محمد الفاريابي
08-23-2011, 06:51 AM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمدُ لله الرحيم الرحمن، الحكيم العظيم المنَّان، ذي القوَّة والعظمة والسلطان، شرَعَ بمقتضى رحمته وحكمته عقوبة المجرمين منعًا للفساد، ورحمة بالعباد، وكفَّارة لذوي الجرائم والعناد، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا معقّب لحكمه ولا نِدَّ ولا مضاد، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين، وقدوة للعاملين، وحجة على مَن أُرسل إليهم أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا .
أما بعد:
فيا أيها الناس، اتَّقوا الله تعالى، اتَّقوا ﴿رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 21-22]، واعرفوا نعمة الله عليكم بدينكم القويم الكامل من جميع الوجوه: في العبادة، في الأخلاق، في السلوك، في المعاملات، في حقوق الله وحقوق العباد، جامع بين الرحمة والحكمة: رحمة في إصلاح الخلق وحكمة في الأخذ بالطريق الموصل إلى الإصلاح .
أيها الناس، إن من طبيعة البشر كما تشاهدونها بأعينكم أن تكون لهم إرادات متباينة ونزعات مختلفة، فمن الناس مَن ينزع إلى الخير والحق ومن الناس مَن ينزع إلى الشر والباطل كما قال الله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ﴾[التغابن: 2]، وقال الله عزَّ وجل: ﴿إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى﴾ [الليل: 4] .
ولَمَّا كانت النزعات إلى الشر والباطل في ضرورة ماسَّة إلى ما يكبح جِماحها ويكسر من حدَّتها من وازعٍ إيمانيٍّ ورادعٍ سلطانيٍّ أو أحدهما جاءت النصوص الكثيرة بالتحذير من الشر والباطل والترغيب في الخير والحق وبيان ما يترتَّب على الشر والباطل من المفاسد في الدنيا والعقوبة في الآخرة وما يترتَّب على الخير والحق من المصالح في الدنيا والمثوبات في الآخرة، ولكن لَمَّا كان هذا الوازع الديني لا يكفي في إصلاح بعض النفوس الشرِّيرة الموغلة في الشر والباطل فرضَ ربُّ العالمين برحمته وحكمته عقوبات دنيويَّة محدَّدة تارةً ومفوَّضة إلى نظر ذوي العدل من ولاة الأمور تارةً أخرى، ألَم تروا إلى قول الله تعالى: ﴿سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ ثم قال بعد ذلك: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [النور: 1-2]، وفي هذه الآية والتي قبلها دليلٌ واضح على أن الحدود فريضة فرضَها الله على عباده؛ ولهذا أعلن أمير المؤمنين الخليفة الثاني لهذه الأمة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن الرجم وهو أحدِّ الحدَّين في عقوبة الزنا، أعلن على منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحضرة صحابة الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن الرجم فريضة .
إذنْ: فيجب على ولاة الأمور أن ينفِّذوا ما فرض الله عليهم وإلا فسوف يُسألون يوم القيامة عن ترك هذه الفريضة إذا كانوا بين يدي الله: لا جنود ولا محامي، ولا مدافع ولا مال، ولا ولد ولا قريب، ولا صديق حميم يكفُّ عنهم عدل رب العالمين في ذلك الموقف، فيجب على ولاة الأمور أن ينتبهوا لهذا الأمر وأن يُقيموا فرائض الله - عز وجل - التي فرضها عليهم في عقوبة المجرمين وإلا فستكون الأمور فوضًى لا يحدّها حدٌّ ولا يردعها رادعٌ.
أيها المسلمون، وإن من حكمة الله - عزَّ وجل - أن تتنوَّع هذه العقوبات بحسب الجرائم لتردع المعتدي وتمحوَ الفساد وتعدّل الأعوج وتُظهر الملّة وتُقيم الأمة وتكفّر جريمة المجرم السابقة، فلا يُجمع له بين عقوبة الدنيا والآخرة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ومَن أتى منكم حدًّا فأقيم عليه فهو كفّارته» أخرجه مسلم في صحيحه .
أيها المسلمون، لقد فرض الله الحدود وأوجب على ولاة الأمور إقامتها على الشريف والوضيع، والغني والفقير، والذكَر والأنثى والقريب والبعيد، ففي الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها - «أن قريشًا أهمَّهم شأن المخزومية التي سرقت، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقطع يدها وكانت تستعير المتاع من الناس ثم تجحده وهذه سرقة احتالت فيها، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقطع يدها، فاجتمع الناس من قريش فقالوا: مَن يشفع فيها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فشفع فيها أسامة بن زيد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنكر عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - قائلاً: أَتَشْفَعُ في حدٍّ من حدود الله؟ ثم قام النبي - صلى الله عليه وسلم - فاختطب وقال: إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله - أقسَم؛ أي: أنه حلِفَ صلى الله عليه وسلم بالله عزَّ وجل - لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعتُ يدها» .
أيها المسلمون، تأمّلوا إلى هذه القاعدة العظيمة التي أصَّلها رسول رب العالمين وإمام المتَّقين، «لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعتُ يدها» .
فيجب على كل والٍ من ولاة الأمور أن يسير على هذه القاعدة وأن يُقسم بالله لو سرقت بنته أو ابنه أن يقطع يده، هكذا هدي النبي صلى الله عليه وسلم، أقسم النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق البارُّ أن فاطمة بنت محمد وهي أشرف النساء نسبًا وسيّدة نساء أهل الجنة لو سرقت لقطع يدها .
الله أكبر ! أين الثريَّا من الثرى ! أين هذا القول من بعض الولاة اليوم الذين يرونَ أن إقامة الحدود وحشيَّة وأنها سنَّة همجيَّة يستمعون إلى ما يقول أعداء الإسلام بل أعداء الإنسانية فيتلقَّفونه كالذي ﴿يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: 171] .
أين قول النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا القول الذي هو في غاية العدل من قوم يؤمرون بتنفيذ العقوبات فيفرِّقون بين شخص وآخر: يفرِّقون بين الشريف والوضيع، أو بين القريب والبعيد، أو بين الصديق وغير الصديق، أو لاعتبارات أخرى مع أن العقوبة واحدة وسببها واحد ولكنهم يفرِّقون في تنفيذها بين فلان وفلان من غير خوف من الله ولا حياء من عباد الله ؟
أيها المسلمون، إن المكان لا يتَّسع لذكْر ما أوجب الله فيه العقوبة والحد ولكننا نُشير إلى مسألة واحدة ألا وهي: شرب الخمر المحرم الذي كان الناس بالأول يسمعون عنه ولا يظنّون أن أحدًا من العقلاء يشربه فضلاً عن المؤمنين ولكنه اليوم فشا في كثير من البلاد الإسلامية وبدأ هذا الداء ينتشر فيما بيننا في هذه البلاد التي هي أم البلاد الإسلامية فمنها بدأ الإسلام وإليها يعود كما هو شاهد في التاريخ وكما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن الإسلام يرجع إلى المدينة .
أيها المسلمون، إن شرب الخمر محرّمٌ بكتاب الله وسنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإجماع المسلمين لم يختلف بينهم واحد، يقول الله عزَّ وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَ الأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾[المائدة: 90]، فقَرَن الله - عزَّ وجل - الخمر بالميسر والأنصاب والأزلام، أما الميسر: فإنه كسبُ المال على وجه المقامرة، وأما الأنصاب فهي: الأوثان التي تُعبد من دون الله، وأما الأزلام: فإنه استقسام يصنعه أهل الجاهلية أبدل الله المسلمين به بصلاة الاستخارة فهم يستخيرون بهذه الأزلام، ولكن المسلمين - وللهِ الحمد - يستخيرون بالصلاة لله عزَّ وجل: ركعتين من غير الفريضة وبعد السلام يدعون بدعاء الاستخارة المعروف .
وبدأ الله تعالى في هذه الآية بالخمر؛ لأن كثيرًا من النفوس المنحرفة تطلبه وتُحبه وتركن إليه وتُدمن عليه، يقول الله عزَّ وجل، وأعيد الآية مرّة ثانية لأهميتها: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَ الأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾[المائدة: 90]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ مسكرٍ خمرٌ وكل مسكر حرام» وأجمع المسلمون على تحريم الخمر، فمَن اعتقد حلَّها فهو مضادٌّ لله عزَّ وجل، مُكذبٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، خارجٌ عن إجماع المسلمين وقد قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً﴾ [النساء: 115]، وبذلك - أي: باعتقاد حلِّ الخمر - يكون كافرًا مُرتدًّا خارجًا عن الإسلام يموت على الكفر: لا يُغسَّل ولا يكفَّن ولا يُصلى عليه ولا يُدفن مع المسلمين ولا يُحشر إلا مع هامان وقارون وسائر الكفرة اللهم إلا أن يكون قريبَ عهد بالإسلام أسلمَ حديثًا لا يَعرف شيئًا عن أحكام الإسلام فإنه يُعلَّم أولاً ثم يُحكم له بِما تقتضيه حاله بعد العلم .
أما مَن شرب الخمر يعتقدُ تحريمها وأن شُربها معصية فإنه لا يكفر ولكن تجب عقوبته لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك .
فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «أُتي النبي - صلى الله عليه وسلم - برجل قد شرب فقال: اضربوه، قال أبو هريرة رضي الله عنه: فمنَّا الضارب بيده والضارب بنعله والضارب بثوبه، فلمّا انصرف قال بعض القوم: أخزاك الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تقولوا هكذا، لا تُعينوا عليه الشيطان» وقال أنس بن مالك رضي الله عنه: «جلَد النبي - صلى الله عليه وسلم - في الخمر بالجريد والنعال وجلَد أبو بكر أربعين» رواهما البخاري، وفي صحيح مسلم «ثم جلَد أبو بكر أربعين» «فلَمَّا كان عمر - رضي الله عنه - ودنا الناس من الريف والقُرى قال: ما ترون في جَلْد الخمر ؟ فقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: أرى أن تجعلها كأخفِّ الحدود، قال: فجلَدَ عمر ثمانين».
فإذا تكرَّر الشرب من الشارب وهو يُجلد ولا يرتدع فقال ابن حزم رحمه الله، قال: يُقتل في الرابعة، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: يُقتل في الرابعة عند الحاجة إلا قتله؛ حيث لن ينتهي الناس بدون القتل وهذا عينُ الفقه؛ لأن الصائل على الأموال إذا لم يندفع إلا بالقتل فإنه يُقتل فما بالُكم بِمَن صالَ على أخلاق المجتمع وصلاحِه وفلاحِه وأمنِه واستقرارِه؛ فإن ضرر الخمر لا يقتصر على صاحبه بل يتعدَّاه إلى غيره، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاقتلوه» قالها في الثالثة أو الرابعة .
أيها المسلمون، إن الخمر أمره عظيم؛ إنه أم الخبائث وإنه مفتاح كل شر وإنه لا يجوز لنا أن نتهاون بأمره ولا أن نتهاون عن عقوبته؛ إن أمره من أعظم الأمور يَعرف ذلك مَن تدبَّر كتاب الله وسنَّة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وتتبَّع الحوادث التي تنتج عن شربه.
فنسأل الله تعالى أن يحمي شعوب المسلمين منه وأن يسلِّط وُلاة الأمور على مَن شربه حتى يردعوه ويردعوا أمثاله عن شربه .
وإن أقبح من الخمر وأشد فتكًا تلك المخدرات التي تُفسد العقول والنفوس والقيم، وقد اتخذت الحكومة - وفَّقها الله تعالى - موقفًا حازمًا منها بقرارٍ صادرٍ بالإجماع من مجلس هيئة كبار العلماء في عشرين من الشهر السادس عام سبعة وأربعمائة وألف أُعلن عنه من وزارة الداخلية في الحادي عشر من الشهر السابع عام سبعة وأربعمائة وألف بأن المهرّب للمخدرات عقوبته القتل لِمَا يُسبِّبُه تهريبُ المخدرات وإدخالها البلاد من فساد عظيم لا يقتصر على المهرّب نفسه وأضرارٍ جسيمةٍ وأخطارٍ مدمّرة على الأمة بمجموعها، ويُلحق بالمهرب الشخص الذي يستورد أو يتلقى المخدرات من الخارج يُموّن بها المروجين .
وأما بالنسبة لمروِّج المخدرات فإن مَن يروِّجها للمرّة الأولى يعزَّر تعزيرًا بليغًا بالحبس أو الجلد أو الغرامة المالية أو بها جميعًا حسب ما يقتضيه النظر القضائي وإن تكرَّر منه ذلك فيُعزَّر بِما يقطع شره عن المجتمع ولو كان بالقتل؛ لأنه بفعله هذا يُعتبر من المفسدين في الأرض ومِمَّن تأصَّل الإجرام في نفوسهم .
وقد أمر ملك هذه البلاد خادم الحرمين الشريفين - حفظه الله ووفَّقه وأصلح بطانته وأصلح به أمته - أمر كُلاً من وزارتي العدل والداخلية بالعمل بموجبه وتعميمه على المحاكم، وهذا القرار الصادر من هيئة كبار العلماء هو عينُ المصلحة؛ وذلك لأنه إذا ضعفَ في الناس الوازع الديني فإن الواجب أن يقوى الرادع السلطاني، أما إذا ضعف الوازع الديني وضعف الرادع السلطاني فلا تسأل عن الشر والفساد ولا عن الفوضى والمكابرة والعناد؛ ولهذا يجب على ولاة الأمور أن يكونوا ذوي فطنة وانتباه بحيث إذا رأوا في الناس ضعفًا في إيمانهم وإجرامًا وتعدِّيًا زادوا من العقوبة والردع حتى تكون الكفَّةُ الناقصة مزيدة بالكفَّةِ الأخرى ويحصل الاعتدال والصلاح والفلاح وتزول أسباب الشر والفساد والعقوبة .
اللهم إنَّا نسألك في مقامنا هذا أن تزيد ولاة أمورنا صغيرهم وكبيرهم من فضلك وأن تُعينهم على كفِّ الشر والفساد وتُثبِّت الصلاح والرشاد، ونسأل الله أن يهدي شعوبنا وأمَّتنا بالوازع الإيماني قبل الرادع السلطاني، ونسأل الله تعالى لِمَن مَنَّ عليه من هذه الأمة بل من الأمة الإسلامية جمعاء بالعصمة من الشر أن يكونوا عونًا لحكوماتهم في القضاء على الشر امتثالاً لقول الله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [المائدة: 2] .
وإني أقول لكم قبل ختمِ هذه الكلمة، إني أقول لكم: إن وُلاة الأمور ليسوا شمسًا تضيء كل مكان وإنما هم بشر كأمثالكم يخفى عليهم كثير من الأمور بل إن كثيرًا من الناس المنافقين إذا جلسوا عند ولاة الأمور أروهم الشعوب وكأنهم شعوب أبي بكر وعمر من الصلاح والفلاح يُخفون عنهم الشر ويُخفون عنهم الفساد ويُظهرون الناس بمظهر الصلاح، يعتقدون أن في ذلك سرورًا لولاة الأمور وصحيح أن في ذلك سرورًا لولاة الأمور لكنه جالبٌ للشرور عليهم؛ لأن إراءة الأشياء على غير حقيقتها ضرر عظيم، أما إراءة ولاة الأمور الأمورَ على حقيقتها والسعي في إصلاحها والقضاء عليها فهذا هو النصيحة، هو النصيحة لولاة الأمور وللمسلمين جميعًا؛ ولذلك أقول: إنه يجب علينا جميعًا أن نساعد ولاة الأمور في القضاء على الشر والفساد فنبلغهم الشر بِمَن قاموا به ونبلغهم الشر بمكان الشر ونبلغهم الشر بوقت الشر حتى يكونوا على بصيرة من الأمر، ونحن إذا بلّغناهم ذلك فقد قمنا بِِما يلزمنا وبرئت ذمتنا وصارت المسؤوليةُ الكبرى المسؤوليةَ العظمى على ولاة الأمور أمام الله - عزَّ وجل - وأمام شعوبهم لا يفكّهم من ذلك شيء إلا أن يقوموا بِما أوجب الله عليهم من السعي في القضاء على الفساد .
اللهم إنا نسألك أن تهيئ لنا من أمرنا رشدًا، اللهم اجعلنا بِمَنِّك وبكرمك من دعاة الحق وأنصاره الذين يدعون إليك على بصيرة، الذين ينصرونك فتنصرهم يا رب العالمين .
«اللهم إنَّا نسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك والغنيمة من كل بِرٍّ والسلامة من كل إثم» .
اللهم وأبْرِم لهذه الأمة أمر رشدٍ يُعز فيه أهل طاعتك ويُذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى عن المنكر ويكون سببًا لصلاح البلاد والعباد؛ إنك على كل شيء قدير.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ونبيّك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
الخطبة الثانية
الحمدُ لله حمدًا كثيرًا طيِّبًا مباركًا فيه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله الله تعالى بالهدى ودين الحق، بعثه الله في مكة وجعل مهاجره المدينة، فدعا إلى الله على بصيرة وجاهد في الله حق جهاده، وأتَمّ الله به النعمة على المؤمنين، وأكمل به الدين، فترك أمته على محجة بيضاء ليلها كنهارها، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد:
أيها الناس، اتَّقوا الله تعالى وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، وإن من التعاون على البر والتقوى: أن تنصحوا ذوي الجرائم عن جرائمهم فإن انتهوا بهذه النصيحة فذلك من نعمة الله عليهم وعليكم وإن لَم ينتهوا بذلك فعليكم أن تبلّغوا وُلاة الأمور عنهم وحينئذٍ تنتقل المسؤولية عنكم إلى ذمّة ولاة الأمور ولا تتستَّروا على أحدٍ في جريمته، ولا تُقِرُّوا أحدًا على جريمته؛ فإن التستر والإقرار رضًى بذلك وإن لَم يكن رضًى باللسان فإنه رضًى بلسان الحال بل هو معونة لصاحب الجريمة وقد قال الله عزَّ وجل: ﴿وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾[المائدة: 2] .
وإني واثقٌ - وبالله عزَّ وجل الثقة - أننا إذا قمنا بهذا الأمر وتساعَدْنا على القضاء على الإجرام وأهله فإن الأمة سوف تستقيم وسوف يكون ذلك من مصلحة المجرم نفسه؛ لأنه يرتدع بذلك عمّا هو بصدد أن يفعله من الجريمة وهذا واللهِ خير له؛ لأنه وإن حصل عليه ما يؤلِمه في الدنيا أو ما يكون فيه تشويهٌ لسمعته فإنه إذا تاب إلى الله وأناب حسنت سمعته بين الناس وزال عنه سوء السمعة وسَلِمَ من عقوبة الآخرة؛ وبذلك يكون هذا الأمر مصلحة له على عكس ما يتوهَّمه ذوو البصائر الضعيفة الذين يظنُّون أن الستر على المجرم أولى بكل حال وليس الأمر هكذا .
أيها المسلمون، إننا في استقبال دخول شهر شعبان فإذا كانت الليلة الثلاثون من هذا الشهر من شهر رجب فتحرّوا الهلال فمَن رآهُ منكم فلْيُخبر به أقربَ محكمة إليه ليكون بذلك مُؤدِّيًا لِما يجب عليه؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا» فإذا كانت رؤية الشهر موجبة للصوم كان الإخبار بها واجبًا؛ لأن ما لا يتم الوجوب إلا به فهو واجب، أما إذا لم تروه ليلة الثلاثين فإنه لا صيام تلك الليلة سواء كانت السماء صاحية أو كان عليها غيمٌ أو قترٌ لقول النبي صلى الله عليه وسلم؛ أعني: إذا كانت الليلة الثلاثين من شعبان غيمٌ أو قترٌ فإنه لا صيام تلك الليلة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غمَّ عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يومًا» .
ولقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُكثر من الصيام في شهر شعبان حتى كان يصومه إلا قليلاً منه وربما صامه كله؛ ولهذا ينبغي للإنسان الذي لا يُضعفه الصوم عن شيء مهمٍّ ينبغي له أن يُكثر من الصوم في شهر شعبان اقتداءً برسول الله - صلى الله عليه وسلم - واحتسابًا للأجر؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصومه، ومَن كان عليه شيء من قضاء رمضان فلْيُبادر به قبل أن يأتي رمضان المقبل؛ لأن عائشة - رضي الله عنها - كانت تقول: «يكون عليَّ الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان» وهذا دليلٌ على أنه لا يجوز للإنسان أن يؤخِّر قضاء رمضان الماضي إلى رمضان التالي، فمَن كان منكم عليه قضاء فلْيُبادر به قبل أن يأتي رمضان؛ لأن الصوم دَيْن كما شبَّهَهُ النبي - صلى الله عليه وسلم - به، والدَّيْن لا تبرأ به الذمة إلا بوفائه .
فبادروا - رحمكم الله - بقضاء ما عليكم من الشهر قبل أن يفوت الأوان فتأثموا بتأخيره .
«واعلموا أن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة في دين الله بدعة، وكل بدعة ضلالة» «فعليكم بالجماعة» وهي: الاجتماع على دين الله، أن تجتمعوا على هذا الدين ولا تتفرقوا فيه؛ فإن التفرّق في دين الله سواء بين الطاعات والمعاصي أو بين الاجتهادات بين أهل العلم، التفرّق لا ينبغي أن يكون في هذه الأمة بل الواجب على الأمة أن تتآلف على دين الله تعالى وشرعه، والإنسان المجتهد لا يؤخذ باجتهاده .
«إن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدث في دين الله بدعة، وكل بدعة ضلالة» «وكل ضلالة في النار» «فعليكم بالجماعة؛ فإن يد الله على الجماعة، فمَن شَذَّ شَذَّ في النار» واعلموا أن الله أمركم بأمر بدأه بنفسه فقال جلَّ من قائل عليمًا: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56] .
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، اللهم ارزقنا محبته واتِّباعه ظاهرًا وباطنًا، اللهم توفَّنا على ملَّته، اللهم احشرنا في زمرته، اللهم أدخلنا في شفاعته، اللهم أسْقنا من حوضه، اللهم اجمعنا به في جنّات النّعيم يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم .
اللهم ارضَ عن خلفائه الراشدين وعن أولاده وزوجاته أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وارضَ اللهم عنَّا معهم بِمَنِّك وكرمك يا رب العالمين، ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَاوَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [الحشر: 10] .
عباد الله، ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ [النحل: 90-91]، واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نِعَمِهِ يزدْكم ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَاتَصْنَعُونَ﴾[العنكبوت: 45] .
الحمدُ لله الرحيم الرحمن، الحكيم العظيم المنَّان، ذي القوَّة والعظمة والسلطان، شرَعَ بمقتضى رحمته وحكمته عقوبة المجرمين منعًا للفساد، ورحمة بالعباد، وكفَّارة لذوي الجرائم والعناد، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا معقّب لحكمه ولا نِدَّ ولا مضاد، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين، وقدوة للعاملين، وحجة على مَن أُرسل إليهم أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا .
أما بعد:
فيا أيها الناس، اتَّقوا الله تعالى، اتَّقوا ﴿رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 21-22]، واعرفوا نعمة الله عليكم بدينكم القويم الكامل من جميع الوجوه: في العبادة، في الأخلاق، في السلوك، في المعاملات، في حقوق الله وحقوق العباد، جامع بين الرحمة والحكمة: رحمة في إصلاح الخلق وحكمة في الأخذ بالطريق الموصل إلى الإصلاح .
أيها الناس، إن من طبيعة البشر كما تشاهدونها بأعينكم أن تكون لهم إرادات متباينة ونزعات مختلفة، فمن الناس مَن ينزع إلى الخير والحق ومن الناس مَن ينزع إلى الشر والباطل كما قال الله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ﴾[التغابن: 2]، وقال الله عزَّ وجل: ﴿إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى﴾ [الليل: 4] .
ولَمَّا كانت النزعات إلى الشر والباطل في ضرورة ماسَّة إلى ما يكبح جِماحها ويكسر من حدَّتها من وازعٍ إيمانيٍّ ورادعٍ سلطانيٍّ أو أحدهما جاءت النصوص الكثيرة بالتحذير من الشر والباطل والترغيب في الخير والحق وبيان ما يترتَّب على الشر والباطل من المفاسد في الدنيا والعقوبة في الآخرة وما يترتَّب على الخير والحق من المصالح في الدنيا والمثوبات في الآخرة، ولكن لَمَّا كان هذا الوازع الديني لا يكفي في إصلاح بعض النفوس الشرِّيرة الموغلة في الشر والباطل فرضَ ربُّ العالمين برحمته وحكمته عقوبات دنيويَّة محدَّدة تارةً ومفوَّضة إلى نظر ذوي العدل من ولاة الأمور تارةً أخرى، ألَم تروا إلى قول الله تعالى: ﴿سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ ثم قال بعد ذلك: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [النور: 1-2]، وفي هذه الآية والتي قبلها دليلٌ واضح على أن الحدود فريضة فرضَها الله على عباده؛ ولهذا أعلن أمير المؤمنين الخليفة الثاني لهذه الأمة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن الرجم وهو أحدِّ الحدَّين في عقوبة الزنا، أعلن على منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحضرة صحابة الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن الرجم فريضة .
إذنْ: فيجب على ولاة الأمور أن ينفِّذوا ما فرض الله عليهم وإلا فسوف يُسألون يوم القيامة عن ترك هذه الفريضة إذا كانوا بين يدي الله: لا جنود ولا محامي، ولا مدافع ولا مال، ولا ولد ولا قريب، ولا صديق حميم يكفُّ عنهم عدل رب العالمين في ذلك الموقف، فيجب على ولاة الأمور أن ينتبهوا لهذا الأمر وأن يُقيموا فرائض الله - عز وجل - التي فرضها عليهم في عقوبة المجرمين وإلا فستكون الأمور فوضًى لا يحدّها حدٌّ ولا يردعها رادعٌ.
أيها المسلمون، وإن من حكمة الله - عزَّ وجل - أن تتنوَّع هذه العقوبات بحسب الجرائم لتردع المعتدي وتمحوَ الفساد وتعدّل الأعوج وتُظهر الملّة وتُقيم الأمة وتكفّر جريمة المجرم السابقة، فلا يُجمع له بين عقوبة الدنيا والآخرة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ومَن أتى منكم حدًّا فأقيم عليه فهو كفّارته» أخرجه مسلم في صحيحه .
أيها المسلمون، لقد فرض الله الحدود وأوجب على ولاة الأمور إقامتها على الشريف والوضيع، والغني والفقير، والذكَر والأنثى والقريب والبعيد، ففي الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها - «أن قريشًا أهمَّهم شأن المخزومية التي سرقت، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقطع يدها وكانت تستعير المتاع من الناس ثم تجحده وهذه سرقة احتالت فيها، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقطع يدها، فاجتمع الناس من قريش فقالوا: مَن يشفع فيها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فشفع فيها أسامة بن زيد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنكر عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - قائلاً: أَتَشْفَعُ في حدٍّ من حدود الله؟ ثم قام النبي - صلى الله عليه وسلم - فاختطب وقال: إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله - أقسَم؛ أي: أنه حلِفَ صلى الله عليه وسلم بالله عزَّ وجل - لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعتُ يدها» .
أيها المسلمون، تأمّلوا إلى هذه القاعدة العظيمة التي أصَّلها رسول رب العالمين وإمام المتَّقين، «لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعتُ يدها» .
فيجب على كل والٍ من ولاة الأمور أن يسير على هذه القاعدة وأن يُقسم بالله لو سرقت بنته أو ابنه أن يقطع يده، هكذا هدي النبي صلى الله عليه وسلم، أقسم النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق البارُّ أن فاطمة بنت محمد وهي أشرف النساء نسبًا وسيّدة نساء أهل الجنة لو سرقت لقطع يدها .
الله أكبر ! أين الثريَّا من الثرى ! أين هذا القول من بعض الولاة اليوم الذين يرونَ أن إقامة الحدود وحشيَّة وأنها سنَّة همجيَّة يستمعون إلى ما يقول أعداء الإسلام بل أعداء الإنسانية فيتلقَّفونه كالذي ﴿يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: 171] .
أين قول النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا القول الذي هو في غاية العدل من قوم يؤمرون بتنفيذ العقوبات فيفرِّقون بين شخص وآخر: يفرِّقون بين الشريف والوضيع، أو بين القريب والبعيد، أو بين الصديق وغير الصديق، أو لاعتبارات أخرى مع أن العقوبة واحدة وسببها واحد ولكنهم يفرِّقون في تنفيذها بين فلان وفلان من غير خوف من الله ولا حياء من عباد الله ؟
أيها المسلمون، إن المكان لا يتَّسع لذكْر ما أوجب الله فيه العقوبة والحد ولكننا نُشير إلى مسألة واحدة ألا وهي: شرب الخمر المحرم الذي كان الناس بالأول يسمعون عنه ولا يظنّون أن أحدًا من العقلاء يشربه فضلاً عن المؤمنين ولكنه اليوم فشا في كثير من البلاد الإسلامية وبدأ هذا الداء ينتشر فيما بيننا في هذه البلاد التي هي أم البلاد الإسلامية فمنها بدأ الإسلام وإليها يعود كما هو شاهد في التاريخ وكما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن الإسلام يرجع إلى المدينة .
أيها المسلمون، إن شرب الخمر محرّمٌ بكتاب الله وسنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإجماع المسلمين لم يختلف بينهم واحد، يقول الله عزَّ وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَ الأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾[المائدة: 90]، فقَرَن الله - عزَّ وجل - الخمر بالميسر والأنصاب والأزلام، أما الميسر: فإنه كسبُ المال على وجه المقامرة، وأما الأنصاب فهي: الأوثان التي تُعبد من دون الله، وأما الأزلام: فإنه استقسام يصنعه أهل الجاهلية أبدل الله المسلمين به بصلاة الاستخارة فهم يستخيرون بهذه الأزلام، ولكن المسلمين - وللهِ الحمد - يستخيرون بالصلاة لله عزَّ وجل: ركعتين من غير الفريضة وبعد السلام يدعون بدعاء الاستخارة المعروف .
وبدأ الله تعالى في هذه الآية بالخمر؛ لأن كثيرًا من النفوس المنحرفة تطلبه وتُحبه وتركن إليه وتُدمن عليه، يقول الله عزَّ وجل، وأعيد الآية مرّة ثانية لأهميتها: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَ الأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾[المائدة: 90]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ مسكرٍ خمرٌ وكل مسكر حرام» وأجمع المسلمون على تحريم الخمر، فمَن اعتقد حلَّها فهو مضادٌّ لله عزَّ وجل، مُكذبٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، خارجٌ عن إجماع المسلمين وقد قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً﴾ [النساء: 115]، وبذلك - أي: باعتقاد حلِّ الخمر - يكون كافرًا مُرتدًّا خارجًا عن الإسلام يموت على الكفر: لا يُغسَّل ولا يكفَّن ولا يُصلى عليه ولا يُدفن مع المسلمين ولا يُحشر إلا مع هامان وقارون وسائر الكفرة اللهم إلا أن يكون قريبَ عهد بالإسلام أسلمَ حديثًا لا يَعرف شيئًا عن أحكام الإسلام فإنه يُعلَّم أولاً ثم يُحكم له بِما تقتضيه حاله بعد العلم .
أما مَن شرب الخمر يعتقدُ تحريمها وأن شُربها معصية فإنه لا يكفر ولكن تجب عقوبته لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك .
فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «أُتي النبي - صلى الله عليه وسلم - برجل قد شرب فقال: اضربوه، قال أبو هريرة رضي الله عنه: فمنَّا الضارب بيده والضارب بنعله والضارب بثوبه، فلمّا انصرف قال بعض القوم: أخزاك الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تقولوا هكذا، لا تُعينوا عليه الشيطان» وقال أنس بن مالك رضي الله عنه: «جلَد النبي - صلى الله عليه وسلم - في الخمر بالجريد والنعال وجلَد أبو بكر أربعين» رواهما البخاري، وفي صحيح مسلم «ثم جلَد أبو بكر أربعين» «فلَمَّا كان عمر - رضي الله عنه - ودنا الناس من الريف والقُرى قال: ما ترون في جَلْد الخمر ؟ فقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: أرى أن تجعلها كأخفِّ الحدود، قال: فجلَدَ عمر ثمانين».
فإذا تكرَّر الشرب من الشارب وهو يُجلد ولا يرتدع فقال ابن حزم رحمه الله، قال: يُقتل في الرابعة، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: يُقتل في الرابعة عند الحاجة إلا قتله؛ حيث لن ينتهي الناس بدون القتل وهذا عينُ الفقه؛ لأن الصائل على الأموال إذا لم يندفع إلا بالقتل فإنه يُقتل فما بالُكم بِمَن صالَ على أخلاق المجتمع وصلاحِه وفلاحِه وأمنِه واستقرارِه؛ فإن ضرر الخمر لا يقتصر على صاحبه بل يتعدَّاه إلى غيره، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاقتلوه» قالها في الثالثة أو الرابعة .
أيها المسلمون، إن الخمر أمره عظيم؛ إنه أم الخبائث وإنه مفتاح كل شر وإنه لا يجوز لنا أن نتهاون بأمره ولا أن نتهاون عن عقوبته؛ إن أمره من أعظم الأمور يَعرف ذلك مَن تدبَّر كتاب الله وسنَّة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وتتبَّع الحوادث التي تنتج عن شربه.
فنسأل الله تعالى أن يحمي شعوب المسلمين منه وأن يسلِّط وُلاة الأمور على مَن شربه حتى يردعوه ويردعوا أمثاله عن شربه .
وإن أقبح من الخمر وأشد فتكًا تلك المخدرات التي تُفسد العقول والنفوس والقيم، وقد اتخذت الحكومة - وفَّقها الله تعالى - موقفًا حازمًا منها بقرارٍ صادرٍ بالإجماع من مجلس هيئة كبار العلماء في عشرين من الشهر السادس عام سبعة وأربعمائة وألف أُعلن عنه من وزارة الداخلية في الحادي عشر من الشهر السابع عام سبعة وأربعمائة وألف بأن المهرّب للمخدرات عقوبته القتل لِمَا يُسبِّبُه تهريبُ المخدرات وإدخالها البلاد من فساد عظيم لا يقتصر على المهرّب نفسه وأضرارٍ جسيمةٍ وأخطارٍ مدمّرة على الأمة بمجموعها، ويُلحق بالمهرب الشخص الذي يستورد أو يتلقى المخدرات من الخارج يُموّن بها المروجين .
وأما بالنسبة لمروِّج المخدرات فإن مَن يروِّجها للمرّة الأولى يعزَّر تعزيرًا بليغًا بالحبس أو الجلد أو الغرامة المالية أو بها جميعًا حسب ما يقتضيه النظر القضائي وإن تكرَّر منه ذلك فيُعزَّر بِما يقطع شره عن المجتمع ولو كان بالقتل؛ لأنه بفعله هذا يُعتبر من المفسدين في الأرض ومِمَّن تأصَّل الإجرام في نفوسهم .
وقد أمر ملك هذه البلاد خادم الحرمين الشريفين - حفظه الله ووفَّقه وأصلح بطانته وأصلح به أمته - أمر كُلاً من وزارتي العدل والداخلية بالعمل بموجبه وتعميمه على المحاكم، وهذا القرار الصادر من هيئة كبار العلماء هو عينُ المصلحة؛ وذلك لأنه إذا ضعفَ في الناس الوازع الديني فإن الواجب أن يقوى الرادع السلطاني، أما إذا ضعف الوازع الديني وضعف الرادع السلطاني فلا تسأل عن الشر والفساد ولا عن الفوضى والمكابرة والعناد؛ ولهذا يجب على ولاة الأمور أن يكونوا ذوي فطنة وانتباه بحيث إذا رأوا في الناس ضعفًا في إيمانهم وإجرامًا وتعدِّيًا زادوا من العقوبة والردع حتى تكون الكفَّةُ الناقصة مزيدة بالكفَّةِ الأخرى ويحصل الاعتدال والصلاح والفلاح وتزول أسباب الشر والفساد والعقوبة .
اللهم إنَّا نسألك في مقامنا هذا أن تزيد ولاة أمورنا صغيرهم وكبيرهم من فضلك وأن تُعينهم على كفِّ الشر والفساد وتُثبِّت الصلاح والرشاد، ونسأل الله أن يهدي شعوبنا وأمَّتنا بالوازع الإيماني قبل الرادع السلطاني، ونسأل الله تعالى لِمَن مَنَّ عليه من هذه الأمة بل من الأمة الإسلامية جمعاء بالعصمة من الشر أن يكونوا عونًا لحكوماتهم في القضاء على الشر امتثالاً لقول الله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [المائدة: 2] .
وإني أقول لكم قبل ختمِ هذه الكلمة، إني أقول لكم: إن وُلاة الأمور ليسوا شمسًا تضيء كل مكان وإنما هم بشر كأمثالكم يخفى عليهم كثير من الأمور بل إن كثيرًا من الناس المنافقين إذا جلسوا عند ولاة الأمور أروهم الشعوب وكأنهم شعوب أبي بكر وعمر من الصلاح والفلاح يُخفون عنهم الشر ويُخفون عنهم الفساد ويُظهرون الناس بمظهر الصلاح، يعتقدون أن في ذلك سرورًا لولاة الأمور وصحيح أن في ذلك سرورًا لولاة الأمور لكنه جالبٌ للشرور عليهم؛ لأن إراءة الأشياء على غير حقيقتها ضرر عظيم، أما إراءة ولاة الأمور الأمورَ على حقيقتها والسعي في إصلاحها والقضاء عليها فهذا هو النصيحة، هو النصيحة لولاة الأمور وللمسلمين جميعًا؛ ولذلك أقول: إنه يجب علينا جميعًا أن نساعد ولاة الأمور في القضاء على الشر والفساد فنبلغهم الشر بِمَن قاموا به ونبلغهم الشر بمكان الشر ونبلغهم الشر بوقت الشر حتى يكونوا على بصيرة من الأمر، ونحن إذا بلّغناهم ذلك فقد قمنا بِِما يلزمنا وبرئت ذمتنا وصارت المسؤوليةُ الكبرى المسؤوليةَ العظمى على ولاة الأمور أمام الله - عزَّ وجل - وأمام شعوبهم لا يفكّهم من ذلك شيء إلا أن يقوموا بِما أوجب الله عليهم من السعي في القضاء على الفساد .
اللهم إنا نسألك أن تهيئ لنا من أمرنا رشدًا، اللهم اجعلنا بِمَنِّك وبكرمك من دعاة الحق وأنصاره الذين يدعون إليك على بصيرة، الذين ينصرونك فتنصرهم يا رب العالمين .
«اللهم إنَّا نسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك والغنيمة من كل بِرٍّ والسلامة من كل إثم» .
اللهم وأبْرِم لهذه الأمة أمر رشدٍ يُعز فيه أهل طاعتك ويُذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى عن المنكر ويكون سببًا لصلاح البلاد والعباد؛ إنك على كل شيء قدير.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ونبيّك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
الخطبة الثانية
الحمدُ لله حمدًا كثيرًا طيِّبًا مباركًا فيه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله الله تعالى بالهدى ودين الحق، بعثه الله في مكة وجعل مهاجره المدينة، فدعا إلى الله على بصيرة وجاهد في الله حق جهاده، وأتَمّ الله به النعمة على المؤمنين، وأكمل به الدين، فترك أمته على محجة بيضاء ليلها كنهارها، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد:
أيها الناس، اتَّقوا الله تعالى وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، وإن من التعاون على البر والتقوى: أن تنصحوا ذوي الجرائم عن جرائمهم فإن انتهوا بهذه النصيحة فذلك من نعمة الله عليهم وعليكم وإن لَم ينتهوا بذلك فعليكم أن تبلّغوا وُلاة الأمور عنهم وحينئذٍ تنتقل المسؤولية عنكم إلى ذمّة ولاة الأمور ولا تتستَّروا على أحدٍ في جريمته، ولا تُقِرُّوا أحدًا على جريمته؛ فإن التستر والإقرار رضًى بذلك وإن لَم يكن رضًى باللسان فإنه رضًى بلسان الحال بل هو معونة لصاحب الجريمة وقد قال الله عزَّ وجل: ﴿وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾[المائدة: 2] .
وإني واثقٌ - وبالله عزَّ وجل الثقة - أننا إذا قمنا بهذا الأمر وتساعَدْنا على القضاء على الإجرام وأهله فإن الأمة سوف تستقيم وسوف يكون ذلك من مصلحة المجرم نفسه؛ لأنه يرتدع بذلك عمّا هو بصدد أن يفعله من الجريمة وهذا واللهِ خير له؛ لأنه وإن حصل عليه ما يؤلِمه في الدنيا أو ما يكون فيه تشويهٌ لسمعته فإنه إذا تاب إلى الله وأناب حسنت سمعته بين الناس وزال عنه سوء السمعة وسَلِمَ من عقوبة الآخرة؛ وبذلك يكون هذا الأمر مصلحة له على عكس ما يتوهَّمه ذوو البصائر الضعيفة الذين يظنُّون أن الستر على المجرم أولى بكل حال وليس الأمر هكذا .
أيها المسلمون، إننا في استقبال دخول شهر شعبان فإذا كانت الليلة الثلاثون من هذا الشهر من شهر رجب فتحرّوا الهلال فمَن رآهُ منكم فلْيُخبر به أقربَ محكمة إليه ليكون بذلك مُؤدِّيًا لِما يجب عليه؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا» فإذا كانت رؤية الشهر موجبة للصوم كان الإخبار بها واجبًا؛ لأن ما لا يتم الوجوب إلا به فهو واجب، أما إذا لم تروه ليلة الثلاثين فإنه لا صيام تلك الليلة سواء كانت السماء صاحية أو كان عليها غيمٌ أو قترٌ لقول النبي صلى الله عليه وسلم؛ أعني: إذا كانت الليلة الثلاثين من شعبان غيمٌ أو قترٌ فإنه لا صيام تلك الليلة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غمَّ عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يومًا» .
ولقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُكثر من الصيام في شهر شعبان حتى كان يصومه إلا قليلاً منه وربما صامه كله؛ ولهذا ينبغي للإنسان الذي لا يُضعفه الصوم عن شيء مهمٍّ ينبغي له أن يُكثر من الصوم في شهر شعبان اقتداءً برسول الله - صلى الله عليه وسلم - واحتسابًا للأجر؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصومه، ومَن كان عليه شيء من قضاء رمضان فلْيُبادر به قبل أن يأتي رمضان المقبل؛ لأن عائشة - رضي الله عنها - كانت تقول: «يكون عليَّ الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان» وهذا دليلٌ على أنه لا يجوز للإنسان أن يؤخِّر قضاء رمضان الماضي إلى رمضان التالي، فمَن كان منكم عليه قضاء فلْيُبادر به قبل أن يأتي رمضان؛ لأن الصوم دَيْن كما شبَّهَهُ النبي - صلى الله عليه وسلم - به، والدَّيْن لا تبرأ به الذمة إلا بوفائه .
فبادروا - رحمكم الله - بقضاء ما عليكم من الشهر قبل أن يفوت الأوان فتأثموا بتأخيره .
«واعلموا أن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة في دين الله بدعة، وكل بدعة ضلالة» «فعليكم بالجماعة» وهي: الاجتماع على دين الله، أن تجتمعوا على هذا الدين ولا تتفرقوا فيه؛ فإن التفرّق في دين الله سواء بين الطاعات والمعاصي أو بين الاجتهادات بين أهل العلم، التفرّق لا ينبغي أن يكون في هذه الأمة بل الواجب على الأمة أن تتآلف على دين الله تعالى وشرعه، والإنسان المجتهد لا يؤخذ باجتهاده .
«إن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدث في دين الله بدعة، وكل بدعة ضلالة» «وكل ضلالة في النار» «فعليكم بالجماعة؛ فإن يد الله على الجماعة، فمَن شَذَّ شَذَّ في النار» واعلموا أن الله أمركم بأمر بدأه بنفسه فقال جلَّ من قائل عليمًا: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56] .
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، اللهم ارزقنا محبته واتِّباعه ظاهرًا وباطنًا، اللهم توفَّنا على ملَّته، اللهم احشرنا في زمرته، اللهم أدخلنا في شفاعته، اللهم أسْقنا من حوضه، اللهم اجمعنا به في جنّات النّعيم يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم .
اللهم ارضَ عن خلفائه الراشدين وعن أولاده وزوجاته أمهات المؤمنين وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وارضَ اللهم عنَّا معهم بِمَنِّك وكرمك يا رب العالمين، ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَاوَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [الحشر: 10] .
عباد الله، ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ [النحل: 90-91]، واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نِعَمِهِ يزدْكم ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَاتَصْنَعُونَ﴾[العنكبوت: 45] .