الواثقة بالله
12-26-2014, 10:12 PM
الحثّ على تعلّم العربيّة وتجنّب اللّحن
هذا الموضوع منقول من كتاب (المعجم في بقية الأشياء) لـ: "أبي هلال العسكري" (ت: حوالي 400 هـ)؛ وقد رأيت أن أنقل هذا الجزء من المقدمة لحثّه على تعلّم اللّغة العربيّة وإصلاح اللّسان، واجتناب اللّحن.
أفضل العلوم ما كان زينة وجمالا لأهلها، وعونا على حسن أدائها، وهو علم العربيّة المُوصِّل إلى صواب النُّطق ، المقيم لِزيغ اللّسان، الموجب للبراعة، المُنهج لسُبُل البيان بِجودة الإبلاغ، المُؤدِّي إلى محمود الإفصاح، وصدق العبارة عمّا تُجنُّه النُّفوس، ويُكنُّه الضّمير من كَريم المعاني وشرائفها، ( ومَا الإنسانُ لَولا اللِّسان)
وقد قيل : (المرءُ مخبُوءٌ تحتَ لِسانه)
وقلت: (الإنسانُ شَطران: لِسانٌ وجنَانٌ)
وهو كقول الشّاعر:
لِسانُ الفَتَى نِصفٌ ونِصفٌ فُؤادُهُ *** فَلَم يَبقَ إلاَّ صُورة اللَّحم والدَّمِ
وممَا اختصّ به علم العربيّة من الفضيلة أنّ كلَّ علم مُفتقر إليه، ولهذا تنافس فيه جِلَّةُ العلماء، وأعاظم الفُقهاء.
وأخبرنا أبو أحمد الحسن بن عبد الله بن سعيد، قال: أخبرنا عسل بن ذكوان، أخبرنا أبو عثمان المازني قال: سمعت سعيد بن أوس يقول: لقيت أبا حنيفة فحدّثني بحديث فيه : ( يدخُلُ الجنَّةَ قومٌ حُفاةٌ عُراةٌ مُنتِنينَ قَد محشَتهُمُ النَّار ) فقلت له: قوم منتنون قد محشتهُم النّار ؟ فقال لي: ممّن أنت ؟، قلت: من أهل البصرة، فقال: كلّ أصحابك مثلك، قلت: إنّي من أدونهم ، قال: طوبى لقوم أنتَ من أدونِهم .
وحدّثنا أبو أحمد، حدثنا أبو جزء، قال: حدثنا أبو العيناء ، حدّثنا الأصمعي، قال: قال لي شعبة: (والله لَو عرفتُ مَوضِعك قَبل هَذا للزِمتك)
وحدّثنا قال: قال حدثنا إبراهيم بن منده، حدثنا الحمال، حدثنا عبد الله بن عمر، قال: سمعتُ عبد الرحمن بن مهدي يقول: ( مَا ندِمتُ علَى شيءٍ نَدمِي أن لا أكون تعلَّمت العربيَّة )
وحدثنا عبد الحميد بن محمد، وعبد الحميد بن يحيى بن ضرار، حدثنا بدلُ بن المحبِّر قال سمعت شُعبة يقول: (تعلّموا العربيّة فإنّها تزيد في العقل )
وحدّثنا قال: حدّثنا أبو بكر الأنباري، حدثنا بشر بن موسى، حدثنا بلال الأشعري، حدثنا قيس بن عاصم، حدثنا مورق قال: ( قال لي عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ : ( تعلَّموا الفرائض والسُنن واللّحن كمَا تتعلَّمون القرآن )
قال أبو هلال: اللّحن : اللّغة، يقال : هذا بلحن بني تميم ، أي: بلغتهم ، ويقال: سمعت لحن الطّائر، ولغو الطّائر، وقد لغا يلغو لغوا، قال الشاعر:
بَاتَا عَلى غُصنِ بَانٍ فِي ذُرَا فَنَنٍ *** يُرَدِّدانِ لُحُونًا ذَاتَ ألوَانِ
وأنشد أبو أحمد:
بَاكرتُهُ بِسبَاءِ جَونٍ ذرَاع *** قبلَ الصَّباحِ وقبلَ لغوِ الطَّائِر
وأصل اللّغة : لُغوة فنقص، كما قيل: قُلَّة، وأصلها قُلوة، وقلاَهُ يقلُوهُ إذا ساقه سوقا شديدا.
وحدثنا أبو أحمد، حدثنا أبي، حدثنا عسل بن ذكوان، حدثنا الرياشي، حدثنا محمد بن سلام، قال: قال عثمان للحسن: ما تقول في رجل رَعُفَ في صلاته ؟ قال: مَا رَعُف ! ويحك! لعللّك تُريد رَعَف، فنظر البَتِّي بعد ذلك في العربيّة فصار فصيحا، وكان يقال له: (العربي) من فصاحته.
حدثنا أبو أحمد، حدثنا الزعفراني، حدثنا ابن أبي خيثمة، حدثنا محمد بن يزيد عن ابن بَراد عن القاسم ابن معن، قال: رأيت داود الطّائي يُكلّم أبا حنيفة في مسألة المُدَبَّرة(1)، فقال لأبي حنيفة: في حال حُرُورِيَّتِها(2) أو في حال أُمُوَّتها(3) فجعل أبو حنيفة لا يفهم.
وسمعت عمّ أبي، أبا سعيد الحسن بن سعيد يقول: صار أبو الحسن الكرخي إلى أبي عمر صاحب ثعلب في مسائل من العربيّة احتاج إليها في صناعة الفقه، فقال له أصحابه: أنت إمام المسلمين فكيف صرت إلى إمام المُعلِّمين ؟ فقال: أعجبتم من ذاك ؟ قالوا: نعم، قال: أعجبُ منه أنّ إمام المسلمين لا يُحسن ما يُحسنه إمام المعلّمين.
وحدّثنا أبو أحمد، حدثنا علي بن الحسين، حدثنا محمد ابن زكريا، حدثنا يعقوب بن جعفر بن سليمان، قال: سمعت أبي يُحدّث عن أبيه سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس عن العباس قال: (قلتُ يا رسول الله ما الجمال في الرّجل ؟ قال: فصاحة لسانه)
وحدثنا قال: حدثنا بكر بن عبد الله المحتسب، حدثنا أبي، حدثنا محمد بن الفضل البجائي، حدثنا إسماعيل بن سعيد الكسائي، حدثنا محمد بن الحسن عن سفيان الثوري، عن أبي حنيفة قال: سمعت عطاء بن أبي رباح يقول: دخلت على عمر ـ رضي الله عنه ـ يوما وعليّ ثياب جُدد، فقال: ( إنّ أوّل مروءة الإنسان نقاء ثيابه، ثمّ إصلاح لِسانِه، ثُمّ إصلاحُ مَعيشتِه، ثُمّ التفقُّه في دِين الله، والتحبُّب إلى عباد الله؛ إنّه من رُزقهُنّ فقد رُزق خير الدُّنيا والآخرة)
وحدثنا قال: حدثنا بكر بن عبد الله المحتسب، حدثنا أبي، حدثنا أبو عوانة محمد بن الحسن البصري في دار إسماعيل بن إسحاق القاضي، قال: حدثنا محمد بن سهل السوسي عن الأصمعي، عن عيسى ابن عمر النحوي، قال: ( أتيت الكوفة وقد كثر ذكر النّاس لأبي حنيفة، فأتيته فإذا رجل يسأله مسألة، فأجاب فيها فلحن في كلامه، فقلت: الرّجلُ ليسَ هُناكَ، وكان يرمقُني وأحسّ بإنكاري، فسبق بإصلاح ما كان منه ثمّ أضافني فأجبته، فلمّا طعِمنا جعل يَتتبَّع ما على الأرض من الفُتات فيلقيه في فيه، ويُخرِجُ ما بين أسنانه، فيلفظُه، ثم قال، كان يُقال: كُلِ الوَغمَ(4) وألقِ الفَغْم(5)) فاستحسنت أموره، وحدّثت أصحابنا بها.
أخبرنا أبو أحمد عن أبيه عن عسل عن ابن أبي السريّ عن ضمرة عن علي بن أبي حمَلة، قال: سمع عبد الملك بن مروان خالد بن يزيد يتكلّم فلَحن، فقال عبد الملك: (اللّحنُ في الكلام أقبَح من الجُدرِيِّ في الوجه)
وحدثنا نفطويه، قال: قال أبان بن عثمان ـ رضي الله تعالى عنهما ـ ( اللّحن في الرّجل ذي الهيئة كالتّفنين في الثّوب النّفيس) قال أبو احمد يقال: فنّنت الثّوب، أي خَرَقته، وإذا خرَّقه القُصَّار فقد فَنَّنه، وكل عيب فيه فهو تفنين، ومن ذلك تفنَّن في الرّأي، وانشد:
لاَقَى الذِي لاَقيتُهُ تَفَنُّنَا
قال أبو هلال: التفنين عندنا أن يكون بعض الثّوب صفيقا وبعضه رقيقا كأنّه غير منسوج، والمُتفنّن: الضعيف الجسد، من الفَنن وهو أعلى الغصن، والمُتَفَنِّن: صاحب الفنون من العلم والأدب.
وحدثنا أبو أحمد، حدثنا ابن دريد، حدثنا معاذ المؤدّب، حدثنا محمد بن شبيب عن العتبي، قال: سمعني أبي وأنا ألحن في الخَلوة، فقال: ( يا بُنيَّ، إنّ من لم يتعهّد لِسانَه في الخَلاء، كان وَشيكًا أن يخونه في الملأ)
وحدثنا قال: حدثنا أحمد بن كامل، حدثنا أبو العيناء عن الأصمعي، قال: دخلت على الرّشيد، فقال: (يا أصمعي ما أحسَنُ مَا مرَّ بكَ فِي تقويم اللِّسان ؟، فقلت: أوصى بعض العرب بنيه فقال: يا بنيّ أصلحوا ألسنتكم، فإنّ الرّجل تَنُوبُهُ النَّائِبة فيتَجمَّلً فيها، فيستعِيرُ من أخيه دَابَّتهُ، ومن صديقه ثَوبه، ولا يجد مَن يُعيرهُ لِسانُه )
وبإسناده قال: تكلَم ابن ثوابة يوما فتقعّر ثمَّ لَحَن، فقال أبو العيناء: ( تقعَّرتَ حتَّى خِفتُك، ثُمَّ تَكشَّفتَ حتَّى عِفتُك)
وحدثنا قال: حدثنا أبو عمران الأصبهاني، حدثنا محمد ابن إدريس قال: حكى علي بن الجعد شُعبة: ( مثَلُ صَاحبِ الحَديثِ إذَا لَم يُحسِن النَّحو والعربيَة، مَثلُ دَابَّة في رأسها مِخلاة ليسَ فيها شيء )، وأنشدنا عن نفطويه عن أحمد بن يحي:
إمَّا تَرَينِي وَأثوَابِ مُقاربَةٌ *** لضيسَت بِخَزٍّ وَلا مِن حُرِّ كَتَّانِ
فإنَّ فِي المجدِ هِمَّاتِي وَفِي لُغتِي *** عُلوِيَّةٌ وَلِسانِي غَيرُ لحَّانِ
وأنشدني قال: أنشدنا ابن الكوفي
وَإنِّي علَى مَا كَانَ مِن عُنجُهِيَّتِي *** وَلوْثَةِ(6) أعرابِيَّتِي لَفصِيحُ
وحدّثنا عن الصولي عن أبي خليفة عن محمد بن محبوب، قال: دخل أبو عمرو بن العلاء دار الزُّبير، وهي دار الدّقيق بالبصرة فقرأ على أعدال الدّقيق كتابا (لأبو فلان)، فقال: ( العَجَبُ يَلحنُونَ فَيربَحون)، وأخبرنا عن الصولي عن أحمد بن محمد الأسدي عن عيسى بن إسماعيل عن الأصمعي عن أبي عمرو قال: ذاكرني أبو حنيفة في شيء فقلت: (هذا بَشِع) ، فقال: (ما معنى بشِع ؟) فتعجَّبت من ذلك.
وحدثنا عن الصولي عن عمر بن عبد الرحمن الشلمي عن المازنيقال: سمع أبو عمرو بن العلاء أبا حنيفة يتكلّم في الفقه ويلحنن فاستحسن كلامه، واستقبح لحنه، فقال: (إنّهُ لخطابٌ لو ساعده صواب)ثمّ قال لأبي حنيفة (إنَّك أحوج إلى إصلاح لِسانِكَ من جمِيع النَّاس)
وحدثنا عن أبيه عن عسل بن ذكوان عن الخليل بن أسد عن عبد الله بن صالح عن حبان بن علي قال: قال ابن شبرمة: (ما رَأيت عَلى رجل لبَاسًا أحسن من فصاحة، إذا سرّك أن يصغُر في عينِك من كَان عظيما أو تعظُم في عَين مَن كنت عنده صغِيرا فتعلَّم العربيَة، فإنَّها تُجَرِّئك علَى المنطق وتُدنيكَ من السُّلطان )
وحدثنا بإسناده عن الأصمعي: رأى أعرابي رجلين يتكلّمان، أحدهما ألحنُ بحجَّته من الآخر: فقال: (البيانُ بَصر، والعيُّ عمًى)
وحدثنا أبو بكر بن أحمد بن سعدويه، حدثنا نصر بن علي، حدثنا الأصمعي، حدثنا عيسى بن عمر قال: قال رجل للحسن (أنا أفصحُ النّاس)، فقال: ( لاَ تقُل ذَاك)، فقال: ( فَخُذ عليَّ كلمةٌ واحدة، قال: هذه )
وحدثنا قال حدثنا الحسن بن محمد، حدثنا يموت بن المزرع، حدثنا الجاحظ قال: قال سهل بن هارون: ( العقلُ رائد الرُّوح، والعلم رائدُ العقل، والبيانُ ترجمانُ العلم)
قال: وقال صاحب المنطق (حدُّ الإنسان: الحيُّ النَّاطق، وحياة الحلم العلم، وحياةُ العلم البيان )
قال الشيخ أبو هلال: فعلم العربيّة على ما تَسمع من خاص ما يحتاج إليه الإنسان لجمال دنياه، وكمال آلته في علوم دينه، وعلى حسب تقدّم العالم فيه وتأخره يكون رجحانه ونقصه، إذا ناظر أو صنّف. وهذا أمر يُستغنى بشُهرته عن الاستشهاد له، والاحتجاج عليه، ومعلوم أنّ لكلّ معنى لفظا يُعبَّر به عنه، فمن جهل اللّفظ بكم عن المعنى،و لاشكّ أنّ من يريد النّظر في علم من العلوم فترك النّظر في ألفاظ أهله لم يصل إلى معرفة معانيهم، ولا نعرف اليوم علما جاهليا ولا إسلاميا إلاّ وأهله عربيّون متعرّبون يكتبونه باللّفظ العربي والحظّ العربي، فواجب عليهم في حكم صناعتهم أن يتقدّموا في علم العربية لتصحّ عباراتهم عن علومهم، وتتقدّم كتابتهم لها، ويسهل عليهم استخراج معاني قدمائهم فيها، ومن أخلّ منهم بشيء منها عدم من فهمه بحسبه، ومعلوم أنّ من يطلب الترسّل وقرض الشّعر وعمل الخطب، كان محتاجا لا محالة إلى التوسّع في علم اللغة خاصّة لتكثر عنده الألفاظ، فيتصرّف فيها بحسب مراده، ولا يضيق مجاله في مرتاده، وليعرف العلويَّ من الكلام فيستعمله، العاميَّ فيتَّقيه ويجتنِبه.
(1) المدبرة: الجارية التي علّق عتقها بموت سيدها.
(2) حروريتها: يقصد حريتها ( بمعنى الحرية)
(3) أموتها: من الأُموة، وهي العبودية، والأمة: المملوكة.
(4) الوغم: ما تساقط من الطعام.
(5) الفغم: ما يعلق بين الأسنان.
(6) الوثة: خلل عقلي (حمق).
هذا الموضوع منقول من كتاب (المعجم في بقية الأشياء) لـ: "أبي هلال العسكري" (ت: حوالي 400 هـ)؛ وقد رأيت أن أنقل هذا الجزء من المقدمة لحثّه على تعلّم اللّغة العربيّة وإصلاح اللّسان، واجتناب اللّحن.
أفضل العلوم ما كان زينة وجمالا لأهلها، وعونا على حسن أدائها، وهو علم العربيّة المُوصِّل إلى صواب النُّطق ، المقيم لِزيغ اللّسان، الموجب للبراعة، المُنهج لسُبُل البيان بِجودة الإبلاغ، المُؤدِّي إلى محمود الإفصاح، وصدق العبارة عمّا تُجنُّه النُّفوس، ويُكنُّه الضّمير من كَريم المعاني وشرائفها، ( ومَا الإنسانُ لَولا اللِّسان)
وقد قيل : (المرءُ مخبُوءٌ تحتَ لِسانه)
وقلت: (الإنسانُ شَطران: لِسانٌ وجنَانٌ)
وهو كقول الشّاعر:
لِسانُ الفَتَى نِصفٌ ونِصفٌ فُؤادُهُ *** فَلَم يَبقَ إلاَّ صُورة اللَّحم والدَّمِ
وممَا اختصّ به علم العربيّة من الفضيلة أنّ كلَّ علم مُفتقر إليه، ولهذا تنافس فيه جِلَّةُ العلماء، وأعاظم الفُقهاء.
وأخبرنا أبو أحمد الحسن بن عبد الله بن سعيد، قال: أخبرنا عسل بن ذكوان، أخبرنا أبو عثمان المازني قال: سمعت سعيد بن أوس يقول: لقيت أبا حنيفة فحدّثني بحديث فيه : ( يدخُلُ الجنَّةَ قومٌ حُفاةٌ عُراةٌ مُنتِنينَ قَد محشَتهُمُ النَّار ) فقلت له: قوم منتنون قد محشتهُم النّار ؟ فقال لي: ممّن أنت ؟، قلت: من أهل البصرة، فقال: كلّ أصحابك مثلك، قلت: إنّي من أدونهم ، قال: طوبى لقوم أنتَ من أدونِهم .
وحدّثنا أبو أحمد، حدثنا أبو جزء، قال: حدثنا أبو العيناء ، حدّثنا الأصمعي، قال: قال لي شعبة: (والله لَو عرفتُ مَوضِعك قَبل هَذا للزِمتك)
وحدّثنا قال: قال حدثنا إبراهيم بن منده، حدثنا الحمال، حدثنا عبد الله بن عمر، قال: سمعتُ عبد الرحمن بن مهدي يقول: ( مَا ندِمتُ علَى شيءٍ نَدمِي أن لا أكون تعلَّمت العربيَّة )
وحدثنا عبد الحميد بن محمد، وعبد الحميد بن يحيى بن ضرار، حدثنا بدلُ بن المحبِّر قال سمعت شُعبة يقول: (تعلّموا العربيّة فإنّها تزيد في العقل )
وحدّثنا قال: حدّثنا أبو بكر الأنباري، حدثنا بشر بن موسى، حدثنا بلال الأشعري، حدثنا قيس بن عاصم، حدثنا مورق قال: ( قال لي عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ : ( تعلَّموا الفرائض والسُنن واللّحن كمَا تتعلَّمون القرآن )
قال أبو هلال: اللّحن : اللّغة، يقال : هذا بلحن بني تميم ، أي: بلغتهم ، ويقال: سمعت لحن الطّائر، ولغو الطّائر، وقد لغا يلغو لغوا، قال الشاعر:
بَاتَا عَلى غُصنِ بَانٍ فِي ذُرَا فَنَنٍ *** يُرَدِّدانِ لُحُونًا ذَاتَ ألوَانِ
وأنشد أبو أحمد:
بَاكرتُهُ بِسبَاءِ جَونٍ ذرَاع *** قبلَ الصَّباحِ وقبلَ لغوِ الطَّائِر
وأصل اللّغة : لُغوة فنقص، كما قيل: قُلَّة، وأصلها قُلوة، وقلاَهُ يقلُوهُ إذا ساقه سوقا شديدا.
وحدثنا أبو أحمد، حدثنا أبي، حدثنا عسل بن ذكوان، حدثنا الرياشي، حدثنا محمد بن سلام، قال: قال عثمان للحسن: ما تقول في رجل رَعُفَ في صلاته ؟ قال: مَا رَعُف ! ويحك! لعللّك تُريد رَعَف، فنظر البَتِّي بعد ذلك في العربيّة فصار فصيحا، وكان يقال له: (العربي) من فصاحته.
حدثنا أبو أحمد، حدثنا الزعفراني، حدثنا ابن أبي خيثمة، حدثنا محمد بن يزيد عن ابن بَراد عن القاسم ابن معن، قال: رأيت داود الطّائي يُكلّم أبا حنيفة في مسألة المُدَبَّرة(1)، فقال لأبي حنيفة: في حال حُرُورِيَّتِها(2) أو في حال أُمُوَّتها(3) فجعل أبو حنيفة لا يفهم.
وسمعت عمّ أبي، أبا سعيد الحسن بن سعيد يقول: صار أبو الحسن الكرخي إلى أبي عمر صاحب ثعلب في مسائل من العربيّة احتاج إليها في صناعة الفقه، فقال له أصحابه: أنت إمام المسلمين فكيف صرت إلى إمام المُعلِّمين ؟ فقال: أعجبتم من ذاك ؟ قالوا: نعم، قال: أعجبُ منه أنّ إمام المسلمين لا يُحسن ما يُحسنه إمام المعلّمين.
وحدّثنا أبو أحمد، حدثنا علي بن الحسين، حدثنا محمد ابن زكريا، حدثنا يعقوب بن جعفر بن سليمان، قال: سمعت أبي يُحدّث عن أبيه سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس عن العباس قال: (قلتُ يا رسول الله ما الجمال في الرّجل ؟ قال: فصاحة لسانه)
وحدثنا قال: حدثنا بكر بن عبد الله المحتسب، حدثنا أبي، حدثنا محمد بن الفضل البجائي، حدثنا إسماعيل بن سعيد الكسائي، حدثنا محمد بن الحسن عن سفيان الثوري، عن أبي حنيفة قال: سمعت عطاء بن أبي رباح يقول: دخلت على عمر ـ رضي الله عنه ـ يوما وعليّ ثياب جُدد، فقال: ( إنّ أوّل مروءة الإنسان نقاء ثيابه، ثمّ إصلاح لِسانِه، ثُمّ إصلاحُ مَعيشتِه، ثُمّ التفقُّه في دِين الله، والتحبُّب إلى عباد الله؛ إنّه من رُزقهُنّ فقد رُزق خير الدُّنيا والآخرة)
وحدثنا قال: حدثنا بكر بن عبد الله المحتسب، حدثنا أبي، حدثنا أبو عوانة محمد بن الحسن البصري في دار إسماعيل بن إسحاق القاضي، قال: حدثنا محمد بن سهل السوسي عن الأصمعي، عن عيسى ابن عمر النحوي، قال: ( أتيت الكوفة وقد كثر ذكر النّاس لأبي حنيفة، فأتيته فإذا رجل يسأله مسألة، فأجاب فيها فلحن في كلامه، فقلت: الرّجلُ ليسَ هُناكَ، وكان يرمقُني وأحسّ بإنكاري، فسبق بإصلاح ما كان منه ثمّ أضافني فأجبته، فلمّا طعِمنا جعل يَتتبَّع ما على الأرض من الفُتات فيلقيه في فيه، ويُخرِجُ ما بين أسنانه، فيلفظُه، ثم قال، كان يُقال: كُلِ الوَغمَ(4) وألقِ الفَغْم(5)) فاستحسنت أموره، وحدّثت أصحابنا بها.
أخبرنا أبو أحمد عن أبيه عن عسل عن ابن أبي السريّ عن ضمرة عن علي بن أبي حمَلة، قال: سمع عبد الملك بن مروان خالد بن يزيد يتكلّم فلَحن، فقال عبد الملك: (اللّحنُ في الكلام أقبَح من الجُدرِيِّ في الوجه)
وحدثنا نفطويه، قال: قال أبان بن عثمان ـ رضي الله تعالى عنهما ـ ( اللّحن في الرّجل ذي الهيئة كالتّفنين في الثّوب النّفيس) قال أبو احمد يقال: فنّنت الثّوب، أي خَرَقته، وإذا خرَّقه القُصَّار فقد فَنَّنه، وكل عيب فيه فهو تفنين، ومن ذلك تفنَّن في الرّأي، وانشد:
لاَقَى الذِي لاَقيتُهُ تَفَنُّنَا
قال أبو هلال: التفنين عندنا أن يكون بعض الثّوب صفيقا وبعضه رقيقا كأنّه غير منسوج، والمُتفنّن: الضعيف الجسد، من الفَنن وهو أعلى الغصن، والمُتَفَنِّن: صاحب الفنون من العلم والأدب.
وحدثنا أبو أحمد، حدثنا ابن دريد، حدثنا معاذ المؤدّب، حدثنا محمد بن شبيب عن العتبي، قال: سمعني أبي وأنا ألحن في الخَلوة، فقال: ( يا بُنيَّ، إنّ من لم يتعهّد لِسانَه في الخَلاء، كان وَشيكًا أن يخونه في الملأ)
وحدثنا قال: حدثنا أحمد بن كامل، حدثنا أبو العيناء عن الأصمعي، قال: دخلت على الرّشيد، فقال: (يا أصمعي ما أحسَنُ مَا مرَّ بكَ فِي تقويم اللِّسان ؟، فقلت: أوصى بعض العرب بنيه فقال: يا بنيّ أصلحوا ألسنتكم، فإنّ الرّجل تَنُوبُهُ النَّائِبة فيتَجمَّلً فيها، فيستعِيرُ من أخيه دَابَّتهُ، ومن صديقه ثَوبه، ولا يجد مَن يُعيرهُ لِسانُه )
وبإسناده قال: تكلَم ابن ثوابة يوما فتقعّر ثمَّ لَحَن، فقال أبو العيناء: ( تقعَّرتَ حتَّى خِفتُك، ثُمَّ تَكشَّفتَ حتَّى عِفتُك)
وحدثنا قال: حدثنا أبو عمران الأصبهاني، حدثنا محمد ابن إدريس قال: حكى علي بن الجعد شُعبة: ( مثَلُ صَاحبِ الحَديثِ إذَا لَم يُحسِن النَّحو والعربيَة، مَثلُ دَابَّة في رأسها مِخلاة ليسَ فيها شيء )، وأنشدنا عن نفطويه عن أحمد بن يحي:
إمَّا تَرَينِي وَأثوَابِ مُقاربَةٌ *** لضيسَت بِخَزٍّ وَلا مِن حُرِّ كَتَّانِ
فإنَّ فِي المجدِ هِمَّاتِي وَفِي لُغتِي *** عُلوِيَّةٌ وَلِسانِي غَيرُ لحَّانِ
وأنشدني قال: أنشدنا ابن الكوفي
وَإنِّي علَى مَا كَانَ مِن عُنجُهِيَّتِي *** وَلوْثَةِ(6) أعرابِيَّتِي لَفصِيحُ
وحدّثنا عن الصولي عن أبي خليفة عن محمد بن محبوب، قال: دخل أبو عمرو بن العلاء دار الزُّبير، وهي دار الدّقيق بالبصرة فقرأ على أعدال الدّقيق كتابا (لأبو فلان)، فقال: ( العَجَبُ يَلحنُونَ فَيربَحون)، وأخبرنا عن الصولي عن أحمد بن محمد الأسدي عن عيسى بن إسماعيل عن الأصمعي عن أبي عمرو قال: ذاكرني أبو حنيفة في شيء فقلت: (هذا بَشِع) ، فقال: (ما معنى بشِع ؟) فتعجَّبت من ذلك.
وحدثنا عن الصولي عن عمر بن عبد الرحمن الشلمي عن المازنيقال: سمع أبو عمرو بن العلاء أبا حنيفة يتكلّم في الفقه ويلحنن فاستحسن كلامه، واستقبح لحنه، فقال: (إنّهُ لخطابٌ لو ساعده صواب)ثمّ قال لأبي حنيفة (إنَّك أحوج إلى إصلاح لِسانِكَ من جمِيع النَّاس)
وحدثنا عن أبيه عن عسل بن ذكوان عن الخليل بن أسد عن عبد الله بن صالح عن حبان بن علي قال: قال ابن شبرمة: (ما رَأيت عَلى رجل لبَاسًا أحسن من فصاحة، إذا سرّك أن يصغُر في عينِك من كَان عظيما أو تعظُم في عَين مَن كنت عنده صغِيرا فتعلَّم العربيَة، فإنَّها تُجَرِّئك علَى المنطق وتُدنيكَ من السُّلطان )
وحدثنا بإسناده عن الأصمعي: رأى أعرابي رجلين يتكلّمان، أحدهما ألحنُ بحجَّته من الآخر: فقال: (البيانُ بَصر، والعيُّ عمًى)
وحدثنا أبو بكر بن أحمد بن سعدويه، حدثنا نصر بن علي، حدثنا الأصمعي، حدثنا عيسى بن عمر قال: قال رجل للحسن (أنا أفصحُ النّاس)، فقال: ( لاَ تقُل ذَاك)، فقال: ( فَخُذ عليَّ كلمةٌ واحدة، قال: هذه )
وحدثنا قال حدثنا الحسن بن محمد، حدثنا يموت بن المزرع، حدثنا الجاحظ قال: قال سهل بن هارون: ( العقلُ رائد الرُّوح، والعلم رائدُ العقل، والبيانُ ترجمانُ العلم)
قال: وقال صاحب المنطق (حدُّ الإنسان: الحيُّ النَّاطق، وحياة الحلم العلم، وحياةُ العلم البيان )
قال الشيخ أبو هلال: فعلم العربيّة على ما تَسمع من خاص ما يحتاج إليه الإنسان لجمال دنياه، وكمال آلته في علوم دينه، وعلى حسب تقدّم العالم فيه وتأخره يكون رجحانه ونقصه، إذا ناظر أو صنّف. وهذا أمر يُستغنى بشُهرته عن الاستشهاد له، والاحتجاج عليه، ومعلوم أنّ لكلّ معنى لفظا يُعبَّر به عنه، فمن جهل اللّفظ بكم عن المعنى،و لاشكّ أنّ من يريد النّظر في علم من العلوم فترك النّظر في ألفاظ أهله لم يصل إلى معرفة معانيهم، ولا نعرف اليوم علما جاهليا ولا إسلاميا إلاّ وأهله عربيّون متعرّبون يكتبونه باللّفظ العربي والحظّ العربي، فواجب عليهم في حكم صناعتهم أن يتقدّموا في علم العربية لتصحّ عباراتهم عن علومهم، وتتقدّم كتابتهم لها، ويسهل عليهم استخراج معاني قدمائهم فيها، ومن أخلّ منهم بشيء منها عدم من فهمه بحسبه، ومعلوم أنّ من يطلب الترسّل وقرض الشّعر وعمل الخطب، كان محتاجا لا محالة إلى التوسّع في علم اللغة خاصّة لتكثر عنده الألفاظ، فيتصرّف فيها بحسب مراده، ولا يضيق مجاله في مرتاده، وليعرف العلويَّ من الكلام فيستعمله، العاميَّ فيتَّقيه ويجتنِبه.
(1) المدبرة: الجارية التي علّق عتقها بموت سيدها.
(2) حروريتها: يقصد حريتها ( بمعنى الحرية)
(3) أموتها: من الأُموة، وهي العبودية، والأمة: المملوكة.
(4) الوغم: ما تساقط من الطعام.
(5) الفغم: ما يعلق بين الأسنان.
(6) الوثة: خلل عقلي (حمق).