍ خاصَّة، كآية الظِّهَارِ نزلت في شأن أوس بن الصامت وزوجتِه، وآيات اللِّعَان نزلت في عويمرٍ العجلانيِّ وزوجتِه، وآية القذف نزلت في شأن عائشة رضي الله عنها، وآية السرقة نزلت فيمن سرق رداء صفوان بن أمية، وكذلك المواريث وغيرها.
وممَّا هو نصٌّ في محلِّ النِّزاع قصّة الأنصاري الذي قَبَّلَ امرأةً أَجنبيَّةً فأتى رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكر له ذلك، ونزل فيه قوله تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ﴾ [هود: 114]، قال الرجل: ألي هذه؟ قال: «لِمَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ أُمَّتِي»(5). وفي روايةٍ قال: «بَلْ لِلنَّاسِ كَافَّةً»(6). ومعناه أنَّ العبرةَ بعموم لفظِ ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾ لا بخصوص السبب.
ومن ذلك أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم لَمَّا طرق عليًّا وفاطمة رضي الله عنهما فقال: «أَلاَ تُصَلِّيَانِ ؟» فقال عليٌّ رضي الله عنه يا رسول الله: «إِنَّمَا أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللهِ، فَإِذَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا»، فانصرف النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم راجِعًا وهو يضرب فخذَه ويقول: ﴿وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً﴾ [الكهف: 54](7)، فجعل عليًّا داخلاً في عموم الآية مع أنَّ سبب نزولها في الكفار الذين أكثروا الجدلَ والخصومةَ والمِراءَ لإدحاضِ الحقِّ الذي بيَّنه اللهُ في القرآن الكريم، ففي الآية دليلٌ على عموم الآية وشمولها لكلِّ خصامٍ وجدلٍ؛ لأنَّ «العِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لاَ بِخُصُوصِ السَّبَبِ»(8).
هذا، والمعتبر في هذه المسألة إذا لم توجد قرينة على التخصيص ولا على التعميم إلاَّ اللفظ نفسه، فالخلاف ‑في الجملة(9)‑ لفظي لاتفاق العلماء على تعميم أحكام اللِّعان والظِّهار والسرقة وغيرها ممَّا نزلت بسبب حوادث خاصَّة، غاية ما في الأمر أنَّ مذهب الجمهور يرى ثبوت تلك الأحكام المشابهة لتلك الحوادث عن طريق اللفظ والنصّ، بينما عند من يقصر اللفظ على السبب ولا يحمله على عمومه يلحق تلك الأحكام المشابهة للأصل بالقياس، والفرق بين الطريقتين يظهر من حيث النسخُ والتعارضُ، أمَّا من حيث النسخ فإن الحكم الثابت عن طريق النصِّ ينسخ وينسخ به، بخلاف الحكم الثابت عن طريقة القياس فلا يقبل النسخ. أمَّا من حيث التعارض فالحكم الثابت عن طريق عموم النصِّ أقوى من الحكم الثابت عن طريق القياس.

• قَالَ المُصَنِّفُ -رحمه الله- في [ص 208]:
«وَأَمَّا مَا لاَ يَسْتَقِلُّ بنَفْسِهِ، فَمِثْلُ مَا سُئِلَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بالتَّمْرِ فَقَالَ: «أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إِذَا يَبسَ ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَلاَ إِذًا»(10)، فَمِثْلُ هَذَا الجَوَابِ يُقْصَرُ عَلَى سَبَبهِ، وَيُعْتَبَرُ بهِ فِي خُصُوصِهِ وَعُمُومِهِ، وَلاَ اخْتِلاَفَ فِي ذَلِكَ نَعْلَمُهُ».
[م] لا خلافَ بين العلماء في تبعية الجواب غيرِ المستقلِّ بالسؤال أو الحادثة في عمومه اتفاقًا، وأمَّا الاعتبار به في خصوصه فقيل: إنه لا نزاعَ في ذلك، والصواب أنه محلُّ خلاف، ويتبع السؤال في خصوصه في أحد قولي العلماء وهو المختار عند الجمهور(11).
بـاب
أحكام الاستثناء
[ في الاستثناء من غير الجنس ]

• قَالَ المُصَنِّفُ -رحمه الله- في [ص 210]:
«الاسْتِثْنَاءُ وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: اسْتِثْنَاءٌ يَقَعُ بهِ التَّخْصِيصُ، وَاسْتِثْنَاءٌ لاَ يَقَعُ بهِ التَّخْصِيصُ، فَأَمَّا الاسْتِثْنَاءُ الَّذِي يَقَعُ بهِ التَّخْصِيصُ فَعَلَى ثَلاَثَةِ أَضْرُبٍ: اسْتِثْنَاءٌ مِنَ الجِنْسِ، وَاسْتِثْنَاءٌ مِنْ غَيْرِ الجِنْسِ، وَاسْتِثْنَاءٌ مِنَ الجُمْلَةِ… وَأَمَّا الاسْتِثْنَاءُ مِنْ غَيْرِ الجِنْسِ فَلاَ يَقَعُ بهِ التَّخْصِيصُ».
[م] الاستثناءُ هو: «قولٌ متَّصلٌ يدلُّ بحرف «إلاَّ» أو إحدى أخواتها على أنَّ المذكور معه غير مرادٍ بالقول الأول»، والفرق بين الاستثناء والتخصيص المنفصل أنَّ الأول يُشترط فيه الاتصال فلا يجوز أن يقول: «رأيت الناس» ثمَّ بعد زمن يستثني زيدًا، بينما التخصيص المنفصل يجوز أن يكون متَّصلاً ومتراخيًا، والتخصيص المنفصل يصحُّ في الظاهر ‑وهو العامّ فقط‑ فلا يجوز في النصِّ، بخلاف الاستثناء فإنه يتناول الظاهر والنصّ، فيجوز أن تقول: «لي عليه عشرة دنانير إلاَّ ثلاثة».
هذا، والمصنِّف في هذا الباب قَسَّم الاستثناء إلى ضربين: ما يقع به التخصيص، وما لا يقع به التخصيص، غير أنَّ الظاهر من نصِّ المصنِّف إقحامه للقسم الثاني الذي لا يقع به التخصيص ‑وهو الاستثناء من غير الجنس‑ في أضرب القسم الأوَّل الذي يقع به التخصيص، ولعلَّ المصنِّف أدرج اختيارَه المتمثِّل في جواز التخصيص بالاستثناء من غير الجنس ضمن أضرب القسم الأول، واستبقى القسم الثاني الذي هو مذهب الجمهور في عدم وقوع التخصيص بالاستثناء من غير الجنس، وقد اتفق العلماء على أنَّ الاستثناء من الجنس حقيقة وأنه يصحُّ الاستثناء به، وأمَّا الاستثناء من غير الجنس فاختلفوا فيه، والصحيح أنه: لا يجوز الاستثناء به خلافًا لمذهب المصنِّف، وبه قال الباقلاني، وذكر الفخر الرازي أنه ظاهر كلام النحويين(12)؛ لأنه لا يخرج من الجملة بعض ما تناولته مثل قولك: «رأيت الناس إلاَّ حمارًا»؛ لأن الحمار لا يدخل في عموم الناس، وإذا جاءت مثل هذه الصيغ والجمل حُملت على المجاز لا على الحقيقة، وهو مذهب الجمهور ‑كما تقدَّم‑ وبه قال محمَّد ابن خويز منداد كما صرَّح به المصنِّف، وهو قولُ الشيرازيِّ شيخِ المصنِّف والغزاليِّ والسرخسي والبيضاوي وغيرِهم، ومن أدلَّتهم أنَّ المستثنى من الجنس شاع استعماله حتى أصبح المتبادر إلى الذهن عند الإطلاق، والتبادر أمارة الحقيقة وما ورد على خلافها فهو المجاز، كما أنه لا يوجد معنى في استثناء من غير الجنس؛ لأنَّ الاستثناء إخراج، وهو غير متحقِّق فيه إذ الإخراج فرع الدخول، ولا دخول للمستثنى تحت لفظ المستثنى منه في غير الجنس؛ لأنه ليس من جنسه، واللفظ لا يدلّ على ما ليس من جنسه، فتسميته استثناء مع أنه لا إخراج فيه لا يكون حقيقة وإنما مجازًا؛ ولأنَّ الاستثناء من غير الجنس على غير وضع اللغة، إذ قد يكون معيبًا استعماله عند العقلاء، فلو قال: «رأيت الحجاج إلاَّ الكلاب» لكان مستهجنًا، أو قال: «رأيت العلماء إلاَّ الحمير» لكان معيبًا ومستهجنًا، وما كان كذلك فلا يجوز أن يضاف إلى أهل اللغة على وجه الحقيقة(13).

[ دليل الباجي -رحمه الله- على وقوع
التخصيص بالاستثناء من غير الجنس ]

• قال الباجي -رحمه الله- في [ص 211]، عند معرض الاستدلال على اختياره بجواز وقوع التخصيص بالاستثناء من غير الجنس:
«وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا﴾ [ النساء: 92]، وَالخَطَأُ لاَ يُقَالُ فِيهِ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَفْعَلَهُ، وَلاَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ؛ لأَنَّهُ لَيْسَ بدَاخِلٍ تَحْتَ التَّكْلِيفِ، وَقَدْ قَالَ النَّابغَةُ: "…وَمَا بالرَّبْعِ مِنْ أَحَدِ إِلاَّ أَوَارِيُّ…"».
[م] قد لا يُسلم المخالف أنَّ في الآية وقول النابغة(14) دليلاً على جواز وقوع التخصيص بالاستثناء من غير الجنس؛ لأنَّ الآية لا يوجد فيها استثناء لكون «إلاَّ» فيها للاستدراك، وهو استثناء منقطع ليس من الأول، وتكون فيه «إلاَّ» بمعنى «لكن»، والتقدير: «ما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنًا البتة لكن إن قتله خطأ فعليه الكفارة والدية». وإذا سلم مجيئه متَّصلاً فعلى التقديرين كليهما ليس فيه حُجَّة على وقوع التخصيص به، ويظهر التقدير الأول في العبارة التالية: «وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنًا ولا يقتص منه إلاَّ أن يكون خطأ فلا يقتص منه ولكن فيه الكفارة والدية»، والتقدير الثاني أن يقدَّر «كان» بمعنى «وجد» أو «استقر» فكأنه قال: «وما وجد وما تقرّر وما ساغ لمؤمن أن يقتل مؤمنًا إلاَّ خطأ إذ هو مغلوب فيه أحيانًا»(15).
أمَّا محلُّ الشاهد عند المصنِّف من إيراد بيتي النابغة هو استثناء «أواري» من «أحد» على أنه استثناء من غير الجنس، فأجيب: بعدم التسليم بأنه استثناء من غير الجنس من ناحيتين:
الأولى: إنَّ «الأواري» مستثنى من جنس المستثنى منه؛ لأنَّ «أحد» يطلق على الجمادات كما يطلق على الآدمي.
الثانية: أنه قد جرت عادة العرب في كلامهم أن يجعلوا الشيء من جنس غير جنسه توسّعًا كما في قول أبي ذؤيب الهذلي:
فَإِنْ تُمْسِ فِي غَارٍ بِرَهْوَةٍ ثَاوِيًا

أنيسُكَ أَصْدَاءُ القُبُورِ تَصِيحُ(16)
فقد جعل أصداءَ القبور أنيسًا، وليست في الأصل من جنس الأنيس إلاَّ من باب التوسَّع، وقد يحصل وأن يكون من جنسه؛ لأنَّ الأبنية والأحجار والأشجارَ فضلاً عن الحيوان يحصل معه الأنس كالآدمي.
وتظهر ثمرة الخلاف فيما إذا حلف إنسان أنه لا يستثني، أو قال لزوجته: «إن استثنيت فأنت طالق» ثمَّ يستثني منقطعًا، فإنه يحنث عند من يسمِّي الاستثناء المنقطع استثناء، ولا يحنث عند من لا يسميه كذلك(17)، ولو قال المقر: «عليَّ ألف درهم إلاَّ ثوبًا» فإنه لا يجوز التخصيص به عند من لا يسمِّي الاستثناء المنقطع استثناء، ويجوز عند الفريق الثاني، وله أن يبيِّن قيمةَ الثوب ليعلم مقداره المستثنى(18).
هذا، أمَّا مَنْ يرى أنَّ تسمية الاستثناء مِن غير الجنس حقيقة أو مجاز أو موقوف فما هو إلاَّ مجرَّد اصطلاح واختلاف لفظي لا أثر له في الفروع لاتفاقهم على تسميته استثناء(19).

فـصل
[ في رجوع الاستثناء الواقع بعد الجمل المتعاطفة بالواو ]

• قال المصنِّف -رحمه الله- في [ص 212]:
«الاسْتِثَنَاءُ المُتَّصِلُ بجُمَلٍ مِنَ الكَلاَمِ مَعْطُوفٌ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ يَجِبُ رُجُوعُهُ إِلَى جَمِيعِهَا عِنْدَ جَمَاعَةِ أَصْحَابنَا، وَقَالَ القَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِيهِ بمَذْهَبِ الوَقْفِ، وَقَالَ المُتَأَخِّرُونَ مِنْ أَصْحَابِ أَبي حَنِيفَةَ: "يَرْجِعُ إِلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ إِلَيْهِ"».
[م] محلُّ النِّزاع في هذه المسألة واقعٌ فيما إذا لم تكن قرينة تدلُّ على إرادة الجميع أو إرادة إحدى الجمل، سواء كانت متقدِّمة أو متأخِّرة، من نفس اللفظ أو من خارجه، فإن وُجدت القرينة وجب المصيرُ إلى ما تدلّ عليه والعملُ بما تقتضيه، ومن أمثلة رجوع الاستثناء إلى جميع الجمل اتفاقًا قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا﴾ [الفرقان: 68-70]، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا﴾ إلى قوله تعالى: ﴿إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [المائدة: 34]، ومن أمثلة ما يمنع فيه مانع أو قرينة من إرادة الجميع والحكم فيه للمانع أو للقرينة الدالَّة على المراد قوله تعالى: ﴿وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ﴾ [النساء: 92]، فحقّ الله المتمثّل في تحرير الرقبة مانعٌ من عود الاستثناء إليه؛ لأنه لا يسقط بإسقاطهم للدية، وعليه فالاستثناء يعود إلى الجملة الأخيرة، وقد يعود إلى الجملة الأولى بقرينة مثل قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ﴾ [البقرة: 249]، ومعناه: «أنَّ من شرب منه فليس مني إلاَّ من اغترف غُرفةً بيده فإنه مني»، ولا يكون المعنى صحيحًا إذا رجع إلى الجملة الأخيرة وهي: «ومن لم يطعمه فإنه مني إلاَّ من اغترف غرفةً بيده».
ويخرجُ –أيضًا‑ من محلِّ النِّزاع الاستثناء الوارد بعد جمل منسوقة بأنواع العطف ك «الفاء»، و«ثم» فإن الاستثناء يختصّ بالأخيرة لاقتضائهما الترتيب سواء كان على الفور أو على التراخي بخلاف «الواو» فيقضي الجمع والاشتراك، لذلك اتفق العلماء على أنَّ الاستثناء إذا ورد بعد الجمل المتعاطفة ب «الواو» يرجع إلى الجملة الأخيرة ما لم ترد قرينة، وفي رجوعه إلى ما قبلها خلاف(20).
وفضلاً عمَّا ذَكر المصنِّف من خلافٍ في هذه المسألة من أنَّ جمهور المالكية والشافعية والحنابلة يذهبون إلى أنَّ الاستثناء إذا تعقب جملاً ب «الواو» يرجع إلى جميعها، خلافًا لأصحاب أبي حنيفة فإنه يرجع عندهم إلى أقرب مذكور إليه، وأمَّا القاضي الباقلاني فقال بالوقف وتبعه الغزالي والشريف المرتضي من الشيعة، إلاَّ أنَّ هذا الأخير توقَّف للاشتراك، وإضافة لما تقدَّم فقد ذهب آخرون إلى التفصيل، فمنهم من يرى: أنه إذا تبيَّن الإضراب عن الأولى فللآخرة وإلاَّ فللجميع، وهو مذهب عبد الجبار(21) وأبي الحسين من المعتزلة، ويرى آخرون: أنه إذا ظهر أنَّ «الواو» للابتداء رجع للجملة الأخيرة، وإن ظهر أنها عاطفة فالواجب الوقف وهو مذهب الآمدي، وقال غيرهم: إنَّ القيد الواقع بعد الجمل إذا لم يمنع مانع من عوده إلى جميعها لا من نفس اللفظ ولا من خارج عنه فهو عائد إلى جميعها، وإن منع مانع فله حكمه.
والظاهر أنَّ مذهب الجمهور في هذه المسألة أصحّ لاتفاق أهل اللغة أنّ تَكرار الاستثناء عقب كلّ جملة تلزمه الركاكة في الاستعمال، والركاكة قبح يتخلّص منه كلام العرب؛ ولأنَّ الاستثناء صالح لِأَنْ يعود إلى كلِّ واحدة من الجمل، وليست جملة أولى من أختها، فوجب اشتراكها في عود الاستثناء إليها جميعًا(22).
ويتفرَّع عن هذه المسألة اختلافُهم في قَبول شهادة المحدود في القذف بعد التوبة من مقتضى آية القذف الواردة في نصِّ المصنِّف فهل تقبل ؟ مع ما نقل من اتفاقهم على أنَّ المحدود في القذف إن تاب لم يسقط عنه الحدّ(23)، وزال عنه الفِسق، ولكنهم اختلفوا في قَبول شهادته، وما عليه الجمهور قَبولها(24)، لرجوع الاستثناء إلى الجميع، والحنفية تخصّه بالأخيرة، ويبقى قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا﴾ [النور: 4] على عمومه(25).
وممَّا يتفرَّع عنها أيضًا اختلافُهم في اشتراط الإذن في الإمامة في الصلاة في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «وَلاَ يَؤُمَنَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي سُلْطَانِهِ، وَلاَ يَقْعُدُ فِي بَيْتِهِ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ»(26)، ورجوعُ الاستثناء إلى الجملة الأخيرة متَّفق عليه، فلا يجوز له الجلوس على تكرمته إلاَّ بإذنه، ومن رأى رجوع الاستثناء إلى الجميع قال: باشتراط الاستئذان في الإمامة بالصلاة، ومن رأى رجوعه إلى الجملة الأخيرة لم يشترط الإذن(27).
بـاب حكم المطلق والمقيد
وما يتصل بالخاص والعام
[ في مقيِّدات الإطلاق ]
• قال المصنِّف -رحمه الله- في [ص 215]:
«التَّقْييدُ يَقَعُ بثَلاَثَةِ أَشْيَاءَ: الغَايَةِ، وَالشَّرْطِ، وَالصِّفَةِ».
[م] لم يتعرَّض المصنِّف للمطلق والمقيَّد بالتعريف اكتفاءً بما هو وارد في كتابه «الحدود» حيث عرَّف فيه المطلقَ بأنه: «اللَّفْظُ الوَاقِعُ عَلَى صِفَاتٍ لَمْ يُقَيَّدْ بِبَعْضِهَا»(28)، وعرَّف المقيَّد بأنه: «اللَّفْظُ الوَاقِعُ عَلَى صِفَاتٍ قَدْ قُيِّدَ بِبَعْضِهَا»(29)، ولا يخفى أنَّ هذا التعريفَ لا يمنع دخولَ ألفاظِ الأعداد المتناولة لأكثر من واحد، وأسماء الأعلام، والعامّ المستغرق، والمشترك، والأولى تعريفه في الاصطلاح بأنه: «هُوَ اللَّفْظُ المُتَنَاوِلُ لِوَاحِدٍ لاَ بِعَيْنِهِ بِاعْتِبَارِ حَقِيقَةٍ شَامِلَةٍ لِجِنْسِهِ»، فيخرج من «المتناول لواحد» اللفظُ غيرُ المفيد وألفاظُ الأعداد المتناولة لأكثر من واحد، ويخرج من «لا بعينه» أسماءُ الأعلامِ، وما مدلوله واحد، والعامُّ المستغرق، ويخرج من «باعتبار حقيقة شاملةٍ لجِنسه» المشترك، والواجب المخيَّر، فإنَّ كُلاَّ منهما يتناول واحدًا لا بعينه باعتبار حقائق مختلفة، ومثاله: «اعتِقْ رقبةً»، فإنَّ هذا الأمرَ تناول واحدًا من الرِّقاب غيرَ مُعيَّن، ومدلولُه شائعٌ في جنسه، وأمَّا المقيَّدُ فهو: «المُتَنَاوِلُ لِمُعَيَّنٍ أَوْ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ مَوْصُوفٍ بِأَمْرٍ زَائِدٍ عَلَى الحَقِيقَةِ الشَّامِلَةِ لِجِنْسِهِ»، ومثاله: «اعتِقْ رقبةً مؤمنةً»، فهذا المثالُ دالٌّ على غيرِ المعيِّن لكنَّه موصوفٌ بوصفٍ زائدٍ على مدلوله المطلَق، وقد يتناول اللفظُ معيَّنًا أو دالاَّ على مدلولٍ معيَّنٍ، مثل: «أكرم زيدًا».
هذا، ومحلُّ الإطلاقِ والتقييدِ الأمرُ، مثل أن يقول: «أكرم طالبًا»، أو المصدر كقوله تعالى: ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾ [المجادلة: 3]، وجديرٌ بالتنبيه أنَّ الإطلاق لا يكون في النهي والنفي، فهذا إنما يدلُّ على باب العموم، كما لا يحصل الإطلاق في الخبر المتعلِّق بالماضي، كقولك: «أكرمتُ طالبًا»، لتعيُّنه بضرورة إسناد الإكرام إلى الطالب، وإنما يكون في الخبر المتعلِّق بالمستقبل كقولك: «سأكرمُ طالبًا»، ولك أن تقيِّدَه بالنجابة والتفوُّقِ.
والمصنِّف في هذا الباب اقتصر على ذِكْرِ المقيِّدات المتَّصلة(30) ولم يعرج على المقيِّدات المنفصلة، والمعلوم أنَّ كلَّ مخصِّصات العموم المتصلة والمنفصلة تصدق على المطلق والمقيّد، فيجوز تقييد الكتاب بالكتاب، والسُّنَّة بالسُّنَّة، وتقييد السُّنَّة بالكتاب، والكتاب بالسُّنَّة، وتقييد المطلق بالإجماع، والقياس، والمفهوم، والغاية، والشرط، والسبب.

[ في عدم حمل المطلق على المقيد من جنسين ]

• قال المصنِّف -رحمه الله- في [ص 216]:
«... فَإِنْ كَانَا مِنْ جِنْسَيْنِ، فَالمَشْهُورُ مِنْ قَوْلِ العُلَمَاءِ أَنَّهُ لاَ يُحْمَلُ المُطْلَقُ عَلَى المُقَيَّدِ؛ لأَنَّ تَقْييدَ الشَّهَادَةِ بالعَدَالَةِ لاَ يَقْتَضِي تَقْييدَ رَقَبَةِ العِتْقِ بالإِيمَانِ».
[م] إذا كان المطلق والمقيَّد من جنسين فلا يحمل المطلق على المقيّد اتفاقًا؛ لأنَّه لا تُوجد مناسبة بينهما، ولا يعلق أحدهما بالآخر أصلاً، فمتعلّق حكم المطلق مغاير لمتعلّق حكم المقيّد على نحو ما مثَّل به المصنِّف من عدم اقتضاء تقييد الشهادة بالعدالة تقييد الرقبة بالإيمان لانعدام المناسبة بينهما.
هذا ويجدر التنبيه إلى أنَّ صورة حمل المطلق على المقيّد أن يكون المطلق في كلامٍ مستقلٍّ ويأتي المقيّد في كلام آخر مستقلّ، وليس من قبيل هذه المسألة اجتماع المطلق والمقيّد في كلام واحد إذ لا نزاع في هذه الصورة.

[ في اتحاد الحكم مع اختلاف السبب ]

• قال المصنِّف -رحمه الله- في [ص 217]:
«فَإِنْ تَعَلَّقَا بسَبَبَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ نَحْوَ أَنْ يُقَيِّدَ الرَّقَبَةَ فِي القَتْلِ بالإِيمَانِ، وَيُطْلِقَهَا فِي الظِّهَارِ، فَإِنَّهُ لاَ يُحْمَلُ المُطْلَقُ عَلَى المُقَيَّدِ عِنْدَ أَكْثَرِ أَصْحَابنَا إِلاَّ بدَلِيلٍ يَقْتَضِي ذَلِكَ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابنَا وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: يُحْمَلُ المُطْلَقُ عَلَى المُقَيَّدِ مِنْ جِهَةِ وَضْعِ اللُّغَةِ».
[م] المثالُ الذي أورده المصنِّف يظهر في اتحاد الحكم مع اختلاف السبب في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا﴾ [المجادلة: 3]، فالرقبة وردت مُطلَقَةً عن تقييدٍ، وفي قوله تعالى: ﴿وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ﴾ [النساء: 92]، فالرقبة وردت مقيَّدَةً بالإيمان، فالحكم في الصورتين واحد وهو تحرير رقبة، والسبب مختلف، فالسبب في الأولى الظهار، وفي الثانية قتل الخطأ، ونقل عن الشافعي -رحمه الله- حمل المطلق على المقيّد في هذه المسألة، لكن أصحابه يختلفون في تأويله، فمنهم من يرى أنه يحمل على ذلك من غير ما حاجة إلى دليل آخر؛ لأنَّ تقييد أحدهما يوجب تقيد الآخر لفظًا، وجمهور أصحابه يرون حمله على ما إذا وجد بينهما عِلَّة جامعة تقتضي تقييده، وبهذا قال أكثر المالكية كما صرَّح بذلك المصنِّف، وهو أظهر الروايتين عن الإمام أحمد -رحمه الله-، وهو الصحيح، خلافًا لمن أثبته من جهة الوضع أو من ذهب إلى أنه لا يحمل المطلق على المقيّد مُطلقًا، وعليه أكثر الحنفية؛ لأنَّ العموم إذا جاز تخصيصه بالقياس فيجوز تقييد المطلق به أيضًا، والجامع صيانة القياس عن الإلغاء.
ولأنَّ دلالةَ العامِّ على أفراده لفظية، ودلالة المطلق على أفراده غير لفظية بل معنوية، وإذا كانت الدلالة اللفظية أقوى من الدلالة المعنوية، فمعنى ذلك أنه متى جاز تخصيص العامّ بالقياس فيجوز تقييد المطلق به من باب أولى(31).
والخلافُ في هذه المسألة معنويٌّ، فعند من يحمل المطلق على المقيَّد سواء بالقياس أو من جهة الوضع اللغوي يوجب الإيمان في الرقبة المعتوقة، بخلاف من يمنع حمل المطلق على المقيَّد فإنه في الظهار يعمل بالإطلاق الوارد فيه، فتجوز الرقبة المؤمنة والكافرة، وفي القتل لا تجوز إلاَّ المؤمنة عملاً بالتقييد الوارد فيها.

[ في متعلق الحكم المطلق والمقيد ]

• قال المصنِّف -رحمه الله- بعده في [ص 219]:
«وَأَمَّا إِذَا كَانَا مُتَعَلِّقَيْنِ بسَبَبٍ وَاحِدٍ مِثْلُ أَنْ تَرِدَ الزَّكَاةُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ مُقَيَّدَةً بالسَّوْمِ، وَتَرِدُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مُطْلَقَةً، فَإِنَّهُ لاَ يَجبُ عِنْدَ أَكْثَرِ أَصْحَابنَا ‑أَيْضًا‑ حَمْلُ المُطْلَقِ عَلَى المُقَيَّدِ، وَمِنْ أَصْحَابنَا مَنْ أَوْجَبَ ذَلِكَ، وَهُوَ مِنْ بَابِ دَلِيلِ الخِطَابِ».
[م] إذا كان متعلّق الحكم المطلق والمقيّد واحدًا والسبب واحدًا، وكان كلٌّ منهما أمرًا، مثل المسألة التي أوردها المصنِّف، فالصحيح أنه يحمل المطلق على المقيّد؛ لأنَّ العمل بالمقيّد عملٌ بالدليلين، والجمع بين الدليلين أولى من إعمال أحدهما وإهمال الآخر، أمَّا إذا كان متعلّقهما واحدًا والسبب واحدًا، وكان كلُّ واحد منهما نهيًا، مثل أن يقول: «لا تعتِقْ رقبةً»، ثم يقول: «لا تعتِقْ رقبةً كافرةً»، فهذه المسألة ترجع إلى حُجِّية المفهوم، فمن رأى حُجِّيَّتَهُ قال: يخصّص به عموم النهي، ومن منع حُجِّية المفهوم منع التخصيص واستبقى العموم، أمَّا إذا كان متعلّق المطلق والمقيّد واحدًا والسبب واحدًا، ويكون أحدهما أمرًا والآخر نهيًا، فإنَّ المقيَّدَ يوجب تقييدَ المطلقِ بضدِّه، سواء كان المطلق أمرًا والآخر نهيًا أو بالعكس، مثل أن يكون المطلق نهيًا كقوله: «لا تعتق رقبة»، والمقيَّد أمرًا كقوله: «اعتق رقبةً مؤمنة»، أو العكس أن يكون المطلق أمرًا كقوله: «اعتق رقبةً»، والمقيّد نهيًا كقوله: «لا تعتِقْ رقبةً كافرةً».
فضابطُ حملِ المطلقِ على المقيَّد يظهر في الاتفاق في الحكم دون اختلافه، مهما اتحد السبب أو اختلف؛ لأنَّ في اتحاد الحكم قُوَّةَ صلةٍ بين الكلامين، ويزيد قوةً وتقاربًا إذا ما اتحد السبب فيهما، ومثال اتحاد الحكم مع اتحاد السبب: قوله تعالى: ﴿وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى﴾ [الأعلى: 15]، أطلق فيه الذِّكْرَ، وقول النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم: «وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ»(32)، قيّد الذِّكْر بالتكبير، فالسبب في الصورتين واحد وهو إرادة الدخول في الصلاة، والحكم واحد وهو ما يفتتح به من الذِّكر، وقد تقدَّم تمثيل المصنِّف لاتحاد الحكم مع اختلاف السبب، أمَّا مع اتحاد الحكم واختلاف السبب فالأحوط حمله عليه.
وأمَّا إذا اختلف الحكم سواء كان المطلق والمقيّد مثبتين أو منفيين أو مختلفين، اتحد سببهما أو اختلف فلا يحمل المطلق على المقيّد، وقد نقل الآمدي الإجماع على منع حمل المطلق على المقيَّد إذا اختلف الحكم والسبب.
مثاله: إطلاق اليد في آية السرقة، وتقييدها بالمرافق في آية الوضوء، فسبب القطع هو السرقة وحكمها القطع، وسبب الوضوء إرادة الصلاة، وحكمه طلب الغسل.
ومثال في اتحاد السبب واختلاف الحكم: صيام شهرين في الظهار قيّدت بالتتابع، وإطعام ستين مسكينًا وردت مطلقة، فالحكم مختلف مع اتحاد السبب وهو الظهار(33).
هذا، ويجدر التنبيه إلى وجوب اعتبار المقيَّد إذا كان قائمًا على دليلٍ صحيحٍ، ولا يُشترط مساواتُه في القُوَّة مع المطلق؛ لأنَّ المقيَّد بيانٌ للمطلق، ولا يُشترط في البيان أن يكون في درجة المبيَّن أو أقوى منه، وإنما يكفي أن يكون البيان صحيحًا، كما يجب اعتباره إذا خلا من قرينة أو دليلٍ يمنع حملَ المطلق عليه، كما يمتنع حملُ المطلق على المقيَّد إذا ورد قيدان متضادَّان واتحد السبب والحكم في الإطلاق وفي القيدين، فإنَّ المطلق يبقى على إطلاقه، ويتساقط القيدان لعدم الأولوية بينهما في الإلحاق، مثل قولِه صلى الله عليه وآله وسلم: «إِذَا وَلَغَ الكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعًا: إِحْدَاهُنَّ بِالتُّرَاب»(34)، وفي رواية مقيَّدة ب: «أُولاَهُنَّ بِالتُّرَابِ» وفي أخرى: «آخِرُهُنَّ بِالتُّرَابِ».
أمَّا إذا اختلف السبب دون الحكم، وورد القيدان المتضدَّان على المطلق، وأمكن الترجيح، فإنَّ المطلق يحمل على أقوى القيدين وأرجحهما شبهًا، مثل إطلاق صوم كفَّارة اليمين في قوله تعالى: ﴿فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ﴾ [المائدة: 89]، من غير اشتراط التتابع الثابت في صيام الظِّهار في قوله تعالى: ﴿فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ﴾ [المجادلة: 4]، ولا التفريق الثابت في صيام التمتُّع في قوله تعالى: ﴿فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ﴾ [البقرة: 196]، فإنه يحمل على قيد الظِّهار لكونه أقرب إلى اليمين من التمتع؛ ولأنَّ كلاَّ منهما كفارة، فضلاً عن تأييد التتابع بالقراءة الشاذَّة لابن مسعود رضي الله عنه: «فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ»(35).
أمَّا إذا تعذَّر الترجيح في حمل أحدهما على الآخر فإنه يبقى على إطلاقه، كإطلاق صوم قضاء رمضان في قوله تعالى: ﴿فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ [البقرة: 184، 185]، عن تقييد صوم التتابع في الظهار والتفريق في صوم التمتع(36).


1- حديث صحيح، مخرج على هامش «الإشارة» (206).
2- انظر ترجمته على هامش «الإشارة» (321).
3- هو أبو ثور إبراهيم بن خالد بن أبي اليمان الكلبي البغدادي، الإمام الحافظ، سلك المذهب الحنفي في بادئ الأمر، ثمَّ انتقل إلى المذهب الشافعي، وأصبح من كبار أصحابه، كان محدّثًا فقيهًا، مرموق المكانة، روى أقدم مؤلفات الشافعي التي كان يكتبها في بغداد، له اجتهادات مستقلة عن المذهب، من كتبه: كتاب: «الطهارة»، و«الصلاة»، و«المناسك»، توفي سنة (240ه).
انظر ترجمته في: «الجرح والتعديل» لابن أبي حاتم (2/97)، «الفهرست» للنديم (265)، «تاريخ بغداد» للخطيب البغدادي (6/65)، «وفيات الأعيان» لابن خلكان (1/26)، «اللباب» لابن الأثير (3/104)، «الكامل» لابن الأثير (7/75)، «سير أعلام النبلاء» (12/72)، «دول الإسلام» كلاهما للذهبي (1/146)، «البداية والنهاية» لابن كثير (10/322)، «مرآة الجنان» لليافعي (2/129)، «تهذيب التهذيب» لابن حجر (1/118)، «طبقات الحفاظ» للسيوطي (226)، «شذرات الذهب» لابن العماد (2/93).
4- هو أبو بكر محمَّد بن محمَّد بن جعفر البغدادي الشافعي المعروف بالدقاق، والملقب بالخبَّاط، فقيه أصولي، كانت له خبرة بكثير من العلوم، ولي قضاء الكرخ ببغداد، من مؤلفاته: «شرح مختصر المزني»، وكتاب في الأصول على مذهب الشافعي، توفي سنة (392ه).
انظر ترجمته في: «طبقات الفقهاء» للشيرازي (118)، «تاريخ بغداد» للخطيب البغدادي (3/229)، «الكامل» لابن الأثير (9/171)، «طبقات الشافعية» للإسنوي (1/253)، «طبقات الشافعية» لابن قاضي شهبة (1/167)، «النجوم الزاهرة» لابن تغرى بردي (4/206)، «معجم المؤلفين» لكحالة (11/203)، «تاريخ التراث العربي» لسزكين (2/189).
5- أخرجه البخاري (8/355)، ومسلم (17/79) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
6- أخرجه مسلم (17/80) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
7- أخرجه البخاري (8/407)، ومسلم (6/64) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
8- «مذكرة الشنقيطي» (209)، وانظر تفصيل المذاهب في مسألة العامِّ المستقلّ على سبب خاصّ بسؤال أو بغيره وأدلتهم في المصادر المثبتة على الأصل (ص 208).
9- من فروع هذه المسألة اختلافهم في الترتيب في الوضوء بناء على قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللهُ بِهِ». [انظر: «مفتاح الوصول» للتلمساني (539)].
10- أخرجه أبوداود في «البيوع والإجارات» (3/645-657) باب بيع التمر بالتمر، والترمذي في «البيوع» (3/528)، باب في النهي عن المحاقلة والمزابنة، والنسائي في «البيوع» (7/268) باب اشتراء التمر بالرطب، وابن ماجه في «التجارات» (2/761) باب بيع الرطب بالتمر، وأخرجه مالك في «الموطأ» (2/128)، وأحمد في «مسنده» (1/175)، والشافعي في «مسنده» (147) وفي «الرسالة» (331) من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وصحَّحه ابن المديني وابن حبان والحاكم وقال في «مستدركه» (2/38): «ولا أعلم أحدًا طعن فيه». [انظر: «نصب الراية» للزيلعي (4/40)، «التلخيص الحبير» لابن حجر (3/9)، «إرواء الغليل» للألباني (5/199)].
11- انظر المصادر المثبتة على هامش «الإشارة» (ص 209).
12- انظر: «المستصفى» للغزالي (2/169)، «إرشاد الفحول» للشوكاني (146).
13- انظر مذاهب العلماء وأدلَّتهم في مسألة التخصيص بالاستثناء من غير الجنس في المصادر المثبتة على هامش كتاب «الإشارة» (211).
14- انظر ترجمته على هامش كتاب «الإشارة» (178).
15- «تفسير القرطبي» (5/312-313).
16- «معجم البلدان» لياقوت الحموي: (3/108)، «خزانة الأدب» للبغدادي (3/315)، «لسان العرب» لابن منظور (14/340). والرهوة: شبه التل الصغير في متون الأرض على رؤوس الجبال، وهو مكان منخفض يجتمع فيه الماء. [«العين» للفراهيدي (4/84)، «المعجم الوسيط» (1/379)].
17- انظر: «فواتح الرحموت» للأنصاري (1/316).
18- انظر: «التمهيد» للإسنوي (391).
19- «فواتح الرحموت» للأنصاري (1/316).
20- انظر: «مفتاح الوصول» للشريف التلمساني (532)، والمصادر المثبتة على هامشه.
21- هو أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار الهمذاني، الأسد أبادي، قاض أصولي، كان شيخ المعتزلة في عصره، وانتحل مذهب الشافعي في الفروع، له تصانيف في الأصول والتفسير وغيرها، منها: «العمد» في أصول الفقه، و«المغني» في أصول الدين، و«متشابه القرآن»، و«الأمالي»، توفي سنة (415ه).
انظر ترجمته في: «تاريخ بغداد» للخطيب البغدادي (11/113)، «طبقات الشافعية» للسبكي (5/97)، «ميزان الاعتدال» للذهبي (2/511)، «مرآة الجنان» لليافعي (3/29)، «لسان الميزان» لابن حجر (3/386)، «طبقات المفسرين» للسيوطي (59)، «شذرات الذهب» لابن العماد (3/202)، «الرسالة المستطرفة» للكتاني (160).
22- انظر مذاهب العلماء في هذه المسألة وأدلتهم على هامش «الإشارة» (214).
23- قال البعلي في «القواعد والفوائد الأصولية» (260): «ودعوى الإجماع لا تصحّ، فإن ابن الجوزي جزم بعوده إلى الجلد، وأنه قول أحمد، وجزم به صاحب المغني أيضًا في أول مسألة شهادة القاذف، لما بحث مع الحنفية المسألة، وأنهم قالوا: الاستثناء لا يعود إلى الجلد ومنعهم، وقال: بل يعود إليه أيضًا، قال البعلي: يؤيّد أنّ حدّ القاذف يسقط بالتوبة، لو قذف شخص شخصًا لا يجب عليه إعلامه والتحلّل منه، وهو أصحّ الروايتين عن الإمام أحمد ‑حتى إنه يحرم عليه إعلامه بذلك، ذكره القاضي أبو يعلى، والشيخ عبد القادر‑ يقبل هاهنا: لا ينبغي أن يعلمه».
24- انظر: «الأحكام» لابن العربي (3/1337)، «بداية المجتهد» لابن رشد (2/462)، «المغني» لابن قدامة (9/197)، «القوانين الفقهية» لابن جُزَي (296)، «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي (12/179).
25- انظر: «مفتاح الوصول» للتلمساني (533).
26- أخرجه مسلم (5/173)، وأحمد في «مسنده» (5/272)، وأبو داود (1/390)، والنسائي (2/76)، والترمذي (1/58)، وابن ماجه (1/313) من حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه.
27- انظر: «تحفة الأحوذي» للمباركفوري (2/32)، و«حاشية السندي» (2/76)، «المهذب» للنملة (4/1698).
28- «الحدود» للباجي (47).
29- المصدر نفسه (48).
30- انظر: المخصِّصات المتصلة على هامش كتاب «الإشارة» (216).
31- انظر المصادر الأصولية المثبتة على هامش «الإشارة» (218).
32- هو جزء من حديث أخرجه أحمد (1/123، 129)، وابن أبي شيبة في «المصنف» (1/129)، والدارمي (1/175)، وأبو داود (1/49)، وابن ماجة (1/101)، والترمذي (1/9)، والبيهقي (2/173، 379)، والبغوي في «شرح السنة» (3/17)، من حديث عليٍّ رضي الله عنه مرفوعًا، وأوَّل الحديث ومنتهاه بلفظ: «مِفْتَاحُ الصَّلاَةِ الطُّهُورُ، وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ، وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ» والحديث حسَّنه البغويُّ، وصحَّحه الألباني بمجموع الشواهد.
[انظر: «المجموع للنووي» (3/389)، و«نصب الراية» للزيلعي (1/308)، و«الدراية» لابن حجر (1/126)، و«صحيح الجامع الصغير» للألباني (5/211)].
33- انظر: «الفتح المأمول» للمؤلف (136-138).
34- متفق عليه: أخرجه البخاري (1/274)، ومسلم (3/182)، والنسائي (1/52)، وابن ماجه (1/130)، وأحمد في «مسنده» (2/245، 260)، ومالك في «الموطأ» (1/55)، والشافعي في «مسنده» (7)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
35- أخرجه ابن جرير في «تفسيره» (5/23)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (14/516)، وعبد الرزاق في «المصنَّف» (8/513)، وعزاه السيوطي في «الدر المنثور» (3/155) لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن الأنباري وأبي الشيخ. انظر: «نصب الراية» للزيلعي (3/296)، و«إرواء الغليل» للألباني (8/203-204)، وقال فيه: «وبالجملة فالحديث أو القراءة ثابت بمجموع هذه الطرق عن هؤلاء الصحابة: ابن مسعود وابن عباس وأُبَي. والله أعلم».
36- «الفتح المأمول» للمؤلف (132-133)، وانظر «أضواء البيان» للشنقيطي: (6/545- 548).