حفيد الصالحين
07-10-2011, 02:49 PM
http://www.ferkous.com/image/gif/C0.gif
-الجزء الثاني عشر-
باب أحكام القِيَاس «تابع»
فصل
[ في سد الذرائع وحُجِّيَّته ]
• قال المصنِّف -رحمه الله- في [ص 314]:
«مَذْهَبُ مَالِكٍ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- المَنْعُ مِنَ الذَّرَائِعِ، وَهِيَ: المَسْأَلَةُ الَّتِي ظَاهِرُهَا الإِبَاحَةُ، وَيُتَوَصَّلُ بهَا إِلَى فِعْلِ المَحْظُورِ، وَذَلِكَ نَحْوُ: أَنْ يَبيعَ السِّلْعَةَ بمِئَةٍ إِلىَ أَجَلٍ، ثُمَّ يَشْتَرِيهَا بخَمْسِينَ نَقْدًا، لِيَتَوَصَّلَ بذَلِكَ إِلَى بَيْعِ خَمْسِينَ مِثْقَالاً نَقْدًا بمِئَةٍ إِلَى أَجَلٍ، وَأَبَاحَ الذَّرَائِعَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ».
[م] الذَّرِيعَةُ في اللغة هي: الوَسِيلَةُ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى الشَّيْءِ.
ولها -في الاصطلاح- معنيان: عامّ، وخاصّ.
والعامّ من المعنيين هو: كُلُّ مَا يُتَوَصَّلُ بِالوَسِيلَةِ لِشَيْءٍ آخَرَ مُطْلَقًا، سواء كانت الوسيلةُ أو المتوسَّل إليه مُقيَّدان بوصفِ الجوازِ أو المنع، والوسائل بهذا المعنى تشمل المتفق عليه والمختلف فيه، فيُتصوَّرُ فيها السَّدُّ كما يُتَصوَّرُ فيها الفتحُ، وفي تقرير هذا المعنى العامِّ قال ابنُ القيم -رحمه الله-: «لما كانت المقاصدُ لا يُتوصَّلُ إليها إلاَّ بأسبابٍ وطُرُقٍ تُفضي إليها، كانت طُرُقُها وأسبابُها تابعةً لها معتبرةً بها، فوسائلُ المحرَّمات والمعاصي في كراهتها والمنعِ منها بحَسَب إفضائها إلى غاياتها وارتباطها بها، ووسائلُ الطاعات والقُربات في محبِّتها والإذن فيها بحَسَب إفضائها إلى غاياتها، فوسيلةُ المقصود تابعةٌ للمقصود وكلاهما مقصودٌ، لكنَّه مقصود قصد الغايات، وهي مقصودة قصد الوسائل»(1)، وقال القرافي -رحمه الله-: «واعلم أنَّ الذريعةَ كما يجب سَدُّهَا يجب فتحُها، ويُكرَهُ ويندب ويباح، فإنَّ الذريعةَ هي الوسيلةُ، فكما أنَّ وسيلةَ المحرَّمِ محرَّمةٌ، فوسيلةُ الواجب واجبةٌ، كالسعي للجمعة والحجِّ، غيرَ أنَّ الوسائلَ أخفض رُتبةً من المقاصد، وهي -أيضًا- تختلف مراتبُها باختلاف مراتبِ المقاصد التي تؤدِّي إليها، فالوسيلةُ إلى أفضلِ المقاصد أفضلُ الوسائل، وإلى أقبح المقاصد أقبحُ الوسائل، وإلى ما هو متوسِّط متوسِّطةٌ»(2).
أمَّا الخاصُّ من المعنيين -وهو المرادُ لدى الأصوليِّين والفقهاء- وهي الوَسَائِلُ الَّتِي ظَاهِرُهَا الجَوَازُ وَيُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى الشَّيْءِ المَمْنُوعِ المُشْتَمِلِ عَلَى مَفْسَدَةٍ(3)، وعلى هذا المعنى يكون سَدُّ الذرائعِ حسمَ مادة وسائل الفساد بمنع وسائلها ودفعِها.
والذرائع على ثلاثة أقسام(4):
w أحدها: ما أجمع العلماء على المنع منه أي على اعتباره اتفاقًا، وهي الوسائل التي تفضي إلى المفسدة على وجه القطع أو الظنّ الغالب، كبيع السلاح وقت الفتنة، وحفر الآبار في طرق المارة، أو سب أصنام من يعلم أنَّه سيَسُبُّ الله تعالى، عملاً بمقتضى قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ [الأنعام: 108]، فمصلحة ترك سبِّ الله أعظمُ من مصلحة إهانة الأصنام بسبِّها، فأمر بترك سب الأصنام سدًّا لذريعة سبِّ الله تعالى.
w ثانيها: ما أجمع العلماء على عدم المنع منه، أي على إلغائه اتفاقًا، وهي الوسائل التي تفضي إلى المفسدة نادرًا، فقد اتفقوا على أنَّها ذريعةٌ لا تُسَدُّ، ووسيلة لا تحسم، كالمنع من زراعة العنب خشية اتخاذ الخمر منه؛ لأنَّ في زرع العنب نفعًا كثيرًا فلا يترك ذلك باحتمال أن يتخذ خمرًا، أو منع الشركة في سكنى الديار خشية الزنا.
w ثالثها: ما اختلفوا فيه وهو ما يؤدِّي إلى مفسدةٍ غالبًا كبيوع الآجال مثل بيع العِينة(5)، وهذا القسم من مبدإ سدِّ الذرائع اعتبره مالك وأحمد وأكثر أصحابهما أصلاً من أصول الفقه، وأجازه أبو حنيفة والشافعي في بعض الحالات، وأنكر العمل به في حالات أخرى، وأبطله ابن حزم مُطلقًا(6).
وسبب الخلاف يرجع إلى «النية واللفظ في العقود»، فمن نظر إلى الأفعال والأحكام من حيث الغايةُ والمآل والمقصد أبطل بيع العينة؛ لأنَّ «الأُمُورَ بِمَقَاصِدِهَا»؛ ولأنَّ العقدَ بذاته يحمل الدليل على قصد الرِّبا، إذ مآل التعاقد -في بيع العينة- هو تحقيق بيع خمسين نقدًا -مثلاً- بمائة إلى أجل، ومن نظر إلى الأحكام الظاهرة والأفعال عند حدوثها من غير التفات إلى غاياتها ومراميها ومآلها، ففرَّق بين القصد غير المباح المستتر فوكل أمره لله تعالى، وبين التصرُّف الظاهري الذي يظهر فيه ما يدلُّ على القصد صراحةً عَمِلَ بقاعدة أنَّ: «المُعْتَبَرَ فِي أَوَامِرِ اللهِ المَعْنَى، وَالمُعْتَبَرَ فِي أَوَامِرِ العِبَادِ الاِسْمُ وَاللَّفْظُ»، أمَّا إن ظهر قصدُه في العقد صراحةً أو بقرائنَ فإنَّه يعمل بقاعدة أنَّ: «العِبْرَةَ فِي العُقُودِ وَالتَّصَرُّفَاتِ بِالمَقَاصِدِ وَالمَعَانِي لاَ بِالأَلْفَاظِ وَالمَبَانِي»، لذلك أجاز الشافعيُّ بيعَ العِينة قضاءً، ولم يعمل بالعقود الباطنة فهي موكولة إلى الله تعالى ما دامت مستترة، فالعقدان جائزان حتى يقوم الدليلُ على قصد الرِّبا المحرَّم صراحةً أو بالقرائن دفعًا للتُّهمة، وحملاً لحال الناس على الصلاح، واعتدادًا بالألفاظ في العقود دون النيَّات والقصود(7).
هذا، والظاهر أنَّ الإمام مالكًا -رحمه الله- لم ينفرد بالقول بسَدِّ الذرائع لكثرة من عمل من العلماء بهذا المبدإ في فروعهم، إذ بعضُهم يمنع ذلك قطعًا من باب «مَا لاَ يَتِمُّ تَرْكُ الحَرَامِ إِلاَّ بِتَرْكِ الجَمِيعِ فَتَرْكُهُ وَاجِبٌ» أو قاعدة «النَّهْيُ عَنِ الشَّيْءِ نَهْيٌ عَمَّا لاَ يَتِمُّ اجْتِنَابُهُ إِلاَّ بِهِ»، فمثل هذا الذي يفضي إلى الحرام قطعًا لا يختلفون فيه، وإنما يجري الخلافُ فيما يُفضي إلى الحرام غالبًا أو مع التساوي فيه. قال الشوكاني: «قال القرطبي: سَدُّ الذرائع ذهب إليه مالكٌ وأصحابُه، وخالفه أكثر الناس تأصيلاً، وعملوا عليه في أكثر فروعهم تفصيلاً، ثمَّ قرَّر موضع الخلاف فقال: اعلم أنَّ ما يفضي إلى الوقوع قطعًا أو لا، الأول: ليس من هذا الباب، بل هو من باب «مَا لاَ خَلاَصَ مِنَ الحَرَامِ إِلاَّ بِاجْتِنَابِهِ فَفِعْلُهُ حَرَامٌ»(8) من باب «مَا لاَ يَتِمُّ الوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ» والذي لا يلزم [إفضاؤه إلى الوقوع حتمًا]، إمَّا أن يفضي إلى المحظور غالبًا أو ينفك عنه غالبًا أو يتساوى الأمران، وهو المسمَّى بالذرائع عندنا، فالأوَّل لابدَّ من مراعاته، والثاني والثالث اختلف الأصحاب فيه، فمنهم من يراعيه، وربما يُسمِّيه التهمة البعيدة والذرائع الضعيفة، قال القرافي: مالك لم ينفرد بذلك، بل كلّ أحد يقول بها ولا خصوصية للمالكية بها إلاَّ من حيث زيادتهم فيها»(9).
والظاهر أنَّ التمسُّك بمبدأ سدِّ الذرائع ووجوب مراعاة النيَّات والمقاصد أقوى لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى»(10)، فإنَّ وجهه ظاهر في أنَّ العمل لا يقع إلاَّ بالنية، وليس للعامل من عَمَلِه إلاَّ ما نواه، فمن نوى بالبيع عقد الرِّبا تحقَّق الرِّبا، وصورة البيع لا تعصمه من حرمة الرِّبا، هذا، فضلاً عن كون الأخذ بمبدأ سدِّ الذرائع لا يخرج عن مراعاة المصلحة الملائمة في الجملة لمقاصد الشريعة، غير أنَّه لا يصحُّ التوسُّع فيه لئلاَّ يفضي إلى المنع ممَّا هو حلال، أو إلى حمل حال الناس على التُّهمة، قال أبو زُهرة(11): «إنَّ الأخذ بالذرائع لا يصحُّ المبالغة فيه، فإنَّ المغرق فيه قد يمتنع عن أمر مباح أو مندوب، أو واجب خشية الوقوع في الظلم»(12).
والخلاف في هذه المسألة معنويٌّ تترتَّب عليه جملةٌ من الآثار الفقهية منها:
w في نكاح المريض مرض الموت: فمذهب مالك -في المشهور عنه- أنَّ النكاح غيرُ صحيحٍ خلافًا للجمهور، عمدة مالك سدُّ الذرائع، وذلك لكونه محلّ اتهامٍ بقصد إضرار الورثة بإدخال وارث جديدٍ زائدٍ، فيمنع منه لئلاَّ يكون وسيلة للتشفي من الورثة وإدخال الضرر عليهم، واحتجَّ الجمهور بأنَّ الأصل جواز نكاحه؛ لأنَّه صدر من أهله وفي محلِّه وبشرطه، وقاسوه على البيع والشراء من حيث الجواز، ودعم الشافعي استدلاله بقوله: بلغني أنَّ معاذ بن جبل رضي الله عنه قال في مرضه الذي مات فيه: «زَوِّجوني، لا ألقى الله تبارك وتعالى وأنا عزب»(13)، وقول الصحابي إذا وافق القياس حُجَّة عند الشافعي(14)(15).
w في شهادة الأصول والفروع: فذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة وأحمد -رحمهم الله- إلى ردِّ شهادة الأب لابنه، وشهادة الابن لأبيه، وكذلك الأم لابنها، وابنها لها، وعمدة مالك سدُّ الذريعة، لكون الأب مُتَّهمًا في الشهادة لولده بالمحاباة والميل، ممَّا قد يحمله على شهادة بغير حقٍّ، فتردُّ شهادته لموضع التهمة خلافًا لمن أجاز شهادة العدل مُطلقًا(16).
w في شهادة الزوجين: فمذهب مالك وأبي حنيفة وظاهر مذهب أحمد عدم قَبول شهادة الزوج لزوجته ولا الزوجة لزوجها سدًّا للذريعة، وجهه أن كلاًّ من الزوجين يصير يجرُّ النفع إلى نفسه لاتصال الانتفاع بينهما، خلافًا لمن أجازها وهو مذهب الثوري(17) وابن أبي ليلى(18)(19).
w في قضاء القاضي بعلمه: فمذهب مالك وظاهر مذهب أحمد أنَّه ليس للقاضي أن يقضي بعلمه مُطلقًا، وإنما يقضي بالبيِّنة والإقرار، ومن أدلَّة المانعين العمل بمبدإ سدِّ الذريعة فإنَّ القاضي إذا قضى بعلمه لحقته تهمة المحاباة والميل، على أنَّه يمكن أن يكون قضاؤه بعلمه وسيلة للجَور على أحد الخصمين، فيمنع ذلك سدًّا لذريعة التهمة والجَور، خلافًا للشافعي ومن وافقه فإنه يجَوِّز أن يقضي بعلمه إلاَّ في حدود الله، وهي ما عدا القذف والقصاص(20).
w في قضاء القاضي لمن يتهم فيه: فمذهب مالك وأبي حنيفة رحمهم الله: أنَّه لا يجوز قضاء القاضي لكلِّ من لا تجوز له شهادته كأبويه وأولاده وزوجته، وعمدة القائلين بالمنع: الأخذ بسدِّ الذرائع، لاتهام القاضي بمحاباته لهم، كما يتَّهم في شهادته لهم، ويمكن حالتئذ أن يكون قضاؤه وسيلة للجَوْر على خصمه خلافًا لمن أجاز ذلك(21).
فصل
[ في الاستدلال بالعكس ]
• قال الباجي -رحمه الله- في [ص 319]:
«يَصِحُّ الاسْتِدْلاَلُ بالعَكْسِ، وَقَالَ أَبُو حَامِدٍ الإسْفَرَائِينِيُّ: لاَ يَجُوزُ». ثمَّ استدلَّ بالمعقول، وختم الفصل بقوله:
«فَهَذَا اسْتِدْلاَلٌ صَحِيحٌ لأَنَّهُ لَوْ حَلَّتِ الحَيَاةُ الشَّعْرَ، وَجَازَ أَخْذُهُ مِنَ الحَيَوَانِ حَالَ الحَيَاةِ لاَنْتَقَضَتِ العِلَّةُ».
[م] يُعبِّر عنه الأصوليُّون بقياس العكس وهو: «إِثْبَاتُ نَقِيضِ حُكْمِ الأَصْلِ فِي الفَرْعِ لافْتِرَاقِهِمَا فِي العِلَّةِ»(22)، أو هو: «مَا يُسْتَدَلُّ عَلَى نَقِيضِ المَطْلُوبِ، ثُمَّ يبطل فَيَصِحُّ المَطْلُوبُ»(23)، ومثاله: كالدلالة على طهارة دم السمك بأكله به؛ لأنه لو كان نجسًا لما أكل به كالحيوانات النجسة الدم، ومثاله -أيضًا- كالاستدلال في قراءة السورة في الأُخْرَيَين لو كانت سُنَّة فيهما لسنَّ الجهر بالقراءة فيهما، كالأُولَيَيْنِ لمن سنَّ ذلك فيهما سنَّ الجهر بالقراءة فيهما(24). ومثاله -أيضًا- قولهم: لو كانت الزكاة تجب في إناث الخيل لوجبت في ذكوره، فالإبل والبقر والغنم لما وجبت الزكاة في إناثها وجبت في ذكورها، ولما كانت الزكاة لا تجب في ذكور الخيل دل على أنه لا تجب في إناثها كالحمير والبغال(25)، ومثاله -أيضًا-: احتجاج الحنفية على عدم وجوب القصاص على القاتل بالمثقَّل بقولهم: لما لم يجب القصاص من صغير المثقَّل لم يجب من كبيره، عكسه المحدَّد: لما وجب من صغيره وجب من كبيره(26).
وقد استدلَّ به المالكية والحنابلة وهو المشهور عن الشافعية والحنفية، ومنعه طائفة من الأصوليِّين كابن الباقلاني وأبي الخطاب وغيرهم(27).
والصحيح جواز الاستدلال بقياس العكس نحو قوله تعالى: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا﴾ [النساء: 82]، فإنه يستدلّ على حقيقة القرآن بإبطال نقيضه، وهو وجود الاختلاف فيه، ولما ثبت في السُّنَّة فيما رواه مسلم من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: «وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ ! أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ ؟ قَالَ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ ؟ فَكَذَلِكَ إِذَ وَضَعَهَا فِي الحَلاَلِ كَان لَهُ أَجْرٌ»(28).
والمصنِّف في مثاله احتجَّ بالمعقول على جواز إثبات الأحكام بالاستدلال على الشيء بعكسه؛ لأنَّه في حقيقة الأمر استدلالٌ بقياس المدلول على صِحَّته بالعكس، فإذا جاز الاستدلال بما يدلُّ عليه الطرد، فَلأَن يجوز بما هو مدلول على صِحَّته بالطرد والعكس أولى.
فصل
[ في دلالة الاقتران ]
• قال الباجي -رحمه الله- في [ص 321]:
«لاَ يَجُوزُ الاسْتِدْلاَلُ بالقَرَائِنِ عِنْدَ أَكْثَرِ أَصْحَابنَا، وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ بْنُ نَصْرٍ: «يَجُوزُ ذَلِكَ»، وَبهِ قَالَ المُزَنِيُّ»... "يتبع".
1- «إعلام الموقعين» لابن القيم (3/135).
2- «شرح تنقيح الفصول» للقرافي (200)، «الفروق» للقرافي (2/33).
3- انظر معنى الذرائع في: «الحدود» للباجي (68)، «شرح تنقيح الفصول» للقرافي (448)، «إعلام الموقعين» لابن القيم (3/134)، «إرشاد الفحول» للشوكاني (246).
4- وقد بيَّن الشاطبي -رحمه الله- أنَّ كلَّ فعل مأذون فيه بالأصل ولكنه طرق عليه ما جعله يؤدي إلى المفسدة نادرًا فهو على أصله في الإذن، أو يؤدي إلى المفسدة ظنيًّا فالإباحة فيه ظاهرة، والضرر والمفسدة تلحق ظنًّا، أويؤدي إلى المفسدة كثيرًا لا غالبًا ولا نادرًا فهو موضع نظر والتباس. [انظر: «الموافقات» للشاطبي (2/358-364)].
5- سبق التمثيل لبيع العينة، انظر: (ص 299).
6- انظر تفصيل المذاهب في هذه المسألة على المصادر الأصولية المثبتة على هامش «الإشارة» (315).
7- انظر تفصيل ابن القيم -رحمه الله- لمبدإ الباعث والقصد في العقود في «إعلام الموقعين» (3/95)، وما بعدها.
8- تنبيه: الفرق بين مقدمة الشيء والذريعة إليه، أنَّ الشيء يتوقّف على مقدّمته، أي أنَّ حصول المقصود متوقّف عليها، أمَّا الذريعة فهي وسيلة توصل إلى المقصود بالحكم، فالسفر مقدّمة الحجّ والسعي مقدّمة صلاة الجمعة لا يتمّان إلاَّ بهما، أي يتوقّف الحجّ والجمعة على تلك المقدمة، وليس من باب المقدمة قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ [الأنعام: 108]؛ لأنَّ سبَّ المشركين ربَّ العالمين لا يتوقّف حصوله على سبّ المؤمنين آلهة المشركين، ولكن سبّ المؤمنين أصنامهم ذريعة إلى سبِّ المشركين إله العالمين، ولا تلازم بين المقدّمة والذريعة فقد تتحقّق مقدّمة المفسدة مجرّدة عن الذريعة كالسفر للمعصية، وقد يجتمعان معًا في صورة واحدة كالزنى المفضي إلى اختلاط الأنساب، وكالخمر المفضي إلى زوال العقل، فكلا الصورتين تضمنت مقدَّمة المفسدة وذريعة لها.
9- «إرشاد الفحول» للشوكاني (246-247). انظر: «الفروق» للقرافي (2/32، 3/266).
10- سبق تخريجه، انظر: (ص 336).
11- هو محمَّد بن أحمد أبو زهرة من علماء الشريعة، ولد سنة (1316ه) بمصر، وأخذ نصيبه من العلوم الشرعية، واتجه إلى البحث العلمي في كلية أصول الدين، وعُيِّن عضوًا للمجلس الأعلى للبحوث العلمية، أصدر أربعين كتابًا، منها: «تاريخ الجدل في الإسلام»، و«أصول الفقه»، و«الملكية ونظرية العقد في الشريعة الإسلامية»، و«الوصايا والمواريث»، ودراسة فقهية أصولية للأئمة الأربعة، فأخرج لكلِّ إمامٍ كتابًا: «أبو حنيفة»، و«مالك»، و«الشافعي»، و«أحمد»، توفي بالقاهرة سنة (1394ه).
انظر ترجمته في: «الأعلام» للزركلي (6/25، 26)، «معجم المؤلفين» لكحالة (3/43).
12- «أصول الفقه» أبو زهرة (275).
13- «الأم» للشافعي (4/103).
14- انظر: «البحر المحيط» للزركشي (6/56)، و«إرشاد الفحول» للشوكاني (243).
15- انظر مسألة نكاح المريض مرض الموت في: «بداية المجتهد» لابن رشد (2/45)، «المغني» لابن قدامة (6/150-392).
16- انظر: «بداية المجتهد» لابن رشد (2/452)، «المغني» لابن قدامة (10/172).
17- هو أبو عبد الله سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري الكوفي، أحد الأئمة الأعلام، كان فقيهًا عابدًا مجتهدًا، له كتاب «الجامع»، توفي سنة (161ه).
انظر ترجمته في: «الطبقات الكبرى» لابن سعد (6/371)، «التاريخ الكبير» للبخاري (4/92)، «الجرح والتعديل» لابن أبي حاتم (1/55، 4/222)، «المعارف» لابن قتيبة (497)، «الكامل» لابن الأثير» (6/56)، «اللباب» لابن الأثير (1/244)، «وفيات الأعيان» لابن خلكان» (2/391)، «سير أعلام النبلاء» للذهبي (7/229)، «تهذيب التهذيب» لابن حجر (4/111)، «شذرات الذهب» لابن العماد (1/250).
18- هو أبو عيسى عبد الرحمن بن أبي ليلى يسار بن بلال الأنصاري الإمام الفقيه من أكابر تابعي الكوفة، حدث عن عمر وعلي وأبي ذر وابن مسعود وغيرهم، وسمع منه: الشعبي، ومجاهد وعبد الملك بن عمير وخلق سواهم، توفي سنة (82ه).
انظر ترجمته في: «طبقات ابن سعد» (6/109)، «تاريخ بغداد» للخطيب البغدادي (1/199)، و«وفيات الأعيان» لابن خلكان (3/126)، «سير أعلام النبلاء» للذهبي (4/262)، «تهذيب التهذيب» لابن حجر (6/260)، «شذرات الذهب» لابن العماد (1/92).
19- انظر: «بداية المجتهد» لابن رشد (2/453)، «المغني» لابن قدامة (10/174).
20- انظر: «بداية المجتهد» لابن رشد (2/458)، «المغني» لابن قدامة (10/48)، «مغني المحتاج» للشربيني (4/398).
21- انظر: «بداية المجتهد» لابن رشد (2/460)، «المغني» لابن قدامة (10/94)، «تحفة الفقهاء» للسمرقندي (3/639).
22- «مفتاح الوصول» للتلمساني (731).
23- «شرح الكوكب المنير» للفتوحي (4/400)، وعَرَّفه المحليُّ على «جمع الجوامع» (2/342) بقوله: «هو إثبات عكس حكم شيء لمثله لتعاكسهما في العِلة»، وله تعريفات أخرى متقاربة، انظر: المصادر الأصولية المثبتة على هامش «الإشارة» (319).
24- «المسودة» لآل تيمية (425)، و«شرح الكوكب المنير» للفتوحي (4/219).
25- «شرح اللمع» للشيرازي (2/819).
26- «مفتاح الوصول» للتلمساني (733).
27- انظر: المصادر الأصولية المثبتة على هامش «الإشارة» (320).
28- أخرجه مسلم (7/91) في «الزكاة»، باب: بيان اسم الصدقة يقع على كلِّ نوع من المعروف، من حديث أبي ذر رضي الله عنه، وهو متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
-الجزء الثاني عشر-
باب أحكام القِيَاس «تابع»
فصل
[ في سد الذرائع وحُجِّيَّته ]
• قال المصنِّف -رحمه الله- في [ص 314]:
«مَذْهَبُ مَالِكٍ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- المَنْعُ مِنَ الذَّرَائِعِ، وَهِيَ: المَسْأَلَةُ الَّتِي ظَاهِرُهَا الإِبَاحَةُ، وَيُتَوَصَّلُ بهَا إِلَى فِعْلِ المَحْظُورِ، وَذَلِكَ نَحْوُ: أَنْ يَبيعَ السِّلْعَةَ بمِئَةٍ إِلىَ أَجَلٍ، ثُمَّ يَشْتَرِيهَا بخَمْسِينَ نَقْدًا، لِيَتَوَصَّلَ بذَلِكَ إِلَى بَيْعِ خَمْسِينَ مِثْقَالاً نَقْدًا بمِئَةٍ إِلَى أَجَلٍ، وَأَبَاحَ الذَّرَائِعَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ».
[م] الذَّرِيعَةُ في اللغة هي: الوَسِيلَةُ الَّتِي يُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى الشَّيْءِ.
ولها -في الاصطلاح- معنيان: عامّ، وخاصّ.
والعامّ من المعنيين هو: كُلُّ مَا يُتَوَصَّلُ بِالوَسِيلَةِ لِشَيْءٍ آخَرَ مُطْلَقًا، سواء كانت الوسيلةُ أو المتوسَّل إليه مُقيَّدان بوصفِ الجوازِ أو المنع، والوسائل بهذا المعنى تشمل المتفق عليه والمختلف فيه، فيُتصوَّرُ فيها السَّدُّ كما يُتَصوَّرُ فيها الفتحُ، وفي تقرير هذا المعنى العامِّ قال ابنُ القيم -رحمه الله-: «لما كانت المقاصدُ لا يُتوصَّلُ إليها إلاَّ بأسبابٍ وطُرُقٍ تُفضي إليها، كانت طُرُقُها وأسبابُها تابعةً لها معتبرةً بها، فوسائلُ المحرَّمات والمعاصي في كراهتها والمنعِ منها بحَسَب إفضائها إلى غاياتها وارتباطها بها، ووسائلُ الطاعات والقُربات في محبِّتها والإذن فيها بحَسَب إفضائها إلى غاياتها، فوسيلةُ المقصود تابعةٌ للمقصود وكلاهما مقصودٌ، لكنَّه مقصود قصد الغايات، وهي مقصودة قصد الوسائل»(1)، وقال القرافي -رحمه الله-: «واعلم أنَّ الذريعةَ كما يجب سَدُّهَا يجب فتحُها، ويُكرَهُ ويندب ويباح، فإنَّ الذريعةَ هي الوسيلةُ، فكما أنَّ وسيلةَ المحرَّمِ محرَّمةٌ، فوسيلةُ الواجب واجبةٌ، كالسعي للجمعة والحجِّ، غيرَ أنَّ الوسائلَ أخفض رُتبةً من المقاصد، وهي -أيضًا- تختلف مراتبُها باختلاف مراتبِ المقاصد التي تؤدِّي إليها، فالوسيلةُ إلى أفضلِ المقاصد أفضلُ الوسائل، وإلى أقبح المقاصد أقبحُ الوسائل، وإلى ما هو متوسِّط متوسِّطةٌ»(2).
أمَّا الخاصُّ من المعنيين -وهو المرادُ لدى الأصوليِّين والفقهاء- وهي الوَسَائِلُ الَّتِي ظَاهِرُهَا الجَوَازُ وَيُتَوَصَّلُ بِهَا إِلَى الشَّيْءِ المَمْنُوعِ المُشْتَمِلِ عَلَى مَفْسَدَةٍ(3)، وعلى هذا المعنى يكون سَدُّ الذرائعِ حسمَ مادة وسائل الفساد بمنع وسائلها ودفعِها.
والذرائع على ثلاثة أقسام(4):
w أحدها: ما أجمع العلماء على المنع منه أي على اعتباره اتفاقًا، وهي الوسائل التي تفضي إلى المفسدة على وجه القطع أو الظنّ الغالب، كبيع السلاح وقت الفتنة، وحفر الآبار في طرق المارة، أو سب أصنام من يعلم أنَّه سيَسُبُّ الله تعالى، عملاً بمقتضى قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ [الأنعام: 108]، فمصلحة ترك سبِّ الله أعظمُ من مصلحة إهانة الأصنام بسبِّها، فأمر بترك سب الأصنام سدًّا لذريعة سبِّ الله تعالى.
w ثانيها: ما أجمع العلماء على عدم المنع منه، أي على إلغائه اتفاقًا، وهي الوسائل التي تفضي إلى المفسدة نادرًا، فقد اتفقوا على أنَّها ذريعةٌ لا تُسَدُّ، ووسيلة لا تحسم، كالمنع من زراعة العنب خشية اتخاذ الخمر منه؛ لأنَّ في زرع العنب نفعًا كثيرًا فلا يترك ذلك باحتمال أن يتخذ خمرًا، أو منع الشركة في سكنى الديار خشية الزنا.
w ثالثها: ما اختلفوا فيه وهو ما يؤدِّي إلى مفسدةٍ غالبًا كبيوع الآجال مثل بيع العِينة(5)، وهذا القسم من مبدإ سدِّ الذرائع اعتبره مالك وأحمد وأكثر أصحابهما أصلاً من أصول الفقه، وأجازه أبو حنيفة والشافعي في بعض الحالات، وأنكر العمل به في حالات أخرى، وأبطله ابن حزم مُطلقًا(6).
وسبب الخلاف يرجع إلى «النية واللفظ في العقود»، فمن نظر إلى الأفعال والأحكام من حيث الغايةُ والمآل والمقصد أبطل بيع العينة؛ لأنَّ «الأُمُورَ بِمَقَاصِدِهَا»؛ ولأنَّ العقدَ بذاته يحمل الدليل على قصد الرِّبا، إذ مآل التعاقد -في بيع العينة- هو تحقيق بيع خمسين نقدًا -مثلاً- بمائة إلى أجل، ومن نظر إلى الأحكام الظاهرة والأفعال عند حدوثها من غير التفات إلى غاياتها ومراميها ومآلها، ففرَّق بين القصد غير المباح المستتر فوكل أمره لله تعالى، وبين التصرُّف الظاهري الذي يظهر فيه ما يدلُّ على القصد صراحةً عَمِلَ بقاعدة أنَّ: «المُعْتَبَرَ فِي أَوَامِرِ اللهِ المَعْنَى، وَالمُعْتَبَرَ فِي أَوَامِرِ العِبَادِ الاِسْمُ وَاللَّفْظُ»، أمَّا إن ظهر قصدُه في العقد صراحةً أو بقرائنَ فإنَّه يعمل بقاعدة أنَّ: «العِبْرَةَ فِي العُقُودِ وَالتَّصَرُّفَاتِ بِالمَقَاصِدِ وَالمَعَانِي لاَ بِالأَلْفَاظِ وَالمَبَانِي»، لذلك أجاز الشافعيُّ بيعَ العِينة قضاءً، ولم يعمل بالعقود الباطنة فهي موكولة إلى الله تعالى ما دامت مستترة، فالعقدان جائزان حتى يقوم الدليلُ على قصد الرِّبا المحرَّم صراحةً أو بالقرائن دفعًا للتُّهمة، وحملاً لحال الناس على الصلاح، واعتدادًا بالألفاظ في العقود دون النيَّات والقصود(7).
هذا، والظاهر أنَّ الإمام مالكًا -رحمه الله- لم ينفرد بالقول بسَدِّ الذرائع لكثرة من عمل من العلماء بهذا المبدإ في فروعهم، إذ بعضُهم يمنع ذلك قطعًا من باب «مَا لاَ يَتِمُّ تَرْكُ الحَرَامِ إِلاَّ بِتَرْكِ الجَمِيعِ فَتَرْكُهُ وَاجِبٌ» أو قاعدة «النَّهْيُ عَنِ الشَّيْءِ نَهْيٌ عَمَّا لاَ يَتِمُّ اجْتِنَابُهُ إِلاَّ بِهِ»، فمثل هذا الذي يفضي إلى الحرام قطعًا لا يختلفون فيه، وإنما يجري الخلافُ فيما يُفضي إلى الحرام غالبًا أو مع التساوي فيه. قال الشوكاني: «قال القرطبي: سَدُّ الذرائع ذهب إليه مالكٌ وأصحابُه، وخالفه أكثر الناس تأصيلاً، وعملوا عليه في أكثر فروعهم تفصيلاً، ثمَّ قرَّر موضع الخلاف فقال: اعلم أنَّ ما يفضي إلى الوقوع قطعًا أو لا، الأول: ليس من هذا الباب، بل هو من باب «مَا لاَ خَلاَصَ مِنَ الحَرَامِ إِلاَّ بِاجْتِنَابِهِ فَفِعْلُهُ حَرَامٌ»(8) من باب «مَا لاَ يَتِمُّ الوَاجِبُ إِلاَّ بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ» والذي لا يلزم [إفضاؤه إلى الوقوع حتمًا]، إمَّا أن يفضي إلى المحظور غالبًا أو ينفك عنه غالبًا أو يتساوى الأمران، وهو المسمَّى بالذرائع عندنا، فالأوَّل لابدَّ من مراعاته، والثاني والثالث اختلف الأصحاب فيه، فمنهم من يراعيه، وربما يُسمِّيه التهمة البعيدة والذرائع الضعيفة، قال القرافي: مالك لم ينفرد بذلك، بل كلّ أحد يقول بها ولا خصوصية للمالكية بها إلاَّ من حيث زيادتهم فيها»(9).
والظاهر أنَّ التمسُّك بمبدأ سدِّ الذرائع ووجوب مراعاة النيَّات والمقاصد أقوى لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى»(10)، فإنَّ وجهه ظاهر في أنَّ العمل لا يقع إلاَّ بالنية، وليس للعامل من عَمَلِه إلاَّ ما نواه، فمن نوى بالبيع عقد الرِّبا تحقَّق الرِّبا، وصورة البيع لا تعصمه من حرمة الرِّبا، هذا، فضلاً عن كون الأخذ بمبدأ سدِّ الذرائع لا يخرج عن مراعاة المصلحة الملائمة في الجملة لمقاصد الشريعة، غير أنَّه لا يصحُّ التوسُّع فيه لئلاَّ يفضي إلى المنع ممَّا هو حلال، أو إلى حمل حال الناس على التُّهمة، قال أبو زُهرة(11): «إنَّ الأخذ بالذرائع لا يصحُّ المبالغة فيه، فإنَّ المغرق فيه قد يمتنع عن أمر مباح أو مندوب، أو واجب خشية الوقوع في الظلم»(12).
والخلاف في هذه المسألة معنويٌّ تترتَّب عليه جملةٌ من الآثار الفقهية منها:
w في نكاح المريض مرض الموت: فمذهب مالك -في المشهور عنه- أنَّ النكاح غيرُ صحيحٍ خلافًا للجمهور، عمدة مالك سدُّ الذرائع، وذلك لكونه محلّ اتهامٍ بقصد إضرار الورثة بإدخال وارث جديدٍ زائدٍ، فيمنع منه لئلاَّ يكون وسيلة للتشفي من الورثة وإدخال الضرر عليهم، واحتجَّ الجمهور بأنَّ الأصل جواز نكاحه؛ لأنَّه صدر من أهله وفي محلِّه وبشرطه، وقاسوه على البيع والشراء من حيث الجواز، ودعم الشافعي استدلاله بقوله: بلغني أنَّ معاذ بن جبل رضي الله عنه قال في مرضه الذي مات فيه: «زَوِّجوني، لا ألقى الله تبارك وتعالى وأنا عزب»(13)، وقول الصحابي إذا وافق القياس حُجَّة عند الشافعي(14)(15).
w في شهادة الأصول والفروع: فذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة وأحمد -رحمهم الله- إلى ردِّ شهادة الأب لابنه، وشهادة الابن لأبيه، وكذلك الأم لابنها، وابنها لها، وعمدة مالك سدُّ الذريعة، لكون الأب مُتَّهمًا في الشهادة لولده بالمحاباة والميل، ممَّا قد يحمله على شهادة بغير حقٍّ، فتردُّ شهادته لموضع التهمة خلافًا لمن أجاز شهادة العدل مُطلقًا(16).
w في شهادة الزوجين: فمذهب مالك وأبي حنيفة وظاهر مذهب أحمد عدم قَبول شهادة الزوج لزوجته ولا الزوجة لزوجها سدًّا للذريعة، وجهه أن كلاًّ من الزوجين يصير يجرُّ النفع إلى نفسه لاتصال الانتفاع بينهما، خلافًا لمن أجازها وهو مذهب الثوري(17) وابن أبي ليلى(18)(19).
w في قضاء القاضي بعلمه: فمذهب مالك وظاهر مذهب أحمد أنَّه ليس للقاضي أن يقضي بعلمه مُطلقًا، وإنما يقضي بالبيِّنة والإقرار، ومن أدلَّة المانعين العمل بمبدإ سدِّ الذريعة فإنَّ القاضي إذا قضى بعلمه لحقته تهمة المحاباة والميل، على أنَّه يمكن أن يكون قضاؤه بعلمه وسيلة للجَور على أحد الخصمين، فيمنع ذلك سدًّا لذريعة التهمة والجَور، خلافًا للشافعي ومن وافقه فإنه يجَوِّز أن يقضي بعلمه إلاَّ في حدود الله، وهي ما عدا القذف والقصاص(20).
w في قضاء القاضي لمن يتهم فيه: فمذهب مالك وأبي حنيفة رحمهم الله: أنَّه لا يجوز قضاء القاضي لكلِّ من لا تجوز له شهادته كأبويه وأولاده وزوجته، وعمدة القائلين بالمنع: الأخذ بسدِّ الذرائع، لاتهام القاضي بمحاباته لهم، كما يتَّهم في شهادته لهم، ويمكن حالتئذ أن يكون قضاؤه وسيلة للجَوْر على خصمه خلافًا لمن أجاز ذلك(21).
فصل
[ في الاستدلال بالعكس ]
• قال الباجي -رحمه الله- في [ص 319]:
«يَصِحُّ الاسْتِدْلاَلُ بالعَكْسِ، وَقَالَ أَبُو حَامِدٍ الإسْفَرَائِينِيُّ: لاَ يَجُوزُ». ثمَّ استدلَّ بالمعقول، وختم الفصل بقوله:
«فَهَذَا اسْتِدْلاَلٌ صَحِيحٌ لأَنَّهُ لَوْ حَلَّتِ الحَيَاةُ الشَّعْرَ، وَجَازَ أَخْذُهُ مِنَ الحَيَوَانِ حَالَ الحَيَاةِ لاَنْتَقَضَتِ العِلَّةُ».
[م] يُعبِّر عنه الأصوليُّون بقياس العكس وهو: «إِثْبَاتُ نَقِيضِ حُكْمِ الأَصْلِ فِي الفَرْعِ لافْتِرَاقِهِمَا فِي العِلَّةِ»(22)، أو هو: «مَا يُسْتَدَلُّ عَلَى نَقِيضِ المَطْلُوبِ، ثُمَّ يبطل فَيَصِحُّ المَطْلُوبُ»(23)، ومثاله: كالدلالة على طهارة دم السمك بأكله به؛ لأنه لو كان نجسًا لما أكل به كالحيوانات النجسة الدم، ومثاله -أيضًا- كالاستدلال في قراءة السورة في الأُخْرَيَين لو كانت سُنَّة فيهما لسنَّ الجهر بالقراءة فيهما، كالأُولَيَيْنِ لمن سنَّ ذلك فيهما سنَّ الجهر بالقراءة فيهما(24). ومثاله -أيضًا- قولهم: لو كانت الزكاة تجب في إناث الخيل لوجبت في ذكوره، فالإبل والبقر والغنم لما وجبت الزكاة في إناثها وجبت في ذكورها، ولما كانت الزكاة لا تجب في ذكور الخيل دل على أنه لا تجب في إناثها كالحمير والبغال(25)، ومثاله -أيضًا-: احتجاج الحنفية على عدم وجوب القصاص على القاتل بالمثقَّل بقولهم: لما لم يجب القصاص من صغير المثقَّل لم يجب من كبيره، عكسه المحدَّد: لما وجب من صغيره وجب من كبيره(26).
وقد استدلَّ به المالكية والحنابلة وهو المشهور عن الشافعية والحنفية، ومنعه طائفة من الأصوليِّين كابن الباقلاني وأبي الخطاب وغيرهم(27).
والصحيح جواز الاستدلال بقياس العكس نحو قوله تعالى: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا﴾ [النساء: 82]، فإنه يستدلّ على حقيقة القرآن بإبطال نقيضه، وهو وجود الاختلاف فيه، ولما ثبت في السُّنَّة فيما رواه مسلم من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: «وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ ! أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ ؟ قَالَ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ ؟ فَكَذَلِكَ إِذَ وَضَعَهَا فِي الحَلاَلِ كَان لَهُ أَجْرٌ»(28).
والمصنِّف في مثاله احتجَّ بالمعقول على جواز إثبات الأحكام بالاستدلال على الشيء بعكسه؛ لأنَّه في حقيقة الأمر استدلالٌ بقياس المدلول على صِحَّته بالعكس، فإذا جاز الاستدلال بما يدلُّ عليه الطرد، فَلأَن يجوز بما هو مدلول على صِحَّته بالطرد والعكس أولى.
فصل
[ في دلالة الاقتران ]
• قال الباجي -رحمه الله- في [ص 321]:
«لاَ يَجُوزُ الاسْتِدْلاَلُ بالقَرَائِنِ عِنْدَ أَكْثَرِ أَصْحَابنَا، وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ بْنُ نَصْرٍ: «يَجُوزُ ذَلِكَ»، وَبهِ قَالَ المُزَنِيُّ»... "يتبع".
1- «إعلام الموقعين» لابن القيم (3/135).
2- «شرح تنقيح الفصول» للقرافي (200)، «الفروق» للقرافي (2/33).
3- انظر معنى الذرائع في: «الحدود» للباجي (68)، «شرح تنقيح الفصول» للقرافي (448)، «إعلام الموقعين» لابن القيم (3/134)، «إرشاد الفحول» للشوكاني (246).
4- وقد بيَّن الشاطبي -رحمه الله- أنَّ كلَّ فعل مأذون فيه بالأصل ولكنه طرق عليه ما جعله يؤدي إلى المفسدة نادرًا فهو على أصله في الإذن، أو يؤدي إلى المفسدة ظنيًّا فالإباحة فيه ظاهرة، والضرر والمفسدة تلحق ظنًّا، أويؤدي إلى المفسدة كثيرًا لا غالبًا ولا نادرًا فهو موضع نظر والتباس. [انظر: «الموافقات» للشاطبي (2/358-364)].
5- سبق التمثيل لبيع العينة، انظر: (ص 299).
6- انظر تفصيل المذاهب في هذه المسألة على المصادر الأصولية المثبتة على هامش «الإشارة» (315).
7- انظر تفصيل ابن القيم -رحمه الله- لمبدإ الباعث والقصد في العقود في «إعلام الموقعين» (3/95)، وما بعدها.
8- تنبيه: الفرق بين مقدمة الشيء والذريعة إليه، أنَّ الشيء يتوقّف على مقدّمته، أي أنَّ حصول المقصود متوقّف عليها، أمَّا الذريعة فهي وسيلة توصل إلى المقصود بالحكم، فالسفر مقدّمة الحجّ والسعي مقدّمة صلاة الجمعة لا يتمّان إلاَّ بهما، أي يتوقّف الحجّ والجمعة على تلك المقدمة، وليس من باب المقدمة قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ [الأنعام: 108]؛ لأنَّ سبَّ المشركين ربَّ العالمين لا يتوقّف حصوله على سبّ المؤمنين آلهة المشركين، ولكن سبّ المؤمنين أصنامهم ذريعة إلى سبِّ المشركين إله العالمين، ولا تلازم بين المقدّمة والذريعة فقد تتحقّق مقدّمة المفسدة مجرّدة عن الذريعة كالسفر للمعصية، وقد يجتمعان معًا في صورة واحدة كالزنى المفضي إلى اختلاط الأنساب، وكالخمر المفضي إلى زوال العقل، فكلا الصورتين تضمنت مقدَّمة المفسدة وذريعة لها.
9- «إرشاد الفحول» للشوكاني (246-247). انظر: «الفروق» للقرافي (2/32، 3/266).
10- سبق تخريجه، انظر: (ص 336).
11- هو محمَّد بن أحمد أبو زهرة من علماء الشريعة، ولد سنة (1316ه) بمصر، وأخذ نصيبه من العلوم الشرعية، واتجه إلى البحث العلمي في كلية أصول الدين، وعُيِّن عضوًا للمجلس الأعلى للبحوث العلمية، أصدر أربعين كتابًا، منها: «تاريخ الجدل في الإسلام»، و«أصول الفقه»، و«الملكية ونظرية العقد في الشريعة الإسلامية»، و«الوصايا والمواريث»، ودراسة فقهية أصولية للأئمة الأربعة، فأخرج لكلِّ إمامٍ كتابًا: «أبو حنيفة»، و«مالك»، و«الشافعي»، و«أحمد»، توفي بالقاهرة سنة (1394ه).
انظر ترجمته في: «الأعلام» للزركلي (6/25، 26)، «معجم المؤلفين» لكحالة (3/43).
12- «أصول الفقه» أبو زهرة (275).
13- «الأم» للشافعي (4/103).
14- انظر: «البحر المحيط» للزركشي (6/56)، و«إرشاد الفحول» للشوكاني (243).
15- انظر مسألة نكاح المريض مرض الموت في: «بداية المجتهد» لابن رشد (2/45)، «المغني» لابن قدامة (6/150-392).
16- انظر: «بداية المجتهد» لابن رشد (2/452)، «المغني» لابن قدامة (10/172).
17- هو أبو عبد الله سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري الكوفي، أحد الأئمة الأعلام، كان فقيهًا عابدًا مجتهدًا، له كتاب «الجامع»، توفي سنة (161ه).
انظر ترجمته في: «الطبقات الكبرى» لابن سعد (6/371)، «التاريخ الكبير» للبخاري (4/92)، «الجرح والتعديل» لابن أبي حاتم (1/55، 4/222)، «المعارف» لابن قتيبة (497)، «الكامل» لابن الأثير» (6/56)، «اللباب» لابن الأثير (1/244)، «وفيات الأعيان» لابن خلكان» (2/391)، «سير أعلام النبلاء» للذهبي (7/229)، «تهذيب التهذيب» لابن حجر (4/111)، «شذرات الذهب» لابن العماد (1/250).
18- هو أبو عيسى عبد الرحمن بن أبي ليلى يسار بن بلال الأنصاري الإمام الفقيه من أكابر تابعي الكوفة، حدث عن عمر وعلي وأبي ذر وابن مسعود وغيرهم، وسمع منه: الشعبي، ومجاهد وعبد الملك بن عمير وخلق سواهم، توفي سنة (82ه).
انظر ترجمته في: «طبقات ابن سعد» (6/109)، «تاريخ بغداد» للخطيب البغدادي (1/199)، و«وفيات الأعيان» لابن خلكان (3/126)، «سير أعلام النبلاء» للذهبي (4/262)، «تهذيب التهذيب» لابن حجر (6/260)، «شذرات الذهب» لابن العماد (1/92).
19- انظر: «بداية المجتهد» لابن رشد (2/453)، «المغني» لابن قدامة (10/174).
20- انظر: «بداية المجتهد» لابن رشد (2/458)، «المغني» لابن قدامة (10/48)، «مغني المحتاج» للشربيني (4/398).
21- انظر: «بداية المجتهد» لابن رشد (2/460)، «المغني» لابن قدامة (10/94)، «تحفة الفقهاء» للسمرقندي (3/639).
22- «مفتاح الوصول» للتلمساني (731).
23- «شرح الكوكب المنير» للفتوحي (4/400)، وعَرَّفه المحليُّ على «جمع الجوامع» (2/342) بقوله: «هو إثبات عكس حكم شيء لمثله لتعاكسهما في العِلة»، وله تعريفات أخرى متقاربة، انظر: المصادر الأصولية المثبتة على هامش «الإشارة» (319).
24- «المسودة» لآل تيمية (425)، و«شرح الكوكب المنير» للفتوحي (4/219).
25- «شرح اللمع» للشيرازي (2/819).
26- «مفتاح الوصول» للتلمساني (733).
27- انظر: المصادر الأصولية المثبتة على هامش «الإشارة» (320).
28- أخرجه مسلم (7/91) في «الزكاة»، باب: بيان اسم الصدقة يقع على كلِّ نوع من المعروف، من حديث أبي ذر رضي الله عنه، وهو متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.