المتوكل بالله
07-25-2011, 12:40 PM
كلمات رائعة عن صوم رمضان
كلمات رائعة عن صوم رمضان
للعلامة الأديب البشير الإبراهيمي
قال العلامة السلفي والأديب الألمعي الشيخ محمد البشير الإبراهيمي الجزائري - رحمه الله - :
صوم رمضان محك للإرادات النفسية ، وقمع للشهوات الجسمية ، ورمز للتعبد في صورته العليا ، ورياضة شاقة على هجر اللذائذ والطيبات ، وتدريب منظّم على حمل المكروه من جوع وعطش وسكوت ، ودرس مفيد في سياسة المرء لنفسه ، وتحكُّمه في أهوائها ، وضبطه بالجد لنوازع الهزل واللغو والعبث فيها ، وتربية عملية لخُلق الرحمة بالعاجز المعدم ؛ فلولا الصوم لما ذاق الأغنياء الواجدون ألم الجوع ، ولما تصوَّروا ما يفعله الجوع بالجائعين ؛ وفي الإدراكات النفسية جوانب لا يُغني فيها السماع عن الوجدان ، ومنها هذا ؛ فلو أن جائعا ظلّ وبات على الطوى خمسا ، ووقف خمسا أخرى يصور للأغنياء البطان ما فعل الجوع بأمعائه وأعصابه ، وكان حالُه أبلغ في التعبير من مقاله ، لَما بلغ في التأثير فيهم ما تبلغه جوعة واحدة في نفس غني مترف .
لذلك كان نبيّنا إمام الأنبياء ، وسيّد الحكماء ، أجود ما يكون في رمضان .
ورمضان نفحة إلهية تهُبّ على العالم الأرضي في كل عام قمريّ مرة ، وصفحة سماوية تتجلّى على أهل هذه الأرض فتجلو لهم من صفات الله عطفه وبرّه ، ومن لطائف الإسلام حكمته وسرّه ؛ فينظر المسلمون أين حظهم من تلك النفحة ، وأين مكانهم في تلك الصفحة .
ورمضان " مستشفى " زماني يجد فيه كل مريض دواءَ دائه ؛ يستشفي فيه مرضى البخل بالإحسان ، ومرضى البطنة والنعيم بالجوع والعطش ، ومرضى الجوع والخصاصة بالشبع والكفاية .
ورمضان جبّار الشهور ، في الدهور ، مرهوب الصولة والدولة ، لا يقبل التساهل ولا التجاهل ، ومن غرائب شؤونه أن معظم صائميه من الأغفال ، وأن معظم جنده من الأطفال ، يستعجلون صومه وهم صغار ، ويستقصرون أيامه وهي طوال ، فإذا انتهك حرمته منتهك بثّوا حوله الأرصاد ، وكانوا له بالمرصاد ، ورشقوه ونضحوه ، و ( بهدلوه ) وفضحوه ؛ لا ينجو منهم مختفٍ في خان ، ولا مختبئ في حان ، ولا ماكر يغِشّ ، ولا آو إلى عشّ ، ولا متستّر بحُشّ ، ولا من يغيّر الشكل ، لأجل الأكل ، ولا من يتنكّر بحجاب الوجه ، ولا بسفور الرأس ، ولا برطانة اللسان ؛ كأنما لكل شيء في خياشيمهم رائحة ، حتى الهيئات والكلمات ؛ وهم قوم جريحهم جُبار الجرح ، وقتيلهم هدر الدم .
سبحان من ضيّق إحصارَه * وصيّر الأطفـال أنصارَه
وحرّك الريحيْن بشرى به * رُخاءَه الـهيْنَ وإعصارَه
ورمضان - مع ذلك كله - مجلى أوصاف للوُصاف : حرم أهل المجون مما يرجون ، وحبس لهم من مطايا اللهو ما يُزجون ؛ وأحال - لغمّهم - أيام الدجون ، كالليالي الجون ؛ فترِحوا لتجلّيه ، وفرحوا بتولّيه ، ونظموا ونثروا ، وقالوا فيه فأكثروا ، وأطلّ على الشعراء بالغارة الشعواء فهاموا وجنُّوا ، وقالوا فافتنّوا ؛ قال إمامهم الحكمي : إن أفضل يوم عنده أول شوال ، وقال الغالون منهم والقالون ما هو أشبه بهم . ولو لم يكن لآخرهم " شوقي " إلا : ( رمضان ولَّى ... ) لكفته ضلّة ، ودخنا في اليقين وعلّة ، والرجل جديد ، وله في العروبة باع مديد ، وفي الإسلام رأي سديد ، وفي الدفاع عنه لسان حديد ، ونحن نعرفه ، فلا نَفْرقه .
أما المعتدلون والمراءون فمنهم القائل :
شـهر الصيـام مبـارك * ما لـم يكن في شهـر آب
خفت العذاب فصمـتـه * فوقعت في عـين العـذاب
ومنهم القائل :
يا أخا الحارث بن عمرو بن بكر * أشهـورا نصوم أم أعواما
طال هذا الشهر المبـارك حتى * قد خشينـا بأن يكون لزاما
أما الوصف العبقريّ ، والوادي الذي طم على القَريّ ؛ فهو قول الحديث الموحى : " الصوم لي وأنا أجزي به " ، وحديث الصادق : " لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك " ، وحديث الصحيح : " للصائم فرحتان " ، وقول الكتاب المكنون : (( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون (( البقرة : 183 اهـ .
جريدة " البصائر " ( العدد 43 ، 12 يوليو 1948م ) ، عن " آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي " ( 3 / 476 - 478)
وقال - رحمه الله رحمة واسعة - :
يسمي الناس هذا الشهر العظيم بشهر الصوم ، أو شهر الإمساك فيقتصرون على الظاهر من أمره ، فيبتدئ التقصير منهم في جَنْبِه من تسميته بأهون خصائصه ، ووصفه بأيسر صفاته ، ووزنه بأخفّ الموازين ؛ وشيوع هذه المعاني السطحية بين الناس يُفضي بالنفوس إلى تأثّرات باطنية ، تبعدُها عن الحقائق العليا ، وتنزل بها إلى المراتب الدنيا ، وقد توجّهها إلى جهات معاكسة للوجهة المؤدية إلى الله ، ومن نتائج ذلك أن الناس أصبحوا يتعاملون مع الله على نحو من معاملة بعضهم بعضا ...
ما مسخ العبادات عندنا وصيّرها عادمة التأثير ؛ إلا تفسيرُها بمعاني الدنيا ، وتفصيلُها على مقاييسها ، فالخوف من الله كالخوف من المخلوق ، والرجاء في الله على وزن الرجاء في غيره ، ودعاؤه كدعاء الناس ، والتوكّل كالتوكّل ، والقرب كالقرب ، والعلاقات كالعلاقات ، وعلى هذه الأقيسة دخلت في المعاملات مع الله معاني التحيّل والمواربة والخلابة ، فدخلت معها معاني الإشراك ، فذهبت آثار العبادات وبقيت صُوَرُها ، فلم تنهَ الصلاة عن الفحشاء والمنكر ، ولم
يهذّب الصوم النفوس ، ولم يكفكف من ضراوتها ، ولم يزرع فيها الرحمة ، ولم يغرها بالإحسان .
ولو أن المسلمين فقهوا توحيد الله من بيان القرآن ، وآيات الأكوان ؛ لما ضلّوا هذا الضلال البعيد في فهم المعاملات الفرعية مع الله - وهي العبادات - ، وتوحيد الله هو نقطة البدء في طريق الاتصال به ، ومنه تبدأ الاستقامة أو الانحراف ؛ فمن وحّد الله حق توحيده ؛ قدره حق قدره ، فعرفه عن علم ، وعبده عن فهم ، ولم تلتبس عليه معاني الدين بمعاني الدنيا ، وإن كانت الألفاظ واحدة ...
أما شهر رمضان عند الأيقاظ المتذكّرين ، فهو شهر التجليات الرحمانية على القلوب المؤمنة ، ينضحها بالرحمة ، وينفح عليها بالرّوح ، ويخزها بالمواعظ ، فإذا هي كأعواد الربيع جدّةً ونضرة ، وطراوة وخضرة ، ولحكمة ما كان قمريًا لا شمسيًا ؛ ليكون ربيعًا للنفوس ، متنقلاً على الفصول ، فيروّض النفوس على الشدة في الاعتدال ، وعلى الاعتدال في الشدة .
إن رمضان يحرّك النفوس إلى الخير ، ويسكنها عن الشر ، فتكون أجود بالخير من الريح المرسلة ، وأبعد عن الشر من الطفولة البلهاء ، ويطلقها من أسر العادات ، ويحرّرها من رقّ الشهوات ، ويجتثّ منها فساد الطباع ، ورعونة الغرائز ، ويطوف عليها في أيّامه بمحكمات الصبر ، ومثبّتات العزيمة ، وفي لياليه بأسباب الاتصال بالله والقرب منه .
هو مستشفى زمانيّ ، يستطبّ فيه المؤمن لروحه بتقوية المعاني الملكية في نفسه ، ولبدنه بالتخفّف من المعاني الحيوانية .
وفي التعريف الفقهي للصوم بأنه إمساك عن شهوتين ؛ اقتصارٌ على ما يحقّق معناه الظاهري الذي تُناط به الأحكام بين الناس ، وتظهر الفروق ، فيقول الفقيه : هذا مجزئ ، وهذا غير مجزئ ، ويقول العامي : هذا مفطر ، وهذا صائم ، وأما حقيقة الصوم الكامل التي يُناط بها القبول عند الله ؛ فهو إمساك أشدّ وأشقّ لأنه يتناول الإمساك عن شهوات اللسان أيضا ؛ من كذب وغيبة ونميمة وشهادة زور وأيْمان غموس وخوض في الأعراض ، وغير ذلك مما يسمّى حصائد الألسنة . فالصائم الموفّق هو الذي يفطم لسانه عن هذه الشهوات الموبقة ، وأشدّها ضررًا الغيبة وإشاعة الفاحشة .
وهذا النوع من الإمساك يدخل في معنى الصوم لغة ، وفي مفهومه شرعًا ، ونصوص الدين تدل على أنه شرط في القبول ، مثل : " رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش " ، ومن اللطائف القرآنية أن الله - تعالى - وصف المغتاب بأنه : ( يأكل لحم أخيه ) ، وهذه الكناية البديعة تصوّر هذا النوع من الإفطار الخفيّ أبشع تصوير ، يستشعر السامع منه أن المأكول لحم إنسان ، وكفى به شناعة ، وبأنه ميت ، والميت يذكّر بالميتة ، وذلك أشنع وأبلغ في التنفير .
أما هذه الحالات التي أصبحت لازمةً للصوم بين المسلمين ، ويعتذرون لفاعلها بأنه صائم ؛ مثل سرعة الغضب والانفعال ، واللجاج في الخصومة على التوافه ، والاندفاع في السباب لأيسر الأسباب - فكله رذائل في غير رمضان ؛ فهي فيه أرذل ، لأنها تذهب بجمال الصوم وبأجره ، وكل قبيح اقترن بجميلٍ شانه ، وأذهب بهاءه ورونقه ، وكم رأينا من آثار سيئة ترتّبت على ذلك ، والجاهلون بسرّ الصوم وحكمه يعتقدون أن ذلك كلّه من آثار الصوم وعوارضه ، وكذبوا وأخطأوا .. فإن الصوم يؤثر في نفوس المؤمنين الضابطبن لنزواتهم عكسَ تلك الآثار : هدوء واطمئنان ، وتسامح وتحمّل ، وورَد لدفع ذلك من آداب النبوّة أمرُ الصائم إذا شارّه غيره أن يقول : إني صائم .
فعلى الدعاة إلى لحق والوعّاظ المذكّرين وخطباء المنابر أن يُحيوا آداب الصوم في نفوسهم ، ثم يذكّروا الناس بها حتى تحيا في نفوس الناس ، ومن صبر على الصوم المديد ، في الحر الشديد ، ابتغاء القرب من الله فليصبر على ما هو أهون .. ليصبر على الأذى المفضي إلى اللجاج المبعد عن الله اهـ .
جريدة " البصائر " ( العدد 232 ، 5 يونيو 1953م ) ، عن " آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي " ( 4 / 195 - 196 ، 198 -199).
كلمات رائعة عن صوم رمضان
للعلامة الأديب البشير الإبراهيمي
قال العلامة السلفي والأديب الألمعي الشيخ محمد البشير الإبراهيمي الجزائري - رحمه الله - :
صوم رمضان محك للإرادات النفسية ، وقمع للشهوات الجسمية ، ورمز للتعبد في صورته العليا ، ورياضة شاقة على هجر اللذائذ والطيبات ، وتدريب منظّم على حمل المكروه من جوع وعطش وسكوت ، ودرس مفيد في سياسة المرء لنفسه ، وتحكُّمه في أهوائها ، وضبطه بالجد لنوازع الهزل واللغو والعبث فيها ، وتربية عملية لخُلق الرحمة بالعاجز المعدم ؛ فلولا الصوم لما ذاق الأغنياء الواجدون ألم الجوع ، ولما تصوَّروا ما يفعله الجوع بالجائعين ؛ وفي الإدراكات النفسية جوانب لا يُغني فيها السماع عن الوجدان ، ومنها هذا ؛ فلو أن جائعا ظلّ وبات على الطوى خمسا ، ووقف خمسا أخرى يصور للأغنياء البطان ما فعل الجوع بأمعائه وأعصابه ، وكان حالُه أبلغ في التعبير من مقاله ، لَما بلغ في التأثير فيهم ما تبلغه جوعة واحدة في نفس غني مترف .
لذلك كان نبيّنا إمام الأنبياء ، وسيّد الحكماء ، أجود ما يكون في رمضان .
ورمضان نفحة إلهية تهُبّ على العالم الأرضي في كل عام قمريّ مرة ، وصفحة سماوية تتجلّى على أهل هذه الأرض فتجلو لهم من صفات الله عطفه وبرّه ، ومن لطائف الإسلام حكمته وسرّه ؛ فينظر المسلمون أين حظهم من تلك النفحة ، وأين مكانهم في تلك الصفحة .
ورمضان " مستشفى " زماني يجد فيه كل مريض دواءَ دائه ؛ يستشفي فيه مرضى البخل بالإحسان ، ومرضى البطنة والنعيم بالجوع والعطش ، ومرضى الجوع والخصاصة بالشبع والكفاية .
ورمضان جبّار الشهور ، في الدهور ، مرهوب الصولة والدولة ، لا يقبل التساهل ولا التجاهل ، ومن غرائب شؤونه أن معظم صائميه من الأغفال ، وأن معظم جنده من الأطفال ، يستعجلون صومه وهم صغار ، ويستقصرون أيامه وهي طوال ، فإذا انتهك حرمته منتهك بثّوا حوله الأرصاد ، وكانوا له بالمرصاد ، ورشقوه ونضحوه ، و ( بهدلوه ) وفضحوه ؛ لا ينجو منهم مختفٍ في خان ، ولا مختبئ في حان ، ولا ماكر يغِشّ ، ولا آو إلى عشّ ، ولا متستّر بحُشّ ، ولا من يغيّر الشكل ، لأجل الأكل ، ولا من يتنكّر بحجاب الوجه ، ولا بسفور الرأس ، ولا برطانة اللسان ؛ كأنما لكل شيء في خياشيمهم رائحة ، حتى الهيئات والكلمات ؛ وهم قوم جريحهم جُبار الجرح ، وقتيلهم هدر الدم .
سبحان من ضيّق إحصارَه * وصيّر الأطفـال أنصارَه
وحرّك الريحيْن بشرى به * رُخاءَه الـهيْنَ وإعصارَه
ورمضان - مع ذلك كله - مجلى أوصاف للوُصاف : حرم أهل المجون مما يرجون ، وحبس لهم من مطايا اللهو ما يُزجون ؛ وأحال - لغمّهم - أيام الدجون ، كالليالي الجون ؛ فترِحوا لتجلّيه ، وفرحوا بتولّيه ، ونظموا ونثروا ، وقالوا فيه فأكثروا ، وأطلّ على الشعراء بالغارة الشعواء فهاموا وجنُّوا ، وقالوا فافتنّوا ؛ قال إمامهم الحكمي : إن أفضل يوم عنده أول شوال ، وقال الغالون منهم والقالون ما هو أشبه بهم . ولو لم يكن لآخرهم " شوقي " إلا : ( رمضان ولَّى ... ) لكفته ضلّة ، ودخنا في اليقين وعلّة ، والرجل جديد ، وله في العروبة باع مديد ، وفي الإسلام رأي سديد ، وفي الدفاع عنه لسان حديد ، ونحن نعرفه ، فلا نَفْرقه .
أما المعتدلون والمراءون فمنهم القائل :
شـهر الصيـام مبـارك * ما لـم يكن في شهـر آب
خفت العذاب فصمـتـه * فوقعت في عـين العـذاب
ومنهم القائل :
يا أخا الحارث بن عمرو بن بكر * أشهـورا نصوم أم أعواما
طال هذا الشهر المبـارك حتى * قد خشينـا بأن يكون لزاما
أما الوصف العبقريّ ، والوادي الذي طم على القَريّ ؛ فهو قول الحديث الموحى : " الصوم لي وأنا أجزي به " ، وحديث الصادق : " لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك " ، وحديث الصحيح : " للصائم فرحتان " ، وقول الكتاب المكنون : (( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون (( البقرة : 183 اهـ .
جريدة " البصائر " ( العدد 43 ، 12 يوليو 1948م ) ، عن " آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي " ( 3 / 476 - 478)
وقال - رحمه الله رحمة واسعة - :
يسمي الناس هذا الشهر العظيم بشهر الصوم ، أو شهر الإمساك فيقتصرون على الظاهر من أمره ، فيبتدئ التقصير منهم في جَنْبِه من تسميته بأهون خصائصه ، ووصفه بأيسر صفاته ، ووزنه بأخفّ الموازين ؛ وشيوع هذه المعاني السطحية بين الناس يُفضي بالنفوس إلى تأثّرات باطنية ، تبعدُها عن الحقائق العليا ، وتنزل بها إلى المراتب الدنيا ، وقد توجّهها إلى جهات معاكسة للوجهة المؤدية إلى الله ، ومن نتائج ذلك أن الناس أصبحوا يتعاملون مع الله على نحو من معاملة بعضهم بعضا ...
ما مسخ العبادات عندنا وصيّرها عادمة التأثير ؛ إلا تفسيرُها بمعاني الدنيا ، وتفصيلُها على مقاييسها ، فالخوف من الله كالخوف من المخلوق ، والرجاء في الله على وزن الرجاء في غيره ، ودعاؤه كدعاء الناس ، والتوكّل كالتوكّل ، والقرب كالقرب ، والعلاقات كالعلاقات ، وعلى هذه الأقيسة دخلت في المعاملات مع الله معاني التحيّل والمواربة والخلابة ، فدخلت معها معاني الإشراك ، فذهبت آثار العبادات وبقيت صُوَرُها ، فلم تنهَ الصلاة عن الفحشاء والمنكر ، ولم
يهذّب الصوم النفوس ، ولم يكفكف من ضراوتها ، ولم يزرع فيها الرحمة ، ولم يغرها بالإحسان .
ولو أن المسلمين فقهوا توحيد الله من بيان القرآن ، وآيات الأكوان ؛ لما ضلّوا هذا الضلال البعيد في فهم المعاملات الفرعية مع الله - وهي العبادات - ، وتوحيد الله هو نقطة البدء في طريق الاتصال به ، ومنه تبدأ الاستقامة أو الانحراف ؛ فمن وحّد الله حق توحيده ؛ قدره حق قدره ، فعرفه عن علم ، وعبده عن فهم ، ولم تلتبس عليه معاني الدين بمعاني الدنيا ، وإن كانت الألفاظ واحدة ...
أما شهر رمضان عند الأيقاظ المتذكّرين ، فهو شهر التجليات الرحمانية على القلوب المؤمنة ، ينضحها بالرحمة ، وينفح عليها بالرّوح ، ويخزها بالمواعظ ، فإذا هي كأعواد الربيع جدّةً ونضرة ، وطراوة وخضرة ، ولحكمة ما كان قمريًا لا شمسيًا ؛ ليكون ربيعًا للنفوس ، متنقلاً على الفصول ، فيروّض النفوس على الشدة في الاعتدال ، وعلى الاعتدال في الشدة .
إن رمضان يحرّك النفوس إلى الخير ، ويسكنها عن الشر ، فتكون أجود بالخير من الريح المرسلة ، وأبعد عن الشر من الطفولة البلهاء ، ويطلقها من أسر العادات ، ويحرّرها من رقّ الشهوات ، ويجتثّ منها فساد الطباع ، ورعونة الغرائز ، ويطوف عليها في أيّامه بمحكمات الصبر ، ومثبّتات العزيمة ، وفي لياليه بأسباب الاتصال بالله والقرب منه .
هو مستشفى زمانيّ ، يستطبّ فيه المؤمن لروحه بتقوية المعاني الملكية في نفسه ، ولبدنه بالتخفّف من المعاني الحيوانية .
وفي التعريف الفقهي للصوم بأنه إمساك عن شهوتين ؛ اقتصارٌ على ما يحقّق معناه الظاهري الذي تُناط به الأحكام بين الناس ، وتظهر الفروق ، فيقول الفقيه : هذا مجزئ ، وهذا غير مجزئ ، ويقول العامي : هذا مفطر ، وهذا صائم ، وأما حقيقة الصوم الكامل التي يُناط بها القبول عند الله ؛ فهو إمساك أشدّ وأشقّ لأنه يتناول الإمساك عن شهوات اللسان أيضا ؛ من كذب وغيبة ونميمة وشهادة زور وأيْمان غموس وخوض في الأعراض ، وغير ذلك مما يسمّى حصائد الألسنة . فالصائم الموفّق هو الذي يفطم لسانه عن هذه الشهوات الموبقة ، وأشدّها ضررًا الغيبة وإشاعة الفاحشة .
وهذا النوع من الإمساك يدخل في معنى الصوم لغة ، وفي مفهومه شرعًا ، ونصوص الدين تدل على أنه شرط في القبول ، مثل : " رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش " ، ومن اللطائف القرآنية أن الله - تعالى - وصف المغتاب بأنه : ( يأكل لحم أخيه ) ، وهذه الكناية البديعة تصوّر هذا النوع من الإفطار الخفيّ أبشع تصوير ، يستشعر السامع منه أن المأكول لحم إنسان ، وكفى به شناعة ، وبأنه ميت ، والميت يذكّر بالميتة ، وذلك أشنع وأبلغ في التنفير .
أما هذه الحالات التي أصبحت لازمةً للصوم بين المسلمين ، ويعتذرون لفاعلها بأنه صائم ؛ مثل سرعة الغضب والانفعال ، واللجاج في الخصومة على التوافه ، والاندفاع في السباب لأيسر الأسباب - فكله رذائل في غير رمضان ؛ فهي فيه أرذل ، لأنها تذهب بجمال الصوم وبأجره ، وكل قبيح اقترن بجميلٍ شانه ، وأذهب بهاءه ورونقه ، وكم رأينا من آثار سيئة ترتّبت على ذلك ، والجاهلون بسرّ الصوم وحكمه يعتقدون أن ذلك كلّه من آثار الصوم وعوارضه ، وكذبوا وأخطأوا .. فإن الصوم يؤثر في نفوس المؤمنين الضابطبن لنزواتهم عكسَ تلك الآثار : هدوء واطمئنان ، وتسامح وتحمّل ، وورَد لدفع ذلك من آداب النبوّة أمرُ الصائم إذا شارّه غيره أن يقول : إني صائم .
فعلى الدعاة إلى لحق والوعّاظ المذكّرين وخطباء المنابر أن يُحيوا آداب الصوم في نفوسهم ، ثم يذكّروا الناس بها حتى تحيا في نفوس الناس ، ومن صبر على الصوم المديد ، في الحر الشديد ، ابتغاء القرب من الله فليصبر على ما هو أهون .. ليصبر على الأذى المفضي إلى اللجاج المبعد عن الله اهـ .
جريدة " البصائر " ( العدد 232 ، 5 يونيو 1953م ) ، عن " آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي " ( 4 / 195 - 196 ، 198 -199).