حفيد الصالحين
07-10-2011, 02:51 PM
http://www.ferkous.com/image/gif/C0.gif
-الجزء الثالث عشر-
فصل
[ في دلالة الاقتران ]
• قال الباجي -رحمه الله- في [ص 321]:
«لاَ يَجُوزُ الاسْتِدْلاَلُ بالقَرَائِنِ عِنْدَ أَكْثَرِ أَصْحَابنَا، وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ بْنُ نَصْرٍ: «يَجُوزُ ذَلِكَ»، وَبهِ قَالَ المُزَنِيُّ».
[م] ويُعبِّر عنه الأصوليُّون ب: «دلالة الاقتران» مثل استدلال مالك -رحمه الله- على سقوط زكاة الخيل(1)، بقوله تعالى: ﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً﴾ [النحل: 8]، فقرن بين الخيل والبغال والحمير، فإذا كان البغال والحمير لا زكاة فيها إجماعًا فكذلك الخيل، ومثله مسألة أكل لحوم الخيل.
وتحرير محلِّ الخلاف بين العلماء أنَّ دلالةَ الاقتران يُحتجُّ بها بلا خلافٍ فيما إذا كانت لدليل خارجيٍّ يدلُّ على الاقتران، وتكون الدلالة للدليل الخارجي لا للاقتران، ولا خلاف في المشاركة إذا كان المعطوف ناقصًا بأن لا يذكر خبره كقول القائل: فلانة طالق وفلانة، وكذلك عطف المفردات إذا كان مشاركة بينها في العِلَّة، فالتشارك في الحكم إنَّما كان بسبب العِلَّة لا لأجل الاقتران(2).
هذا، ودلالةُ الاقتران على مراتبَ متفاوتةٍ قوةً وضعفًا، فإن جمع بين المقترنَيْن لفظ اشتركا في إطلاقه، وافترقا في تفصيله ظهرت عندئذ قوَّتها، وذلك مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «ثَلاَثٌ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ: الغُسْلُ يَوْمَ الجُمُعَةِ، وَالسِّوَاكُ، وَيَمَسُّ مِنْ طِيبٍ إِنْ وَجَدَ»(3)، ولما كان السِّواك والتطيّب غير واجبين كان الغسل غير واجب -أيضًا- لاشتراك الألفاظ الثلاثة في إطلاق لفظ الحقّ عليه، ما لم يرد دليل يقضي بحكمٍ مُغاير. أمَّا إذا تعدَّدت الجمل، واستقلّ كلّ واحد منها بالحكم والسبب والغاية ظهر ضعفها، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لاَ يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي المَاءِ الدَّائِمِ، وَلاَ يَغْتَسِلْ فِيهِ مِنَ الجَنَابَةِ»(4)، فلا يلزم من تنجيسه بالبول تنجيسه بالاغتسال؛ لأنَّ الاقتران في النَّظم لا يستلزم الاقتران في الحكم عند جمهور الأصوليِّين؛ ولأنَّ الأصلَ في كلِّ كلامٍ تامٍّ أن ينفرد بحكمه ولا يشاركه غيرُه مثل قوله تعالى: ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ﴾ [الفتح: 29]، فالجملة الثانية معطوفةٌ على الأُولى ولا تشاركها في الرسالة، فظهر أنَّ الاشتراك إنَّما يكون في المتعاطفات الناقصة التي تحتاج إلى ما تتمُّ به، فإذا تمَّت بنفسها فلا مشاركة(5) كعطف جملة فلا اشتراك في المعنى نحو: أكرم زيدًا وامنع عمرًا(6).
وخالف أبو يوسف(7) صاحبُ أبي حنيفة وابن أبي هريرة(8) من الشافعية وأكثر الحنابلة وبعضُ المالكية، واحتجُّوا على جواز الاستدلال بالقرائن بقول أبي بكر الصديق رضي الله عنه: «وَاللهِ لأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ»(9)، فدلَّ ذلك على أنَّ العطفَ يقتضي المشاركة نحو قوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ﴾ [البقرة: 43]، كما استدلُّوا بقول ابن عباس رضي الله عنهما: «أنَّ العمرة قرينة في كتاب الله»(10)، لذلك حملها على الوجوب بدلالة الاقتران في قوله تعالى: ﴿وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للهِ﴾ [البقرة: 196].
وقد أُجيب بأنَّ الصدِّيق رضي الله عنه إنَّما قصد عدم التفريق بين ما جمع الله في الإيجاب بالأمر، وكذلك ابن عباس رضي الله عنهما أنَّه أراد وجوب العمرة لأنَّها قرينة الحجّ في الأمر، والأمر يقتضي الوجوب فكان الاحتجاج في الحقيقة بظاهر الأمر لا بالاقتران(11).
ومن آثار الخلاف في هذه المسألة ما يأتي:
w الاختلاف في حكم الزكاة في مال الصبي، فمن احتجَّ بدلالة الاقتران من قوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ﴾ [البقرة: 43]، قال لا تجب على مال الصغير؛ لأنَّ العطف يقتضي المشاركة، ولأنه لو أريد دخوله في الزكاة لكان فيه عطف واجب على مندوب، لاتفاق كون صلاة الصبي مندوبة، فدلَّ على عدم وجوب الزكاة في ماله، ومن لم يحتجَّ بدلالة الاقتران منع من ذلك(12).
w والاختلاف في وجوب الأكل من الأضحية، فمن احتجَّ بدلالة الاقتران من قوله تعالى: ﴿فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ﴾ [الحج: 28]، قال بوجوب الأكل منها؛ لأنَّه عطف على الإطعام، والإطعام واجب، ومن لم يحتجَّ به لم يحكم بوجوبه(13).
w والاختلاف في حكم بيع العينة، فمن احتجَّ بدلالة الاقتران من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ البَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمُ الجِهَادَ، سَلَّطَ اللهُ عَلَيْكُمْ ذُلاًّ لاَ يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ»(14)؛ قال: إنَّ اقتران بيع العينة بأخذ أذناب البقر والاشتغال بالزرع مع أنَّ هذه المذكورات غير محرّمة، فدلَّ ذلك على أنَّ بيع العينة ليس محرَّمًا، ومن اعتبر أنَّ دلالة الاقتران ضعيفة؛ لأنَّ الاقتران في النظم لا يستلزم الاقتران في الحكم، قال: لا اشتراك في المعنى وخاصّة وأنَّه عطفت جملة على جملة(15).
بـاب
حكم استصحاب الحال
[ في استصحاب حال العقل ]
• قال الباجي -رحمه الله- في [ص 322]:
«... اسْتِصْحَابِ الحَالِ، وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: اسْتِصْحَابُ حَالِ العَقْلِ، وَذَلِكَ إِذَا ادَّعَى فِي المَسْأَلَةِ أَحَدُ الخَصْمَيْنِ حُكْمًا شَرْعِيًّا، وَادَّعَى الآخَرُ البَقَاءَ عَلىَ حُكْمِ العَقْلِ».
[م] الاستصحاب هو: «الاسْتِدْلاَلُ بِعَدَمِ الدَّلِيلِ عَلَى نَفْيِ الحُكْمِ، أَوْ بَقَاءِ مَا هُوَ ثَابِتٌ بِالدَّلِيلِ»(16).
أو هو: «اسْتِدَامَةُ إِثْبَاتِ مَا كَانَ ثَابِتًا أَوْ نَفْيِ مَا كَانَ مَنْفِيًّا حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى تَغْيِيرِ الحَالَةِ»(17)، وقد جعله المصنِّفُ ضربين، تناول في أحدهما استصحاب حال العقل، ويُعرف هذا الضرب عند الأصوليِّين باستصحاب العدم الأصلي المعلوم بدليل العقل في الأحكام الشرعية كبراءة الذِّمَّة من التكليف حتى يأتي دليلٌ شرعيٌّ على تغيّره، ويطلق عليه -أيضًا- البراءة الأصلية أو الإباحة العقلية، وقد مثَّل لها المصنِّف بوجوب الوتر، وأنه يحكم ببراءة الذِّمَّة من الواجبات قبل ورود الشرع حتى يقوم الدليل على شغلها بالتكليف أو بثبوت الحقِّ، ومثاله -أيضًا-: أنَّ الدليلَ دلَّ على إيجاب خمس صلواتٍ وهو قاصرٌ على إيجاب الخمس، فبقيت السادسة غير واجبة للعلم بعدم الدليل على وجوبها، أي بقيت على العدم الأصلي، وإذا أوجب الشارع عبادةً على قادر، بقي العاجز على ما كان عليه لعدم الدليل، وإذا كان الأصل عدم انتقاض الوضوء بشيء يخرج من غير السبيلين، فيُستصحب هذا الأصل حتى يثبت الدليل على خلافه، فإذا لم يثبت فيبقى الأصل عدم النقض، ذلك لأنَّ الله تعالى خلق الذِّمَمَ غيرَ مشغولةٍ بشيءٍ حتى يثبت شُغلها بالدليل.
وهذا الضربُ من الاستصحاب حُجَّة باتفاق الجمهور خلافًا للمعتزلة(18)، وبعض المالكية(19)، وحُجَّتُه على الحقيقة العلم بعدم الدليل لا عدم الدليل، وهي طريقة صحيحة من الاستدلال كما قال المصنِّف.
[ في استصحاب حال الإجماع ]
• قال المصنِّف -رحمه الله- في [ص 323]:
«وَالثَّانِي: اسْتِصْحَابُ حَالِ الإِجْمَاعِ، وَذَلِكَ مِثْلُ اسْتِدْلاَلِ دَاوُدَ عَلىَ أَنَّ أُمَّ الوَلَدِ يَجُوزُ بَيْعُهَا، لأَنَّا قَدْ أَجْمَعْنَا عَلَى جَوَازِ بَيْعِهَا قَبْلَ الحَمْلِ، فَمَنْ ادَّعَى المَنْعَ منْ ذَلِكَ بَعْدَ الحَمْلِ، فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ مِنَ الاِسْتِدْلاَلِ».
[م] والمراد به استصحابُ حكمٍ ثابتٍ بالإجماع في محلِّ النِّزاع بين أهل العلم، ومثَّل له المصنِّفُ بقول داود الظاهريِّ وأتباعِهِ في جواز بيع أمِّ الولد، حيث إنَّ الإجماع مُنعقِدٌ على جواز بيع الجارية قبل أن يستولدها سَيِّدُها فتلد له ولدًا ، فيبقى هذا الإجماع مستمرًّا حكمُه إلى ما بعد الحمل والولادة بمقتضى استصحاب الحال؛ لأنَّ الولادة لا تزيل الحكم المجمعَ عليه، والجمهورُ يمنعون الاستدلال بمجرَّد الاستصحاب؛ لأنَّ انعقاد الإجماع إنما كان على صِفَةٍ وهي قبل أن يستولد الجارية سيِّدها، وهذه الصفة كانت قبل محلِّ النِّزاع، فلا يستلزم الإجماع على صفة أخرى وهي ما بعد الحمل والولادة؛ لأنَّ شرطَ الاستصحاب بقاءُ الحال على الصفة التي كانت وقت الحكم، فإذا تغيَّرت الصفةُ وهي مَنَاطُ الحُكم تغيَّر موجب الحكم لزوال تلك الصفة، فيخضع الأمر لحكم آخر، لذلك عدَّها المصنِّف طريقةً غير صحيحةٍ من الاستدلال.
ومثاله -أيضًا-: انعقادُ الإجماعِ على صِحَّة صلاةِ المتيِّمم الفاقد للماء، فإذا وجد الماءَ قبل دخوله في الصلاة بَطَلَ تيمُّمُهُ، فلا تصحُّ الصلاة به، لكن إذا لم يجد الماء وتيمَّم، ودخل في الصلاة، فهل يستصحب حكم الإجماع وهو صحة الصلاة عند فَقْدِ الماء أم لا تصحُّ صلاته لتغيُّر الحال من فقد الماء إلى وجوده ؟
وهذه المسألة ترجع إلى استصحاب حكم الإجماع في محلِّ الخلاف، وقد اختلف العلماء في صِحَّتِهِ، فنفاه أكثرُ الحنفية والمالكية والحنابلةِ وبعضُ الشافعية، وأثبته الشافعيُّ، وبه قال المزني وأبو ثور والصيرفي، واختاره الآمديُّ وابنُ الحاجب وابنُ القيم، وهو مذهب داود الظاهري(20) -كما تقدَّم-.
وعُمدةُ المثبتين لاستصحاب الإجماع في محلِّ النِّزاع -مع اعترافهم بأنه لا إجماعَ في محلِّ النِّزاع- أنه لا يجب الانتقال عن حُكم الأصل إلاَّ بدليلٍ ناقلٍ، وتبدُّلُ حال المحلِّ المجمَعِ على حكمه أوَّلًا كتبدّل زمانه ومكانه وشخصه، وهذه الأوصاف لا تمنع استصحاب ما ثبت له قبل التبدّل، حتى يقوم الدليل على أنَّ الوصف ناقلٌ للحكم مُثبتٌ لضِدِّه، كما جعل الدباغ ناقلًا لحكم نجاسة الجِلد، فقبل الدِّباغ فالنجاسة باقيةٌ، فإنَّ هذا يوجب سقوط استصحاب حكم الإجماع؛ لأنَّه رفع بما ثبت من الحكم، أمَّا مجرّد النِّزاع فلا يقوى على رفع استصحاب حكم الإجماع إلاَّ أن يقوم الدليلُ على أنَّ ذلك الوصفَ الحادثَ جعله الشارع دليلًا على نقل الحكم، وحينئذٍ يكون معارضًا في الدليل، لا قادحًا في الاستصحاب(21).
وقد أجاب المصنِّف على ذلك بقوله: «لأنَّ الإجماع لا يتناول موضع الخلاف»، أي: لا إجماعَ مع الخلاف؛ لأنَّ الخلافَ يُضادُّ الإجماعَ، فليس هناك ما يستصحب؛ ولأنَّ الاستصحاب يكون لأمرٍ ثابتٍ فيُستصحب ثبوتُه، أو مُنتف فيُستصحب نفيُه، فلا يكون الإجماع حُجَّةً في الموضوع الذي لا إجماع فيه(22)، فضلًا عن ذلك فإنَّ هذا الضرب من استصحاب محلِّ الخلاف يؤدِّي إلى تكافؤ الأدلَّة، إذ كلٌّ من المتنازعين يصحُّ له أن يستصحب الإجماعَ في محلِّ النِّزاع على الوجه الذي يوافق مذهبَه، فقد يَستدِلُّ أحدُهما على صِحة صلاته بالتيمُّم قبل رؤية الماء بالإجماع، ويستصحب هذه الحالةَ إلى ما بعد رؤية الماء أثناء الصلاة، ثمَّ يُصَحِّحُها بهذا النوع من الاستصحاب، وقد يستدلُّ غيرُه على عدم صحة صلاة المتيمِّم عند رؤية الماء قبل الصلاة إذا صَلَّى بالإجماع، ثمَّ يستصحب هذه الحالة إلى أثناء الصلاة، فيحكم على صلاته بالبطلان بنفس هذا النوع من الاستصحاب(23).
ومن جهة أخرى، فقد استدلَّ المصنِّف على عدم حُجِّية هذا الاستصحاب بالقياس على «ألفاظ الشارع إذا تناولت موضعًا خاصًّا لم يصحَّ الاحتجاجُ بها في الموضع الذي لا تتناوله»، وقد يرد على هذا القياس أنَّ ألفاظ الشرع لا تخلو من حُكمٍ شرعيٍّ فإذا ثبت بالدليل تناوله موضعًا خاصًّا فإنَّه يخرج من العموم ويبقى الباقي على عمومه.
ومن هنا يظهر أنَّ الخلاف بين أهل العلم معنوي له آثاره المترتّبة عليه، فمن رأى حُجّية استصحاب حُكم الإجماع في محلِّ الخلاف قال بجواز بيع أم الولد بعد الحمل، كما قال بصحة صلاة المتيمم أثناء الصلاة بعد رؤية الماء، خلافًا لمن لم يحتجَّ به، ونظيرُ هذه المسألة اختلافُهم فيما إذا شرع المتمتِّع في الصوم لعدم وجود الهدي، ثمَّ وجده، فهل يجب عليه الخروج من الصوم إلى الهدي، أو أنه يجزيه الصوم ولا يلزمه الهدي ؟ مع إجماعهم على أنَّ المتمتِّع بالحجِّ يجب عليه الهدي إن قدر عليه، فإن لم يجده وجب عليه الصوم لقوله تعالى: ﴿فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ﴾ [البقرة: 196].
ومذهبُ الأئمَّة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد على أنه إذا شرع في الصوم انتقل الواجب عليه من الهدي إلى الصوم، فإذا وجد الهدي لم يلزمه الخروج من الصوم، خلافًا لأبي حنيفة فإنَّه إذا وجد الهدي أثناء صوم الأيام الثلاثة أو بعدها قبل يوم النحر، وجب عليه الخروج من الصوم إلى الهدي(24)، ولهذا الأصل آثار فقهية أخرى.
هذا، والمصنِّف قسَّم استصحاب الحال إلى ضربين، لكن علماء الأصول يضيفون عليهما أقسامًا أخرى منها:
w استصحابُ ما دلَّ العقلُ والشرعُ على ثبوتِه ودوامه لوجودِ سببِهِ: كدوام حلّ الزوجة بعد ثبوت عقد الزوجية، وكالملك عند جريان العقد، فإنه يثبت حتى يوجد ما يزيله، وكشغل الذِّمَّة بدفع الشيءِ المتلَف وضمانه عند وجود سببه -وهو الإتلاف- فإنَّ هذه الذِّمَّةَ تبقى مشغولةً حتى يَرِدَ ما يُزيلُه، وهذا النوعُ من الاستصحاب حُجَّةٌ عند المالكية والشافعية والحنابلة مُطلقًا ما لم يثبت مُعارِضٌ، وهو عند الأحناف حُجَّةٌ في الدَّفع وإبداء العذر لا في الإثبات.
w استصحاب الوصف المثبت للحكم الشرعي حتى يثبت خلافُه: كاستصحاب الطهارة إذا شكَّ في الحَدَثِ حتى يثبت الحدثُ، فالطهارة وَصْفٌ مستصحب لإباحة الصلاة، وحياة المفقود تستمرُّ ثابتةً حتى يقوم الدليلُ على خلاف ذلك، والكفالةُ وصفٌ شرعيٌّ يستمرُ ثابتًا حتى يُؤدِّي الدَّينَ أو يبرأَ منه، وقد ذكر ابنُ القيِّم -رحمه الله- أنه لا خلافَ بين هذا النوع والذي قبله، وإن تنازع الفقهاء في بعض أحكامه، لتجاذب المسألة أصلين متعارضين(25).
w استصحاب العموم إلى أن يَرِدَ دليلٌ مُخصِّصٌ، واستصحاب النصّ حتى يَرِدَ النَّسْخُ: وهذا القسم -أيضًا- محلُّ اتفاقِ العلماء على وجوب العمل به.
w استصحاب الحكم العقليّ عند المعتزلة، فإنَّ العقل يحكم عندهم في بعض الأشياء إلى أن يرد الدليل السمعيُّ، وقد أجمع أهلُ السُّنَّة على إبطاله؛ لأنه لا حُكم للعقل في الشرعيات(26).
وتجدر الملاحظة إلى أنَّ الاستصحابَ لا يعتمد عليه إلاَّ بعد انتفاء الأدلَّة الشرعية الصالحة للاحتجاج من الكتاب والسُّنَّة والإجماع والقياس وغيرها، فهو آخِرُ ما تدور عليه الفتوى لكونه أضعف الأدلة(27)، كما لا يجوز من جهة أخرى تحميل الاستصحاب أكثر ما يستحقُّه؛ لأنَّ غالبَ نفاة القياس ممَّن توسَّعوا في الاستصحاب فهموا من النصِّ حُكمًا أثبتوه مع نفيهم لما يتضمَّنه من إشارة أو إيماء أوإلحاق، فعملوا بموجب الاستصحاب لعدم علمهم بالناقل وتوسَّعوا في العمل به على العمل بمقتضى النص(28).
فصل
[ في حكم الأشياء المنتفَع بها قبل ورود الشرع ]
• قال الباجي -رحمه الله- في [ص 325]:
«... فَلَيْسَ فِي العَقْلِ حَظْرٌ وَلاَ إِبَاحَةٌ، وَإِنَّمَا ثَبَتَتِ الإِبَاحَةُ وَالتَّحْرِيمُ بالشَّرْعِ، وَالبَارِي تَعَالىَ يُحَلِّلُ مَا يَشَاءُ وَيُحَرِّمُ مَا يَشَاءُ، هَذَا قَوْلُ جَمْهُورِ أَصْحَابناَ».
[م] لا خلاف بين أهل العلم في أنَّ الحاكمَ الذي يدرك الأحكام ويُظهرها ويكشف عنها بعد البعثة وبلوغ الدعوة إنما هو الشرع الذي جاء به النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم، فالأصل -إذن- في الأشياء بعد مجيء الرسل وَوُرُودِ الشرع على الإباحة وهي إباحة شرعية، لقوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا﴾ [البقرة: 29]، وقولِه صلى الله عليه وآله وسلم: «...وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ»(29)، فيكون الأصلُ في الأشياء والمنافعِ والمكاسبِ والعادات العفوُ فلا يحظر منها إلاَّ ما حَرَّمهُ الله تعالى، وإلاَّ دخلنا في معنى قوله تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً﴾ [يونس: 59].
أمَّا العباداتُ فالأصلُ فيها التوقيف فلا يُشرع منها إلاَّ ما شرعه، وإلاَّ دخلنا في معنى قوله تعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللهُ﴾ [الشورى: 21](30).
أمَّا قبل ورود الشرع فلا تحريمَ ولا تحليلَ ولا شرعَ فالواجب التوقّف، لأنَّ العقل لا مدخلَ له في الحظر والإباحة(31)، وهو مذهب جمهور العلماء خلافًا للمعتزلة القائلين بأنَّ كلَّ شيءٍ ثابتٍ بالشرع ثابت قبله بالعقل، وإنَّما جاء الشرع مقرِّرًا ومؤكِّدًا لحكم العقل، وهذا الأصل مبني على مذهبهم في التحسين والتقبيح العقليين، ولا شكَّ في بطلان هذا المذهب لما فيه من ترتيب حكم الشرع على حكم العقل من جهة(32)؛ ولأنَّ ما عرف حسنه وقبحه عن طريق العقل والفطرة لا يترتَّب عليه مدحٌ ولا ذمٌّ ولا ثوابٌ ولا عقابٌ ما لم يَرِدْ حُكمُه بالشرع من جهة أخرى؛ ولأنَّ الدليلَ الشرعيَّ أثبت ذلك على من قامت عليه الحُجَّة بالرسل والكتب، وعليه فلا يجوز إعطاء ما بعد الشرع حكم ما قبل الشرع(33).
[ في تقرير الأصل في الأشياء عند المخالفين للجمهور ]
• وقال الباجي -رحمه الله- عن المخالفين من المالكية للجمهور:
«قَالَ أَبُو بَكْرٍ الأَبْهَرِيُّ: «الأَشْيَاءُ فِي الأَصْلِ عَلىَ الحَظْرِ»، وَقَالَ أَبُو الفَرَجِ المَالِكِيُّ: «الأَشْيَاءُ فِي الأَصْلِ عَلَى الإِبَاحَةِ»».
[م] ما ذهب إليه أبو بكر الأبهري وأبو الفرج الليثي المالكيان في القول بالحظر والإباحة وإن وافقوا المعتزلة في النتيجة والحكم إلاَّ أنهم يخالفونهم في المبنى والأصل، إذ أنهم لم يحكِّموا العقلَ فيما يمكن أن يعرفه حسنًا أو قبحًا، وإنما استدلَّ كُلُّ واحدٍ منهما بالنصوص الشرعية القاضية بالمنع والحظر، أو بالإباحة والجواز.
فأبو بكر الأبهري استدلَّ بقوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ﴾ [المائدة: 4]، وقوله تعالى: ﴿أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ [المائدة: 1]، وغيرها من النصوص الشرعية الدالَّة على أنَّ الأشياءَ قبل ورود الشرع على الحظر، بينما استدلَّ أبو الفرج المالكي بقوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا﴾ [البقرة: 29]، وقوله تعالى: ﴿قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ [طه: 50]، وغيرها من النصوص الشرعية الدالَّة على أنَّ الأشياء قبل ورود الشرع على الإباحة(34).
هذا، وقد اعتبر بعضُ العلماء عقد هذه المسألة في كتب الأصول حشوًا لا فائدةَ منها؛ لأنَّ مجيءَ الشرع كافٍ لمعرفة حكم هذه الأشياء، علمًا أنَّ وقوع هذه المسألة ممتنع؛ لأنَّ الأرض لم تخلُ من نبيٍّ مرسل، لقوله تعالى: ﴿وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خلاَ فِيهَا نَذِيرٌ﴾ [فاطر: 24]، ولكن يمكن سحب الحكم قبل ورود الشرع على من جهل الحكم وهو بعيد عن مجال وصول التبليغ كمن ولد في جزيرة أو نشأ في برية(35).
فصل
[ في صحة لزوم الدليل على نافي الحكم ]
• قال الباجي -رحمه الله- في [ص 326]:
«مَنِ ادَّعَى نَفْيَ حُكْمٍ وَجَبَ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ كَمَا يَجِبُ ذَلِكَ عَلىَ مَنْ أَثْبَتَهُ...». "يتبع".
1- «تفسير القرطبي» (10/78).
2- «إرشاد الفحول» للشوكاني (248).
3- أخرجه أحمد في «مسنده» (4/34، 5/363)، وابن أبي شيبة في «المصنف» (1/434 (4997)، عن رجل من أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم، والحديث صحَّحه الألباني في «السلسة الصحيحة» (4/405 (1796)، وفي «صحيح الجامع» (3/62 (3025).
4- أخرجه أبو داود (1/56) برقم (70) في «كتاب الطهارة» باب: البول في الماء الراكد، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والحديث صحَّحه الألباني في «صحيح أبي داود» (1/30)، وفي «صحيح الجامع» (6/211) برقم (7471).
5- راجع «المسودة» لآل تيمية (140-141)، «بدائع الفوائد» لابن القيم (4/183-184)، «إرشاد الفحول» للشوكاني (248).
6- انظر المصادر الأصولية المثبتة على هامش «الإشارة» (ص 321).
7- هو أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الأنصاري الكوفي، الإمام المجتهد صاحب أبي حنيفة وناشر مذهبه، وأول شيخ للإمام أحمد، تولى منصب القضاء ببغداد في عهد الخليفة المهدي، وظل يقضي بين الناس إلى وفاته سنة (182ه)، من مؤلفاته: «كتاب الخراج»، و«كتاب الجوامع»، و«اختلاف الأمصار»، وغيرها.
انظر ترجمته في: «الطبقات الكبرى» لابن سعد (7/330)، «الفهرست» للنديم (256)، «طبقات الشيرازي» (134)، «تاريخ بغداد» للخطيب البغدادي (14/242)، «وفيات الأعيان» لابن خلكان (6/378)، «الكامل» لابن الأثير (6/159)، «البداية والنهاية» لابن كثير (10/180)، «سير أعلام النبلاء» (8/535)، «دول الإسلام» كلاهما للذهبي (1/117)، «مرآة الجنان» لليافعي (1/382)، «الجواهر المضيئة» للقرشي (3/611)، «لسان الميزان» لابن حجر (6/300)، «طبقات الحفاظ» للسيوطي «127)، «شذرات الذهب» لابن العماد (1/298).
8- هو أبو علي الحسن بن الحسين القاضي البغدادي، المعروف بابن أبي هريرة، أحد أئمة الشافعية، انتهت إليه إمامة العراقيين، درَّس ببغداد، وتخرج عليه خلق كثير، من مؤلفاته: «شرح مختصر المزني»، وله مسائل محفوظة في الفروع، توفي سنة (345ه). انظر ترجمته في: «طبقات الفقهاء» للشيرازي (112)، «تاريخ بغداد» (7/298)، «طبقات الشافعية» للسبكي (3/256)، «وفيات الأعيان» لابن خلكان (2/75)، «مرآة الجنان» لليافعي (2/337)، «سير أعلام النبلاء» للذهبي (15/430)، «البداية والنهاية» لابن كثير (11/304)، «شذرات الذهب» لابن العماد (2/370)، «الفتح المبين» للمراغي (1/193).
9- أخرجه البخاري (3/262)، ومسلم (1/207)، وغيرهما.
10- أخرجه البخاري في «صحيحه» معلقًا، كتاب «العمرة»، باب وجوب العمرة وفضلها، والبيهقي في سننه (4/351)، وعزاه ابن حجر في «التلخيص الحبير» (2/227) للشافعي وسعيد ابن منصور والحاكم، وانظر: «فتح الباري» له (3/738).
11- «التبصرة» للشيرازي (230).
12- «شرح الكوكب المنير» للفتوحي (3/260).
13- «التمهيد» للإسنوي (273).
14- أخرجه أبو داود (3/740) رقم (3462)، والبيهقي في «سننه الكبرى» (5/316)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، والحديث صحَّحه الألباني في «السلسلة الصحيحة» (1/15) رقم (11) وفي «صحيح أبي داود» (2/365).
15- «نيل الأوطار» للشوكاني (6/364).
16- «تخريج الفروع على الأصول» للزنجاني (172).
17- «إعلام الموقعين» لابن القيم (1/339).
18- والمعتزلة يتَّفقون مع الجمهور في الفرع غير أنهم يخالفونهم في الأصل؛ لأنَّ مبنى مذهبهم التحسين والتقبيح العقليان؛ أي: أنَّ الحكم للعقل فيما أمكن أن يعرفه العقل ولا ينتقل عنه إلاَّ بدليل، وهو على تباين من مبنى مذهب الجمهور في أنَّ الأصل براءة الذِمَّة لعدم الدليل، وهو الصحيح بلا شك؛ لأنَّه لا حكم للأشياء والأعيان قبل ورود الشرع، أمَّا بعده فإنَّ الأشياء لا تخلو من حكم شرعي متمثِّل في نصٍّ خاصٍّ أو قياسٍ أو قاعدة شرعية عامَّة تندرج تحتها الفروع ولا تشذّ عنها. [«البرهان» للجويني (2/1135)، «المعتمد» لأبي الحسين (2/884)، «المستصفى» للغزالي (1/127)، «البحر المحيط» للزركشي (6/21)، «شرح الكوكب المنير» للفتوحي (4/304)].
19- انظر المصادر الأصولية المثبتة على هامش «الإشارة» (323).
20- انظر المصادر الأصولية المثبتة على هامش «الإشارة» (ص 325).
21- «إعلام الموقعين» لابن القيم (1/343).
22- المصدر السابق، «المستصفى» للغزالي (1/128).
23- المصدر السابق (1/341)، «روضة الناظر» لابن قدامة (1/392)، «شرح الكوكب المنير» للفتوحي (4/407).
24- «بداية المجتهد» لابن رشد (1/356)، «المغني» لابن قدامة (3/420)، «المجموع» للنووي (7/186)، «فتح القدير» لابن الهمام (2/207).
25- «إعلام الموقعين» لابن القيم (1/340).
26- انظر المصادر الأصولية المثبتة على هامش «الإشارة» (323).
27- «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (13/112).
28- المصدر السابق (23/16)، «إعلام الموقعين» لابن القيم (1/327).
29- أخرجه أبو داود في «الأطعمة» (3/157) برقم (3800) موقوفًا عن ابن عباس رضي الله عنهما، وصحَّحه الحاكم في «المستدرك» (4/115)، ووافقه الذهبي، كما صحَّح إسناده الألبانيُّ في «صحيح أبي داود» برقم (3800).
ورواه مرفوعًا الترمذي في «اللباس» (4/220)، برقم (1726)، وابن ماجه في «الأطعمة» (2/1117) برقم (3367) من حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه، قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعًا إلاَّ من هذا الوجه، ثمَّ قال: وكأنَّ الحديث الموقوف أصحّ. وهذا الحديث حسَّنه الألباني في «صحيح الترمذي» برقم(1726)، وفي «صحيح ابن ماجه» برقم (3366).
30- «الفقيه والمتفقه» للخطيب البغدادي (1/217)، «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (21/539، 540).
31- «روضة الناظر» لابن قدامة (1/119).
32- فعند أهل السُّنَّة أنَّ حُكم الأشياء وردت بالشرع ابتداء لا تبعًا للعقل، فالعقل تابع للشرع لا متبوع.
33- «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (21/539).
34- «شرح تنقيح الفصول» للقرافي (447).
35- «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (21/539).
-الجزء الثالث عشر-
فصل
[ في دلالة الاقتران ]
• قال الباجي -رحمه الله- في [ص 321]:
«لاَ يَجُوزُ الاسْتِدْلاَلُ بالقَرَائِنِ عِنْدَ أَكْثَرِ أَصْحَابنَا، وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ بْنُ نَصْرٍ: «يَجُوزُ ذَلِكَ»، وَبهِ قَالَ المُزَنِيُّ».
[م] ويُعبِّر عنه الأصوليُّون ب: «دلالة الاقتران» مثل استدلال مالك -رحمه الله- على سقوط زكاة الخيل(1)، بقوله تعالى: ﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً﴾ [النحل: 8]، فقرن بين الخيل والبغال والحمير، فإذا كان البغال والحمير لا زكاة فيها إجماعًا فكذلك الخيل، ومثله مسألة أكل لحوم الخيل.
وتحرير محلِّ الخلاف بين العلماء أنَّ دلالةَ الاقتران يُحتجُّ بها بلا خلافٍ فيما إذا كانت لدليل خارجيٍّ يدلُّ على الاقتران، وتكون الدلالة للدليل الخارجي لا للاقتران، ولا خلاف في المشاركة إذا كان المعطوف ناقصًا بأن لا يذكر خبره كقول القائل: فلانة طالق وفلانة، وكذلك عطف المفردات إذا كان مشاركة بينها في العِلَّة، فالتشارك في الحكم إنَّما كان بسبب العِلَّة لا لأجل الاقتران(2).
هذا، ودلالةُ الاقتران على مراتبَ متفاوتةٍ قوةً وضعفًا، فإن جمع بين المقترنَيْن لفظ اشتركا في إطلاقه، وافترقا في تفصيله ظهرت عندئذ قوَّتها، وذلك مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «ثَلاَثٌ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ: الغُسْلُ يَوْمَ الجُمُعَةِ، وَالسِّوَاكُ، وَيَمَسُّ مِنْ طِيبٍ إِنْ وَجَدَ»(3)، ولما كان السِّواك والتطيّب غير واجبين كان الغسل غير واجب -أيضًا- لاشتراك الألفاظ الثلاثة في إطلاق لفظ الحقّ عليه، ما لم يرد دليل يقضي بحكمٍ مُغاير. أمَّا إذا تعدَّدت الجمل، واستقلّ كلّ واحد منها بالحكم والسبب والغاية ظهر ضعفها، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لاَ يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي المَاءِ الدَّائِمِ، وَلاَ يَغْتَسِلْ فِيهِ مِنَ الجَنَابَةِ»(4)، فلا يلزم من تنجيسه بالبول تنجيسه بالاغتسال؛ لأنَّ الاقتران في النَّظم لا يستلزم الاقتران في الحكم عند جمهور الأصوليِّين؛ ولأنَّ الأصلَ في كلِّ كلامٍ تامٍّ أن ينفرد بحكمه ولا يشاركه غيرُه مثل قوله تعالى: ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ﴾ [الفتح: 29]، فالجملة الثانية معطوفةٌ على الأُولى ولا تشاركها في الرسالة، فظهر أنَّ الاشتراك إنَّما يكون في المتعاطفات الناقصة التي تحتاج إلى ما تتمُّ به، فإذا تمَّت بنفسها فلا مشاركة(5) كعطف جملة فلا اشتراك في المعنى نحو: أكرم زيدًا وامنع عمرًا(6).
وخالف أبو يوسف(7) صاحبُ أبي حنيفة وابن أبي هريرة(8) من الشافعية وأكثر الحنابلة وبعضُ المالكية، واحتجُّوا على جواز الاستدلال بالقرائن بقول أبي بكر الصديق رضي الله عنه: «وَاللهِ لأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ»(9)، فدلَّ ذلك على أنَّ العطفَ يقتضي المشاركة نحو قوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ﴾ [البقرة: 43]، كما استدلُّوا بقول ابن عباس رضي الله عنهما: «أنَّ العمرة قرينة في كتاب الله»(10)، لذلك حملها على الوجوب بدلالة الاقتران في قوله تعالى: ﴿وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للهِ﴾ [البقرة: 196].
وقد أُجيب بأنَّ الصدِّيق رضي الله عنه إنَّما قصد عدم التفريق بين ما جمع الله في الإيجاب بالأمر، وكذلك ابن عباس رضي الله عنهما أنَّه أراد وجوب العمرة لأنَّها قرينة الحجّ في الأمر، والأمر يقتضي الوجوب فكان الاحتجاج في الحقيقة بظاهر الأمر لا بالاقتران(11).
ومن آثار الخلاف في هذه المسألة ما يأتي:
w الاختلاف في حكم الزكاة في مال الصبي، فمن احتجَّ بدلالة الاقتران من قوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ﴾ [البقرة: 43]، قال لا تجب على مال الصغير؛ لأنَّ العطف يقتضي المشاركة، ولأنه لو أريد دخوله في الزكاة لكان فيه عطف واجب على مندوب، لاتفاق كون صلاة الصبي مندوبة، فدلَّ على عدم وجوب الزكاة في ماله، ومن لم يحتجَّ بدلالة الاقتران منع من ذلك(12).
w والاختلاف في وجوب الأكل من الأضحية، فمن احتجَّ بدلالة الاقتران من قوله تعالى: ﴿فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ﴾ [الحج: 28]، قال بوجوب الأكل منها؛ لأنَّه عطف على الإطعام، والإطعام واجب، ومن لم يحتجَّ به لم يحكم بوجوبه(13).
w والاختلاف في حكم بيع العينة، فمن احتجَّ بدلالة الاقتران من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالعِينَةِ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ البَقَرِ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ، وَتَرَكْتُمُ الجِهَادَ، سَلَّطَ اللهُ عَلَيْكُمْ ذُلاًّ لاَ يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ»(14)؛ قال: إنَّ اقتران بيع العينة بأخذ أذناب البقر والاشتغال بالزرع مع أنَّ هذه المذكورات غير محرّمة، فدلَّ ذلك على أنَّ بيع العينة ليس محرَّمًا، ومن اعتبر أنَّ دلالة الاقتران ضعيفة؛ لأنَّ الاقتران في النظم لا يستلزم الاقتران في الحكم، قال: لا اشتراك في المعنى وخاصّة وأنَّه عطفت جملة على جملة(15).
بـاب
حكم استصحاب الحال
[ في استصحاب حال العقل ]
• قال الباجي -رحمه الله- في [ص 322]:
«... اسْتِصْحَابِ الحَالِ، وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: اسْتِصْحَابُ حَالِ العَقْلِ، وَذَلِكَ إِذَا ادَّعَى فِي المَسْأَلَةِ أَحَدُ الخَصْمَيْنِ حُكْمًا شَرْعِيًّا، وَادَّعَى الآخَرُ البَقَاءَ عَلىَ حُكْمِ العَقْلِ».
[م] الاستصحاب هو: «الاسْتِدْلاَلُ بِعَدَمِ الدَّلِيلِ عَلَى نَفْيِ الحُكْمِ، أَوْ بَقَاءِ مَا هُوَ ثَابِتٌ بِالدَّلِيلِ»(16).
أو هو: «اسْتِدَامَةُ إِثْبَاتِ مَا كَانَ ثَابِتًا أَوْ نَفْيِ مَا كَانَ مَنْفِيًّا حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى تَغْيِيرِ الحَالَةِ»(17)، وقد جعله المصنِّفُ ضربين، تناول في أحدهما استصحاب حال العقل، ويُعرف هذا الضرب عند الأصوليِّين باستصحاب العدم الأصلي المعلوم بدليل العقل في الأحكام الشرعية كبراءة الذِّمَّة من التكليف حتى يأتي دليلٌ شرعيٌّ على تغيّره، ويطلق عليه -أيضًا- البراءة الأصلية أو الإباحة العقلية، وقد مثَّل لها المصنِّف بوجوب الوتر، وأنه يحكم ببراءة الذِّمَّة من الواجبات قبل ورود الشرع حتى يقوم الدليل على شغلها بالتكليف أو بثبوت الحقِّ، ومثاله -أيضًا-: أنَّ الدليلَ دلَّ على إيجاب خمس صلواتٍ وهو قاصرٌ على إيجاب الخمس، فبقيت السادسة غير واجبة للعلم بعدم الدليل على وجوبها، أي بقيت على العدم الأصلي، وإذا أوجب الشارع عبادةً على قادر، بقي العاجز على ما كان عليه لعدم الدليل، وإذا كان الأصل عدم انتقاض الوضوء بشيء يخرج من غير السبيلين، فيُستصحب هذا الأصل حتى يثبت الدليل على خلافه، فإذا لم يثبت فيبقى الأصل عدم النقض، ذلك لأنَّ الله تعالى خلق الذِّمَمَ غيرَ مشغولةٍ بشيءٍ حتى يثبت شُغلها بالدليل.
وهذا الضربُ من الاستصحاب حُجَّة باتفاق الجمهور خلافًا للمعتزلة(18)، وبعض المالكية(19)، وحُجَّتُه على الحقيقة العلم بعدم الدليل لا عدم الدليل، وهي طريقة صحيحة من الاستدلال كما قال المصنِّف.
[ في استصحاب حال الإجماع ]
• قال المصنِّف -رحمه الله- في [ص 323]:
«وَالثَّانِي: اسْتِصْحَابُ حَالِ الإِجْمَاعِ، وَذَلِكَ مِثْلُ اسْتِدْلاَلِ دَاوُدَ عَلىَ أَنَّ أُمَّ الوَلَدِ يَجُوزُ بَيْعُهَا، لأَنَّا قَدْ أَجْمَعْنَا عَلَى جَوَازِ بَيْعِهَا قَبْلَ الحَمْلِ، فَمَنْ ادَّعَى المَنْعَ منْ ذَلِكَ بَعْدَ الحَمْلِ، فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ مِنَ الاِسْتِدْلاَلِ».
[م] والمراد به استصحابُ حكمٍ ثابتٍ بالإجماع في محلِّ النِّزاع بين أهل العلم، ومثَّل له المصنِّفُ بقول داود الظاهريِّ وأتباعِهِ في جواز بيع أمِّ الولد، حيث إنَّ الإجماع مُنعقِدٌ على جواز بيع الجارية قبل أن يستولدها سَيِّدُها فتلد له ولدًا ، فيبقى هذا الإجماع مستمرًّا حكمُه إلى ما بعد الحمل والولادة بمقتضى استصحاب الحال؛ لأنَّ الولادة لا تزيل الحكم المجمعَ عليه، والجمهورُ يمنعون الاستدلال بمجرَّد الاستصحاب؛ لأنَّ انعقاد الإجماع إنما كان على صِفَةٍ وهي قبل أن يستولد الجارية سيِّدها، وهذه الصفة كانت قبل محلِّ النِّزاع، فلا يستلزم الإجماع على صفة أخرى وهي ما بعد الحمل والولادة؛ لأنَّ شرطَ الاستصحاب بقاءُ الحال على الصفة التي كانت وقت الحكم، فإذا تغيَّرت الصفةُ وهي مَنَاطُ الحُكم تغيَّر موجب الحكم لزوال تلك الصفة، فيخضع الأمر لحكم آخر، لذلك عدَّها المصنِّف طريقةً غير صحيحةٍ من الاستدلال.
ومثاله -أيضًا-: انعقادُ الإجماعِ على صِحَّة صلاةِ المتيِّمم الفاقد للماء، فإذا وجد الماءَ قبل دخوله في الصلاة بَطَلَ تيمُّمُهُ، فلا تصحُّ الصلاة به، لكن إذا لم يجد الماء وتيمَّم، ودخل في الصلاة، فهل يستصحب حكم الإجماع وهو صحة الصلاة عند فَقْدِ الماء أم لا تصحُّ صلاته لتغيُّر الحال من فقد الماء إلى وجوده ؟
وهذه المسألة ترجع إلى استصحاب حكم الإجماع في محلِّ الخلاف، وقد اختلف العلماء في صِحَّتِهِ، فنفاه أكثرُ الحنفية والمالكية والحنابلةِ وبعضُ الشافعية، وأثبته الشافعيُّ، وبه قال المزني وأبو ثور والصيرفي، واختاره الآمديُّ وابنُ الحاجب وابنُ القيم، وهو مذهب داود الظاهري(20) -كما تقدَّم-.
وعُمدةُ المثبتين لاستصحاب الإجماع في محلِّ النِّزاع -مع اعترافهم بأنه لا إجماعَ في محلِّ النِّزاع- أنه لا يجب الانتقال عن حُكم الأصل إلاَّ بدليلٍ ناقلٍ، وتبدُّلُ حال المحلِّ المجمَعِ على حكمه أوَّلًا كتبدّل زمانه ومكانه وشخصه، وهذه الأوصاف لا تمنع استصحاب ما ثبت له قبل التبدّل، حتى يقوم الدليل على أنَّ الوصف ناقلٌ للحكم مُثبتٌ لضِدِّه، كما جعل الدباغ ناقلًا لحكم نجاسة الجِلد، فقبل الدِّباغ فالنجاسة باقيةٌ، فإنَّ هذا يوجب سقوط استصحاب حكم الإجماع؛ لأنَّه رفع بما ثبت من الحكم، أمَّا مجرّد النِّزاع فلا يقوى على رفع استصحاب حكم الإجماع إلاَّ أن يقوم الدليلُ على أنَّ ذلك الوصفَ الحادثَ جعله الشارع دليلًا على نقل الحكم، وحينئذٍ يكون معارضًا في الدليل، لا قادحًا في الاستصحاب(21).
وقد أجاب المصنِّف على ذلك بقوله: «لأنَّ الإجماع لا يتناول موضع الخلاف»، أي: لا إجماعَ مع الخلاف؛ لأنَّ الخلافَ يُضادُّ الإجماعَ، فليس هناك ما يستصحب؛ ولأنَّ الاستصحاب يكون لأمرٍ ثابتٍ فيُستصحب ثبوتُه، أو مُنتف فيُستصحب نفيُه، فلا يكون الإجماع حُجَّةً في الموضوع الذي لا إجماع فيه(22)، فضلًا عن ذلك فإنَّ هذا الضرب من استصحاب محلِّ الخلاف يؤدِّي إلى تكافؤ الأدلَّة، إذ كلٌّ من المتنازعين يصحُّ له أن يستصحب الإجماعَ في محلِّ النِّزاع على الوجه الذي يوافق مذهبَه، فقد يَستدِلُّ أحدُهما على صِحة صلاته بالتيمُّم قبل رؤية الماء بالإجماع، ويستصحب هذه الحالةَ إلى ما بعد رؤية الماء أثناء الصلاة، ثمَّ يُصَحِّحُها بهذا النوع من الاستصحاب، وقد يستدلُّ غيرُه على عدم صحة صلاة المتيمِّم عند رؤية الماء قبل الصلاة إذا صَلَّى بالإجماع، ثمَّ يستصحب هذه الحالة إلى أثناء الصلاة، فيحكم على صلاته بالبطلان بنفس هذا النوع من الاستصحاب(23).
ومن جهة أخرى، فقد استدلَّ المصنِّف على عدم حُجِّية هذا الاستصحاب بالقياس على «ألفاظ الشارع إذا تناولت موضعًا خاصًّا لم يصحَّ الاحتجاجُ بها في الموضع الذي لا تتناوله»، وقد يرد على هذا القياس أنَّ ألفاظ الشرع لا تخلو من حُكمٍ شرعيٍّ فإذا ثبت بالدليل تناوله موضعًا خاصًّا فإنَّه يخرج من العموم ويبقى الباقي على عمومه.
ومن هنا يظهر أنَّ الخلاف بين أهل العلم معنوي له آثاره المترتّبة عليه، فمن رأى حُجّية استصحاب حُكم الإجماع في محلِّ الخلاف قال بجواز بيع أم الولد بعد الحمل، كما قال بصحة صلاة المتيمم أثناء الصلاة بعد رؤية الماء، خلافًا لمن لم يحتجَّ به، ونظيرُ هذه المسألة اختلافُهم فيما إذا شرع المتمتِّع في الصوم لعدم وجود الهدي، ثمَّ وجده، فهل يجب عليه الخروج من الصوم إلى الهدي، أو أنه يجزيه الصوم ولا يلزمه الهدي ؟ مع إجماعهم على أنَّ المتمتِّع بالحجِّ يجب عليه الهدي إن قدر عليه، فإن لم يجده وجب عليه الصوم لقوله تعالى: ﴿فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ﴾ [البقرة: 196].
ومذهبُ الأئمَّة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد على أنه إذا شرع في الصوم انتقل الواجب عليه من الهدي إلى الصوم، فإذا وجد الهدي لم يلزمه الخروج من الصوم، خلافًا لأبي حنيفة فإنَّه إذا وجد الهدي أثناء صوم الأيام الثلاثة أو بعدها قبل يوم النحر، وجب عليه الخروج من الصوم إلى الهدي(24)، ولهذا الأصل آثار فقهية أخرى.
هذا، والمصنِّف قسَّم استصحاب الحال إلى ضربين، لكن علماء الأصول يضيفون عليهما أقسامًا أخرى منها:
w استصحابُ ما دلَّ العقلُ والشرعُ على ثبوتِه ودوامه لوجودِ سببِهِ: كدوام حلّ الزوجة بعد ثبوت عقد الزوجية، وكالملك عند جريان العقد، فإنه يثبت حتى يوجد ما يزيله، وكشغل الذِّمَّة بدفع الشيءِ المتلَف وضمانه عند وجود سببه -وهو الإتلاف- فإنَّ هذه الذِّمَّةَ تبقى مشغولةً حتى يَرِدَ ما يُزيلُه، وهذا النوعُ من الاستصحاب حُجَّةٌ عند المالكية والشافعية والحنابلة مُطلقًا ما لم يثبت مُعارِضٌ، وهو عند الأحناف حُجَّةٌ في الدَّفع وإبداء العذر لا في الإثبات.
w استصحاب الوصف المثبت للحكم الشرعي حتى يثبت خلافُه: كاستصحاب الطهارة إذا شكَّ في الحَدَثِ حتى يثبت الحدثُ، فالطهارة وَصْفٌ مستصحب لإباحة الصلاة، وحياة المفقود تستمرُّ ثابتةً حتى يقوم الدليلُ على خلاف ذلك، والكفالةُ وصفٌ شرعيٌّ يستمرُ ثابتًا حتى يُؤدِّي الدَّينَ أو يبرأَ منه، وقد ذكر ابنُ القيِّم -رحمه الله- أنه لا خلافَ بين هذا النوع والذي قبله، وإن تنازع الفقهاء في بعض أحكامه، لتجاذب المسألة أصلين متعارضين(25).
w استصحاب العموم إلى أن يَرِدَ دليلٌ مُخصِّصٌ، واستصحاب النصّ حتى يَرِدَ النَّسْخُ: وهذا القسم -أيضًا- محلُّ اتفاقِ العلماء على وجوب العمل به.
w استصحاب الحكم العقليّ عند المعتزلة، فإنَّ العقل يحكم عندهم في بعض الأشياء إلى أن يرد الدليل السمعيُّ، وقد أجمع أهلُ السُّنَّة على إبطاله؛ لأنه لا حُكم للعقل في الشرعيات(26).
وتجدر الملاحظة إلى أنَّ الاستصحابَ لا يعتمد عليه إلاَّ بعد انتفاء الأدلَّة الشرعية الصالحة للاحتجاج من الكتاب والسُّنَّة والإجماع والقياس وغيرها، فهو آخِرُ ما تدور عليه الفتوى لكونه أضعف الأدلة(27)، كما لا يجوز من جهة أخرى تحميل الاستصحاب أكثر ما يستحقُّه؛ لأنَّ غالبَ نفاة القياس ممَّن توسَّعوا في الاستصحاب فهموا من النصِّ حُكمًا أثبتوه مع نفيهم لما يتضمَّنه من إشارة أو إيماء أوإلحاق، فعملوا بموجب الاستصحاب لعدم علمهم بالناقل وتوسَّعوا في العمل به على العمل بمقتضى النص(28).
فصل
[ في حكم الأشياء المنتفَع بها قبل ورود الشرع ]
• قال الباجي -رحمه الله- في [ص 325]:
«... فَلَيْسَ فِي العَقْلِ حَظْرٌ وَلاَ إِبَاحَةٌ، وَإِنَّمَا ثَبَتَتِ الإِبَاحَةُ وَالتَّحْرِيمُ بالشَّرْعِ، وَالبَارِي تَعَالىَ يُحَلِّلُ مَا يَشَاءُ وَيُحَرِّمُ مَا يَشَاءُ، هَذَا قَوْلُ جَمْهُورِ أَصْحَابناَ».
[م] لا خلاف بين أهل العلم في أنَّ الحاكمَ الذي يدرك الأحكام ويُظهرها ويكشف عنها بعد البعثة وبلوغ الدعوة إنما هو الشرع الذي جاء به النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم، فالأصل -إذن- في الأشياء بعد مجيء الرسل وَوُرُودِ الشرع على الإباحة وهي إباحة شرعية، لقوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا﴾ [البقرة: 29]، وقولِه صلى الله عليه وآله وسلم: «...وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ»(29)، فيكون الأصلُ في الأشياء والمنافعِ والمكاسبِ والعادات العفوُ فلا يحظر منها إلاَّ ما حَرَّمهُ الله تعالى، وإلاَّ دخلنا في معنى قوله تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً﴾ [يونس: 59].
أمَّا العباداتُ فالأصلُ فيها التوقيف فلا يُشرع منها إلاَّ ما شرعه، وإلاَّ دخلنا في معنى قوله تعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللهُ﴾ [الشورى: 21](30).
أمَّا قبل ورود الشرع فلا تحريمَ ولا تحليلَ ولا شرعَ فالواجب التوقّف، لأنَّ العقل لا مدخلَ له في الحظر والإباحة(31)، وهو مذهب جمهور العلماء خلافًا للمعتزلة القائلين بأنَّ كلَّ شيءٍ ثابتٍ بالشرع ثابت قبله بالعقل، وإنَّما جاء الشرع مقرِّرًا ومؤكِّدًا لحكم العقل، وهذا الأصل مبني على مذهبهم في التحسين والتقبيح العقليين، ولا شكَّ في بطلان هذا المذهب لما فيه من ترتيب حكم الشرع على حكم العقل من جهة(32)؛ ولأنَّ ما عرف حسنه وقبحه عن طريق العقل والفطرة لا يترتَّب عليه مدحٌ ولا ذمٌّ ولا ثوابٌ ولا عقابٌ ما لم يَرِدْ حُكمُه بالشرع من جهة أخرى؛ ولأنَّ الدليلَ الشرعيَّ أثبت ذلك على من قامت عليه الحُجَّة بالرسل والكتب، وعليه فلا يجوز إعطاء ما بعد الشرع حكم ما قبل الشرع(33).
[ في تقرير الأصل في الأشياء عند المخالفين للجمهور ]
• وقال الباجي -رحمه الله- عن المخالفين من المالكية للجمهور:
«قَالَ أَبُو بَكْرٍ الأَبْهَرِيُّ: «الأَشْيَاءُ فِي الأَصْلِ عَلىَ الحَظْرِ»، وَقَالَ أَبُو الفَرَجِ المَالِكِيُّ: «الأَشْيَاءُ فِي الأَصْلِ عَلَى الإِبَاحَةِ»».
[م] ما ذهب إليه أبو بكر الأبهري وأبو الفرج الليثي المالكيان في القول بالحظر والإباحة وإن وافقوا المعتزلة في النتيجة والحكم إلاَّ أنهم يخالفونهم في المبنى والأصل، إذ أنهم لم يحكِّموا العقلَ فيما يمكن أن يعرفه حسنًا أو قبحًا، وإنما استدلَّ كُلُّ واحدٍ منهما بالنصوص الشرعية القاضية بالمنع والحظر، أو بالإباحة والجواز.
فأبو بكر الأبهري استدلَّ بقوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ﴾ [المائدة: 4]، وقوله تعالى: ﴿أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ﴾ [المائدة: 1]، وغيرها من النصوص الشرعية الدالَّة على أنَّ الأشياءَ قبل ورود الشرع على الحظر، بينما استدلَّ أبو الفرج المالكي بقوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا﴾ [البقرة: 29]، وقوله تعالى: ﴿قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ [طه: 50]، وغيرها من النصوص الشرعية الدالَّة على أنَّ الأشياء قبل ورود الشرع على الإباحة(34).
هذا، وقد اعتبر بعضُ العلماء عقد هذه المسألة في كتب الأصول حشوًا لا فائدةَ منها؛ لأنَّ مجيءَ الشرع كافٍ لمعرفة حكم هذه الأشياء، علمًا أنَّ وقوع هذه المسألة ممتنع؛ لأنَّ الأرض لم تخلُ من نبيٍّ مرسل، لقوله تعالى: ﴿وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خلاَ فِيهَا نَذِيرٌ﴾ [فاطر: 24]، ولكن يمكن سحب الحكم قبل ورود الشرع على من جهل الحكم وهو بعيد عن مجال وصول التبليغ كمن ولد في جزيرة أو نشأ في برية(35).
فصل
[ في صحة لزوم الدليل على نافي الحكم ]
• قال الباجي -رحمه الله- في [ص 326]:
«مَنِ ادَّعَى نَفْيَ حُكْمٍ وَجَبَ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ كَمَا يَجِبُ ذَلِكَ عَلىَ مَنْ أَثْبَتَهُ...». "يتبع".
1- «تفسير القرطبي» (10/78).
2- «إرشاد الفحول» للشوكاني (248).
3- أخرجه أحمد في «مسنده» (4/34، 5/363)، وابن أبي شيبة في «المصنف» (1/434 (4997)، عن رجل من أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم، والحديث صحَّحه الألباني في «السلسة الصحيحة» (4/405 (1796)، وفي «صحيح الجامع» (3/62 (3025).
4- أخرجه أبو داود (1/56) برقم (70) في «كتاب الطهارة» باب: البول في الماء الراكد، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والحديث صحَّحه الألباني في «صحيح أبي داود» (1/30)، وفي «صحيح الجامع» (6/211) برقم (7471).
5- راجع «المسودة» لآل تيمية (140-141)، «بدائع الفوائد» لابن القيم (4/183-184)، «إرشاد الفحول» للشوكاني (248).
6- انظر المصادر الأصولية المثبتة على هامش «الإشارة» (ص 321).
7- هو أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الأنصاري الكوفي، الإمام المجتهد صاحب أبي حنيفة وناشر مذهبه، وأول شيخ للإمام أحمد، تولى منصب القضاء ببغداد في عهد الخليفة المهدي، وظل يقضي بين الناس إلى وفاته سنة (182ه)، من مؤلفاته: «كتاب الخراج»، و«كتاب الجوامع»، و«اختلاف الأمصار»، وغيرها.
انظر ترجمته في: «الطبقات الكبرى» لابن سعد (7/330)، «الفهرست» للنديم (256)، «طبقات الشيرازي» (134)، «تاريخ بغداد» للخطيب البغدادي (14/242)، «وفيات الأعيان» لابن خلكان (6/378)، «الكامل» لابن الأثير (6/159)، «البداية والنهاية» لابن كثير (10/180)، «سير أعلام النبلاء» (8/535)، «دول الإسلام» كلاهما للذهبي (1/117)، «مرآة الجنان» لليافعي (1/382)، «الجواهر المضيئة» للقرشي (3/611)، «لسان الميزان» لابن حجر (6/300)، «طبقات الحفاظ» للسيوطي «127)، «شذرات الذهب» لابن العماد (1/298).
8- هو أبو علي الحسن بن الحسين القاضي البغدادي، المعروف بابن أبي هريرة، أحد أئمة الشافعية، انتهت إليه إمامة العراقيين، درَّس ببغداد، وتخرج عليه خلق كثير، من مؤلفاته: «شرح مختصر المزني»، وله مسائل محفوظة في الفروع، توفي سنة (345ه). انظر ترجمته في: «طبقات الفقهاء» للشيرازي (112)، «تاريخ بغداد» (7/298)، «طبقات الشافعية» للسبكي (3/256)، «وفيات الأعيان» لابن خلكان (2/75)، «مرآة الجنان» لليافعي (2/337)، «سير أعلام النبلاء» للذهبي (15/430)، «البداية والنهاية» لابن كثير (11/304)، «شذرات الذهب» لابن العماد (2/370)، «الفتح المبين» للمراغي (1/193).
9- أخرجه البخاري (3/262)، ومسلم (1/207)، وغيرهما.
10- أخرجه البخاري في «صحيحه» معلقًا، كتاب «العمرة»، باب وجوب العمرة وفضلها، والبيهقي في سننه (4/351)، وعزاه ابن حجر في «التلخيص الحبير» (2/227) للشافعي وسعيد ابن منصور والحاكم، وانظر: «فتح الباري» له (3/738).
11- «التبصرة» للشيرازي (230).
12- «شرح الكوكب المنير» للفتوحي (3/260).
13- «التمهيد» للإسنوي (273).
14- أخرجه أبو داود (3/740) رقم (3462)، والبيهقي في «سننه الكبرى» (5/316)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، والحديث صحَّحه الألباني في «السلسلة الصحيحة» (1/15) رقم (11) وفي «صحيح أبي داود» (2/365).
15- «نيل الأوطار» للشوكاني (6/364).
16- «تخريج الفروع على الأصول» للزنجاني (172).
17- «إعلام الموقعين» لابن القيم (1/339).
18- والمعتزلة يتَّفقون مع الجمهور في الفرع غير أنهم يخالفونهم في الأصل؛ لأنَّ مبنى مذهبهم التحسين والتقبيح العقليان؛ أي: أنَّ الحكم للعقل فيما أمكن أن يعرفه العقل ولا ينتقل عنه إلاَّ بدليل، وهو على تباين من مبنى مذهب الجمهور في أنَّ الأصل براءة الذِمَّة لعدم الدليل، وهو الصحيح بلا شك؛ لأنَّه لا حكم للأشياء والأعيان قبل ورود الشرع، أمَّا بعده فإنَّ الأشياء لا تخلو من حكم شرعي متمثِّل في نصٍّ خاصٍّ أو قياسٍ أو قاعدة شرعية عامَّة تندرج تحتها الفروع ولا تشذّ عنها. [«البرهان» للجويني (2/1135)، «المعتمد» لأبي الحسين (2/884)، «المستصفى» للغزالي (1/127)، «البحر المحيط» للزركشي (6/21)، «شرح الكوكب المنير» للفتوحي (4/304)].
19- انظر المصادر الأصولية المثبتة على هامش «الإشارة» (323).
20- انظر المصادر الأصولية المثبتة على هامش «الإشارة» (ص 325).
21- «إعلام الموقعين» لابن القيم (1/343).
22- المصدر السابق، «المستصفى» للغزالي (1/128).
23- المصدر السابق (1/341)، «روضة الناظر» لابن قدامة (1/392)، «شرح الكوكب المنير» للفتوحي (4/407).
24- «بداية المجتهد» لابن رشد (1/356)، «المغني» لابن قدامة (3/420)، «المجموع» للنووي (7/186)، «فتح القدير» لابن الهمام (2/207).
25- «إعلام الموقعين» لابن القيم (1/340).
26- انظر المصادر الأصولية المثبتة على هامش «الإشارة» (323).
27- «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (13/112).
28- المصدر السابق (23/16)، «إعلام الموقعين» لابن القيم (1/327).
29- أخرجه أبو داود في «الأطعمة» (3/157) برقم (3800) موقوفًا عن ابن عباس رضي الله عنهما، وصحَّحه الحاكم في «المستدرك» (4/115)، ووافقه الذهبي، كما صحَّح إسناده الألبانيُّ في «صحيح أبي داود» برقم (3800).
ورواه مرفوعًا الترمذي في «اللباس» (4/220)، برقم (1726)، وابن ماجه في «الأطعمة» (2/1117) برقم (3367) من حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه، قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعًا إلاَّ من هذا الوجه، ثمَّ قال: وكأنَّ الحديث الموقوف أصحّ. وهذا الحديث حسَّنه الألباني في «صحيح الترمذي» برقم(1726)، وفي «صحيح ابن ماجه» برقم (3366).
30- «الفقيه والمتفقه» للخطيب البغدادي (1/217)، «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (21/539، 540).
31- «روضة الناظر» لابن قدامة (1/119).
32- فعند أهل السُّنَّة أنَّ حُكم الأشياء وردت بالشرع ابتداء لا تبعًا للعقل، فالعقل تابع للشرع لا متبوع.
33- «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (21/539).
34- «شرح تنقيح الفصول» للقرافي (447).
35- «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (21/539).