أ/أحمد
05-08-2013, 02:53 PM
الأطفال في بيت النبوة -02-
عن أنس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خلقا : فأرسلني يوما لحاجة، فقلت :والله لا أذهب وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به نبي الله صلى الله عليه وسلم فخرجت حتى أمرّ على صبيان وهم يلعبون في السوق فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قبض بقفاي من ورائي قال فنظرت إليه وهو يضحك ،فقال : يا أنيس أذهبت حيث أمرتك ؟ قال: قلت : نعم أنا أذهب يا رسول الله .
في هذا الحديث قضايا تربوية تحتاج إلى بسط وشيء من التأمل :
أن ثناء أنس رضي الله عنه على خلق النبي صلى الله عليه وسلم وتقريره بأنه الأحسن والأكمل ، إنما كان عن دراية وخبرة اكتسبها من خدمته للنبي صلى الله عليه وسلم في بيته وفي أسفاره ،ولمواقف النبي صلى الله عليه وسلم التربوية معه رضي الله عنه في أحيان أخرى ، ومنها هذا الحديث ، وهذه الشهادة من أنس رضي الله عنه تفيد أن الطفل يلتقط بعينه أكثر مما يسمع بأذنيه ، فيجب على الآباء الانتباه لما يبدر منهم أمام أولادهم من تصرفات قد تؤثر سلبا على سلوكهم ردحا من الزمن.
في الحديث حرص الأولياء على القدوة بإرسالهم إلى من يرون فيه حسن الأسوة ؛ إذ إن تأثر أنس رضي الله عنه بخلق النبي صلى الله عليه وسلم وهديه يعود الفضل فيه بعد الله عز وجل لأسرته التي كانت تحرص على صلاحه وتأديبه وتربيته، فترسله إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليخدمه ويكون قريبا منه ، فيأخذ من سمته ودلّه وتوجيهاته ، فعن أنس رضي الله عنه قال : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ليس له خادم فأخذ أبو طلحة بيدي فانطلق بي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن أنسا غلام كيّس فليخدمك. قال فخدمته في السفر والحضر، ما قال لي لشيء صنعته :لم صنعت هذا هكذا ، ولا لشيء لم أصنعه : لم تصنع هذا هكذا. وعن أنس رضي الله عنه قال : "أخذت أم سليم بيدي مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فأتت بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله؛ هذا ابني ، وهو غلام كاتب ، قال : فخدمته تسع سنين فما قال لي لشيء قط صنعته أسأت أو بئسما صنعت ،وعن أنس رضي الله عنه قال : " : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وأنا ابن عشر سنين ، وتوفي وأنا ابن عشرين سنة ، وكن أمهاتي يحثثنني على خدمته .
ومن هنا أخذ العلماء مشروعية توكيل مؤدب أو معلم يتولى تربية وتعليم الأبناء إذا كانوا يرون فيه الأهلية والقدرة على رعاية الأطفال بقوله وفعله ،يقول القابسي رحمه الله : (( ويكون هذا المعلم قد حمل عن آباء الصبيان مؤونة تأديبهم ، ويبصرهم استقامة أحوالهم وما ينمي لهم في الخير أفهامهم، ويبعد عن الشر ما لهم، وهذه عناية لا يكثر المتطوعون لها )) وهي مسؤولية تقع على الوالدين في تتبع القدوات الصالحة لأبنائهم وانتقاءها ، وفي معرفة أثرها على الأبناء ، ولا يحسبن الوالد أو الأم أنه بمجرد إرسال الابن إلى المدرسة أو أي مكان للتأديب والتربية قد انتهت المهمة وبرئت الذمة، بل هما مطالبان شرعا برعايته ابتداء وانتهاء.قال ابن القيم نقلا عن بعض أهل العلم : (( إن الله يسأل الوالد عن ولده يوم القيامة قبل أن يسأل الولد عن والده فإنه كما أن للأب على ابنه حقاً، فللابن على أبيه حق، فكما قال تعالى : (ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا) قال تعالى (قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة) أي علموهم وأدبوهم كما قال علي رضي الله عنه ، ... فوصية الله للآباء بأولادهم سابقة على وصية الأولاد بآبائهم )) .
الأطفال في بيت النبوة-03-
عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه قال: خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم وأمامة بنت أبي العاص على عاتقه فصلى فإذا ركع وضعها وإذا رفع رفعها.
ففي هذا الحديث عدة فوائد تربوية منها :
فيه اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بالبنت الصغيرة صبية كانت أو جارية ، قولا أوفعلا ، ممازحة أو تقبيلا أو ملامسة، ويتأكد هذا الاهتمام في حمل النبي صلى الله عليه وسلم لأمامة بنت ابنته زينب رضي الله عنهاعلى عاتقه وهو في الصلاة. وقد بوّب البخاري على ذلك بباب "إذا حمل جارية صغيرة على عنقه في الصلاة ".
فيه دعوة للآباء إلى ضرورة العناية بهذا الجانب وعدم التهاون به والتهوين من شأنه، فقدوتنا ومربينا محمد صلى الله عليه وسلم ضرب لنا المثل الأعلى في ذلك؛ إذ كانت بناته وحفيداته وربيبته محل اهتمام ورعاية كبيرين منه صلى الله عليه وسلم، فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت:" ما رأيت أحدا كان أشبه كلاما وحديثا من فاطمة برسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت إذا دخلت عليه رحّب بها وقام إليها فأخذ بيدها فقبّلها وأجلسها في مجلسه". بل كان ربما ترك بنت غيره صلى الله عليه وسلم تلعب وتمرح في حجره ولا يتركها حتى تنصرف وقد أخذت حضها من اللعب والمزاح معه صلى الله عليه وسلم؛ فعن أم خالد بنت خالد بن سعيد قالت :أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي وعلي قميص أصفر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( سنه سنه ) . قال عبد الله وهي بالحبشية حسنة قالت فذهبت ألعب بخاتم النبوة فزبرني أبي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( دعها ) . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أبلي وأخلقي ثم أبلي وأخلقي ثم أبلي وأخلقي ) . قال عبد الله فبقيت حتى ذكر .وقد بوب البخاري على ذلك بباب من ترك صبية غيره حتى تلعب به أو قبلها أو مازحها ، والقبلة هنا هي قبلة الحنان والعطف والإشفاق لا قبلة شهوة، والممازحة للصبي لأجل تأنيسه وإزالة الوحشة عنه ،قال ابن حجر : إن الممازحة بالقول والفعل مع الصغيرة إنما يقصد به التأنيس ، كما اقتدى الصحابة رضي الله عنهم بالنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ، فأبو بكر الصديق الخليفة الأول للمسلمين رضي الله عنه وأرضاه كان يقبل ابنته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حيث روى البخاري عن البراء قال: "...فدخلت مع أبي بكر على أهله فإذا عائشة ابنته مضطجعة قد أصابتها حمّى فرأيت أباها يقبل خدّها وقال كيف أنت يا بنية"؟! قال في عون المعبود(1489):" قوله: يا بنية تصغير بنت للشفقة ،وقبّل خدّها : أي للمرحمة والمودة أو مراعاة للسنة قاله القاري".
الأطفال في بيت النبوة - 4 0-
3- في تحدّث النبي صلى الله عليه وسلم مع الصبية ببعض ألفاظ حبشية سببه أنها ولدت بالحبشة ، فمازحها ببعض مايجري على لسانها ، قال العيني: وإنما كان غرض رسول الله من التكلم بهذه الكلمة الحبشية استمالة قلبها لأنها كانت ولدت بأرض الحبشة قاله الكرماني : وفيه تنبيه إلى ضرورة مراعاة مناغاة الصبي بما يعقل ويحب أن يتحدث إليه به ،وقد ذكر المربون المسلمون في ذلك قاعدة تربوية : من كان له صبي فليتصابى له .ولا يعتبر ذلك من خوارم المروءة ،بل هو دليل العناية والرعاية الوالدية.
4- في حمل النبي صلى الله عليه وسلم لأمامة على عاتقه وهو مقبل على الصلاة ، وكذا رفعها ووضعها في الصلاة ، دل على استئناس أمامة بذلك واعتيادها منه صلى الله عليه وسلم لأنه لم يبدر منها مايدل على خوفها من تلك الهيئة ، ونظير ذلك ماكان يفعله صلى الله عليه وسلم مع الحسن والحسين رضي الله عنهما حيث كانا يدخلان عليه وهو على المنبر أو في الصلاة فربما نزل إليهما وحملهما ، لأنهما اعتادا على حنانه وعطفه في البيت ، فإذا كان يفعل معهما هذا الصنيع في المسجد وهو على المنبر أو الصلاة فمن باب أولى أن يكون هذا في البيت ، وفي هذا دليل على ضرورة إشباع الطفل عاطفيا ونفسيا في هذه المرحلة بالحنان والعطف والرعاية ، وأن يجعل البيت بيئة حميمة للطفل مشحونة بكل معاني الأنس والدفء .
5- "لذا يذهب كثير من الباحثين إلى أن المراحل الأولى من نمو البنت -وخاصة في الجانب النفسي - هي أهم مرحلة في بناء شخصية الفتاة، وإذا علمنا أن السنوات الخمس الأولى من عمرها إنما تقضيها بين أحضان أسرتها فإن المسؤولية الوالدية تتأكد في هذه المدة.
و إن من أهم واجبات الوالدين تجاه البنت توفير الدفء و الحنان و الشعور بالأمان و الرعاية النفسية بما يجعلها تقتنع بأنها في عالم لا ترغب في التمرد عليه أو الاستغناء عنه، أو البحث عن بدائل أخرى أكثر تجاوبا و تفهما لنفسيتها و حاجاتها.
البنت التي تشعر بأن أباها قريب منها يلامس شعرها ويقبّل خدها و يحضنها ويلعب معها هي محصّنة نفسيا – بإذن الله - ضد أي انحراف أو إغراء يمارس عليها خارج أسرتها بدعوى مصلحتها و الإشفاق عليها.
و دليل هذا أن كثيرا من التقارير الجنائية تعزو انجراف الفتاة نحو الرذيلة و السلوك المخل بالحياء إلى سوء المعاملة الوالدية والإهمال للبنت في صغرها، فيتولد لديها شعور بالحرمان العاطفي الذي تريد إشباعه بأي طريقة عند غيرهما، بل بعض الدراسات الميدانية تصرّح فيها البنت بكل مرارة أن أباها ما قبّلها يوما أو احتضنها حينا.
ومن صور الإشباع السلبي أن بعض المعلمات تتفاجأ باعترافات تلميذتها المراهقة حين تصارحها بأنها تشعر بميل وانجذاب عاطفي نحوها لا يفارقها ليلا ولا نهارا وأنها أصبحت عالمها الوحيد الذي لا يفارق مخيلتها، بل ربما زاد الأمر على حده إذا أشعرت أستاذتها بالانزعاج والقلق من اهتمامها بغيرها وربما أدى ذلك بدافع الغيرة الوهمية إلى كره زميلاتها في الفصل اللواتي ينافسنها معلمتها ومثلها الأعلى.
إن هذه الصور السلبية و غيرها مما أستحي أن أذكره ليدعو بإلحاح إلى ضرورة الاهتمام النفسي و الرعاية السلوكية للبنت الصغيرة وهي في محضن الأسرة تتفيأ في ظلالها أنس الحب و قبلة العطف ولمسة الحنان يغدقها الأبوان باستمرار على صغيرتهما فلا يحوجانها إلى غيرهما.
ولا يظن الأب أن توفير الحاجات المادية لابنته من جوال(نقال) و كمبيوتر ومصروف يومي وغرفة مؤثثة بكل ما يلزم كفيل بإشباع حاجاتها النفسية، بل ربما يكون لهذا أثر سلبي على سلوك الطفلة حين تسيء استخدامها؛ إذ يكرس دلالها المفرط ويشعرها بأنها كبيرة لها مطلق التصرف في ما تملكه. وتزداد الحالة سوءً إذا كانت البنت أكبر من أخيها الصغير الذي يحظى باهتمام الوالدين المبالغ فيه من احتضان وتقبيل على مرأى أخته التي ما عوملت بهذا اللطف في صغرها"
عن أنس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خلقا : فأرسلني يوما لحاجة، فقلت :والله لا أذهب وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به نبي الله صلى الله عليه وسلم فخرجت حتى أمرّ على صبيان وهم يلعبون في السوق فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قبض بقفاي من ورائي قال فنظرت إليه وهو يضحك ،فقال : يا أنيس أذهبت حيث أمرتك ؟ قال: قلت : نعم أنا أذهب يا رسول الله .
في هذا الحديث قضايا تربوية تحتاج إلى بسط وشيء من التأمل :
أن ثناء أنس رضي الله عنه على خلق النبي صلى الله عليه وسلم وتقريره بأنه الأحسن والأكمل ، إنما كان عن دراية وخبرة اكتسبها من خدمته للنبي صلى الله عليه وسلم في بيته وفي أسفاره ،ولمواقف النبي صلى الله عليه وسلم التربوية معه رضي الله عنه في أحيان أخرى ، ومنها هذا الحديث ، وهذه الشهادة من أنس رضي الله عنه تفيد أن الطفل يلتقط بعينه أكثر مما يسمع بأذنيه ، فيجب على الآباء الانتباه لما يبدر منهم أمام أولادهم من تصرفات قد تؤثر سلبا على سلوكهم ردحا من الزمن.
في الحديث حرص الأولياء على القدوة بإرسالهم إلى من يرون فيه حسن الأسوة ؛ إذ إن تأثر أنس رضي الله عنه بخلق النبي صلى الله عليه وسلم وهديه يعود الفضل فيه بعد الله عز وجل لأسرته التي كانت تحرص على صلاحه وتأديبه وتربيته، فترسله إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليخدمه ويكون قريبا منه ، فيأخذ من سمته ودلّه وتوجيهاته ، فعن أنس رضي الله عنه قال : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ليس له خادم فأخذ أبو طلحة بيدي فانطلق بي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن أنسا غلام كيّس فليخدمك. قال فخدمته في السفر والحضر، ما قال لي لشيء صنعته :لم صنعت هذا هكذا ، ولا لشيء لم أصنعه : لم تصنع هذا هكذا. وعن أنس رضي الله عنه قال : "أخذت أم سليم بيدي مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فأتت بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله؛ هذا ابني ، وهو غلام كاتب ، قال : فخدمته تسع سنين فما قال لي لشيء قط صنعته أسأت أو بئسما صنعت ،وعن أنس رضي الله عنه قال : " : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وأنا ابن عشر سنين ، وتوفي وأنا ابن عشرين سنة ، وكن أمهاتي يحثثنني على خدمته .
ومن هنا أخذ العلماء مشروعية توكيل مؤدب أو معلم يتولى تربية وتعليم الأبناء إذا كانوا يرون فيه الأهلية والقدرة على رعاية الأطفال بقوله وفعله ،يقول القابسي رحمه الله : (( ويكون هذا المعلم قد حمل عن آباء الصبيان مؤونة تأديبهم ، ويبصرهم استقامة أحوالهم وما ينمي لهم في الخير أفهامهم، ويبعد عن الشر ما لهم، وهذه عناية لا يكثر المتطوعون لها )) وهي مسؤولية تقع على الوالدين في تتبع القدوات الصالحة لأبنائهم وانتقاءها ، وفي معرفة أثرها على الأبناء ، ولا يحسبن الوالد أو الأم أنه بمجرد إرسال الابن إلى المدرسة أو أي مكان للتأديب والتربية قد انتهت المهمة وبرئت الذمة، بل هما مطالبان شرعا برعايته ابتداء وانتهاء.قال ابن القيم نقلا عن بعض أهل العلم : (( إن الله يسأل الوالد عن ولده يوم القيامة قبل أن يسأل الولد عن والده فإنه كما أن للأب على ابنه حقاً، فللابن على أبيه حق، فكما قال تعالى : (ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا) قال تعالى (قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة) أي علموهم وأدبوهم كما قال علي رضي الله عنه ، ... فوصية الله للآباء بأولادهم سابقة على وصية الأولاد بآبائهم )) .
الأطفال في بيت النبوة-03-
عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه قال: خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم وأمامة بنت أبي العاص على عاتقه فصلى فإذا ركع وضعها وإذا رفع رفعها.
ففي هذا الحديث عدة فوائد تربوية منها :
فيه اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بالبنت الصغيرة صبية كانت أو جارية ، قولا أوفعلا ، ممازحة أو تقبيلا أو ملامسة، ويتأكد هذا الاهتمام في حمل النبي صلى الله عليه وسلم لأمامة بنت ابنته زينب رضي الله عنهاعلى عاتقه وهو في الصلاة. وقد بوّب البخاري على ذلك بباب "إذا حمل جارية صغيرة على عنقه في الصلاة ".
فيه دعوة للآباء إلى ضرورة العناية بهذا الجانب وعدم التهاون به والتهوين من شأنه، فقدوتنا ومربينا محمد صلى الله عليه وسلم ضرب لنا المثل الأعلى في ذلك؛ إذ كانت بناته وحفيداته وربيبته محل اهتمام ورعاية كبيرين منه صلى الله عليه وسلم، فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت:" ما رأيت أحدا كان أشبه كلاما وحديثا من فاطمة برسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت إذا دخلت عليه رحّب بها وقام إليها فأخذ بيدها فقبّلها وأجلسها في مجلسه". بل كان ربما ترك بنت غيره صلى الله عليه وسلم تلعب وتمرح في حجره ولا يتركها حتى تنصرف وقد أخذت حضها من اللعب والمزاح معه صلى الله عليه وسلم؛ فعن أم خالد بنت خالد بن سعيد قالت :أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي وعلي قميص أصفر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( سنه سنه ) . قال عبد الله وهي بالحبشية حسنة قالت فذهبت ألعب بخاتم النبوة فزبرني أبي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( دعها ) . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أبلي وأخلقي ثم أبلي وأخلقي ثم أبلي وأخلقي ) . قال عبد الله فبقيت حتى ذكر .وقد بوب البخاري على ذلك بباب من ترك صبية غيره حتى تلعب به أو قبلها أو مازحها ، والقبلة هنا هي قبلة الحنان والعطف والإشفاق لا قبلة شهوة، والممازحة للصبي لأجل تأنيسه وإزالة الوحشة عنه ،قال ابن حجر : إن الممازحة بالقول والفعل مع الصغيرة إنما يقصد به التأنيس ، كما اقتدى الصحابة رضي الله عنهم بالنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ، فأبو بكر الصديق الخليفة الأول للمسلمين رضي الله عنه وأرضاه كان يقبل ابنته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها حيث روى البخاري عن البراء قال: "...فدخلت مع أبي بكر على أهله فإذا عائشة ابنته مضطجعة قد أصابتها حمّى فرأيت أباها يقبل خدّها وقال كيف أنت يا بنية"؟! قال في عون المعبود(1489):" قوله: يا بنية تصغير بنت للشفقة ،وقبّل خدّها : أي للمرحمة والمودة أو مراعاة للسنة قاله القاري".
الأطفال في بيت النبوة - 4 0-
3- في تحدّث النبي صلى الله عليه وسلم مع الصبية ببعض ألفاظ حبشية سببه أنها ولدت بالحبشة ، فمازحها ببعض مايجري على لسانها ، قال العيني: وإنما كان غرض رسول الله من التكلم بهذه الكلمة الحبشية استمالة قلبها لأنها كانت ولدت بأرض الحبشة قاله الكرماني : وفيه تنبيه إلى ضرورة مراعاة مناغاة الصبي بما يعقل ويحب أن يتحدث إليه به ،وقد ذكر المربون المسلمون في ذلك قاعدة تربوية : من كان له صبي فليتصابى له .ولا يعتبر ذلك من خوارم المروءة ،بل هو دليل العناية والرعاية الوالدية.
4- في حمل النبي صلى الله عليه وسلم لأمامة على عاتقه وهو مقبل على الصلاة ، وكذا رفعها ووضعها في الصلاة ، دل على استئناس أمامة بذلك واعتيادها منه صلى الله عليه وسلم لأنه لم يبدر منها مايدل على خوفها من تلك الهيئة ، ونظير ذلك ماكان يفعله صلى الله عليه وسلم مع الحسن والحسين رضي الله عنهما حيث كانا يدخلان عليه وهو على المنبر أو في الصلاة فربما نزل إليهما وحملهما ، لأنهما اعتادا على حنانه وعطفه في البيت ، فإذا كان يفعل معهما هذا الصنيع في المسجد وهو على المنبر أو الصلاة فمن باب أولى أن يكون هذا في البيت ، وفي هذا دليل على ضرورة إشباع الطفل عاطفيا ونفسيا في هذه المرحلة بالحنان والعطف والرعاية ، وأن يجعل البيت بيئة حميمة للطفل مشحونة بكل معاني الأنس والدفء .
5- "لذا يذهب كثير من الباحثين إلى أن المراحل الأولى من نمو البنت -وخاصة في الجانب النفسي - هي أهم مرحلة في بناء شخصية الفتاة، وإذا علمنا أن السنوات الخمس الأولى من عمرها إنما تقضيها بين أحضان أسرتها فإن المسؤولية الوالدية تتأكد في هذه المدة.
و إن من أهم واجبات الوالدين تجاه البنت توفير الدفء و الحنان و الشعور بالأمان و الرعاية النفسية بما يجعلها تقتنع بأنها في عالم لا ترغب في التمرد عليه أو الاستغناء عنه، أو البحث عن بدائل أخرى أكثر تجاوبا و تفهما لنفسيتها و حاجاتها.
البنت التي تشعر بأن أباها قريب منها يلامس شعرها ويقبّل خدها و يحضنها ويلعب معها هي محصّنة نفسيا – بإذن الله - ضد أي انحراف أو إغراء يمارس عليها خارج أسرتها بدعوى مصلحتها و الإشفاق عليها.
و دليل هذا أن كثيرا من التقارير الجنائية تعزو انجراف الفتاة نحو الرذيلة و السلوك المخل بالحياء إلى سوء المعاملة الوالدية والإهمال للبنت في صغرها، فيتولد لديها شعور بالحرمان العاطفي الذي تريد إشباعه بأي طريقة عند غيرهما، بل بعض الدراسات الميدانية تصرّح فيها البنت بكل مرارة أن أباها ما قبّلها يوما أو احتضنها حينا.
ومن صور الإشباع السلبي أن بعض المعلمات تتفاجأ باعترافات تلميذتها المراهقة حين تصارحها بأنها تشعر بميل وانجذاب عاطفي نحوها لا يفارقها ليلا ولا نهارا وأنها أصبحت عالمها الوحيد الذي لا يفارق مخيلتها، بل ربما زاد الأمر على حده إذا أشعرت أستاذتها بالانزعاج والقلق من اهتمامها بغيرها وربما أدى ذلك بدافع الغيرة الوهمية إلى كره زميلاتها في الفصل اللواتي ينافسنها معلمتها ومثلها الأعلى.
إن هذه الصور السلبية و غيرها مما أستحي أن أذكره ليدعو بإلحاح إلى ضرورة الاهتمام النفسي و الرعاية السلوكية للبنت الصغيرة وهي في محضن الأسرة تتفيأ في ظلالها أنس الحب و قبلة العطف ولمسة الحنان يغدقها الأبوان باستمرار على صغيرتهما فلا يحوجانها إلى غيرهما.
ولا يظن الأب أن توفير الحاجات المادية لابنته من جوال(نقال) و كمبيوتر ومصروف يومي وغرفة مؤثثة بكل ما يلزم كفيل بإشباع حاجاتها النفسية، بل ربما يكون لهذا أثر سلبي على سلوك الطفلة حين تسيء استخدامها؛ إذ يكرس دلالها المفرط ويشعرها بأنها كبيرة لها مطلق التصرف في ما تملكه. وتزداد الحالة سوءً إذا كانت البنت أكبر من أخيها الصغير الذي يحظى باهتمام الوالدين المبالغ فيه من احتضان وتقبيل على مرأى أخته التي ما عوملت بهذا اللطف في صغرها"