حفيد الصالحين
07-10-2011, 02:23 PM
http://www.ferkous.com/image/gif/C0.gif
الجزء السابع (1)
فـصل
[ في نسخ القرآن والخبر المتواتر بخبر الآحاد ]
• قال المصنِّف -رحمه الله- في [ص 270]:
«يَجُوزُ نَسْخُ القُرْآنِ وَالخَبَرِ المُتَوَاتِرِ بخَبَرِ الآحَادِ، وَقَدْ مَنَعَتْ مِنْ ذَلِكَ طَائِفَةٌ».
[م] الخلاف بين أهل العلم في نسخ القرآن أو المتواتر من السُّنَّة بخبر الآحاد قائمٌ من جهة الجواز العقلي والوقوع الشرعي.
أمَّا الجواز العقليُّ فقد قال به جمهور العلماء، خلافًا لقومٍ مَنَعُوا جوازَه عقلاً على ما حكاه الباقلاني والغزالي وابنُ بَرهان، لكن العديد من الأصوليِّين لم يعتدّ بهذا الخلاف، لذلك نقلوا الإجماعَ على جوازه عقلاً منهم الآمدي وابنُ بَرهان والإسنويُّ(1)؛ ذلك لأنَّ الكتابَ والسُّنَّة كليهما وحيٌّ من الله تعالى، واللهُ سبحانه هو الناسخ حقيقة، لكنَّه سبحانه أظهر النسخ على لسان نبيِّه صلى الله عليه وآله وسلم.
أمَّا الوقوع الشرعي فإنَّ مذهبَ الجمهور على عدم وقوعه مُطلقًا، خلافًا لمذهب أهل الظاهر القائلين بوقوعه منهم: ابن حزم، وفصل آخرون بين زمنه صلى الله عليه وآله وسلم وما بعده، فأجازوا وقوعَه في زمنه صلى الله عليه وآله وسلم دون ما بعده، وبه قال الباقلاني والغزالي والقرطبي وهو اختيار أبي الوليد الباجي وصحَّحه في إحكام الفصول(2).
[ في حجة القائلين بجواز نسخ المتواتر بالآحاد ]
• قال المصنِّف -رحمه الله- في معرض الاستدلال على جواز نسخ المتواتر بالآحاد في [ص 271]:
«وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا ظَهَرَ مِنْ تَحَوُّلِ أَهْلِ قُبَاءَ إِلَى الكَعْبَةِ بخَبَرِ الوَاحِدِ».
[م] استدلَّ المصنِّف بأنَّ التوجُّهَ إلى بيت المقدس كان ثابتًا بالسُّنَّة المتواترة لأهل قُباء وغيرهم، فنسخ ذلك بخبر الواحد حيث انحرف القوم حتى توجَّهوا نحو الكعبة قَبولاً لخبره، فدلَّ ذلك على أنّ المتواتر يُنسخ بخبر الواحد.
وقد أجاب الجمهور المانعون من وقوعه بأنّ محلَّ النِّزاع في وقوع نسخ المتواتر بخبر الواحد إنَّما هو خبر الواحد المجرَّد عن القرائن المفيدة للعلم، أمَّا في هذه الواقعة فاحتمال انضمام ما يفيد العلم إلى خبر الواحد كقربهم من مسجد رسولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم أو سماعهم لضجَّة الناس وما إلى ذلك من القرائن.
أمَّا ما يستدلُّون به على الوقوع بقوله تعالى: ﴿وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ﴾ [النساء: 24] بأنَّه منسوخٌ بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لاَ تُنْكَحُ المَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا أَوْ عَلَى خَالَتِهَا»(3)، فإنَّما هو راجع للتخصيص وليس بنسخ.
ـ وأيضًا ـ ما يمثّل له بنسخ إباحة الحمر الأهلية المنصوص عليها بالحصر في قوله تعالى: ﴿قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ﴾ [الأنعام: 145]، وهذه الآية مَكِّية، وتحريم الحمر الأهلية كان حكمه واقعًا بخيبر(4)، وهذا المثال في الشرع لا يصلح للنسخ وإنَّما راجع للتخصيص، اللهمَّ إلاَّ على رأي من يسمِّي التخصيصَ نسخًا، ولا يخفى الفرق بينهما كما بيّنه أهل العلم(5)، فالعبرة بالمسمَّى لا بالاسم.
فالحاصل أنَّه يجوز نسخ المتواتر بالآحاد على الراجح؛ لأنَّ الجميعَ وحيٌ من الله تعالى، واللهُ هو الناسخ حقيقةً، وقد ثبت وجوبُ التعبُّدِ بالوحي عن طريق القطع، لكن غاية ما في الأمر أنَّه ‑بعد تتبُّع الأدلَّة واستقرائها‑ لا يوجد مثال في الشرع يدلُّ على الوقوع.
[ في امتناع النسخ بالإجماع والقياس ]
• قال الباجي -رحمه الله- في [ص 272]:
«فَأَمَّا القِيَاسُ فَلاَ يَصِحُ النَّسْخُ بهِ جُمْلَةً».
[م] انتقل المصنِّف إلى القياس من غير أن يعرج على الإجماع، ومذهب الجمهور فيه أنَّ الإجماع لا يكون ناسخًا ولا منسوخًا؛ لأنَّ الإجماع إنّما ينعقد ويكون حُجَّةً بعد زمن النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم والنسخ لا يكون إلاَّ في حياته؛ لأنَّه تشريعٌ، وعلى ذلك يستحيل اجتماعهما، أمَّا ما يذهب إليه بعضُ المعتزلة وعيسى ابن إِبَّان الحنفي(6) من أنَّ الإجماع يكون ناسخًا بدليل أنَّ سهم المؤلّفة قلوبهم(7) من الزكاة قد سقط بإجماع الصحابة رضي الله عنهم، فجوابه: إذا سُلِّمَ ‑جدلاً‑ سقوط سهمهم فليس من باب النسخ، وإنَّما من باب انتهاء الحكم لانتهاء عِلَّته المتمثِّلة في حصول العزَّة للإسلام في عهد الصحابة رضي الله عنهم فسقط اعتبار سهم المؤلّفة قلوبهم، وإذا وجد ما يوهم النسخ بالإجماع من كلام بعض العلماء فإنّه يحمل على دليل الإجماع.
وأمَّا النسخ بالقياس فما عليه جمهور الفقهاء والأصوليِّين امتناع النسخ به مُطلقًا سواء كان جليًّا أو خفيًّا؛ لأنَّ القياس الاصطلاحي لا يكون حُجَّةً إلاَّ بعد زمن النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم، والنسخُ لا يكون واقعًا إلاَّ في حياتِه صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنَّه تشريعٌ، ولذلك امتنع أن يكون القياس ناسخًا أو منسوخًا، ولا يعترض بالأمثلة القياسية في الكتاب والسُّنَّة؛ لأنّها أدلَّة دالَّة على القياس، وكذلك وقوعُ القياسِ من النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم وصدورُ القياس من غيرِ النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم مع إقراره له، كلّ ذلك يدخل في سُنَّتِهِ القولية أو التقريرية فلا تسمَّى قياسًا في الاصطلاح، وإنَّما يتحقَّق القياس الاصطلاحي بعد زمن النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم وهذا القول خالفه المجيزون له مُطلقًا، وكذا المفصِّلون الذين يرون أنَّ القياس ينسخ بقياس أجلى وأقوى منه، وهو مذهب البيضاوي والإسنوي(8) وغيرهما(9).
فـصل
[ في حكم شرع من قبلنا ]
• قال الباجي -رحمه الله- في [ص 272]:
«ذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابنَا وَأَصْحَابِ أَبي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إِلَى أَنَّ شَرِيعَةَ مَنْ قَبْلَنَا لاَزِمَةٌ لَنَا إِلاَّ مَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى نَسْخِهِ».
[م] في تحرير محلِّ النِّزاع ينبغي التفريق بين حالتين مجمع عليهما وثالثة مختلف فيها:
الحالة الأولى: أن يثبت أوَّلاً أنَّه شرع لمن قبلنا، وذلك بطريقٍ صحيحٍ، وأن يثبت ‑ثانيًا‑ أنَّه شرع لنا، فشرع من قبلنا بهذا الاعتبار شرع لنا إجماعًا مثل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ [البقرة: 183].
الحالة الثانية: إن لم يثبت بطريقٍ صحيحٍ كالمأخوذ من الإسرائيليات، أو ثبت بطريقٍ صحيح أنَّه شرع من قبلنا، لكن ورد في شرعنا التصريح بنسخه، فشرع من قبلنا بهذا الاعتبار ليس شرعًا لنا إجماعًا، كالإصر والأغلال التي كانت عليهم فهي موضوعة في شرعنا، قال تعالى: ﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ [الأعراف: 157].
الحالة الثالثة: وهي محلّ النِّزاع في شرع من قَبْلَنَا، وذلك إذا ثبت بطريق صحيح من كتاب الله أو سُنَّة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ولو كانت من أخبار الآحاد، ولم يرد في شرعنا ما يُؤيِّده ويقرِّره ولا ما يبطله وينسخه، فإنَّ ما عليه الأكثرون أنَّ شرع من قبلنا بهذا الاعتبار حُجَّة يقتضي العمل به لوجوب العمل بجميع نصوص الكتاب والسُّنَّة الصحيحة(10)، وإن كان الظاهر المتقرّر في علم الأصول أنَّ شرع من قبلنا ليس بشرع لنا، وهو مذهب الشافعي وبه قال ابن حزم، لقوله تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ [المائدة: 48]، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الأَنْبِيَاءِ قَبْلي.. (وآخرها) وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً»(11)، وفي الحديث دلالة صريحة على أنَّ شريعة غير نبيِّنا محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم لا تلزمنا من ناحية أنَّ الله تعالى لم يبعث إلينا أحدًا من الأنبياء غيره، وإنما كان غير النبي صلى الله عليه وآله وسلم يبعث إلى قومه فقط لا إلى غير قومه(12).
والخلاف وإن كان له أثر معنويٌّ إلاَّ أنَّ مَن احتجَّ به لم يستدلَّ به مستقلاًّ، بل عضَّده بدليلٍ ثابتٍ في شرعنا، ومن أبطله فإنه ‑غالبًا‑ ما يستأنس بنصوصٍ تُذكر في شرع من قبلنا.
ومن الفروع الفقهية التي ذكر فيها الأخذ بشرع من قبلنا هي:
1‑ في الأفضل في الأضحية، فمذهب مالك أنَّ الأفضل في الضحايا الكباش ثمَّ البقر ثمَّ الإبل، وعمدته شرع من قبلنا من جهتين: الأولى فيما فعله إبراهيم عليه السلام من فداء ولده بكبش، والثانية: إنَّ الذِّبح العظيم الذي فدى به إبراهيم عليه السلام سُنَّة باقية إلى اليوم، وأنها الأضحية وهو معنى قوله تعالى: ﴿وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ﴾ [الصافات: 78]، وعضَّده بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه ضحَّى بالكبش(13)، وكذلك فعل ابن عمر رضي الله عنهما وغيرُه.
أمَّا مذهب الشافعي وأحمد، فإنَّ الأفضل الإبل، ثمَّ البقر، ثمَّ الغنم، لعموم قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الجُمُعَةِ غُسْلَ الجَنَابَةِ ثُمَّ رَاحَ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا»(14)، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم عندما سُئل: أَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَل ؟ قال: «أَغْلاَهَا ثَمَنًا وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا»(15)، وقياسًا على الهدي بجامع القربة بالحيوان، فكانت البدنة فيه أفضل، وأنَّ ما فعله رسولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم فقد فعل ما يجزي في الدم فأعلاه خير منه(16)، وذلك دلالة قوله صلى الله عليه وآله وسلم، والقول أقوى من الفعل، وأرجح منه.
2‑ في حكم الجُعالة، فمن اعتبرها شرع من قبلنا استدلَّ بقوله تعالى: ﴿وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ﴾ [يوسف: 72]، وهو مذهب مالك اعتمادًا على أصله في الأخذ بشرع من قبلنا ما لم يرد نسخه، والشافعية وإن كانوا لا يعتبرون بشرع من قبلنا في الحُجِّية إلاَّ أنهم يستأنسون به على خبر أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه رقى رجلاً بفاتحة الكتاب على قطيع من الغنم وشارطه على البرء(17))، والأحناف وإن كانوا يعتبرون حُجِّية الأخذ بشرع من قبلنا إلاَّ أنَّ الجعالة تتضمَّن معنى الغرر المنهي عنه، ذلك لأنَّ الجعالة إجارة، والإجارة تفسدها جهالة المنفعة المعقود عليها، الأمر الذي يفضي إلى المنازعة فيمنع(18).
3‑ في جعل المنفعة مهرًا، فمن رأى جواز جعل المنفعة صداقًا استدلّ بقوله تعالى: ﴿قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [القصص: 27]، فكان هذا شرعُ من قبلنا شرعًا لازمًا لنا حتى يرد الدليل على ارتفاعه، ومن منع الاحتجاج بشرع من قبلنا قال: لا يجوز النكاح بالإجارة(19).
4‑ في ضمان ما تتلفه الدواب، فمن اعتمد الأخذ بشرع من قبلنا على ما أفسدته الدواب ليلاً فهو مضمون على أصحابها، ولا ضمان عليهم فيما أفسدته في النهار عَمِلَ بقوله تعالى: ﴿وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ﴾ [الأنبياء: 78]، والنَّفْشُ عند أهل اللغة لا يكون إلاَّ بالليل، وهذا عمدة مالك -رحمه الله- في العمل بشرع من قبلنا، والشافعي -رحمه الله- وإن لم يأخذ بهذا الأصل إلاَّ أنه أخذ به على وجه الاستئناس وعُضِّد ذلك «بقضاء رسول اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم بأنَّ على أهل الحوائط حفظها بالنهار، وأنَّ ما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها»(20)، وأبو حنيفة -رحمه الله- استدلَّ على عدم الضمان مُطلقًا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: « جُرْحُ العَجْمَاءِ جُبَارُ»(21)، ولم يعمل بشرع من قبلنا ‑وهو من أصوله‑ لورود في شرعنا ما ينسخه(22).
[ في تعبُّد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشرع من قبله ]
• قال الباجي -رحمه الله- في [ص 273]:
«وَمَا رُوِيَ عَنِ النَّبيِ صلى الله عليه وآله وسلم أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ نَامَ عَنْ صَلاَةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا»(23)، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ: ﴿ َأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي﴾ [طه: 14]، وَإِنَّمَا خُوطِبَ بذَلِكَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ فَأَخَذَ بهِ نَبيُّنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ».
[م] في مسألة تعبُّد النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم بشرع مَن قبلَه من الأنبياء فقد وقع الخلاف بين أهل العلم في حالتين:
الأولى: في تعبُّد النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم قبلَ البعثة بشرع مَن قبله، وبالجملة اختلفوا فيها على مذاهب:
إنَّه متعبّد بشريعة مَن قبلَه مع اختلافهم في تعبّده هل كان على سبيل الإطلاق أم على سبيل التعيين ؟ وقال بعض الحنفية والمالكية: إنّه غير متعبّد بشريعة من قبلَه، وتوقّف في ذلك القاضي عبد الجبار والجويني والغزالي والآمدي وغيرهم.
الثانية: في تَعبُّدِ النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم بعد البعثة بشرع مَن قبلَه، والظاهر من المانعين من تعبُّده قبل البعثة نفيهم التعبُّد بعد البعثة، وأمَّا المثبتون والمتوقُّفون فقد اختلفوا على قولين:
لم يكن متعبِّدًا باتباعها بل كان منهيًّا عنها، وبه قال أبو إسحاق الشيرازي في آخر قوليه واختاره الغزالي، وما عليه أكثر الحنفية وجمهور الشافعية والمالكية وطائفة من المتكلمين أنَّه كان متعبّدًا بشرع مَن قبلَه إلاَّ ما نسخ منه واختاره الرازي(24).
ولا يخفى أنَّ كلَّ رسولٍ إنَّما تعبَّده اللهُ بشريعةٍ خاصَّةٍ به، أمَّا الدِّينُ الجامع وهو الإسلام فهو عامٌّ لسائر الأنبياء والمرسلين، وهذا هو المقصود من توحيد المِلَّة والدِّين، وتعدّد الشرائع والمناهج(25)، لقوله تعالى: ﴿فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ [المائدة: 48].
1- انظر: «المستصفى» للغزالي (1/126)، «الوصول» لابن برهان (2/47)، «الإحكام» للآمدي (2/267)، «الإبهاج» للسبكي وابنه (2/251)، «نهاية السول» للإسنوي (2/183)، «إرشاد الفحول» للشوكاني (190).
2- انظر المصادر الأصولية المثبتة على هامش «الإشارة» (271).
3- متفق عليه: أخرجه البخاري (9/ 160)، ومسلم (9/ 191) واللفظ له، وأحمد (2/ 432)، وابن ماجه (1/ 621)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، انظر طرقَه في «الإرواء» للألباني (6/288).
4- متفق عليه من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: «نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ خَيْبَرٍ عَنْ لُحُومِ الحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ، وَرَخَّصَ فِي لُحُومِ الخَيْلِ» أخرجه البخاري (9/648)، في «الصيد والذبائح» باب لحوم الخيل، ومسلم (13/79) في «الصيد والذبائح»، باب في أكل لحوم الخيل.
5- انظر: الفروق بين النسخ والتخصيص في «روضة الناظر» لابن قدامة (72)، «المحصول» للرازي (1/3/9)، «البحر المحيط» للزركشي (3/243)، «مذكرة الشنقيطي» (68).
6- هو أبو موسى عيسى بن إبان بن صدقة القاضي الحنفي، كان من أصحاب الحديث ثمَّ غلب عليه الرأي، تفقه على محمَّد بن الحسن صاحب أبي حنيفة، وتولى قضاء العسكر، ثمَّ البصرة، وله كتاب «خبر الواحد»، و«إثبات القياس»، وكتاب «الحج»، مات بالبصرة سنة 221ه.
انظر ترجمته في: «طبقات الفقهاء» للشيرازي (137)، «تاريخ بغداد» للخطيب البغدادي (11/157)، «الجواهر المضيئة» للقرشي (1/401)، «الفوائد البهية» للكنوي (151).
7- المؤلَّفة قلوبهم سواء كانوا مسلمين أو كفارًا يعتبرون جميعًا السادة المطاعون في أقوامهم وعشائرهم وهم على ستة أقسام:
فالكفار قسمان: فمنهم من يعطى ترغيبًا له في الإسلام كما أعطى النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم صفوان بن أمية من غنائم حنين، وقد كان مشركًا كما صحَّ ذلك عند مسلم (7/155)، ومنهم من يعطى خشية شرِّه، ويرجى بعطيته كفّ شرّه ، وكفّ شرّ غيره.
أمَّا المسلمون من المؤلّفة قلوبهم فهم أربعة أقسام: فمنهم من يعطى إلى سادات المسلمين الذين لهم نظراء من الكفار من جهة الرياسة والبروز في قومهم، فيعطون من الزكاة رجاء إسلام نظرائهم.
‑ ومنهم من يعطى تثبيتًا لقلبه ويرجى بعطيته قوَّة إيمانه ومناصحته في الجهاد وإخلاصه فيه، على نحو ما أعطى النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم يوم حنين لجماعة من سادات الطلقاء وأشرافهم على ما ثبت في «صحيح البخاري» (8/53)، ومسلم (7/154).
‑ ومنهم من يكون على حدود بلاد المسلمين فيعطون من الزكاة ليدفعوا شرّ الكفار عمَّن يليهم من المسلمين.
‑ ومنهم قوم يعطون من الزكاة ليقوموا بجبايتها ممَّن يماطل في أدائها، نظرًا لقوتهم وقدرتهم على تحصيلها من المماطلين الممتنعين عن أدائها. [«المغني» لابن قدامة (6/427‑429)].
وعليه، فإنَّ عدم إخراج هذا السهم من الزكاة في عصر من عصور الإسلام لا يعني سقوط هذا السهم من أصناف المستحقِّين للزكاة، وإنَّما يعني عدم وجود أهل هذا السهم (أي: المؤلفة قلوبهم)، وإذا ظهرت الحاجة في إعطاء من يتحقّق منهم معاني وأوصاف المؤلّفة قلوبهم، فإنّ للإمام أن يعطيهم من سهم المؤلّفة قلوبهم من حصيلة الزكاة التي يجمعها بحسب تقديره واجتهاده وفي ضوء مصلحة المسلمين، قال ابن تيمية -رحمه الله- في «مجموع الفتاوى» (25/40) حكاية عن أبي جعفر الطبري -رحمه الله-: «…والصواب أنّ الله جعل الصدقة على معنيين: أحدهما: سد خلة المسلمين، والثاني: معونة الإسلام وتقويته، فما كان معونة للإسلام، يعطى منه الغني والفقير، كالمجاهد ونحوه، ومن هذا الباب يعطى المؤلّفة، وما كان في سدّ خُلة المسلمين».
8- هو أبو محمَّد جمال الدين عبد الرحيم بن الحسن بن علي الإسنوي الشافعي المصري، الفقيه الأصولي المفسر النحوي العروضي، له تصانيف على المذهب في الأصول والتخريج عليها وغيرها، منها: «نهاية السول شرح منهاج الأصول»، و«التمهيد في تخريج الفروع على الأصول»، و«الكوكب الدري في تخريج الفروع الفقهية على القواعد النحوية»، و«طبقات الشافعية»، توفي سنة (772ه).
انظر ترجمته في: «الدرر الكامنة» لابن حجر (2/345)، «بغية الوعاة» للسيوطي (304)، «حسن المحاضرة» للسيوطي (1/429)، «البدر الطالع» للشوكاني (1/352)، «شذرات الذهب» لابن العماد (6/223)، «درة الحجال» لابن القاضي المكناسي (3/114).
9- انظر تفصيل هذه المسألة في المصادر الأصولية المثبتة على هامش «الإشارة» (272).
10- انظر: «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (19/6-7)، «شرح الكوكب المنير» للفتوحي: (4/412)، «مذكرة الشنقيطي» (161).
11- متفق عليه، أخرجه البخاري في «التيمم» (1/435-436)، وفي «الصلاة» (1/533)، ومسلم في «المساجد» (5/3)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
12- انظر: «الإحكام» (2/943)، و«النبذ» كلاهما لابن حزم (91).
13- أخرجه البخاري في «الأضاحي» (5564)، ومسلم في «الأضاحي» ( 5199)، وأبو داود في «الضحايا» (2796)، والترمذي في «الأضاحي» (1573)، والنسائي في «الضحايا» (4403)، وابن ماجه في «الأضاحي» (3239)، وأحمد (12284) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
14- متفق عليه: أخرجه البخاري (2/366)، ومسلم (6/135)، وأبو داود (1/249)، والترمذي (2/372)، والنسائي (3/99) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
15- متفق عليه: أخرجه البخاري (5/148)، ومسلم (2/73) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
16- «بداية المجتهد» لابن رشد (1/416)، «المغني» لابن قدامة (9/439)، «مغني المحتاج للشربيني» (4/285).
17- أخرجه البخاري (10/209)، ومسلم (14/187) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
18- «بداية المجتهد» لابن رشد (2/232)، «المغني» لابن قدامة (5/400)، «بدائع الصنائع» للكاساني (6/2579)، «مغني المحتاج» للشربيني (2/429).
19- «بداية المجتهد» لابن رشد (2/20)، «المغني» لابن قدامة (7/212).
20- أخرجه أحمد (5/ 435، 436)، وأبو داود (3/ 828)، وابن ماجه (2/ 781)، من حديث محيصة عن أبيه، والحديث صحَّحه الألباني في «صحيح سنن أبي داود» (2/ 390)، رقم (3569).
21- أخرجه البخاري (3/ 364)، ومسلم (11/ 255) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
22- انظر «المغني» لابن قدامة (9/188)، «بداية المجتهد» لابن رشد (2/318)، «فتح القدير» لابن الهمام (8/351)، «مغني المحتاج» للشربيني (4/206).
23- أخرجه البخاري (2/70)، ومسلم (5/193)، وأبو داود (1/307)، والترمذي (1/335)، والنسائي (1/293)، وابن ماجه (1/227)، والدارمي (1/280)، والبيهقي (2/218)، من حديث أنسِ بن مالك رضي الله عنه. وهذا الحديث ذكره المصنِّف بصيغة التمريض الموضوعة لما عدا الصحيح والحسن، وهذه الطريق مغايرة لمنهج العلماء المحقِّقين من أهل الحديث الذين يميِّزون بين صيغتين عند إيراد الحديث: صيغة الجزم موضوعة للصحيح والحسن، وصيغة التمريض موضوعة لما عداهما، وهذا أدب أخلَّ به جماهير أصحاب العلوم، ما عدا حذَّاق المحدِّثين كما أشار إليه النووي وغيره. [انظر: «المجموع» للنووي (1/63)، «فتح المغيث» للسخاوي (1/54)، «قواعد التحديث» للقاسمي (210)].
24- انظر تفصيل المسألة في المصادر الأصولية المثبتة على هامش «الإشارة» (274).
25- انظر وجه اتفاق الشرائع السابقة ووجه اختلافها في «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (19/106-107-113-185).
الجزء السابع (1)
فـصل
[ في نسخ القرآن والخبر المتواتر بخبر الآحاد ]
• قال المصنِّف -رحمه الله- في [ص 270]:
«يَجُوزُ نَسْخُ القُرْآنِ وَالخَبَرِ المُتَوَاتِرِ بخَبَرِ الآحَادِ، وَقَدْ مَنَعَتْ مِنْ ذَلِكَ طَائِفَةٌ».
[م] الخلاف بين أهل العلم في نسخ القرآن أو المتواتر من السُّنَّة بخبر الآحاد قائمٌ من جهة الجواز العقلي والوقوع الشرعي.
أمَّا الجواز العقليُّ فقد قال به جمهور العلماء، خلافًا لقومٍ مَنَعُوا جوازَه عقلاً على ما حكاه الباقلاني والغزالي وابنُ بَرهان، لكن العديد من الأصوليِّين لم يعتدّ بهذا الخلاف، لذلك نقلوا الإجماعَ على جوازه عقلاً منهم الآمدي وابنُ بَرهان والإسنويُّ(1)؛ ذلك لأنَّ الكتابَ والسُّنَّة كليهما وحيٌّ من الله تعالى، واللهُ سبحانه هو الناسخ حقيقة، لكنَّه سبحانه أظهر النسخ على لسان نبيِّه صلى الله عليه وآله وسلم.
أمَّا الوقوع الشرعي فإنَّ مذهبَ الجمهور على عدم وقوعه مُطلقًا، خلافًا لمذهب أهل الظاهر القائلين بوقوعه منهم: ابن حزم، وفصل آخرون بين زمنه صلى الله عليه وآله وسلم وما بعده، فأجازوا وقوعَه في زمنه صلى الله عليه وآله وسلم دون ما بعده، وبه قال الباقلاني والغزالي والقرطبي وهو اختيار أبي الوليد الباجي وصحَّحه في إحكام الفصول(2).
[ في حجة القائلين بجواز نسخ المتواتر بالآحاد ]
• قال المصنِّف -رحمه الله- في معرض الاستدلال على جواز نسخ المتواتر بالآحاد في [ص 271]:
«وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا ظَهَرَ مِنْ تَحَوُّلِ أَهْلِ قُبَاءَ إِلَى الكَعْبَةِ بخَبَرِ الوَاحِدِ».
[م] استدلَّ المصنِّف بأنَّ التوجُّهَ إلى بيت المقدس كان ثابتًا بالسُّنَّة المتواترة لأهل قُباء وغيرهم، فنسخ ذلك بخبر الواحد حيث انحرف القوم حتى توجَّهوا نحو الكعبة قَبولاً لخبره، فدلَّ ذلك على أنّ المتواتر يُنسخ بخبر الواحد.
وقد أجاب الجمهور المانعون من وقوعه بأنّ محلَّ النِّزاع في وقوع نسخ المتواتر بخبر الواحد إنَّما هو خبر الواحد المجرَّد عن القرائن المفيدة للعلم، أمَّا في هذه الواقعة فاحتمال انضمام ما يفيد العلم إلى خبر الواحد كقربهم من مسجد رسولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم أو سماعهم لضجَّة الناس وما إلى ذلك من القرائن.
أمَّا ما يستدلُّون به على الوقوع بقوله تعالى: ﴿وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ﴾ [النساء: 24] بأنَّه منسوخٌ بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لاَ تُنْكَحُ المَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا أَوْ عَلَى خَالَتِهَا»(3)، فإنَّما هو راجع للتخصيص وليس بنسخ.
ـ وأيضًا ـ ما يمثّل له بنسخ إباحة الحمر الأهلية المنصوص عليها بالحصر في قوله تعالى: ﴿قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ﴾ [الأنعام: 145]، وهذه الآية مَكِّية، وتحريم الحمر الأهلية كان حكمه واقعًا بخيبر(4)، وهذا المثال في الشرع لا يصلح للنسخ وإنَّما راجع للتخصيص، اللهمَّ إلاَّ على رأي من يسمِّي التخصيصَ نسخًا، ولا يخفى الفرق بينهما كما بيّنه أهل العلم(5)، فالعبرة بالمسمَّى لا بالاسم.
فالحاصل أنَّه يجوز نسخ المتواتر بالآحاد على الراجح؛ لأنَّ الجميعَ وحيٌ من الله تعالى، واللهُ هو الناسخ حقيقةً، وقد ثبت وجوبُ التعبُّدِ بالوحي عن طريق القطع، لكن غاية ما في الأمر أنَّه ‑بعد تتبُّع الأدلَّة واستقرائها‑ لا يوجد مثال في الشرع يدلُّ على الوقوع.
[ في امتناع النسخ بالإجماع والقياس ]
• قال الباجي -رحمه الله- في [ص 272]:
«فَأَمَّا القِيَاسُ فَلاَ يَصِحُ النَّسْخُ بهِ جُمْلَةً».
[م] انتقل المصنِّف إلى القياس من غير أن يعرج على الإجماع، ومذهب الجمهور فيه أنَّ الإجماع لا يكون ناسخًا ولا منسوخًا؛ لأنَّ الإجماع إنّما ينعقد ويكون حُجَّةً بعد زمن النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم والنسخ لا يكون إلاَّ في حياته؛ لأنَّه تشريعٌ، وعلى ذلك يستحيل اجتماعهما، أمَّا ما يذهب إليه بعضُ المعتزلة وعيسى ابن إِبَّان الحنفي(6) من أنَّ الإجماع يكون ناسخًا بدليل أنَّ سهم المؤلّفة قلوبهم(7) من الزكاة قد سقط بإجماع الصحابة رضي الله عنهم، فجوابه: إذا سُلِّمَ ‑جدلاً‑ سقوط سهمهم فليس من باب النسخ، وإنَّما من باب انتهاء الحكم لانتهاء عِلَّته المتمثِّلة في حصول العزَّة للإسلام في عهد الصحابة رضي الله عنهم فسقط اعتبار سهم المؤلّفة قلوبهم، وإذا وجد ما يوهم النسخ بالإجماع من كلام بعض العلماء فإنّه يحمل على دليل الإجماع.
وأمَّا النسخ بالقياس فما عليه جمهور الفقهاء والأصوليِّين امتناع النسخ به مُطلقًا سواء كان جليًّا أو خفيًّا؛ لأنَّ القياس الاصطلاحي لا يكون حُجَّةً إلاَّ بعد زمن النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم، والنسخُ لا يكون واقعًا إلاَّ في حياتِه صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنَّه تشريعٌ، ولذلك امتنع أن يكون القياس ناسخًا أو منسوخًا، ولا يعترض بالأمثلة القياسية في الكتاب والسُّنَّة؛ لأنّها أدلَّة دالَّة على القياس، وكذلك وقوعُ القياسِ من النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم وصدورُ القياس من غيرِ النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم مع إقراره له، كلّ ذلك يدخل في سُنَّتِهِ القولية أو التقريرية فلا تسمَّى قياسًا في الاصطلاح، وإنَّما يتحقَّق القياس الاصطلاحي بعد زمن النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم وهذا القول خالفه المجيزون له مُطلقًا، وكذا المفصِّلون الذين يرون أنَّ القياس ينسخ بقياس أجلى وأقوى منه، وهو مذهب البيضاوي والإسنوي(8) وغيرهما(9).
فـصل
[ في حكم شرع من قبلنا ]
• قال الباجي -رحمه الله- في [ص 272]:
«ذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابنَا وَأَصْحَابِ أَبي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ إِلَى أَنَّ شَرِيعَةَ مَنْ قَبْلَنَا لاَزِمَةٌ لَنَا إِلاَّ مَا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى نَسْخِهِ».
[م] في تحرير محلِّ النِّزاع ينبغي التفريق بين حالتين مجمع عليهما وثالثة مختلف فيها:
الحالة الأولى: أن يثبت أوَّلاً أنَّه شرع لمن قبلنا، وذلك بطريقٍ صحيحٍ، وأن يثبت ‑ثانيًا‑ أنَّه شرع لنا، فشرع من قبلنا بهذا الاعتبار شرع لنا إجماعًا مثل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ [البقرة: 183].
الحالة الثانية: إن لم يثبت بطريقٍ صحيحٍ كالمأخوذ من الإسرائيليات، أو ثبت بطريقٍ صحيح أنَّه شرع من قبلنا، لكن ورد في شرعنا التصريح بنسخه، فشرع من قبلنا بهذا الاعتبار ليس شرعًا لنا إجماعًا، كالإصر والأغلال التي كانت عليهم فهي موضوعة في شرعنا، قال تعالى: ﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ [الأعراف: 157].
الحالة الثالثة: وهي محلّ النِّزاع في شرع من قَبْلَنَا، وذلك إذا ثبت بطريق صحيح من كتاب الله أو سُنَّة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ولو كانت من أخبار الآحاد، ولم يرد في شرعنا ما يُؤيِّده ويقرِّره ولا ما يبطله وينسخه، فإنَّ ما عليه الأكثرون أنَّ شرع من قبلنا بهذا الاعتبار حُجَّة يقتضي العمل به لوجوب العمل بجميع نصوص الكتاب والسُّنَّة الصحيحة(10)، وإن كان الظاهر المتقرّر في علم الأصول أنَّ شرع من قبلنا ليس بشرع لنا، وهو مذهب الشافعي وبه قال ابن حزم، لقوله تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ [المائدة: 48]، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الأَنْبِيَاءِ قَبْلي.. (وآخرها) وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً»(11)، وفي الحديث دلالة صريحة على أنَّ شريعة غير نبيِّنا محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم لا تلزمنا من ناحية أنَّ الله تعالى لم يبعث إلينا أحدًا من الأنبياء غيره، وإنما كان غير النبي صلى الله عليه وآله وسلم يبعث إلى قومه فقط لا إلى غير قومه(12).
والخلاف وإن كان له أثر معنويٌّ إلاَّ أنَّ مَن احتجَّ به لم يستدلَّ به مستقلاًّ، بل عضَّده بدليلٍ ثابتٍ في شرعنا، ومن أبطله فإنه ‑غالبًا‑ ما يستأنس بنصوصٍ تُذكر في شرع من قبلنا.
ومن الفروع الفقهية التي ذكر فيها الأخذ بشرع من قبلنا هي:
1‑ في الأفضل في الأضحية، فمذهب مالك أنَّ الأفضل في الضحايا الكباش ثمَّ البقر ثمَّ الإبل، وعمدته شرع من قبلنا من جهتين: الأولى فيما فعله إبراهيم عليه السلام من فداء ولده بكبش، والثانية: إنَّ الذِّبح العظيم الذي فدى به إبراهيم عليه السلام سُنَّة باقية إلى اليوم، وأنها الأضحية وهو معنى قوله تعالى: ﴿وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ﴾ [الصافات: 78]، وعضَّده بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه ضحَّى بالكبش(13)، وكذلك فعل ابن عمر رضي الله عنهما وغيرُه.
أمَّا مذهب الشافعي وأحمد، فإنَّ الأفضل الإبل، ثمَّ البقر، ثمَّ الغنم، لعموم قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الجُمُعَةِ غُسْلَ الجَنَابَةِ ثُمَّ رَاحَ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا»(14)، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم عندما سُئل: أَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَل ؟ قال: «أَغْلاَهَا ثَمَنًا وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا»(15)، وقياسًا على الهدي بجامع القربة بالحيوان، فكانت البدنة فيه أفضل، وأنَّ ما فعله رسولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم فقد فعل ما يجزي في الدم فأعلاه خير منه(16)، وذلك دلالة قوله صلى الله عليه وآله وسلم، والقول أقوى من الفعل، وأرجح منه.
2‑ في حكم الجُعالة، فمن اعتبرها شرع من قبلنا استدلَّ بقوله تعالى: ﴿وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ﴾ [يوسف: 72]، وهو مذهب مالك اعتمادًا على أصله في الأخذ بشرع من قبلنا ما لم يرد نسخه، والشافعية وإن كانوا لا يعتبرون بشرع من قبلنا في الحُجِّية إلاَّ أنهم يستأنسون به على خبر أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه رقى رجلاً بفاتحة الكتاب على قطيع من الغنم وشارطه على البرء(17))، والأحناف وإن كانوا يعتبرون حُجِّية الأخذ بشرع من قبلنا إلاَّ أنَّ الجعالة تتضمَّن معنى الغرر المنهي عنه، ذلك لأنَّ الجعالة إجارة، والإجارة تفسدها جهالة المنفعة المعقود عليها، الأمر الذي يفضي إلى المنازعة فيمنع(18).
3‑ في جعل المنفعة مهرًا، فمن رأى جواز جعل المنفعة صداقًا استدلّ بقوله تعالى: ﴿قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [القصص: 27]، فكان هذا شرعُ من قبلنا شرعًا لازمًا لنا حتى يرد الدليل على ارتفاعه، ومن منع الاحتجاج بشرع من قبلنا قال: لا يجوز النكاح بالإجارة(19).
4‑ في ضمان ما تتلفه الدواب، فمن اعتمد الأخذ بشرع من قبلنا على ما أفسدته الدواب ليلاً فهو مضمون على أصحابها، ولا ضمان عليهم فيما أفسدته في النهار عَمِلَ بقوله تعالى: ﴿وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ﴾ [الأنبياء: 78]، والنَّفْشُ عند أهل اللغة لا يكون إلاَّ بالليل، وهذا عمدة مالك -رحمه الله- في العمل بشرع من قبلنا، والشافعي -رحمه الله- وإن لم يأخذ بهذا الأصل إلاَّ أنه أخذ به على وجه الاستئناس وعُضِّد ذلك «بقضاء رسول اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم بأنَّ على أهل الحوائط حفظها بالنهار، وأنَّ ما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها»(20)، وأبو حنيفة -رحمه الله- استدلَّ على عدم الضمان مُطلقًا بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: « جُرْحُ العَجْمَاءِ جُبَارُ»(21)، ولم يعمل بشرع من قبلنا ‑وهو من أصوله‑ لورود في شرعنا ما ينسخه(22).
[ في تعبُّد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشرع من قبله ]
• قال الباجي -رحمه الله- في [ص 273]:
«وَمَا رُوِيَ عَنِ النَّبيِ صلى الله عليه وآله وسلم أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ نَامَ عَنْ صَلاَةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا»(23)، فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ: ﴿ َأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي﴾ [طه: 14]، وَإِنَّمَا خُوطِبَ بذَلِكَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ فَأَخَذَ بهِ نَبيُّنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ».
[م] في مسألة تعبُّد النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم بشرع مَن قبلَه من الأنبياء فقد وقع الخلاف بين أهل العلم في حالتين:
الأولى: في تعبُّد النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم قبلَ البعثة بشرع مَن قبله، وبالجملة اختلفوا فيها على مذاهب:
إنَّه متعبّد بشريعة مَن قبلَه مع اختلافهم في تعبّده هل كان على سبيل الإطلاق أم على سبيل التعيين ؟ وقال بعض الحنفية والمالكية: إنّه غير متعبّد بشريعة من قبلَه، وتوقّف في ذلك القاضي عبد الجبار والجويني والغزالي والآمدي وغيرهم.
الثانية: في تَعبُّدِ النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم بعد البعثة بشرع مَن قبلَه، والظاهر من المانعين من تعبُّده قبل البعثة نفيهم التعبُّد بعد البعثة، وأمَّا المثبتون والمتوقُّفون فقد اختلفوا على قولين:
لم يكن متعبِّدًا باتباعها بل كان منهيًّا عنها، وبه قال أبو إسحاق الشيرازي في آخر قوليه واختاره الغزالي، وما عليه أكثر الحنفية وجمهور الشافعية والمالكية وطائفة من المتكلمين أنَّه كان متعبّدًا بشرع مَن قبلَه إلاَّ ما نسخ منه واختاره الرازي(24).
ولا يخفى أنَّ كلَّ رسولٍ إنَّما تعبَّده اللهُ بشريعةٍ خاصَّةٍ به، أمَّا الدِّينُ الجامع وهو الإسلام فهو عامٌّ لسائر الأنبياء والمرسلين، وهذا هو المقصود من توحيد المِلَّة والدِّين، وتعدّد الشرائع والمناهج(25)، لقوله تعالى: ﴿فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ [المائدة: 48].
1- انظر: «المستصفى» للغزالي (1/126)، «الوصول» لابن برهان (2/47)، «الإحكام» للآمدي (2/267)، «الإبهاج» للسبكي وابنه (2/251)، «نهاية السول» للإسنوي (2/183)، «إرشاد الفحول» للشوكاني (190).
2- انظر المصادر الأصولية المثبتة على هامش «الإشارة» (271).
3- متفق عليه: أخرجه البخاري (9/ 160)، ومسلم (9/ 191) واللفظ له، وأحمد (2/ 432)، وابن ماجه (1/ 621)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، انظر طرقَه في «الإرواء» للألباني (6/288).
4- متفق عليه من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: «نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ خَيْبَرٍ عَنْ لُحُومِ الحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ، وَرَخَّصَ فِي لُحُومِ الخَيْلِ» أخرجه البخاري (9/648)، في «الصيد والذبائح» باب لحوم الخيل، ومسلم (13/79) في «الصيد والذبائح»، باب في أكل لحوم الخيل.
5- انظر: الفروق بين النسخ والتخصيص في «روضة الناظر» لابن قدامة (72)، «المحصول» للرازي (1/3/9)، «البحر المحيط» للزركشي (3/243)، «مذكرة الشنقيطي» (68).
6- هو أبو موسى عيسى بن إبان بن صدقة القاضي الحنفي، كان من أصحاب الحديث ثمَّ غلب عليه الرأي، تفقه على محمَّد بن الحسن صاحب أبي حنيفة، وتولى قضاء العسكر، ثمَّ البصرة، وله كتاب «خبر الواحد»، و«إثبات القياس»، وكتاب «الحج»، مات بالبصرة سنة 221ه.
انظر ترجمته في: «طبقات الفقهاء» للشيرازي (137)، «تاريخ بغداد» للخطيب البغدادي (11/157)، «الجواهر المضيئة» للقرشي (1/401)، «الفوائد البهية» للكنوي (151).
7- المؤلَّفة قلوبهم سواء كانوا مسلمين أو كفارًا يعتبرون جميعًا السادة المطاعون في أقوامهم وعشائرهم وهم على ستة أقسام:
فالكفار قسمان: فمنهم من يعطى ترغيبًا له في الإسلام كما أعطى النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم صفوان بن أمية من غنائم حنين، وقد كان مشركًا كما صحَّ ذلك عند مسلم (7/155)، ومنهم من يعطى خشية شرِّه، ويرجى بعطيته كفّ شرّه ، وكفّ شرّ غيره.
أمَّا المسلمون من المؤلّفة قلوبهم فهم أربعة أقسام: فمنهم من يعطى إلى سادات المسلمين الذين لهم نظراء من الكفار من جهة الرياسة والبروز في قومهم، فيعطون من الزكاة رجاء إسلام نظرائهم.
‑ ومنهم من يعطى تثبيتًا لقلبه ويرجى بعطيته قوَّة إيمانه ومناصحته في الجهاد وإخلاصه فيه، على نحو ما أعطى النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم يوم حنين لجماعة من سادات الطلقاء وأشرافهم على ما ثبت في «صحيح البخاري» (8/53)، ومسلم (7/154).
‑ ومنهم من يكون على حدود بلاد المسلمين فيعطون من الزكاة ليدفعوا شرّ الكفار عمَّن يليهم من المسلمين.
‑ ومنهم قوم يعطون من الزكاة ليقوموا بجبايتها ممَّن يماطل في أدائها، نظرًا لقوتهم وقدرتهم على تحصيلها من المماطلين الممتنعين عن أدائها. [«المغني» لابن قدامة (6/427‑429)].
وعليه، فإنَّ عدم إخراج هذا السهم من الزكاة في عصر من عصور الإسلام لا يعني سقوط هذا السهم من أصناف المستحقِّين للزكاة، وإنَّما يعني عدم وجود أهل هذا السهم (أي: المؤلفة قلوبهم)، وإذا ظهرت الحاجة في إعطاء من يتحقّق منهم معاني وأوصاف المؤلّفة قلوبهم، فإنّ للإمام أن يعطيهم من سهم المؤلّفة قلوبهم من حصيلة الزكاة التي يجمعها بحسب تقديره واجتهاده وفي ضوء مصلحة المسلمين، قال ابن تيمية -رحمه الله- في «مجموع الفتاوى» (25/40) حكاية عن أبي جعفر الطبري -رحمه الله-: «…والصواب أنّ الله جعل الصدقة على معنيين: أحدهما: سد خلة المسلمين، والثاني: معونة الإسلام وتقويته، فما كان معونة للإسلام، يعطى منه الغني والفقير، كالمجاهد ونحوه، ومن هذا الباب يعطى المؤلّفة، وما كان في سدّ خُلة المسلمين».
8- هو أبو محمَّد جمال الدين عبد الرحيم بن الحسن بن علي الإسنوي الشافعي المصري، الفقيه الأصولي المفسر النحوي العروضي، له تصانيف على المذهب في الأصول والتخريج عليها وغيرها، منها: «نهاية السول شرح منهاج الأصول»، و«التمهيد في تخريج الفروع على الأصول»، و«الكوكب الدري في تخريج الفروع الفقهية على القواعد النحوية»، و«طبقات الشافعية»، توفي سنة (772ه).
انظر ترجمته في: «الدرر الكامنة» لابن حجر (2/345)، «بغية الوعاة» للسيوطي (304)، «حسن المحاضرة» للسيوطي (1/429)، «البدر الطالع» للشوكاني (1/352)، «شذرات الذهب» لابن العماد (6/223)، «درة الحجال» لابن القاضي المكناسي (3/114).
9- انظر تفصيل هذه المسألة في المصادر الأصولية المثبتة على هامش «الإشارة» (272).
10- انظر: «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (19/6-7)، «شرح الكوكب المنير» للفتوحي: (4/412)، «مذكرة الشنقيطي» (161).
11- متفق عليه، أخرجه البخاري في «التيمم» (1/435-436)، وفي «الصلاة» (1/533)، ومسلم في «المساجد» (5/3)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
12- انظر: «الإحكام» (2/943)، و«النبذ» كلاهما لابن حزم (91).
13- أخرجه البخاري في «الأضاحي» (5564)، ومسلم في «الأضاحي» ( 5199)، وأبو داود في «الضحايا» (2796)، والترمذي في «الأضاحي» (1573)، والنسائي في «الضحايا» (4403)، وابن ماجه في «الأضاحي» (3239)، وأحمد (12284) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
14- متفق عليه: أخرجه البخاري (2/366)، ومسلم (6/135)، وأبو داود (1/249)، والترمذي (2/372)، والنسائي (3/99) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
15- متفق عليه: أخرجه البخاري (5/148)، ومسلم (2/73) من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
16- «بداية المجتهد» لابن رشد (1/416)، «المغني» لابن قدامة (9/439)، «مغني المحتاج للشربيني» (4/285).
17- أخرجه البخاري (10/209)، ومسلم (14/187) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
18- «بداية المجتهد» لابن رشد (2/232)، «المغني» لابن قدامة (5/400)، «بدائع الصنائع» للكاساني (6/2579)، «مغني المحتاج» للشربيني (2/429).
19- «بداية المجتهد» لابن رشد (2/20)، «المغني» لابن قدامة (7/212).
20- أخرجه أحمد (5/ 435، 436)، وأبو داود (3/ 828)، وابن ماجه (2/ 781)، من حديث محيصة عن أبيه، والحديث صحَّحه الألباني في «صحيح سنن أبي داود» (2/ 390)، رقم (3569).
21- أخرجه البخاري (3/ 364)، ومسلم (11/ 255) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
22- انظر «المغني» لابن قدامة (9/188)، «بداية المجتهد» لابن رشد (2/318)، «فتح القدير» لابن الهمام (8/351)، «مغني المحتاج» للشربيني (4/206).
23- أخرجه البخاري (2/70)، ومسلم (5/193)، وأبو داود (1/307)، والترمذي (1/335)، والنسائي (1/293)، وابن ماجه (1/227)، والدارمي (1/280)، والبيهقي (2/218)، من حديث أنسِ بن مالك رضي الله عنه. وهذا الحديث ذكره المصنِّف بصيغة التمريض الموضوعة لما عدا الصحيح والحسن، وهذه الطريق مغايرة لمنهج العلماء المحقِّقين من أهل الحديث الذين يميِّزون بين صيغتين عند إيراد الحديث: صيغة الجزم موضوعة للصحيح والحسن، وصيغة التمريض موضوعة لما عداهما، وهذا أدب أخلَّ به جماهير أصحاب العلوم، ما عدا حذَّاق المحدِّثين كما أشار إليه النووي وغيره. [انظر: «المجموع» للنووي (1/63)، «فتح المغيث» للسخاوي (1/54)، «قواعد التحديث» للقاسمي (210)].
24- انظر تفصيل المسألة في المصادر الأصولية المثبتة على هامش «الإشارة» (274).
25- انظر وجه اتفاق الشرائع السابقة ووجه اختلافها في «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (19/106-107-113-185).