طالب العلم
06-24-2015, 01:55 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب الصيام
لناظمه الشيخ العلامة حافظ بن أحمد بن علي الحكمي - رحمه الله -
وشارحه الشيخ العلامة زيد بن محمد بن هادي المدخلي - حفظه الله -
باب فرضيته وفضله
للصوم معنيان :
معنى في اللغة : وهو الإمساك ، تقول العرب : صام الفرس عن الجري ، وصام الرجل عن الكلام ، أي : أمسك عنه ؛ ومنه (( إني نذرت للرحمن صوما )) [ سورة مريم : 26 ] . أي : سكوتا عن الكلام .
ومعنى في الشرع : وهو إمساك مخصوص في زمن مخصوص من شخص مخصوص عن أشياء مخصوصة مع النية .
أما الزمن المخصوص : فمن طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس .
وأما الشخص المخصوص : فهو المسلم العاقل غير المرأة الحائض والنفساء (1) . وأما الأشياء المخصوصة : فهي مبطلات الصوم ومكروهاته ، وقد فُرض الصوم في السنة الثانية من الهجرة في شهر شعبان ، فصام النبي صلى الله عليه وسلم تسع رمضانات(2)كما هو معروف من تاريخ حياته المباركة الطاهرة العامرة بكل طاعة وخير ومعروف .
(1) : قال ابن هبيرة في الإفصاح : " اتفقوا على أنه يتحتم فرض صوم شهر رمضان على كل مسلم ومسلمة بشرط البلوغ والعقل والطهارة والقدرة ، والإقامة ."
قلت : والمراد بالطهارة من الحيض والنفاس .
(2) : وقبل فرض رمضان المبارك كان المفروض صوم يوم عاشوراء حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة صامه ، وأمر الناس بصيامه ، فلما فرض رمضان كان هو الفريضة وترك عاشوراء ، فمن شاء صامه ومن شاء تركه ، كما روى مالك والشيخان وغيرهما عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت : " كان يوم عاشوراء يوما تصومه قريش في الجاهلية ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه في الجاهلية ، فلماقدم رسول الله المدينة صامه ، وأمر الناس بصيامه ، فلما فرض رمضان كان هو الفريضة ، وترك يوم عاشوراء ، فمن شاء صامه ومن شاء تركه " . انظر شرح السنة ( ج 6 ص 212 ) .
ن : صيام شهر رمضان حتما ***** بالآي والحديث فرضا علما
وهو على من تجــب الصـــلاة ***** عليه إذ جاءت بذا الآيــــات
واستثن من ذا من يكن معذورا ***** شرعا ويأتي حكمهم مذكورا
وهو لــهذا الــدين ركـــن رابع *****................................
ش : قوله :
صيام شهر رمضان حتما ***** بالآي والحديث فرضا علما
أي: أن صيام شهر رمضان قد ثبتت فرضيته بالكتاب والسنة والإجماع .
أما الكتاب : فقول الله عز وجل http://bamhrez.com/vb/( ياأيها الذين ءامنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون )) [ البقرة 183 ] .
وقوله سبحانه : (( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه )) [ البقرة 185 ] .
وأما السنة : فقد ثبت عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان وحج البيت من استطاع إليه سبيلا " .
وأما الإجماع : فقد أجمعت الأمة المسلمة على وجوبه ، ولم يخالف في ذلك مخالف ، ولم يشك أو يتردد في ذلك أحد ، بل إن فرضيته معلومة لأمة الإسلام من الدين بالضرورة ، ومن أنكر فرضيته بعد قيام تلك الأدلة القوية عليها فهو كافر مرتد عن الإسلام ، يستتاب ويدعى إلى الإقرار بوجوبه وفرضيته ، فإن لم يؤمن بذلك فإنه يقتل مرتدّا عن الإسلام ، والعياذ بالله .
قوله :
وهو على من تجب الصلاة *****عليه إذ جاءت بذا الآيات
أي : أن الصوم يجب على من تجب عليه الصلوات المفروضة ، وذلك بأن تتوفر فيه الشروط التالية :
ا - الإسلام : فلا يصح من كافر ؛ لأنه لم يأت بالأصل الذي تقبل معه التكاليف ، وإن كان الكفار مخاطبون بأصول الشريعة وفروعها على الصحيح .
ب - العقل : فلا يصح من مجنون ونحوه ، ولا يجب عليه ما دام غير عاقل لما ثبت عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" رفع القلم عن ثلاثة : عن النائم حتى يستيقظ ، وعن الصبي حتى يحتلم ، وعن المجنون حتى يعقل ". رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال : حديث حسن .
ج - البلوغ : فلا يجب على صبي لم يبلغ الحنث ؛ لأن القلم مرفوع عنه كما في حديث عائشة السابق .
د - القدرة على الصوم : فلا يجب على المريض ، ولا على مسافر ، ولا على شيخ طاعن في السن ، ولا على حامل ولا مرضع تلحقهما أو ولديهما مشقة بسبب الصوم كما قال تعالى http://bamhrez.com/vb/( وعلى الذين يطيقونه - يتكلفونه بمشقة - فدية طعام مسكين )) [ سورة البقرة 184 ] وكما قال سبحانه : (( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر )) [ البقرة : 185 ] .
وقوله ........................... ***** .......... إذ جاءت بذا الآيات
أي : أن وجوب الصوم يتعلق بمن وجبت عليه الصلاة ، وحيث إن الصلاة وجبت بنصوص قرآنية كما في قوله : (( وأقيموا الصلاة وءاتوا الزكاة )) [ سورة البقرة 43 ] .
وقوله : (( إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا)) [ سورة النساء 103 ] .
فكذلك جاءت بفرضية الصوم آيات قرآنية كما في قوله تعالى : (( كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون )) [ سورة البقرة 183 ] .
وكما في قوله عز وجل : (( فمن شهد منكم الشهر فليصمه )) [ سورة البقرة 185 ] .
وكلاهما ركن من أركان الإسلام .
قوله :
واستثن من ذا من يكن معذورا ***** شرعا ويأتي حكمهم مذكورا
أي : أنه يستثنى ممن يجب عليهم الصوم من كان معذورا بنص شرعي وذلك كالمريض والمسافر والحامل والمرضع والشيخ الكبير والحائض والنفساء ، فهؤلاء معذرون شرعا كما ستأتي أحكامهم مفصلة في بابها .
وقوله :
وهو لهذا الدين ركن رابع ***** ............................
أي : وصوم شهر رمضان هو الركن الرابع من الأركان التي بني عليها الإسلام كما في حديث جبريل المشهور الذي رواه عمر بن الخطاب وفيه : أن جبريل سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا .
ومثله في الدلالة على هذا المعنى حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : بني الإسلام على خمس " وقد تقدم قريبا .
ولهذه النصوص وجب الإيمان بفرضيته ، والعمل به إيمانا واحتسابا ، ومن أنكر فرضيته فقد ارتد عن الإسلام إن كان قبل ذلك مسلما .
ن : ............................. ***** وكم له قد صح فضل ساطع
تفتح أبواب الجنان إن دخــــل ***** شهر الصيام والشياطين تغل
شهر به تفتح أبواب الســــما ***** وتغلق الأبواب من جهنمـــــا
شهر بصومه الذنـــــوب تغفــر***** وتعتق الرقــاب نصا يؤثـــــر
خلوف في الصائم دون شـــك ***** تــفضل عند الله ريح المسـك
وإن فــي الـجــنة للصـــــــوّام ***** بابا له الرّيّان اسم ســـــامي
وقد روى نبيــــنا عــن ربــه ***** لي الصيام وأنا أجــزي بــــه
وصح للصــــــائم فرحــــتان ***** مع فطره ومع لقــا الرحــــمن
وغير هذا من فضــــائل تعد ***** وكم بتــــركه وعــيد قـــد ورد
ش : في هذه الأبيات شرح مفصل لما لشهر الصيام والقيام من الفضل الكبير والخير الكثير الذي جاءت بذكره النصوص الصريحة ذات المعاني الصحيحة والأنوار المضيئة وإن من فضائله :
ا - أن أبواب الجنان تفتح لدخوله ، وتغلق أبواب النيران ، وتصفد مردة الشياطين ، كما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة ، وغلقت أبواب النار ، وصفدت الشياطين " .
ب - ومنها : أن أبواب السماء تفتح وأبواب جهنم تغلق ، فلا يفتح منها باب والشياطين تسلسل كما في الرواية الأخرى لأبي هريرة رضي الله عنه حيث قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إذا كان رمضان فتحت أبواب الرحمة ، وغلقت أبواب جهنم ، وسلسلت الشياطين : .
وإلى هذه الفضائل التي جاء تبيانها في هذين النصين أشار الناظم بقوله :
تفتح أبواب الجنان إن دخل ***** شهر الصيام والشياطين تغل
شهر به تفتح أبواب الســـما ***** وتغلق الأبواب من جهنمــــا
ج - ومنها : أن الذنوب تغفر لمن صامه إيمانا واحتسابا ، وتعتق الرقاب كذلك ، وتكثر فيه النداءات بالحث على فعل الخير والإكثار منه ، وترك الشر بحذافيره ، وتلك النداءات تصدر ممن نسمع ونرى ، وممن لا نسمع ولا نرى ، وقد جاء بيان هذه الفضائل في حديثين ثابتين :
أحدهما : في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ، ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه : .
ثانيهما : رواه الترمذي وابن ماجه والحاكم عنه رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن ، وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب ، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب ، وينادي مناد : يا باغي الخير أقبل ، ويا باغي الشر أقصر ، ولله عتقاء من النار ، وذلك كل ليلة " .
د - ومنها : أن خلوف فم الصائم فيه أطيب عند الله من ريح المسك كما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" الصيام جُنة ، فإذا كان أحدكم صائما فلا يرفث ولا يجهل ، فإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل : إني صائم .
وقال : والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك ، إنما يذر شهوته وطعامه وشرابه من أجلي فالصيام لي وأنا أجزي به ، كل حسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به " .
هـ - ومنها : ما أعده الله عز وجل للصائمين في الجنة حيث خصهم بباب يقال له الريان ، يدخلون منه ، فيشربون فلا يظمئون أبدا ، كما في حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" إن في الجنة بابا يقال له الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة ، لا يدخل منه أحد غيرهم يقال : أين الصائمون ؟ فيقومون لا يدخل منه أحد غيرهم ، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد " .
أشار الناظم بقوله :
خلوف في الصائم دون شك ***** تفضل عند الله ريح المسك
وإن في الجنة للصـــــــوّام ***** بابا له الرّيّان اسم ســـــامي
و - ومنها جلالة قدر عبادة الصوم ، وأن ثوابه لا يعد ولا يحصى ؛ لكونه سرا عظيما بين العبد وبين ربه ، وتربية للنفس يختلف عن غيره من العبادات .
ز - ومنها : الفرح والسرور الذي يتمتع به الصائم عند فطره ويوم لقاء ربه، ومنها أنه وقاية للإنسان من الوقوع في المعاصي لما له من التأثير على قوة الشهوة وكذلك هو جُنة للعبد يوم القيامة من النار ، فقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف قال الله سبحانه وتعالى إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به ، يدع طعامه وشهوته من أجلي ، للصائم فرحتان : فرحة عند فطره ، وفرحة عند لقاء ربه ، ولخلوف فم فيه أطيب عند الله من ريح المسك ، الصوم جُنة ، الصوم جُنة " .
وإلى هذه الفضائل أشار الناظم بقوله :
وقد روى نبينا عن ربه ***** لي الصيام وأنا أجزي به
وصح للصائم فرحتــان ***** مع فطره ومع لقا الرحــمن
هذا وكم للصوم من فضائل ينالها الصائمون في دنياهم وأخراهم ، وبجانب ذلك فكم من وعيد شديد ترتب على ترك الصيام أو الخيانة فيه ، والتحايل لإسقاطه .
من ذلك ما رواه أبو داود والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" من أفطر يوما من رمضان من غير رخصة ولا مرض ؛ لم يقضه صوم الدهر وإن صامه " هذا لفظ الترمذي .
أما أبو داود فليس فيه ذكر :" المرض " ، ولا : " كله وإن صامه " .
وقال البخاري : " باب إذا جامع في رمضان "
ويذكر عن أبي هريرة رضي الله عنه رفعه :" من أفطر يوما من رمضان من غير علة ولا مرض لم يقضه صيام الدهر وإن صامه " وبه قال ابن مسعود .
قلت : ورواية البخاري المعلقة تشهد لما رواه أبو داود والترمذي وابن أبي شيبة والطبراني والبيهقي .
وإلى الإشارة بكثرة فضائل الصوم والتحذير من تركه عمدا بأي وسيلة من وسائل المكر والحيل أشار الناظم بقوله :
وغيرهذا من فضائل تعد ***** وكم بتركه وعيد قد ورد .
باب ما يثبت به الصيام والإفطار
ن : ثبـــوته برؤية الهـــــــلال ***** وحيث إغماء فبالإكمـــــال
عدة شعبـــــان ثلاثين وفـــــي ***** خروجه الأمركذاك فاعرف
والخلف في شهادة الهــــــــلال ***** على ثلاثــة من الأقــــــوال
فـــقيل لابـــد مـــن العــــدلين ***** في الصوم والفطركلا الحالين
وقيل في دخوله عـــــــدل وفي ***** خروجه عدلان شرطان تفــي
وقيل يكفي العدل في الفـطر كما ***** في رؤية الصوم لما قدعلما
من كونه قد صح في الدين العمل ***** بخبر الواحد من غير جدل
ش : قوله :
ثبوته برؤية الهــــــلال ***** وحيث إغماء فبالإكمال
عدة شعبان ثلاثين ......***** ..........................
أي : يثبت صوم رمضان برؤية هلاله ، فإذا لم ير الهلال ليلة الثلاثين من شعبان لغيم ونحوه فإنه يثبت الصوم بأمر آخر ؛ وهو إكمال عدة شعبان ثلاثين يوما .
وقوله :
....................وفي ***** خروجه الأمر كذاك فاعرف
أي : ويثبت الفطر برؤية هلال شوال فإن لم ير هلال شوال ليلة الثلاثين لغيم ونحوه ، فقد وجب إكمال عدة رمضان ثلاثين يوما لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" الشهر تسع وعشرون ، فلا تصوموا حتى تروا الهلال ، ولا تفطروا حتى تروه ، فإن غم عليكم فاقدروا له " .
وفي حديث أبي هريرة :" صوموا لرؤيته ، وأفطروا لرؤيته ، فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما " .
وأما نصاب الشهادة على رؤية هلال رمضان ، وكذا على رؤية هلال شوال ، فقد اختلف العلماء فيها على عدة أقوال :
الأول منها : وهو الراجح الإكتفاء بشهادة رجل مسلم على دخول رمضان لما روى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " إني رأيت الهلال - يعني : رمضان - فقال : أتشهد أن لا إله إلا الله ؟ قال : نعم ، قال : أتشهد أن محمدا رسول الله ؟ قال : نعم ، قال : يا بلال أذن في الناس فليصوموا غدا " .
ورواه أبو داود أيضا من حديث حماد بن سلمة عن سماك بن حرب عن عكرمة مرسلا بمعناه ، وقال :" فأمر بلالا فنادى في الناس أن يقوموا وأن يصوموا " .
فإن في هاتين الروايتين دليلا على وجوب قبول شهادة مسلم واحد برؤية هلال رمضان ، ومن ثم وجوب الصوم بها ، وإلى هذا ذهب الإمام أحمد والشافعي في أحد قوليه ، وبه قال ابن المبارك وقال النووي : وهو الأصح ، وأما عند الخروج فيشترط شهادة عدلين ، وذلك عند الجمهور من الفقهاء والمحدثين إلا أبا ثور وأبا بكر بن المنذر فإنهما لم يفرقا بين هلال شوال وهلال رمضان وقالا : يقبل في الدخول والخروج شهادة الواحد ، وقد نصر رأيهما الإمام الشوكاني حيث قال : " وإذا لم يرد ما يدل على اعتبار الإثنين في شهادة الإفطار من الأدلة الصحيحة فالظاهر أنه يكفي فيه قياسا على الإكتفاء به في الصوم ، وأيضا التعبد بقول خبر الواحد على قبوله في كل موضع إلا ما ورد الدليل بتخصيصه بعدم التعبد فيه بخبر الواحد ، كالشهادة على الأموال ونحوها فالظاهر ما ذهب إليه أبو ثور " .
الثاني : لابد من شهادة عدلين على دخول رمضان وعلى خروجه بدون فرق بين نصاب الشهادة في الدخول والخروج ، وبذلك قال بعض الفقهاء كمالك والليث والأوزاعي والثوري والشافعي في أحد قوليه والهادوية ، واستدلوا بالحديثين التاليين :
1 - ما رواه النسائي في سننه عن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أنه خطب في اليوم الذي شك فيه فقال : ألا إني جالست أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وساءلتهم ، وإنهم حدثوني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" صوموا لرؤيته ، وأفطروا لرؤيته ، وانسكوا لها ، فإن غم عليكم فأتموا ثلاثين يوما ، فإن شهد شاهدان مسلمان فصوموا وأفطروا " . حديث صحيح .
2 - وما رواه أبو داود والدارقطني عن أمير مكة الحارث بن حاطب قال : " عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننسك للرؤية ، فإن لم نره ، وشهد شاهدا عدل نسكنا بشهادتيهما " .
وقال الدارقطني : هذاإسناد متصل صحيح ، ووجه الدلالة من النصين هو اشتراط العدد حيث قال في الحديث الأول :" فإن شهد شاهدان مسلمان " . وقال في الثاني :" وشهد شاهدا عدل " . ولم يقتصر على واحد في حال من الحالين غير أن الجمهور الذين يرون ثبوت الصوم بشهادة عدل واحد قالوا : إن التصريح بالإثنين غاية ما فيه المنع من قبول واحد بالمفهوم ، وحديث عكرمة وحديث ابن عمر يدلان على قبول شهادة الواحد برؤية هلال رمضان بالمنطوق ، ودلالته أرجح ، كما هو معلوم من قواعد الأصول .
الثالث : وقيل : إنه يكفي في ثبوت الرؤية ومن ثم الصوم والفطر شهادة عدل واحد وهذا القول منسوب إلى أبي ثور وقد اعتمد فيه على أنه يعمل بخبر الواحد في كثير من الأحكام كرؤية هلال رمضان :" وكقصة الرجل الذي صلى صلاة العصر مع الني صلى الله عليه وسلم قبل الكعبة ، ثم خرج فمر عل أهل مسجد وهم راكعون متجهين إلى بيت المقدس ، فقال : أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الكعبة ، فداروا كما هم قبل البيت " .
وغير ذلك من الأحكام التي تثبت بشهادة الواحد ، والعمل بخبر الواحد لا ينكره أحد ، ولا يجادل فيه ، إلا أن أبا ثور في هذه المسألة خالف كافة العلماء وترك أدلتهم الصريحة في اشتراط عدلين يشهدان برؤية هلال شوال ، كما رأيت .
وإلى هذا الخلاف أشار الناظم بقوله :
والخلف فــي شهادة الهـــــلال ***** على ثلاثــــة مـــن الأقــــــوال
فـــقيل لابـــــد من العـــــدليــن ***** في الصوم والفطر كلا الحالين
وقيل في دخوله عــــدل وفـــي ***** خروجه عدلان شرطان تفــي
وقيل يكفي العدل في الفطر كما ***** في رؤية الصوم لما قد علمـا
من كونه قد صح في الدين العمل***** بخبر الواحد من غير جــــدل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــ
ن : وإن رؤي في بلد هل يلزم ***** بقية البلدان خلف لهم
بعد اتفــــــــــاقهم على لــــــزوم ***** وفاق أهله على العموم
ش : تضمن هذان البيتان مسألتين من مسائل كتاب الصوم :
الأولى منهما : اتفاق العلماء على أنه متى ثبتت رؤية هلال رمضان في بلد فقد لزم جميع أهل ذلك البلد الصيام .
وقد أشار الناظم إلى هذه المسألة بقوله :
بعد اتفاقهم على لزوم ***** وفاق أهله على العموم
المسألة الثانية : إذا رؤي الهلال في بلد فهل يلزم بقية بلدان العالم الصيام برؤية أهل ذلك البلد أم لا ؟
والجواب : أن هذه المسألة محل خلاف بين العلماء وحاصله :
1 - ذهب الفقهاء كالقاسم بن محمد ، وسالم بن عبد الله ، وإسحاق إلى أن لأهل كل بلد رؤيتهم ، وحكاه الترمذي عن أهل العلم ولم يحك سواه ، واستدل هؤلاء بما رواه أحمد ومسلم والترمذي عن كريب رضي الله عنه : " أن أم الفضل بعثته إلى معاوية بالشام فقال : قدمت الشام فقضيت حاجتها ، واستهل عليّ رمضان وأنا بالشام ، فرأيت الهلال ليلة الجمعة ، ثم قدمت المدينة في آخر الشهر فسألني عبد الله ابن عباس ثم ذكر الهلال فقال : متى رأيتم الهلال ؟ فقلت : رأيناه ليلة الجمعة ، فقال أنت رأيته ؟ فقلت : نعم ، ورآه الناس وصاموا وصام معاوية . فقال : لكنا رأيناه ليلة السبت ، فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نره . فقلت : ألا تكتفي برؤية معاوية وصيامه ؟ فقال : لا ، هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم " .
2 - وذهب جمهور الفقهاء إلى أنه إذا رؤي هلال رمضان في بلد لزم أهل البلاد كلها أن يصوموا ؛ لأن الخطاب في قوله صلى الله عليه وسلم :" صوموا لرؤيته " الحديث ، عام لجميع المسلمين ؛ ولأن رمضان ثبت دخوله ، فثبتت أحكامه ؛ فوجب صيامه على عموم المسلمين برؤية عدل منهم في أي مكان كان .
3 - وفصل بعض الفقهاء كالشافعي في المشهور عنه فقال : إن اختلفت المطالع فلكل قوم مطلعهم ، وإن اتفقت المطالع فحكم الجميع واحد في الصوم والإفطار ، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وهو كما ترى اختيار وجيه لاختلاف زمن المطالع والمغارب ، لاسيما بالنسبة لأهل الشرق الأقصى والمغرب كذلك .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
باب تبييت النية وحكم الفوات لغرة أو عذر
ن : وواجـــب تبييــته بالليــل ***** نية صوم الفرض دون النفل
وحيث بان الصوم بعد أن مضى***** بعض النهارصامه ثم قضى
ومن يـــكن شرط قبـــول فقــدا ***** أو صحــة ثم به قــد وجــدا
ككافــــر أثــــناءه قـــد أسلمــــا ***** ومثله الصغير حيث احتلمــا
كذاك ذو الإغمـــــاء قل إن يفـــق***** أوجب عليهمو صيام ما بقي
ش : قوله :
وواجب تبييته بالليل ***** نية صوم الفرض دون النفل
1 - أي أنه يجب تبييت نية الصيام في الفرض ، وإيقاعها في أي جزء من أجزاء الليل ، إذ لا يصح الصوم إلا بتبييتها ، وقد قال بذلك بعض العلماء والأئمة كأبي حنيفة والشافعي وأحمد في أحد قوليه ، والهادي والقاسم واستدلوا بحديث : " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى " الحديث ، وبما رواه أحمد وأصحاب السنن والدارقطني عن حفصة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له " .
2 - أما الإمام مالك والليث وابن أبي ذئب وقبلهم ابن عمر وجابر بن زيد فإنهم قالوا بوجوب تبييت النية في الفرض والنفل مطلقا .
3 - وروي عن ابن مسعود أن التبييت لا يجب إلا في صوم القضاء والنذر المطلق والكفارات .
والذي يترجح : وجوب تبييت النية فيما كان فرضا ، أما التطوع فصاحبه أمير نفسه فسواء بيت النية من الليل أو قبل الزوال أو بعده فالصوم صحيح ومنعقد ، وإن أحب أن يفطر أثناء النهار فله ذلك ولا إثم عليه ولا قضاء عند الجمهور ، وهو الصحيح لأنه لم يجب بذمته شيء حتى يعاقب على تركه ، والدليل عليه ما روته عائشة رضي الله عنها أنها قالت :" دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال : هل عندكم من شيء ؟ فقلنا : لا . فقال : فإني إذن صائم . ثم أتانا يوما آخر فقلنا : يا رسول الله ، أهدي لنا حيس . فقال : أرينه فلقد أصبحت صائما ، فأكل " رواه مسلم ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي .
وزاد النسائي : ثم قال :" إنما مثل صوم المتطوع مثل الرجل يُخرج من ماله الصدقة ، فإن شاء أمضاها وإن شاء حبسها ."
وفي لفظ له أيضا قال :" يا عائشة إنما منزلة من صام في غير رمضان ، أو في التطوع بمنزلة رجل أخرج صدقة ماله فجاد منها بما شاء فأمضاه ، وبخل منها بما شاء فأمسكه ".
قال البخاري : وقالت أم الدرداء : كان أبو الدرداء يقول : عندكم طعام ؟ فإن قلنا : لا .قال : فإني صائم يومي هذا .قال وفعله أبو طلحة وأبو هريرة وابن عباس وحذيفة رضي الله عنهم .
قوله :
وحيث بان الصوم بعد أن مضى ***** بعض النهار صامه ثم قضى
أي : من تبين له أثناء النهار أن ذلك اليوم من رمضان وجب عليه صيام الباقي من يومه ، ووجب عليه القضاء بدليل ما جاء في البخاري ومسلم والنسائي عن سلمة ابن الأكوع رضي الله عنه :" أن رسول صلى الله عليه وسلم أمر رجلا من أسلم أن أذن في الناس إذ فرض يوم عاشوراء : ألا من أكل فليمسك ومن لم يأكل فليصم " وكان ذلك في النهار .
قوله :
ومن يكــن شرط قبول فقــــــدا ***** أو صحة ثم بــه قد وجــــدا
ككافــــــــــر أثــــناءه قد أسلما ***** ومثله الصغير حيث احتـلما
كذاك ذو الإغمــاء قل إن يفـــق ***** أوجب عليهمو صيام ما بقي
في هذه الأبيات الثلاثة بيان أن من كان فاقدا شرطا من شروط قبول الصوم أو شرطا من شروط صحته التي تقدم ذكرها ، ثم وجد ذلك الشرط في أثناء نهار رمضان ، فإنه يجب على من كان ذلك شأنه أن يصوم ما بقي من يومه ، وأن يقضي يوما مكانه ، وذلك كالكافر إذا أسلم أثناء النهار ، والصغير إذا بلغ ، وصاحب الإغماء إذا أفاق فإنهم يلزمهم صوم ما بقي من يومهم ثم القضاء ، والقول بوجوبه أحوط ويلحق بهؤلاء كل من الحائض والنفساء إذا طهرتا أثناء النهار ، وجب عليهما الإمساك والقضاء وكذا المسافر إذا قدم أثناء النهار والمريض إذا برىء من مرضه كذلك ، وذلك لزوال المانع والعذر المبيح ، فقد روى أبو داود عن عبد الرحمن بن مسلمة عن عمه :" أن أسلم أتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : صمتم يومكم هذا ؟ قالوا : لا . قال : فأتموا بقية يومكم واقضوه " .
وهو صريح في وجوب الإمساك على من أسلم في نهار رمضان ، ووجوب قضاء ذلك اليوم ، ويلحق كل من ذكر من صغير بلغ ، أو مجنون ، أو صاحب إغماء أفاق ، ومن زال عذره المانع من الصوم كما رأيت قريبا ، والله أعلم .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
باب فضل السحور و تأخيره و تعجيل الفطر
ن : والفطر والسحور فيهما أتى ***** فضل عن الرسول نصا ثبتا
قــــولا وفــــعلا آمـــــرا مرغــبا ***** فلا تكن عما ارتضاه راغـبا
ثـــم الســحور صح ما الليل بقي ***** وفات بانشقاق فجر صـادق
وبالغــــروب الفـــطر حل فاعــلم ***** ولا تؤخر لظهــور الأنجـــم
وســن فـي الإفطــار أن يعجـــّلا ***** وأخر السحـور نصّا انجــلا
ش : هذه الأبيات تتعلق بمشروعية السحور والإفطار ، وبيان الآداب التي ينبغي أن يلتزمها المسلم حيال سحوره وإفطاره ففي قوله :
والفطر والسحور فيهما أتى ***** فضل عن الرسول نصّا ثبتا
قــولا وفــعلا آمـــــرا مرغبا ***** فلا تكن عما ارتضاه راغبا
أي : أنه قد ورد في نصوص السنة الصحيحة القولية والفعلية فضل عظيم في أكلة السحور والإفطار وبأساليب متنوعة ، ترغيبا وترهيبا ، ترغيبا في الفعل وترهيبا من التساهل والترك فمن تلك النصوص :
1 - ما رواه البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " تسحروا فإن في السحور بركة " .
ففي هذا الحديث الترغيب في التماس هذه البركة التي يمكن أن تحصل من جهات متعددة ، بل وتكون حسية ومعنوية :
ا - فمنها : اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم وإحياؤها وكفى بذلك بركة وفضلا .
ب - ومنها : التقوي بأكلة السحور على القيام بوظائف النهار بارتياح ونشاط .
ج - ومنها : مدافعة ما يسببه الجوع من سوء الأخلاق أثناء التعامل مع الناس في معترك الحياة .
د - ومنها : مخالفة أهل الكتاب ، فإنهم لا يتسحرون كما شرع للمسلمين ومخالفتهم قربة من القربات .
ه - ومنها : ذكر الله وقت السحر من قراءة أو استغفار أو صلاة وكل ذلك خير وبركة .
و - ومنها : أن الله وملائكته يصلون على المتسحرين كما جاء في المسند عن أبي سعيد مرفوعا :" السحور أكله بركة ، فلا تدعوه ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء ، فإن الله وملائكته يصلون على المتسحرين " .
2 - ومن النصوص الدالة على عظيم فضل السحور ما أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن عمرو بن العاص رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر " .
وهذا أعظم ترغيب وأبلغ حث على ملازمة هذه السنة النافعة المفيدة التي جعلت علامة فارقة بين صوم أهل الحق ، أتباع محمد صلى الله عليه وسلم وبين صوم عباد الهوى والشيطان من أهل الكتاب الذين ضلوا وأضلوا عن سواء السبيل .
قوله :
ثم السحور صح ما الليل بقي ***** وفات بانشقاق فجر صادق
أي : أن ليلة الصيام ظرف يحل فيه الأكل والشرب والجماع ، ولا يحرم على الصائم شيء من ذلك ما بقي جزء من الليل ، فإذا ذهب الليل وانشق الفجر الصادق الذي تحل فيه الصلاة حرم عليه ذلك كله إلى الليل بدليل قول الله عز وجل http://bamhrez.com/vb/( أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى اليل )) [ سورة البقرة : 187 ] الآية .
ولهذه الآية سبب نزول ذكره ابن كثير وغيره من المفسرين وهو : أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائما فنام قبل أن يفطر لم يأكل إلى مثلها وأن صرمة بن قيس الأنصاري كان صائما وكان يومه ذلك يعمل في أرضه فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال : هل عندك طعام ؟ قالت : لا ، ولكن أنطلق فأطلب لك فغلبته عينه فنام ، وجاءته امرأته فلما رأته نائما قالت : خيبة لك أنمت ؟ فلما انتصف النهار غشي عليه فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية : (( أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم )) الآية .
وقال ابن كثير - رحمه الله - في تفسيرها : " هذه رخصة من الله تعالى للمسلمين ورفع لما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام فإنه كان إذا أفطر أحدهم إنما يحل له الأكل والشرب والجماع إلى صلاة العشاء أو ينام قبل ذلك فمتى نام أو صلى العشاء حرم عليه الطعام والشراب والجماع إلى الليلة القابلةفوجد في ذلك مشقة كبيرة .
قوله :
وبالغروب الفطر حل فاعلم ***** ولا تؤخر لظهور الأنجم
وسن في الإفطار أن يعجلا ***** وأخر السحور نصا انجلا
ش : أي أنه بمجرد غروب الشمس يحل الفطر للصائم نصا صريحا يجب أن يعلم ويعمل به ، بل إن من حق الصائم أن يبادر باإفطار فور غروب الشمس ولا يجوز له تأخير الإفطار حتى يظهر له النجم كما صنع اليهود والنصارى الذين وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في الحديث الذي أخرجه أبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم :" لا يزال الدين ظاهرا ما عجل الناس الفطر ، لأن اليهود والنصارى يؤخرونه " .
وعند الحاكم وابن حبان عن سهل بن سعد :" لا تزال أمتي على سنتي ما لم تنتظر بفطرها النجوم ."
ومثل اليهود في المبالغة في تأخير الإفطار الرافضة ، فإنهم يؤخرونه حتى تظهر النجوم ، وما ذلك إلا لقلة حظهم من الدين ، ورغبتهم عن سنة خير المرسلين وخاتم النبيين محمد - صلى الله عليهم أجمعين - .
وأما السحور : فالسنة فيه التأخير لنصوص كثيرة وردت في الإرشاد والترغيب في تعجيل الإفطار وتأخير السحور :
ا - منها : ما رواه أحمد بسنده عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول :" لا تزال أمتي بخير ما أخروا السحور وعجلوا الفطر " .
ب - ومنها : ما جاء في الصحيحين عن أنس بن مالك عن زيد بن ثابت قال :" تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قمنا إلى الصلاة ، قال أنس ثم قلت لزيد : كم كان بين الأذان والسحور ؟ قال : قدر خمسين آية " .
ج - ومنها : ما جاء عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يمنعكم أذان بلال عن سحوركم ، فإنه ينادي بليل ، فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر " .
د - وروى عطاء عن ابن عباس أنه قال :" الفجر فجران : فأما الذي يسطع في السماء فليس يحل ولا يحرم شيئا ، ولكن الفجر الذي يستنير على رءوس الجبال هو الذي يحرم الشراب ."
فهذه النصوص تدل على مشروعية تعجيل الإفطار عند غروب الشمس بدون تردد ولا شكوك كما تدل على مشروعية تأخير السحور إلى آخر جزء من الليل لما في ذلك من المصالح المتعددة ، ولو لم يكن فيها إلا إحياء السنة ومخالفة الغلاة من أهل الكتاب والرافضة ؛ لكفى بذلك مصلحة وخيرا .
ن : وسن فطره على التمر إذا ***** كان وإلا الما طهور فخذا
وسن في الفطر الدعا بما ورد ***** إذ دعوة الصائم فيه لا ترد
ش : في هذين البيتين بيان سنتين من سنن الصوم النافعة :
الأولى منهما : الفطر على التمر إن وجد ، فإن لم يوجد فعلى حسوات من ماء فإنه طهور ، لما روى أحمد وأبو داود والترمذي عن أنس بن مالك قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر قبل أن يصلي على رطبات ، فإن لم تكن رطبات فتميرات ، فإن لم يكن تميرات حسا حسوات من ماء " .
ففي هذا النص دليل صريح على استحباب الفطر على الرطب إن وجد ، لأنه أفضل من اليابس ، فإن لم يوجد رطب فعلى التمر ، فإن لم يوجد رطب ولا تمر فيستحب للصائم أن يفطر على حسوات من ماء ، ومثل حديث أنس في الدلالة ما رواه الخمسة وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم عن سلمان بن عامر الضبّي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" من وجد التمر فليفطر عليه ، ومن لم يجد التمر فليفطر على ماء فإن الماء طهور " .
وقد ذكر الإمام الشوكاني - رحمه الله - علة مشروعية الإفطار على التمر فقال :" وإنما شرع الإفطار بالتمر لأنه حلو ، وكل حلو يقوي البصر الذي يضعف بالصوم ، وهذا أحسن ما قيل في بيان وجه الحكمة ."
قلت : ولعل قائلا يقول : إذا كانت العلة هي الحلاوة وهي توجد في التمر وغيره ، بل ربّما يكون وجودها في غيره أبلغ ، فهل من اختار لفطره نوعا من أنواع الحلويات يكون مصيبا للسنة أم لا ؟
الجواب : أنه لم يكن مصيبا للسنة ، وإنما السنة في التقيد بفعل ما أرشدنا إليه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد أرشدنا إلى الرطب فالتمر ، وعند عدمهما إلى الماء فإنه طهور .
وتعليل مشروعية الإفطار على الرطب والتمر بأنه حلو سبيله الإجتهاد ، وليس من العلل المنصوص عليها من الشارع صلى الله عليه وسلم فليعلم ذلك .
وقد أشار الناظم إلى هذه السنة بقوله :
وسن فطره على التمر إذا ***** كان وإلا الما طهور فخذا
والسنة الثانية : مشروعية الدعاء للصائم على العموم ، وعند فطره على وجه الخصوص ، فقد روى الترمذي في جامعه بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه حديثا طويلا وفيه :" ثلاثة لا ترد دعوتهم : الإمام العادل ، والصائم حتى يفطر ، ودعوة المظلوم فوق الغمام وتفتح لها أبواب السموات ، ويقول الرب : وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين .
وأما الدعاء عند الإفطار فقد جاء فيه أحاديث بعضها ضعيف وبعضها حسن كحديث مروان بن المقفع قال : رأيت عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقبض على لحيته ، فيقطع ما زاد على الكف قال : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أفطر قال : " ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله " رواه أبو داود والدارقطني وحسنه ، والحاكم وصححه .
وإلى هذا أشار الناظم بقوله :
وسن في الفطر الدعا بما ورد ***** إذ دعوة الصائم فيه لا ترد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــ
ن : وقد نهى النبي عن الوصال ***** أي صوم الأيام مع الليالي
مع فعله لــــــــه لا لــــــــلحرمة ***** ذا النهي لكن رحمة بالأمة
ش : في هذين البيتين بيان مسألة واحدة من مسائل الصوم ، وهي مسألة الوصال في الصوم ، وهو ترك ما يفطر بالنهار عمدا في ليالي الصيام ، وقد عرفه الناظم بقوله : " ........ ***** ......صوم الأيام مع الليالي " .
وقد اختلف العلماء في حكمه على ثلاثة أقوال :
القول الأول : ما ذهب إليه الإمام أحمد وإسحاق ، ورجحه ابن القيم وشهد له أنه أعدل الأقوال وهو التفصيل ، فقالوا : إنه جائز إلى السحر مع أن الأولى تركه تحقيقا لتعجيل الإفطار ، ومكروه بأكثر من يوم وليلة لما روى البخاري من حديث أبي سعيد :" لا تواصلوا ، وأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر ".
القول الثاني : الجواز مع القدرة عليه ، واختاره جمع من السلف كعبد الله بن الزبير وعبد الرحمن بن أبي نعم وإبراهيم بن زيد التميمي ، وأبي الجوزاء وقد استدل هؤلاء بمواصلة النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه يوما ثم يوما ثم رأوا الهلال ".
القول الثالث : التحريم مطلقا ، وقد ذهب إليه الأئمة الثلاثة أبو حنيفة ومالك والشافعي ، واستدلوا بحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال :" نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال . قالوا : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إنك تواصل ، قال : إني لست كهيئتكم ، إني أطعم وأسقى " متفق عليه .
ووجه الإستدلال عند هؤلاء أن النهي يقتضي التحريم ، واعتذروا عن مواصلة النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه فقالوا : إنه لم يقصد به التقرير ، وإنما قصد به التنكيل كما هو معلوم من ألفاظ الحديث ، فحين نهاهم فلم ينتهوا ، بل ألحوا في الطلب واصل بهم لتأكيد النهي والزجر وبيان الحكمة من نهيهم وظهور المفسدة التي نهاهم لأجلها ، فبعد بيان هذا يحصل منهم الإقلاع عنه وهو المطلوب .
قلت : وهو اعتذار وجيه وتعليل مقبول ، فدل على وجاهته وقبوله ألفاظ الأحاديث المضيئة فليتأمل .
أما بالنسبة لوصال النبي صلى الله عليه وسلم فهو أمر مشروع ؛ لأنه من خصائصه لوجود القدرة منه عليه ، والإعانة الخاصة من الله لنبيه ، حيث يبيت يطعمه ويسقيه بما يجد من لذة مناجاة ربه وسرور نفسه بذلك اللقاء الذي يحصل بين الله وبين خليله محمد صلى الله عليه وسلم .
وحيث ثبت أن الوصال من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم ، فلا سبيل إلى التأسي به فيه ، وإنما التأسي به فيما عدا الخصائص ، وسر نهينا عن الوصال إنما هو رحمة بنا ، لئلا يفرض على الأمة ما يشق عليها فلا تطيقه ، بل تعجز عن القيام به ، فتتعرض للعقوبات التي تترتب على ترك الفرائض والواجبات ، فالحمد لله الذي رحمنا وعافانا ، ولم يكلفنا من الأعمال ما يعنتنا .
باب ما يبطل الصوم وما يجوز فيه وما يكره
ن : يبطله أكل وشرب فاعلم ***** والقيء والجماع نصّا قد نمي
وكل ذي بحيث عمــدا فعـــلا ***** لا غير عـــامد فلـــيس مبطلا
ش : في هذين البيتين بيان لأشياء إذا فعلها الصائم أو فعل واحدا منها عامدا فقد بطل صومه وارتكب إثما عظيما وخسر خسرانا مبينا .
الأول والثاني : الأكل والشرب عمدا بخلاف من أكل أو شرب ناسيا أو مخطئا أو مكرها ، فإنه لا قضاء عليه ولا إثم ولا كفارة ؛ إذ لا اختيار له في ذلك ، وذلك لثلاثة أدلة :
الدليل الأول : ما ثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" من نسي وهو صائم فأكل أو شرب ، فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه " .
الدليل الثاني : ما أخرجه الدارقطني والحاكم وصححه عن أبي هريرة أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" من أفطر في رمضان ناسيا فلا قضاء عليه ولا كفارة ".
قال الحافظ ابن حجر : إسناده صحيح .
الدليل الثالث : ما رواه ابن ماجه والطبراني والحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " .
فهذه النصوص تدل على أن الأكل والشرب لا يبطل بهما أو بأحدهما الصوم ، إلا إذا كان على سبيل العمد والإختيار ، بخلاف النسيان والخطأ والإكراه ، فإن الصوم لا يبطل عن طريقهما .
الشيء الثالث : من المفطرات القيء ، فمن غلبه القيء وهو صائم في أي وقت من نهاره فيجب عليه أن يستمر في صومه ولا قضاء عليه ولا كفارة ،لأنه لا اختيار له في ذلك بخلاف من استقاء عامدا ، فإن عليه الإثم والقضاء إذا كان لغير حاجة ، وعليه القضاء فقط إذا فعله لحاجة ، وذلك لما روى أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان والدارقطني والحاكم وصححه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" من ذرعه القيء فليس عليه قضاء ، ومن استقاء عمدا فليقض " .
الشيء الرابع :الجماع وفعله مبطل للصوم في نهار رمضان لما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " يا رسول الله هلكت . قال : وما أهلكك ؟ قال : وقعت على امرأتي في رمضان . قال : هل تستطيع أن تعتق رقبة ؟ قال : لا . قال : فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين ؟ قال : لا . قال : فهل تستطيع أن تطعم ستين مسكينا ؟ قال : لا . قال : اجلس . فجلس فأُتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق - المكتل الضخم - قال : فتصدق به ، قال : ما بين لابتيها أحد أفقرمنا ، قال : فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه قال : خذه فأطعمه أهلك " .
وإلى هذه الأشياء الأربعة أشار الناظم بقوله :
يبطله أكل وشرب فاعلم ***** والقيء والجماع نصّا قد نمي
وكل ذي بحيث عمدا فعلا ***** لا غير عــامد فليس مــبطلا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
ن : وفي الجماع عامدا قد وجبا ***** كفـــارة مثل الظهار رتـبا
عـــتق فصـــــومه لشهرين ولا ***** إطعامه ستين مسكينا تلا
ش : في هذين البيتين بيان لحكم واحد وهو وجوب القضاء والكفارة على من جامع في نهار رمضان عامدا ، لا ناسيا ولا مخطئا ولا مكرها وهي مثل كفارة الظهار مرتبة ، أي : عتق رقبة مؤمنة ، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين ، فإن لم يستطيع فإطعام ستين مسكينا ، لكل مسكين مد من الطعام ، والدليل على الترتيب حديث أبي هريرة المتقدم ، وكذا آية الظهار ، وهي قوله تعالى http://bamhrez.com/vb/( والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله وتلك حدود الله وللكافرين عذاب أليم )) [ سورة المجادلة 3-4 ].
فالكفارة مرتبة في هاتين الآيتين ومثلها كفارة الجماع في نهار رمضان سواء بسواء على القول الراجح المأخوذ من ألفاظ حديث أبي هريرة المتقدم ، ومعنى الترتيب ظاهر وهو ألا يعدل عن الأول إلى الثاني إلا عند عدم القدرة على الأول ، وكذا لا ينتقل من الثاني إلى الثالث إلا بعد العجز عن الأول والثاني ، فإن عجز عن الإطعام بقي بذمته متى وجد أدّاه ، أما إذا لم يجد فلا إثم عليه ، أما الإمام مالك فإنه يرى أنها على التخيير ، فيخير المجامع بين العتق والصوم والإطعام ، ولا دليل له مستقيم فيما نعلم . أما بالنسبة للمرأة فإذا كانت مطاوعة لزوجها في الجماع عالمة بالتحريم فإن عليها الكفارة مع القضاء قياسا عليه ، لأنهما في التكليف سواء ، قال بذلك كثير من أهل العلم منهم الحنفية والمالكية ، أما الشافعي فإنه يرى عدم الكفارة عليها بحجة أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمرها في حديث أبي هريرة والذي يظهر لي وجوب القضاء عليها والكفارة من مالها لاستواء الرجل والمرأة في هذه العبادة واحترام زمانها ، والله أعلم .
وهناك أشياء تأخذ حكم هذه الأربعة في إبطال الصوم وهي :
1- نزول الحيض بالمرأة أو النفاس ونحوه أثناء النهار ، ولو كان قبل غروب الشمس بلحظة من نهار ؛ فإنه يبطل الصوم ، ويجب القضاء بإجماع أهل العلم على ذلك فيما أعلم .
2 - الإستمناء باليد ، أو بتقبيل المرأة ، أو بأي وسيلة من الوسائل التي يستخرج بها المني عمدا ، فإنه يبطل الصوم ، ويوجب المقت من الله ، فليحذر المسلم ذلك .
3 - استعمال الإبرة الغذائية سواء كانت حقنا في الدم ، أو شربا بالفم ، أم بأي طريق يتم إيصالها إلى الجوف ، وكذا بلع الحبوب سواء للغذاء أو للدواء فإن ذلك في معنى الأكل والشرب ، فيبطل به الصوم ، ويجب القضاء بلا تردد .
4 - إذا أكل أو شرب ظانا غروب الشمس ، أو عدم طلوع الفجر ، فظهر خلاف ذلك فعليه القضاء عند جمهور أهل العلم ومنهم الأئمة الأربعة ، وهو الراجح لأنه اتضح للصائم يقينا أن أكله وشربه كان في النهار ، وذلك مبطل للصوم بينما ذكر عن بعض العلماء القول بصحة الصوم كإسحاق وعطاء والحسن البصري ومجاهد ، واستدلوا بقول الله تعالى http://bamhrez.com/vb/( وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم )) [ سورة الأحزاب : 5 ] وبحديث :" إن الله وضع عن أمتي الخطأ ، والنسيان ، وما استكرهوا عليه ".
5 - إذا جامع ظانا غروب الشمس أو عدم طلوع الفجر ، فظهر خلاف ذلك ؛ فقد اتفق الفقهاء على وجوب القضاء ، واختلفوا في وجوب الكفارة ، فذهب الأئمة الثلاثة : أبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي إلى عدم وجوب الكفارة ، لكون ذلك خطأ لا عمدا ، وذهب الإمام أحمد إلى وجوبها ، لكون الجماع قد وقع في نهار رمضان ، وما ذهب إليه الثلاثة متفق مع يسر الشريعة وسهولة الدين ، والله الموفق .
ن : وفي الحجامة اختلاف والأصح ***** جوازها إلا لذي ضعف وضح
إذ صــــح أن آخــــر الأمـــــــرين ***** ترخيصه فــيها بـــدون مــــيْن
ش : في هذين البيتين إيضاح للخلاف الحاصل بين العلماء في حكم الحجامة للصائم والناظر في نصوص الموضوع يظهر له أن أشهر الأقوال إثنان :
القول الأول : تحريمها واعتبارها من مبطلات الصوم ، وقد استدل أصحاب هذا القول بما رواه الشافعي والدارمي وأبو داود وغيرهم من حديث شداد بن أوس قال :" كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم زمان الفتح، فرأى رجلا يحتجم لثمان عشرة خلت من رمضان قال وهو آخذ بيدي : أفطر الحاجم والمحجوم " . وإسناده صحيح .
ب - القول الثاني : جواز الحجامة للصائم مع أن الأولى تركها خوفا من الضعف الذي قد تسببه ، واستدل أصحاب هذا القول بما رواه عبد الرزاق في مصنفه وأبو داود في سننه من طريق عبد الرحمن بن عابس عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال :" نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الحجامة للصائم وعن المواصلة ولم يحرمها إبقاءً على أصحابه " وإسناده صحيح وجهالة الصحابي لا تضر .
فهذا الحديث يدل على الجواز ، ونسخ التحريم المفهوم من حديث :" أفطر الحاجم والمحجوم " وهذا القول هو الراجح وهو اختيار الناظم - رحمه الله - .
ن: ونص منع الكحل مع إعلاله ***** فليس بالصـريح في إبطالــه
مــع كونــه معارضـــا بمــــثله ***** ممّا روي عن النبي من فعله
ش : في هذين البيتين بيان قضية واحدة تتعلق بالصوم وهي الكحل للصائم منعا وإباحة ، وقد أشار الناظم في البيت الأول إلى أن النص الذي يقتضي التحريم لم يسلم عنده من علة قادحة ، وإذا كان الأمر كذلك فلا يثبت به حكم ، ونص الحديث رواه أبو داود عن عبد الرحمن بن النعمان بن معبد بن هوذة عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم :" أنه أمر بالإثمد المروح عند النوم وقال : ليتقه الصائم " وهو حديث منكر لا تقوم به حجة عل تحريم شيء الأصل فيه الإباحة كما أفاد الناظم في البيت الثاني أن المعارض لهذا الحديث - أي : الذي يدل على الجواز - مصاب بعلة قادحة في سنده لا تقل عن علة حديث أبي داود ، وذلك ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال :" خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعيناه مملوءتان من الإثمد ، وذلك في رمضان وهو صائم . وقد ورد بألفاظ أخرى وأسانيد كذلك وكلها ضعيفة لا يثبت بها حكم ، ولكن كما قال الإمام الشوكاني :" والظاهر ما ذهب إليه الجمهور - وهو أن الكحل لا يفسد الصوم - لأن البراءة الأصلية لا ينتقل عنها إلا بدليل .
ورحم الله ابن تيمية حيث قال :" فإن الكحل لا يغذي ألبتة ولا يُدخل أحد كحلا في جوفه لا من أنفه ولا من فمه ."
وقال تلميذه ابن القيم عقب كل حديث من الحديثين المتعارضين في مسألة الكحل:" ولا يصح " والأمر كذلك ، كما رأيت من علل الحديثين ، والله أعلم .
ن : وجاز تقبيل على القول الأصح ***** إن أمن الشهوة نصّا اتضح
كـــذا يجـــوز الغســـل للتــــــــبرد ***** كـــذا تمضمض ولا يــزدرد
وليغتســل مــن جنبا قــد أصـــبحا ***** ثم ليصم بذا الحديث أفصحا
ش : قوله :
وجاز تقبيل على القول الأصح ***** إن أمن الشهوة .............
أي : أنه يجوز للصائم أن يقبل امرأته بشرط أمن فتنة الشهوة ، أما إذا لم يأمن على نفسه هيجانها فيحرم عليه التقبيل ؛ لأنه وسيلة إلى محرم كالإنزال أو الجماع فعلا ، ومن رعى حول الحمى أوشك أن يرتع فيه .
وقوله :" .......... نصّا اتضح " :
أي : أنه ثبت جواز التقبيل عند أمن الشهوة بالنص الصريح الواضح عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو أسوة أمته ، ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل وهو صائم ، ويباشر وهو صائم ولكنه كان أملككم لإربه " وليس في قولها :" ولكنه كان أملككم لإربه " ما يفيد الخصوصية ، بل كل من كان من أمته يستطيع التحكم في نفسه فيملك إربه فله أن يقبل ويباشر وهو صائم كما كان نبيه يفعل ، ومن لا يأمن ثوران شهوته فيحرم عليه لئلا يقع فيما لا تُرتض نتائجه ولا تحمد عقباه وهذا التفصيل هو أحد الأقوال في المسألة واختاره الناظم كما رأيت وهو الراجح - إن شاء الله - .
وهناك أقوال أخر سأذكر أشهرها :
1 - القول بالإباحة مطلقا بدون تفصيل نقل ذلك عن بعض السلف كأبي هريرة وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما وآخرين ، واستدلوا بما رواه مسلم في صحيحه عن عمرو بن أبي سلمة رضي الله عنه أنه :"سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أيقبل الصائم ؟ فقال له : سل هذا - لأم سلمة - فأخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك ، فقال : يا رسول الله ، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخرفقال : أما والله إني لأتقاكم لله وأخشاكم له " .
ووجه الدلالة منه على هذا القول أن الرسول - عليه الصلاة والسلام - أنكر على السائل دعوى الخصوصية ، ولم يفرق بين أفراد الناس ، فثبت الجواز مطلقا .
2 - القول بالإباحة للشيخ والمنع للشاب وقد نسب هذا القول إلى ابن عباس وسعيد بن منصور وآخرين ، ودليلهم حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند أبي داود : " أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المباشرة للصائم فرخص له ، وأتاه آخر فنهاه عنها ، فإذا الذي رخص له شيخ والذي نهاه شاب " .
وهذا القول قريب من الأول ؛ لأن الغالب أن الشاب لا يأمن على نفسه فتنة الشهوة بخلاف الشيخ الكبير فإنه قد فات أوان هيجانها لديه .
3 - القول بالتحريم مطلقا وعلى أي حال نقل ذلك ابن المنذر عن جماعة من العلماء .
4 - القول بكراهة القبلة والمباشرة للصائم مع صحة صومه ، روي ذلك عن ابن عمر وهو المشهور من مذهب المالكية .
قوله :
كذا يجوز الغسل للتبرد ***** كذا تمضمض ولا يزدرد
اي : كما جاز في الشرع تقبيل الصائم امرأته عند أمن اشهوة فإنه كذلك يجوز الإغتسال للتبرد وطلب النظافة بدون كراهة ، ولو شعر بلذة في ذلك فإنه لا يؤثر على صومه من قريب ولا بعيد بدليل ما رواه أبو بكر بن عبد الرحمن عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه حدثه فقال : لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصب على رأسه الماء وهو صائم من العطش أو من الحر " رواه أحمد ومالك وأبو داود بإسناد صحيح . كما يجوز له أيضا أن يتمضمض لا سيما عند الوضوء ولكن يجب عليه أن يكون في ذلك كله على حذر من وصول الماء إلى جوفه من المنافذ المعتبرة كالفم والأنف والأذن ونحوها لأنه إذا وصل شيء إلى الجوف من تلك المنافذ فقد فسد الصوم ووجب القضاء ولو كان غير عامد .
قوله : وليغتسل من جنبا قد أصبحا ***** ثم ليصم بذا الحديث أفصحا
هذا البيت فيه بيان قضية تتعلق بالصوم وهي قضية من أصبح جنبا وهو صائم ، أي : أدركه الفجر ولما يغتسل ، وللعلماء في هذه المسألة أقوال :
القول الأول : الجزم بصحة صوم من أصبح جنبا سواء عن جماع أو احتلام وهو قول الجمهور واختاره الناظم ، وبه اطمأنت النفس وإليه جنحت ، وقد جزم الإمام النووي بأنه استقر الإجماع على ذلك ، وقال ابن دقيق العيد : إنه صار ذلك إجماعا أو كالإجماع ، وقد استدل أصحاب هذا القول بثلاثة أحاديث :
1 - ما رواه أحمد ومسلم وأبوداود عن عائشة رضي الله عنها :" أن رجلا قال : يا رسول الله ، تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وأنا تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم ، فقال : لست مثلنا يا رسول الله ، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، فقال : والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله ، وأعلمكم بما أتقي " .
2 - ما رواه الشيخان عن عائشة ولأم سلمة رضي الله عنهما :" أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصبح جنبا من جماع غير احتلام ثم يصوم في رمضان " .
3 - وفي مسلم عن أم سلمة رضي الله عنها قالت :" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح جنبا من جماع لا حلم ثم لا يفطر ولا يقضي " .
ففي هذه النصوص الثلاثة أعظم دلالة على صحة صوم من أصبح جنبا بل هي صريحة في ذلك لا تحتمل تأويلا غيره كما ترى .
كما استدلوا أيضا بالآية الكريمة http://bamhrez.com/vb/(أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر )) [ سورة البقرة 187 ] .
ووجه الدلالة فيها على صحة صوم من أصبح جنبا أن قوله تعالى http://bamhrez.com/vb/( أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم )) يقتضي إباحة الجماع في ليلة الصوم ومن جملتها الوقت المقارن لطلوع الفجر فيلزم إباحة الجماع فيه ومن ضرورته أن يصبح فاعل ذلك جنبا ، ولا يفسد صومه وإنه لدليل قوي إلى تلك الأدلة الصريحة نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء .
القول الثاني : عدم صحة صوم من أصبح جنبا وهو قول عروة بن الزبير وطاوس بن كيسان وقد استدلا بحديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي يثبت من طرق متعددة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" من أدركه الصبح جنبا فلا صوم له " .
وفي رواية في المسند :" من أدركه الصبح وهو جنب فلا يصومن يومئذ".
وإسنادهما صحيح ، وقد خرج ذلك الجمهور على أحد وجهين :
الوجه الأول : القول بالنسخ غير أن دعوى النسخ تحتاج إلى معرفة التاريخ للمتقدم والمتأخر إذ بدون ذلك لا يحكم بالنسخ .
الوجه الثاني : الترجيح وهو أن الأحاديث الواردة في صحة صوم من أصبح جنبا بعضها في الصحيحين بالإضافة إلى مدلول الآية الكريمة التي سبق ذكرها بينما حديث أبي هريرة وإن كان صحيحا إلا أنه لا يصل إلى درجة تلك النصوص لأنه لم يرد في الصحيحين مرفوعا مسندا ، كما يُروى أن أبا هريرة لما بلغه حديث عائشة وأم سلمة رجع عن الفتوى بمقتضى حديثه .
القول الثالث : فرق قائله بين المفترض والمتنفل حيث قال : من أصبح جنبا في صوم فرض فقد فسد صومه ووجب عليه القضاء وكأن مستنده حديث أبي هريرة المتقدم ، ومن أصبح جنبا في صوم نفل فلا شيء عليه ، ذلك لأن المتنفل أمير نفسه فلو أصبح أفطر اختيارا أثناء النهار فلا إثم عليه ولا قضاء عليه إذ ليس في ذمته شيء ، وهذا القول مروي عن ابراهيم النخعي .
القول الرابع : لبعض السلف كسالم بن عبد الله بن عمر والحسن البصري أن من أصبح جنبا وهو صائم وجب عليه أن يتم صومه ويقضي يوما مكانه ، ولم أقف لهما على دليل على المضي في الصيام وعلى القضاء .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر : الأفنان الندية شرح منظومة السبل السوية لفقه السنن المروية لناظمه الشيخ حافظ بن أحمد بن علي الحكمي - رحمه الله -
تأليف : الشيخ زيد بن محمد المدخلي - حفظه الله -
تقديم : الشيخ أحمد بن يحي النجمي - حفظه الله -
والشيخ ربيع بن هادي عمير المدخلي - حفظه الله
يتبع إن شاء الله .
سحاب السلفية
كتاب الصيام
لناظمه الشيخ العلامة حافظ بن أحمد بن علي الحكمي - رحمه الله -
وشارحه الشيخ العلامة زيد بن محمد بن هادي المدخلي - حفظه الله -
باب فرضيته وفضله
للصوم معنيان :
معنى في اللغة : وهو الإمساك ، تقول العرب : صام الفرس عن الجري ، وصام الرجل عن الكلام ، أي : أمسك عنه ؛ ومنه (( إني نذرت للرحمن صوما )) [ سورة مريم : 26 ] . أي : سكوتا عن الكلام .
ومعنى في الشرع : وهو إمساك مخصوص في زمن مخصوص من شخص مخصوص عن أشياء مخصوصة مع النية .
أما الزمن المخصوص : فمن طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس .
وأما الشخص المخصوص : فهو المسلم العاقل غير المرأة الحائض والنفساء (1) . وأما الأشياء المخصوصة : فهي مبطلات الصوم ومكروهاته ، وقد فُرض الصوم في السنة الثانية من الهجرة في شهر شعبان ، فصام النبي صلى الله عليه وسلم تسع رمضانات(2)كما هو معروف من تاريخ حياته المباركة الطاهرة العامرة بكل طاعة وخير ومعروف .
(1) : قال ابن هبيرة في الإفصاح : " اتفقوا على أنه يتحتم فرض صوم شهر رمضان على كل مسلم ومسلمة بشرط البلوغ والعقل والطهارة والقدرة ، والإقامة ."
قلت : والمراد بالطهارة من الحيض والنفاس .
(2) : وقبل فرض رمضان المبارك كان المفروض صوم يوم عاشوراء حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة صامه ، وأمر الناس بصيامه ، فلما فرض رمضان كان هو الفريضة وترك عاشوراء ، فمن شاء صامه ومن شاء تركه ، كما روى مالك والشيخان وغيرهما عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت : " كان يوم عاشوراء يوما تصومه قريش في الجاهلية ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه في الجاهلية ، فلماقدم رسول الله المدينة صامه ، وأمر الناس بصيامه ، فلما فرض رمضان كان هو الفريضة ، وترك يوم عاشوراء ، فمن شاء صامه ومن شاء تركه " . انظر شرح السنة ( ج 6 ص 212 ) .
ن : صيام شهر رمضان حتما ***** بالآي والحديث فرضا علما
وهو على من تجــب الصـــلاة ***** عليه إذ جاءت بذا الآيــــات
واستثن من ذا من يكن معذورا ***** شرعا ويأتي حكمهم مذكورا
وهو لــهذا الــدين ركـــن رابع *****................................
ش : قوله :
صيام شهر رمضان حتما ***** بالآي والحديث فرضا علما
أي: أن صيام شهر رمضان قد ثبتت فرضيته بالكتاب والسنة والإجماع .
أما الكتاب : فقول الله عز وجل http://bamhrez.com/vb/( ياأيها الذين ءامنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون )) [ البقرة 183 ] .
وقوله سبحانه : (( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه )) [ البقرة 185 ] .
وأما السنة : فقد ثبت عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان وحج البيت من استطاع إليه سبيلا " .
وأما الإجماع : فقد أجمعت الأمة المسلمة على وجوبه ، ولم يخالف في ذلك مخالف ، ولم يشك أو يتردد في ذلك أحد ، بل إن فرضيته معلومة لأمة الإسلام من الدين بالضرورة ، ومن أنكر فرضيته بعد قيام تلك الأدلة القوية عليها فهو كافر مرتد عن الإسلام ، يستتاب ويدعى إلى الإقرار بوجوبه وفرضيته ، فإن لم يؤمن بذلك فإنه يقتل مرتدّا عن الإسلام ، والعياذ بالله .
قوله :
وهو على من تجب الصلاة *****عليه إذ جاءت بذا الآيات
أي : أن الصوم يجب على من تجب عليه الصلوات المفروضة ، وذلك بأن تتوفر فيه الشروط التالية :
ا - الإسلام : فلا يصح من كافر ؛ لأنه لم يأت بالأصل الذي تقبل معه التكاليف ، وإن كان الكفار مخاطبون بأصول الشريعة وفروعها على الصحيح .
ب - العقل : فلا يصح من مجنون ونحوه ، ولا يجب عليه ما دام غير عاقل لما ثبت عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" رفع القلم عن ثلاثة : عن النائم حتى يستيقظ ، وعن الصبي حتى يحتلم ، وعن المجنون حتى يعقل ". رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال : حديث حسن .
ج - البلوغ : فلا يجب على صبي لم يبلغ الحنث ؛ لأن القلم مرفوع عنه كما في حديث عائشة السابق .
د - القدرة على الصوم : فلا يجب على المريض ، ولا على مسافر ، ولا على شيخ طاعن في السن ، ولا على حامل ولا مرضع تلحقهما أو ولديهما مشقة بسبب الصوم كما قال تعالى http://bamhrez.com/vb/( وعلى الذين يطيقونه - يتكلفونه بمشقة - فدية طعام مسكين )) [ سورة البقرة 184 ] وكما قال سبحانه : (( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر )) [ البقرة : 185 ] .
وقوله ........................... ***** .......... إذ جاءت بذا الآيات
أي : أن وجوب الصوم يتعلق بمن وجبت عليه الصلاة ، وحيث إن الصلاة وجبت بنصوص قرآنية كما في قوله : (( وأقيموا الصلاة وءاتوا الزكاة )) [ سورة البقرة 43 ] .
وقوله : (( إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا)) [ سورة النساء 103 ] .
فكذلك جاءت بفرضية الصوم آيات قرآنية كما في قوله تعالى : (( كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون )) [ سورة البقرة 183 ] .
وكما في قوله عز وجل : (( فمن شهد منكم الشهر فليصمه )) [ سورة البقرة 185 ] .
وكلاهما ركن من أركان الإسلام .
قوله :
واستثن من ذا من يكن معذورا ***** شرعا ويأتي حكمهم مذكورا
أي : أنه يستثنى ممن يجب عليهم الصوم من كان معذورا بنص شرعي وذلك كالمريض والمسافر والحامل والمرضع والشيخ الكبير والحائض والنفساء ، فهؤلاء معذرون شرعا كما ستأتي أحكامهم مفصلة في بابها .
وقوله :
وهو لهذا الدين ركن رابع ***** ............................
أي : وصوم شهر رمضان هو الركن الرابع من الأركان التي بني عليها الإسلام كما في حديث جبريل المشهور الذي رواه عمر بن الخطاب وفيه : أن جبريل سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا .
ومثله في الدلالة على هذا المعنى حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : بني الإسلام على خمس " وقد تقدم قريبا .
ولهذه النصوص وجب الإيمان بفرضيته ، والعمل به إيمانا واحتسابا ، ومن أنكر فرضيته فقد ارتد عن الإسلام إن كان قبل ذلك مسلما .
ن : ............................. ***** وكم له قد صح فضل ساطع
تفتح أبواب الجنان إن دخــــل ***** شهر الصيام والشياطين تغل
شهر به تفتح أبواب الســــما ***** وتغلق الأبواب من جهنمـــــا
شهر بصومه الذنـــــوب تغفــر***** وتعتق الرقــاب نصا يؤثـــــر
خلوف في الصائم دون شـــك ***** تــفضل عند الله ريح المسـك
وإن فــي الـجــنة للصـــــــوّام ***** بابا له الرّيّان اسم ســـــامي
وقد روى نبيــــنا عــن ربــه ***** لي الصيام وأنا أجــزي بــــه
وصح للصــــــائم فرحــــتان ***** مع فطره ومع لقــا الرحــــمن
وغير هذا من فضــــائل تعد ***** وكم بتــــركه وعــيد قـــد ورد
ش : في هذه الأبيات شرح مفصل لما لشهر الصيام والقيام من الفضل الكبير والخير الكثير الذي جاءت بذكره النصوص الصريحة ذات المعاني الصحيحة والأنوار المضيئة وإن من فضائله :
ا - أن أبواب الجنان تفتح لدخوله ، وتغلق أبواب النيران ، وتصفد مردة الشياطين ، كما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة ، وغلقت أبواب النار ، وصفدت الشياطين " .
ب - ومنها : أن أبواب السماء تفتح وأبواب جهنم تغلق ، فلا يفتح منها باب والشياطين تسلسل كما في الرواية الأخرى لأبي هريرة رضي الله عنه حيث قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إذا كان رمضان فتحت أبواب الرحمة ، وغلقت أبواب جهنم ، وسلسلت الشياطين : .
وإلى هذه الفضائل التي جاء تبيانها في هذين النصين أشار الناظم بقوله :
تفتح أبواب الجنان إن دخل ***** شهر الصيام والشياطين تغل
شهر به تفتح أبواب الســـما ***** وتغلق الأبواب من جهنمــــا
ج - ومنها : أن الذنوب تغفر لمن صامه إيمانا واحتسابا ، وتعتق الرقاب كذلك ، وتكثر فيه النداءات بالحث على فعل الخير والإكثار منه ، وترك الشر بحذافيره ، وتلك النداءات تصدر ممن نسمع ونرى ، وممن لا نسمع ولا نرى ، وقد جاء بيان هذه الفضائل في حديثين ثابتين :
أحدهما : في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه ، ومن قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه : .
ثانيهما : رواه الترمذي وابن ماجه والحاكم عنه رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن ، وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب ، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب ، وينادي مناد : يا باغي الخير أقبل ، ويا باغي الشر أقصر ، ولله عتقاء من النار ، وذلك كل ليلة " .
د - ومنها : أن خلوف فم الصائم فيه أطيب عند الله من ريح المسك كما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" الصيام جُنة ، فإذا كان أحدكم صائما فلا يرفث ولا يجهل ، فإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل : إني صائم .
وقال : والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك ، إنما يذر شهوته وطعامه وشرابه من أجلي فالصيام لي وأنا أجزي به ، كل حسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به " .
هـ - ومنها : ما أعده الله عز وجل للصائمين في الجنة حيث خصهم بباب يقال له الريان ، يدخلون منه ، فيشربون فلا يظمئون أبدا ، كما في حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" إن في الجنة بابا يقال له الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة ، لا يدخل منه أحد غيرهم يقال : أين الصائمون ؟ فيقومون لا يدخل منه أحد غيرهم ، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد " .
أشار الناظم بقوله :
خلوف في الصائم دون شك ***** تفضل عند الله ريح المسك
وإن في الجنة للصـــــــوّام ***** بابا له الرّيّان اسم ســـــامي
و - ومنها جلالة قدر عبادة الصوم ، وأن ثوابه لا يعد ولا يحصى ؛ لكونه سرا عظيما بين العبد وبين ربه ، وتربية للنفس يختلف عن غيره من العبادات .
ز - ومنها : الفرح والسرور الذي يتمتع به الصائم عند فطره ويوم لقاء ربه، ومنها أنه وقاية للإنسان من الوقوع في المعاصي لما له من التأثير على قوة الشهوة وكذلك هو جُنة للعبد يوم القيامة من النار ، فقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف قال الله سبحانه وتعالى إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به ، يدع طعامه وشهوته من أجلي ، للصائم فرحتان : فرحة عند فطره ، وفرحة عند لقاء ربه ، ولخلوف فم فيه أطيب عند الله من ريح المسك ، الصوم جُنة ، الصوم جُنة " .
وإلى هذه الفضائل أشار الناظم بقوله :
وقد روى نبينا عن ربه ***** لي الصيام وأنا أجزي به
وصح للصائم فرحتــان ***** مع فطره ومع لقا الرحــمن
هذا وكم للصوم من فضائل ينالها الصائمون في دنياهم وأخراهم ، وبجانب ذلك فكم من وعيد شديد ترتب على ترك الصيام أو الخيانة فيه ، والتحايل لإسقاطه .
من ذلك ما رواه أبو داود والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" من أفطر يوما من رمضان من غير رخصة ولا مرض ؛ لم يقضه صوم الدهر وإن صامه " هذا لفظ الترمذي .
أما أبو داود فليس فيه ذكر :" المرض " ، ولا : " كله وإن صامه " .
وقال البخاري : " باب إذا جامع في رمضان "
ويذكر عن أبي هريرة رضي الله عنه رفعه :" من أفطر يوما من رمضان من غير علة ولا مرض لم يقضه صيام الدهر وإن صامه " وبه قال ابن مسعود .
قلت : ورواية البخاري المعلقة تشهد لما رواه أبو داود والترمذي وابن أبي شيبة والطبراني والبيهقي .
وإلى الإشارة بكثرة فضائل الصوم والتحذير من تركه عمدا بأي وسيلة من وسائل المكر والحيل أشار الناظم بقوله :
وغيرهذا من فضائل تعد ***** وكم بتركه وعيد قد ورد .
باب ما يثبت به الصيام والإفطار
ن : ثبـــوته برؤية الهـــــــلال ***** وحيث إغماء فبالإكمـــــال
عدة شعبـــــان ثلاثين وفـــــي ***** خروجه الأمركذاك فاعرف
والخلف في شهادة الهــــــــلال ***** على ثلاثــة من الأقــــــوال
فـــقيل لابـــد مـــن العــــدلين ***** في الصوم والفطركلا الحالين
وقيل في دخوله عـــــــدل وفي ***** خروجه عدلان شرطان تفــي
وقيل يكفي العدل في الفـطر كما ***** في رؤية الصوم لما قدعلما
من كونه قد صح في الدين العمل ***** بخبر الواحد من غير جدل
ش : قوله :
ثبوته برؤية الهــــــلال ***** وحيث إغماء فبالإكمال
عدة شعبان ثلاثين ......***** ..........................
أي : يثبت صوم رمضان برؤية هلاله ، فإذا لم ير الهلال ليلة الثلاثين من شعبان لغيم ونحوه فإنه يثبت الصوم بأمر آخر ؛ وهو إكمال عدة شعبان ثلاثين يوما .
وقوله :
....................وفي ***** خروجه الأمر كذاك فاعرف
أي : ويثبت الفطر برؤية هلال شوال فإن لم ير هلال شوال ليلة الثلاثين لغيم ونحوه ، فقد وجب إكمال عدة رمضان ثلاثين يوما لحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" الشهر تسع وعشرون ، فلا تصوموا حتى تروا الهلال ، ولا تفطروا حتى تروه ، فإن غم عليكم فاقدروا له " .
وفي حديث أبي هريرة :" صوموا لرؤيته ، وأفطروا لرؤيته ، فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما " .
وأما نصاب الشهادة على رؤية هلال رمضان ، وكذا على رؤية هلال شوال ، فقد اختلف العلماء فيها على عدة أقوال :
الأول منها : وهو الراجح الإكتفاء بشهادة رجل مسلم على دخول رمضان لما روى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " إني رأيت الهلال - يعني : رمضان - فقال : أتشهد أن لا إله إلا الله ؟ قال : نعم ، قال : أتشهد أن محمدا رسول الله ؟ قال : نعم ، قال : يا بلال أذن في الناس فليصوموا غدا " .
ورواه أبو داود أيضا من حديث حماد بن سلمة عن سماك بن حرب عن عكرمة مرسلا بمعناه ، وقال :" فأمر بلالا فنادى في الناس أن يقوموا وأن يصوموا " .
فإن في هاتين الروايتين دليلا على وجوب قبول شهادة مسلم واحد برؤية هلال رمضان ، ومن ثم وجوب الصوم بها ، وإلى هذا ذهب الإمام أحمد والشافعي في أحد قوليه ، وبه قال ابن المبارك وقال النووي : وهو الأصح ، وأما عند الخروج فيشترط شهادة عدلين ، وذلك عند الجمهور من الفقهاء والمحدثين إلا أبا ثور وأبا بكر بن المنذر فإنهما لم يفرقا بين هلال شوال وهلال رمضان وقالا : يقبل في الدخول والخروج شهادة الواحد ، وقد نصر رأيهما الإمام الشوكاني حيث قال : " وإذا لم يرد ما يدل على اعتبار الإثنين في شهادة الإفطار من الأدلة الصحيحة فالظاهر أنه يكفي فيه قياسا على الإكتفاء به في الصوم ، وأيضا التعبد بقول خبر الواحد على قبوله في كل موضع إلا ما ورد الدليل بتخصيصه بعدم التعبد فيه بخبر الواحد ، كالشهادة على الأموال ونحوها فالظاهر ما ذهب إليه أبو ثور " .
الثاني : لابد من شهادة عدلين على دخول رمضان وعلى خروجه بدون فرق بين نصاب الشهادة في الدخول والخروج ، وبذلك قال بعض الفقهاء كمالك والليث والأوزاعي والثوري والشافعي في أحد قوليه والهادوية ، واستدلوا بالحديثين التاليين :
1 - ما رواه النسائي في سننه عن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب أنه خطب في اليوم الذي شك فيه فقال : ألا إني جالست أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وساءلتهم ، وإنهم حدثوني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" صوموا لرؤيته ، وأفطروا لرؤيته ، وانسكوا لها ، فإن غم عليكم فأتموا ثلاثين يوما ، فإن شهد شاهدان مسلمان فصوموا وأفطروا " . حديث صحيح .
2 - وما رواه أبو داود والدارقطني عن أمير مكة الحارث بن حاطب قال : " عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننسك للرؤية ، فإن لم نره ، وشهد شاهدا عدل نسكنا بشهادتيهما " .
وقال الدارقطني : هذاإسناد متصل صحيح ، ووجه الدلالة من النصين هو اشتراط العدد حيث قال في الحديث الأول :" فإن شهد شاهدان مسلمان " . وقال في الثاني :" وشهد شاهدا عدل " . ولم يقتصر على واحد في حال من الحالين غير أن الجمهور الذين يرون ثبوت الصوم بشهادة عدل واحد قالوا : إن التصريح بالإثنين غاية ما فيه المنع من قبول واحد بالمفهوم ، وحديث عكرمة وحديث ابن عمر يدلان على قبول شهادة الواحد برؤية هلال رمضان بالمنطوق ، ودلالته أرجح ، كما هو معلوم من قواعد الأصول .
الثالث : وقيل : إنه يكفي في ثبوت الرؤية ومن ثم الصوم والفطر شهادة عدل واحد وهذا القول منسوب إلى أبي ثور وقد اعتمد فيه على أنه يعمل بخبر الواحد في كثير من الأحكام كرؤية هلال رمضان :" وكقصة الرجل الذي صلى صلاة العصر مع الني صلى الله عليه وسلم قبل الكعبة ، ثم خرج فمر عل أهل مسجد وهم راكعون متجهين إلى بيت المقدس ، فقال : أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الكعبة ، فداروا كما هم قبل البيت " .
وغير ذلك من الأحكام التي تثبت بشهادة الواحد ، والعمل بخبر الواحد لا ينكره أحد ، ولا يجادل فيه ، إلا أن أبا ثور في هذه المسألة خالف كافة العلماء وترك أدلتهم الصريحة في اشتراط عدلين يشهدان برؤية هلال شوال ، كما رأيت .
وإلى هذا الخلاف أشار الناظم بقوله :
والخلف فــي شهادة الهـــــلال ***** على ثلاثــــة مـــن الأقــــــوال
فـــقيل لابـــــد من العـــــدليــن ***** في الصوم والفطر كلا الحالين
وقيل في دخوله عــــدل وفـــي ***** خروجه عدلان شرطان تفــي
وقيل يكفي العدل في الفطر كما ***** في رؤية الصوم لما قد علمـا
من كونه قد صح في الدين العمل***** بخبر الواحد من غير جــــدل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــ
ن : وإن رؤي في بلد هل يلزم ***** بقية البلدان خلف لهم
بعد اتفــــــــــاقهم على لــــــزوم ***** وفاق أهله على العموم
ش : تضمن هذان البيتان مسألتين من مسائل كتاب الصوم :
الأولى منهما : اتفاق العلماء على أنه متى ثبتت رؤية هلال رمضان في بلد فقد لزم جميع أهل ذلك البلد الصيام .
وقد أشار الناظم إلى هذه المسألة بقوله :
بعد اتفاقهم على لزوم ***** وفاق أهله على العموم
المسألة الثانية : إذا رؤي الهلال في بلد فهل يلزم بقية بلدان العالم الصيام برؤية أهل ذلك البلد أم لا ؟
والجواب : أن هذه المسألة محل خلاف بين العلماء وحاصله :
1 - ذهب الفقهاء كالقاسم بن محمد ، وسالم بن عبد الله ، وإسحاق إلى أن لأهل كل بلد رؤيتهم ، وحكاه الترمذي عن أهل العلم ولم يحك سواه ، واستدل هؤلاء بما رواه أحمد ومسلم والترمذي عن كريب رضي الله عنه : " أن أم الفضل بعثته إلى معاوية بالشام فقال : قدمت الشام فقضيت حاجتها ، واستهل عليّ رمضان وأنا بالشام ، فرأيت الهلال ليلة الجمعة ، ثم قدمت المدينة في آخر الشهر فسألني عبد الله ابن عباس ثم ذكر الهلال فقال : متى رأيتم الهلال ؟ فقلت : رأيناه ليلة الجمعة ، فقال أنت رأيته ؟ فقلت : نعم ، ورآه الناس وصاموا وصام معاوية . فقال : لكنا رأيناه ليلة السبت ، فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نره . فقلت : ألا تكتفي برؤية معاوية وصيامه ؟ فقال : لا ، هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم " .
2 - وذهب جمهور الفقهاء إلى أنه إذا رؤي هلال رمضان في بلد لزم أهل البلاد كلها أن يصوموا ؛ لأن الخطاب في قوله صلى الله عليه وسلم :" صوموا لرؤيته " الحديث ، عام لجميع المسلمين ؛ ولأن رمضان ثبت دخوله ، فثبتت أحكامه ؛ فوجب صيامه على عموم المسلمين برؤية عدل منهم في أي مكان كان .
3 - وفصل بعض الفقهاء كالشافعي في المشهور عنه فقال : إن اختلفت المطالع فلكل قوم مطلعهم ، وإن اتفقت المطالع فحكم الجميع واحد في الصوم والإفطار ، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وهو كما ترى اختيار وجيه لاختلاف زمن المطالع والمغارب ، لاسيما بالنسبة لأهل الشرق الأقصى والمغرب كذلك .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
باب تبييت النية وحكم الفوات لغرة أو عذر
ن : وواجـــب تبييــته بالليــل ***** نية صوم الفرض دون النفل
وحيث بان الصوم بعد أن مضى***** بعض النهارصامه ثم قضى
ومن يـــكن شرط قبـــول فقــدا ***** أو صحــة ثم به قــد وجــدا
ككافــــر أثــــناءه قـــد أسلمــــا ***** ومثله الصغير حيث احتلمــا
كذاك ذو الإغمـــــاء قل إن يفـــق***** أوجب عليهمو صيام ما بقي
ش : قوله :
وواجب تبييته بالليل ***** نية صوم الفرض دون النفل
1 - أي أنه يجب تبييت نية الصيام في الفرض ، وإيقاعها في أي جزء من أجزاء الليل ، إذ لا يصح الصوم إلا بتبييتها ، وقد قال بذلك بعض العلماء والأئمة كأبي حنيفة والشافعي وأحمد في أحد قوليه ، والهادي والقاسم واستدلوا بحديث : " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى " الحديث ، وبما رواه أحمد وأصحاب السنن والدارقطني عن حفصة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له " .
2 - أما الإمام مالك والليث وابن أبي ذئب وقبلهم ابن عمر وجابر بن زيد فإنهم قالوا بوجوب تبييت النية في الفرض والنفل مطلقا .
3 - وروي عن ابن مسعود أن التبييت لا يجب إلا في صوم القضاء والنذر المطلق والكفارات .
والذي يترجح : وجوب تبييت النية فيما كان فرضا ، أما التطوع فصاحبه أمير نفسه فسواء بيت النية من الليل أو قبل الزوال أو بعده فالصوم صحيح ومنعقد ، وإن أحب أن يفطر أثناء النهار فله ذلك ولا إثم عليه ولا قضاء عند الجمهور ، وهو الصحيح لأنه لم يجب بذمته شيء حتى يعاقب على تركه ، والدليل عليه ما روته عائشة رضي الله عنها أنها قالت :" دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال : هل عندكم من شيء ؟ فقلنا : لا . فقال : فإني إذن صائم . ثم أتانا يوما آخر فقلنا : يا رسول الله ، أهدي لنا حيس . فقال : أرينه فلقد أصبحت صائما ، فأكل " رواه مسلم ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي .
وزاد النسائي : ثم قال :" إنما مثل صوم المتطوع مثل الرجل يُخرج من ماله الصدقة ، فإن شاء أمضاها وإن شاء حبسها ."
وفي لفظ له أيضا قال :" يا عائشة إنما منزلة من صام في غير رمضان ، أو في التطوع بمنزلة رجل أخرج صدقة ماله فجاد منها بما شاء فأمضاه ، وبخل منها بما شاء فأمسكه ".
قال البخاري : وقالت أم الدرداء : كان أبو الدرداء يقول : عندكم طعام ؟ فإن قلنا : لا .قال : فإني صائم يومي هذا .قال وفعله أبو طلحة وأبو هريرة وابن عباس وحذيفة رضي الله عنهم .
قوله :
وحيث بان الصوم بعد أن مضى ***** بعض النهار صامه ثم قضى
أي : من تبين له أثناء النهار أن ذلك اليوم من رمضان وجب عليه صيام الباقي من يومه ، ووجب عليه القضاء بدليل ما جاء في البخاري ومسلم والنسائي عن سلمة ابن الأكوع رضي الله عنه :" أن رسول صلى الله عليه وسلم أمر رجلا من أسلم أن أذن في الناس إذ فرض يوم عاشوراء : ألا من أكل فليمسك ومن لم يأكل فليصم " وكان ذلك في النهار .
قوله :
ومن يكــن شرط قبول فقــــــدا ***** أو صحة ثم بــه قد وجــــدا
ككافــــــــــر أثــــناءه قد أسلما ***** ومثله الصغير حيث احتـلما
كذاك ذو الإغمــاء قل إن يفـــق ***** أوجب عليهمو صيام ما بقي
في هذه الأبيات الثلاثة بيان أن من كان فاقدا شرطا من شروط قبول الصوم أو شرطا من شروط صحته التي تقدم ذكرها ، ثم وجد ذلك الشرط في أثناء نهار رمضان ، فإنه يجب على من كان ذلك شأنه أن يصوم ما بقي من يومه ، وأن يقضي يوما مكانه ، وذلك كالكافر إذا أسلم أثناء النهار ، والصغير إذا بلغ ، وصاحب الإغماء إذا أفاق فإنهم يلزمهم صوم ما بقي من يومهم ثم القضاء ، والقول بوجوبه أحوط ويلحق بهؤلاء كل من الحائض والنفساء إذا طهرتا أثناء النهار ، وجب عليهما الإمساك والقضاء وكذا المسافر إذا قدم أثناء النهار والمريض إذا برىء من مرضه كذلك ، وذلك لزوال المانع والعذر المبيح ، فقد روى أبو داود عن عبد الرحمن بن مسلمة عن عمه :" أن أسلم أتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : صمتم يومكم هذا ؟ قالوا : لا . قال : فأتموا بقية يومكم واقضوه " .
وهو صريح في وجوب الإمساك على من أسلم في نهار رمضان ، ووجوب قضاء ذلك اليوم ، ويلحق كل من ذكر من صغير بلغ ، أو مجنون ، أو صاحب إغماء أفاق ، ومن زال عذره المانع من الصوم كما رأيت قريبا ، والله أعلم .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
باب فضل السحور و تأخيره و تعجيل الفطر
ن : والفطر والسحور فيهما أتى ***** فضل عن الرسول نصا ثبتا
قــــولا وفــــعلا آمـــــرا مرغــبا ***** فلا تكن عما ارتضاه راغـبا
ثـــم الســحور صح ما الليل بقي ***** وفات بانشقاق فجر صـادق
وبالغــــروب الفـــطر حل فاعــلم ***** ولا تؤخر لظهــور الأنجـــم
وســن فـي الإفطــار أن يعجـــّلا ***** وأخر السحـور نصّا انجــلا
ش : هذه الأبيات تتعلق بمشروعية السحور والإفطار ، وبيان الآداب التي ينبغي أن يلتزمها المسلم حيال سحوره وإفطاره ففي قوله :
والفطر والسحور فيهما أتى ***** فضل عن الرسول نصّا ثبتا
قــولا وفــعلا آمـــــرا مرغبا ***** فلا تكن عما ارتضاه راغبا
أي : أنه قد ورد في نصوص السنة الصحيحة القولية والفعلية فضل عظيم في أكلة السحور والإفطار وبأساليب متنوعة ، ترغيبا وترهيبا ، ترغيبا في الفعل وترهيبا من التساهل والترك فمن تلك النصوص :
1 - ما رواه البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " تسحروا فإن في السحور بركة " .
ففي هذا الحديث الترغيب في التماس هذه البركة التي يمكن أن تحصل من جهات متعددة ، بل وتكون حسية ومعنوية :
ا - فمنها : اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم وإحياؤها وكفى بذلك بركة وفضلا .
ب - ومنها : التقوي بأكلة السحور على القيام بوظائف النهار بارتياح ونشاط .
ج - ومنها : مدافعة ما يسببه الجوع من سوء الأخلاق أثناء التعامل مع الناس في معترك الحياة .
د - ومنها : مخالفة أهل الكتاب ، فإنهم لا يتسحرون كما شرع للمسلمين ومخالفتهم قربة من القربات .
ه - ومنها : ذكر الله وقت السحر من قراءة أو استغفار أو صلاة وكل ذلك خير وبركة .
و - ومنها : أن الله وملائكته يصلون على المتسحرين كما جاء في المسند عن أبي سعيد مرفوعا :" السحور أكله بركة ، فلا تدعوه ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء ، فإن الله وملائكته يصلون على المتسحرين " .
2 - ومن النصوص الدالة على عظيم فضل السحور ما أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن عمرو بن العاص رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر " .
وهذا أعظم ترغيب وأبلغ حث على ملازمة هذه السنة النافعة المفيدة التي جعلت علامة فارقة بين صوم أهل الحق ، أتباع محمد صلى الله عليه وسلم وبين صوم عباد الهوى والشيطان من أهل الكتاب الذين ضلوا وأضلوا عن سواء السبيل .
قوله :
ثم السحور صح ما الليل بقي ***** وفات بانشقاق فجر صادق
أي : أن ليلة الصيام ظرف يحل فيه الأكل والشرب والجماع ، ولا يحرم على الصائم شيء من ذلك ما بقي جزء من الليل ، فإذا ذهب الليل وانشق الفجر الصادق الذي تحل فيه الصلاة حرم عليه ذلك كله إلى الليل بدليل قول الله عز وجل http://bamhrez.com/vb/( أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى اليل )) [ سورة البقرة : 187 ] الآية .
ولهذه الآية سبب نزول ذكره ابن كثير وغيره من المفسرين وهو : أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائما فنام قبل أن يفطر لم يأكل إلى مثلها وأن صرمة بن قيس الأنصاري كان صائما وكان يومه ذلك يعمل في أرضه فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال : هل عندك طعام ؟ قالت : لا ، ولكن أنطلق فأطلب لك فغلبته عينه فنام ، وجاءته امرأته فلما رأته نائما قالت : خيبة لك أنمت ؟ فلما انتصف النهار غشي عليه فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية : (( أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم )) الآية .
وقال ابن كثير - رحمه الله - في تفسيرها : " هذه رخصة من الله تعالى للمسلمين ورفع لما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام فإنه كان إذا أفطر أحدهم إنما يحل له الأكل والشرب والجماع إلى صلاة العشاء أو ينام قبل ذلك فمتى نام أو صلى العشاء حرم عليه الطعام والشراب والجماع إلى الليلة القابلةفوجد في ذلك مشقة كبيرة .
قوله :
وبالغروب الفطر حل فاعلم ***** ولا تؤخر لظهور الأنجم
وسن في الإفطار أن يعجلا ***** وأخر السحور نصا انجلا
ش : أي أنه بمجرد غروب الشمس يحل الفطر للصائم نصا صريحا يجب أن يعلم ويعمل به ، بل إن من حق الصائم أن يبادر باإفطار فور غروب الشمس ولا يجوز له تأخير الإفطار حتى يظهر له النجم كما صنع اليهود والنصارى الذين وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في الحديث الذي أخرجه أبو داود وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم :" لا يزال الدين ظاهرا ما عجل الناس الفطر ، لأن اليهود والنصارى يؤخرونه " .
وعند الحاكم وابن حبان عن سهل بن سعد :" لا تزال أمتي على سنتي ما لم تنتظر بفطرها النجوم ."
ومثل اليهود في المبالغة في تأخير الإفطار الرافضة ، فإنهم يؤخرونه حتى تظهر النجوم ، وما ذلك إلا لقلة حظهم من الدين ، ورغبتهم عن سنة خير المرسلين وخاتم النبيين محمد - صلى الله عليهم أجمعين - .
وأما السحور : فالسنة فيه التأخير لنصوص كثيرة وردت في الإرشاد والترغيب في تعجيل الإفطار وتأخير السحور :
ا - منها : ما رواه أحمد بسنده عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول :" لا تزال أمتي بخير ما أخروا السحور وعجلوا الفطر " .
ب - ومنها : ما جاء في الصحيحين عن أنس بن مالك عن زيد بن ثابت قال :" تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قمنا إلى الصلاة ، قال أنس ثم قلت لزيد : كم كان بين الأذان والسحور ؟ قال : قدر خمسين آية " .
ج - ومنها : ما جاء عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يمنعكم أذان بلال عن سحوركم ، فإنه ينادي بليل ، فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر " .
د - وروى عطاء عن ابن عباس أنه قال :" الفجر فجران : فأما الذي يسطع في السماء فليس يحل ولا يحرم شيئا ، ولكن الفجر الذي يستنير على رءوس الجبال هو الذي يحرم الشراب ."
فهذه النصوص تدل على مشروعية تعجيل الإفطار عند غروب الشمس بدون تردد ولا شكوك كما تدل على مشروعية تأخير السحور إلى آخر جزء من الليل لما في ذلك من المصالح المتعددة ، ولو لم يكن فيها إلا إحياء السنة ومخالفة الغلاة من أهل الكتاب والرافضة ؛ لكفى بذلك مصلحة وخيرا .
ن : وسن فطره على التمر إذا ***** كان وإلا الما طهور فخذا
وسن في الفطر الدعا بما ورد ***** إذ دعوة الصائم فيه لا ترد
ش : في هذين البيتين بيان سنتين من سنن الصوم النافعة :
الأولى منهما : الفطر على التمر إن وجد ، فإن لم يوجد فعلى حسوات من ماء فإنه طهور ، لما روى أحمد وأبو داود والترمذي عن أنس بن مالك قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر قبل أن يصلي على رطبات ، فإن لم تكن رطبات فتميرات ، فإن لم يكن تميرات حسا حسوات من ماء " .
ففي هذا النص دليل صريح على استحباب الفطر على الرطب إن وجد ، لأنه أفضل من اليابس ، فإن لم يوجد رطب فعلى التمر ، فإن لم يوجد رطب ولا تمر فيستحب للصائم أن يفطر على حسوات من ماء ، ومثل حديث أنس في الدلالة ما رواه الخمسة وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم عن سلمان بن عامر الضبّي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" من وجد التمر فليفطر عليه ، ومن لم يجد التمر فليفطر على ماء فإن الماء طهور " .
وقد ذكر الإمام الشوكاني - رحمه الله - علة مشروعية الإفطار على التمر فقال :" وإنما شرع الإفطار بالتمر لأنه حلو ، وكل حلو يقوي البصر الذي يضعف بالصوم ، وهذا أحسن ما قيل في بيان وجه الحكمة ."
قلت : ولعل قائلا يقول : إذا كانت العلة هي الحلاوة وهي توجد في التمر وغيره ، بل ربّما يكون وجودها في غيره أبلغ ، فهل من اختار لفطره نوعا من أنواع الحلويات يكون مصيبا للسنة أم لا ؟
الجواب : أنه لم يكن مصيبا للسنة ، وإنما السنة في التقيد بفعل ما أرشدنا إليه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد أرشدنا إلى الرطب فالتمر ، وعند عدمهما إلى الماء فإنه طهور .
وتعليل مشروعية الإفطار على الرطب والتمر بأنه حلو سبيله الإجتهاد ، وليس من العلل المنصوص عليها من الشارع صلى الله عليه وسلم فليعلم ذلك .
وقد أشار الناظم إلى هذه السنة بقوله :
وسن فطره على التمر إذا ***** كان وإلا الما طهور فخذا
والسنة الثانية : مشروعية الدعاء للصائم على العموم ، وعند فطره على وجه الخصوص ، فقد روى الترمذي في جامعه بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه حديثا طويلا وفيه :" ثلاثة لا ترد دعوتهم : الإمام العادل ، والصائم حتى يفطر ، ودعوة المظلوم فوق الغمام وتفتح لها أبواب السموات ، ويقول الرب : وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين .
وأما الدعاء عند الإفطار فقد جاء فيه أحاديث بعضها ضعيف وبعضها حسن كحديث مروان بن المقفع قال : رأيت عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقبض على لحيته ، فيقطع ما زاد على الكف قال : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أفطر قال : " ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله " رواه أبو داود والدارقطني وحسنه ، والحاكم وصححه .
وإلى هذا أشار الناظم بقوله :
وسن في الفطر الدعا بما ورد ***** إذ دعوة الصائم فيه لا ترد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــ
ن : وقد نهى النبي عن الوصال ***** أي صوم الأيام مع الليالي
مع فعله لــــــــه لا لــــــــلحرمة ***** ذا النهي لكن رحمة بالأمة
ش : في هذين البيتين بيان مسألة واحدة من مسائل الصوم ، وهي مسألة الوصال في الصوم ، وهو ترك ما يفطر بالنهار عمدا في ليالي الصيام ، وقد عرفه الناظم بقوله : " ........ ***** ......صوم الأيام مع الليالي " .
وقد اختلف العلماء في حكمه على ثلاثة أقوال :
القول الأول : ما ذهب إليه الإمام أحمد وإسحاق ، ورجحه ابن القيم وشهد له أنه أعدل الأقوال وهو التفصيل ، فقالوا : إنه جائز إلى السحر مع أن الأولى تركه تحقيقا لتعجيل الإفطار ، ومكروه بأكثر من يوم وليلة لما روى البخاري من حديث أبي سعيد :" لا تواصلوا ، وأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر ".
القول الثاني : الجواز مع القدرة عليه ، واختاره جمع من السلف كعبد الله بن الزبير وعبد الرحمن بن أبي نعم وإبراهيم بن زيد التميمي ، وأبي الجوزاء وقد استدل هؤلاء بمواصلة النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه يوما ثم يوما ثم رأوا الهلال ".
القول الثالث : التحريم مطلقا ، وقد ذهب إليه الأئمة الثلاثة أبو حنيفة ومالك والشافعي ، واستدلوا بحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال :" نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال . قالوا : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إنك تواصل ، قال : إني لست كهيئتكم ، إني أطعم وأسقى " متفق عليه .
ووجه الإستدلال عند هؤلاء أن النهي يقتضي التحريم ، واعتذروا عن مواصلة النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه فقالوا : إنه لم يقصد به التقرير ، وإنما قصد به التنكيل كما هو معلوم من ألفاظ الحديث ، فحين نهاهم فلم ينتهوا ، بل ألحوا في الطلب واصل بهم لتأكيد النهي والزجر وبيان الحكمة من نهيهم وظهور المفسدة التي نهاهم لأجلها ، فبعد بيان هذا يحصل منهم الإقلاع عنه وهو المطلوب .
قلت : وهو اعتذار وجيه وتعليل مقبول ، فدل على وجاهته وقبوله ألفاظ الأحاديث المضيئة فليتأمل .
أما بالنسبة لوصال النبي صلى الله عليه وسلم فهو أمر مشروع ؛ لأنه من خصائصه لوجود القدرة منه عليه ، والإعانة الخاصة من الله لنبيه ، حيث يبيت يطعمه ويسقيه بما يجد من لذة مناجاة ربه وسرور نفسه بذلك اللقاء الذي يحصل بين الله وبين خليله محمد صلى الله عليه وسلم .
وحيث ثبت أن الوصال من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم ، فلا سبيل إلى التأسي به فيه ، وإنما التأسي به فيما عدا الخصائص ، وسر نهينا عن الوصال إنما هو رحمة بنا ، لئلا يفرض على الأمة ما يشق عليها فلا تطيقه ، بل تعجز عن القيام به ، فتتعرض للعقوبات التي تترتب على ترك الفرائض والواجبات ، فالحمد لله الذي رحمنا وعافانا ، ولم يكلفنا من الأعمال ما يعنتنا .
باب ما يبطل الصوم وما يجوز فيه وما يكره
ن : يبطله أكل وشرب فاعلم ***** والقيء والجماع نصّا قد نمي
وكل ذي بحيث عمــدا فعـــلا ***** لا غير عـــامد فلـــيس مبطلا
ش : في هذين البيتين بيان لأشياء إذا فعلها الصائم أو فعل واحدا منها عامدا فقد بطل صومه وارتكب إثما عظيما وخسر خسرانا مبينا .
الأول والثاني : الأكل والشرب عمدا بخلاف من أكل أو شرب ناسيا أو مخطئا أو مكرها ، فإنه لا قضاء عليه ولا إثم ولا كفارة ؛ إذ لا اختيار له في ذلك ، وذلك لثلاثة أدلة :
الدليل الأول : ما ثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" من نسي وهو صائم فأكل أو شرب ، فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه " .
الدليل الثاني : ما أخرجه الدارقطني والحاكم وصححه عن أبي هريرة أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" من أفطر في رمضان ناسيا فلا قضاء عليه ولا كفارة ".
قال الحافظ ابن حجر : إسناده صحيح .
الدليل الثالث : ما رواه ابن ماجه والطبراني والحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " .
فهذه النصوص تدل على أن الأكل والشرب لا يبطل بهما أو بأحدهما الصوم ، إلا إذا كان على سبيل العمد والإختيار ، بخلاف النسيان والخطأ والإكراه ، فإن الصوم لا يبطل عن طريقهما .
الشيء الثالث : من المفطرات القيء ، فمن غلبه القيء وهو صائم في أي وقت من نهاره فيجب عليه أن يستمر في صومه ولا قضاء عليه ولا كفارة ،لأنه لا اختيار له في ذلك بخلاف من استقاء عامدا ، فإن عليه الإثم والقضاء إذا كان لغير حاجة ، وعليه القضاء فقط إذا فعله لحاجة ، وذلك لما روى أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان والدارقطني والحاكم وصححه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" من ذرعه القيء فليس عليه قضاء ، ومن استقاء عمدا فليقض " .
الشيء الرابع :الجماع وفعله مبطل للصوم في نهار رمضان لما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " يا رسول الله هلكت . قال : وما أهلكك ؟ قال : وقعت على امرأتي في رمضان . قال : هل تستطيع أن تعتق رقبة ؟ قال : لا . قال : فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين ؟ قال : لا . قال : فهل تستطيع أن تطعم ستين مسكينا ؟ قال : لا . قال : اجلس . فجلس فأُتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق - المكتل الضخم - قال : فتصدق به ، قال : ما بين لابتيها أحد أفقرمنا ، قال : فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه قال : خذه فأطعمه أهلك " .
وإلى هذه الأشياء الأربعة أشار الناظم بقوله :
يبطله أكل وشرب فاعلم ***** والقيء والجماع نصّا قد نمي
وكل ذي بحيث عمدا فعلا ***** لا غير عــامد فليس مــبطلا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
ن : وفي الجماع عامدا قد وجبا ***** كفـــارة مثل الظهار رتـبا
عـــتق فصـــــومه لشهرين ولا ***** إطعامه ستين مسكينا تلا
ش : في هذين البيتين بيان لحكم واحد وهو وجوب القضاء والكفارة على من جامع في نهار رمضان عامدا ، لا ناسيا ولا مخطئا ولا مكرها وهي مثل كفارة الظهار مرتبة ، أي : عتق رقبة مؤمنة ، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين ، فإن لم يستطيع فإطعام ستين مسكينا ، لكل مسكين مد من الطعام ، والدليل على الترتيب حديث أبي هريرة المتقدم ، وكذا آية الظهار ، وهي قوله تعالى http://bamhrez.com/vb/( والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله وتلك حدود الله وللكافرين عذاب أليم )) [ سورة المجادلة 3-4 ].
فالكفارة مرتبة في هاتين الآيتين ومثلها كفارة الجماع في نهار رمضان سواء بسواء على القول الراجح المأخوذ من ألفاظ حديث أبي هريرة المتقدم ، ومعنى الترتيب ظاهر وهو ألا يعدل عن الأول إلى الثاني إلا عند عدم القدرة على الأول ، وكذا لا ينتقل من الثاني إلى الثالث إلا بعد العجز عن الأول والثاني ، فإن عجز عن الإطعام بقي بذمته متى وجد أدّاه ، أما إذا لم يجد فلا إثم عليه ، أما الإمام مالك فإنه يرى أنها على التخيير ، فيخير المجامع بين العتق والصوم والإطعام ، ولا دليل له مستقيم فيما نعلم . أما بالنسبة للمرأة فإذا كانت مطاوعة لزوجها في الجماع عالمة بالتحريم فإن عليها الكفارة مع القضاء قياسا عليه ، لأنهما في التكليف سواء ، قال بذلك كثير من أهل العلم منهم الحنفية والمالكية ، أما الشافعي فإنه يرى عدم الكفارة عليها بحجة أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمرها في حديث أبي هريرة والذي يظهر لي وجوب القضاء عليها والكفارة من مالها لاستواء الرجل والمرأة في هذه العبادة واحترام زمانها ، والله أعلم .
وهناك أشياء تأخذ حكم هذه الأربعة في إبطال الصوم وهي :
1- نزول الحيض بالمرأة أو النفاس ونحوه أثناء النهار ، ولو كان قبل غروب الشمس بلحظة من نهار ؛ فإنه يبطل الصوم ، ويجب القضاء بإجماع أهل العلم على ذلك فيما أعلم .
2 - الإستمناء باليد ، أو بتقبيل المرأة ، أو بأي وسيلة من الوسائل التي يستخرج بها المني عمدا ، فإنه يبطل الصوم ، ويوجب المقت من الله ، فليحذر المسلم ذلك .
3 - استعمال الإبرة الغذائية سواء كانت حقنا في الدم ، أو شربا بالفم ، أم بأي طريق يتم إيصالها إلى الجوف ، وكذا بلع الحبوب سواء للغذاء أو للدواء فإن ذلك في معنى الأكل والشرب ، فيبطل به الصوم ، ويجب القضاء بلا تردد .
4 - إذا أكل أو شرب ظانا غروب الشمس ، أو عدم طلوع الفجر ، فظهر خلاف ذلك فعليه القضاء عند جمهور أهل العلم ومنهم الأئمة الأربعة ، وهو الراجح لأنه اتضح للصائم يقينا أن أكله وشربه كان في النهار ، وذلك مبطل للصوم بينما ذكر عن بعض العلماء القول بصحة الصوم كإسحاق وعطاء والحسن البصري ومجاهد ، واستدلوا بقول الله تعالى http://bamhrez.com/vb/( وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم )) [ سورة الأحزاب : 5 ] وبحديث :" إن الله وضع عن أمتي الخطأ ، والنسيان ، وما استكرهوا عليه ".
5 - إذا جامع ظانا غروب الشمس أو عدم طلوع الفجر ، فظهر خلاف ذلك ؛ فقد اتفق الفقهاء على وجوب القضاء ، واختلفوا في وجوب الكفارة ، فذهب الأئمة الثلاثة : أبو حنيفة ، ومالك ، والشافعي إلى عدم وجوب الكفارة ، لكون ذلك خطأ لا عمدا ، وذهب الإمام أحمد إلى وجوبها ، لكون الجماع قد وقع في نهار رمضان ، وما ذهب إليه الثلاثة متفق مع يسر الشريعة وسهولة الدين ، والله الموفق .
ن : وفي الحجامة اختلاف والأصح ***** جوازها إلا لذي ضعف وضح
إذ صــــح أن آخــــر الأمـــــــرين ***** ترخيصه فــيها بـــدون مــــيْن
ش : في هذين البيتين إيضاح للخلاف الحاصل بين العلماء في حكم الحجامة للصائم والناظر في نصوص الموضوع يظهر له أن أشهر الأقوال إثنان :
القول الأول : تحريمها واعتبارها من مبطلات الصوم ، وقد استدل أصحاب هذا القول بما رواه الشافعي والدارمي وأبو داود وغيرهم من حديث شداد بن أوس قال :" كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم زمان الفتح، فرأى رجلا يحتجم لثمان عشرة خلت من رمضان قال وهو آخذ بيدي : أفطر الحاجم والمحجوم " . وإسناده صحيح .
ب - القول الثاني : جواز الحجامة للصائم مع أن الأولى تركها خوفا من الضعف الذي قد تسببه ، واستدل أصحاب هذا القول بما رواه عبد الرزاق في مصنفه وأبو داود في سننه من طريق عبد الرحمن بن عابس عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال :" نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الحجامة للصائم وعن المواصلة ولم يحرمها إبقاءً على أصحابه " وإسناده صحيح وجهالة الصحابي لا تضر .
فهذا الحديث يدل على الجواز ، ونسخ التحريم المفهوم من حديث :" أفطر الحاجم والمحجوم " وهذا القول هو الراجح وهو اختيار الناظم - رحمه الله - .
ن: ونص منع الكحل مع إعلاله ***** فليس بالصـريح في إبطالــه
مــع كونــه معارضـــا بمــــثله ***** ممّا روي عن النبي من فعله
ش : في هذين البيتين بيان قضية واحدة تتعلق بالصوم وهي الكحل للصائم منعا وإباحة ، وقد أشار الناظم في البيت الأول إلى أن النص الذي يقتضي التحريم لم يسلم عنده من علة قادحة ، وإذا كان الأمر كذلك فلا يثبت به حكم ، ونص الحديث رواه أبو داود عن عبد الرحمن بن النعمان بن معبد بن هوذة عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم :" أنه أمر بالإثمد المروح عند النوم وقال : ليتقه الصائم " وهو حديث منكر لا تقوم به حجة عل تحريم شيء الأصل فيه الإباحة كما أفاد الناظم في البيت الثاني أن المعارض لهذا الحديث - أي : الذي يدل على الجواز - مصاب بعلة قادحة في سنده لا تقل عن علة حديث أبي داود ، وذلك ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال :" خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعيناه مملوءتان من الإثمد ، وذلك في رمضان وهو صائم . وقد ورد بألفاظ أخرى وأسانيد كذلك وكلها ضعيفة لا يثبت بها حكم ، ولكن كما قال الإمام الشوكاني :" والظاهر ما ذهب إليه الجمهور - وهو أن الكحل لا يفسد الصوم - لأن البراءة الأصلية لا ينتقل عنها إلا بدليل .
ورحم الله ابن تيمية حيث قال :" فإن الكحل لا يغذي ألبتة ولا يُدخل أحد كحلا في جوفه لا من أنفه ولا من فمه ."
وقال تلميذه ابن القيم عقب كل حديث من الحديثين المتعارضين في مسألة الكحل:" ولا يصح " والأمر كذلك ، كما رأيت من علل الحديثين ، والله أعلم .
ن : وجاز تقبيل على القول الأصح ***** إن أمن الشهوة نصّا اتضح
كـــذا يجـــوز الغســـل للتــــــــبرد ***** كـــذا تمضمض ولا يــزدرد
وليغتســل مــن جنبا قــد أصـــبحا ***** ثم ليصم بذا الحديث أفصحا
ش : قوله :
وجاز تقبيل على القول الأصح ***** إن أمن الشهوة .............
أي : أنه يجوز للصائم أن يقبل امرأته بشرط أمن فتنة الشهوة ، أما إذا لم يأمن على نفسه هيجانها فيحرم عليه التقبيل ؛ لأنه وسيلة إلى محرم كالإنزال أو الجماع فعلا ، ومن رعى حول الحمى أوشك أن يرتع فيه .
وقوله :" .......... نصّا اتضح " :
أي : أنه ثبت جواز التقبيل عند أمن الشهوة بالنص الصريح الواضح عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو أسوة أمته ، ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل وهو صائم ، ويباشر وهو صائم ولكنه كان أملككم لإربه " وليس في قولها :" ولكنه كان أملككم لإربه " ما يفيد الخصوصية ، بل كل من كان من أمته يستطيع التحكم في نفسه فيملك إربه فله أن يقبل ويباشر وهو صائم كما كان نبيه يفعل ، ومن لا يأمن ثوران شهوته فيحرم عليه لئلا يقع فيما لا تُرتض نتائجه ولا تحمد عقباه وهذا التفصيل هو أحد الأقوال في المسألة واختاره الناظم كما رأيت وهو الراجح - إن شاء الله - .
وهناك أقوال أخر سأذكر أشهرها :
1 - القول بالإباحة مطلقا بدون تفصيل نقل ذلك عن بعض السلف كأبي هريرة وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما وآخرين ، واستدلوا بما رواه مسلم في صحيحه عن عمرو بن أبي سلمة رضي الله عنه أنه :"سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أيقبل الصائم ؟ فقال له : سل هذا - لأم سلمة - فأخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك ، فقال : يا رسول الله ، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخرفقال : أما والله إني لأتقاكم لله وأخشاكم له " .
ووجه الدلالة منه على هذا القول أن الرسول - عليه الصلاة والسلام - أنكر على السائل دعوى الخصوصية ، ولم يفرق بين أفراد الناس ، فثبت الجواز مطلقا .
2 - القول بالإباحة للشيخ والمنع للشاب وقد نسب هذا القول إلى ابن عباس وسعيد بن منصور وآخرين ، ودليلهم حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند أبي داود : " أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المباشرة للصائم فرخص له ، وأتاه آخر فنهاه عنها ، فإذا الذي رخص له شيخ والذي نهاه شاب " .
وهذا القول قريب من الأول ؛ لأن الغالب أن الشاب لا يأمن على نفسه فتنة الشهوة بخلاف الشيخ الكبير فإنه قد فات أوان هيجانها لديه .
3 - القول بالتحريم مطلقا وعلى أي حال نقل ذلك ابن المنذر عن جماعة من العلماء .
4 - القول بكراهة القبلة والمباشرة للصائم مع صحة صومه ، روي ذلك عن ابن عمر وهو المشهور من مذهب المالكية .
قوله :
كذا يجوز الغسل للتبرد ***** كذا تمضمض ولا يزدرد
اي : كما جاز في الشرع تقبيل الصائم امرأته عند أمن اشهوة فإنه كذلك يجوز الإغتسال للتبرد وطلب النظافة بدون كراهة ، ولو شعر بلذة في ذلك فإنه لا يؤثر على صومه من قريب ولا بعيد بدليل ما رواه أبو بكر بن عبد الرحمن عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه حدثه فقال : لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصب على رأسه الماء وهو صائم من العطش أو من الحر " رواه أحمد ومالك وأبو داود بإسناد صحيح . كما يجوز له أيضا أن يتمضمض لا سيما عند الوضوء ولكن يجب عليه أن يكون في ذلك كله على حذر من وصول الماء إلى جوفه من المنافذ المعتبرة كالفم والأنف والأذن ونحوها لأنه إذا وصل شيء إلى الجوف من تلك المنافذ فقد فسد الصوم ووجب القضاء ولو كان غير عامد .
قوله : وليغتسل من جنبا قد أصبحا ***** ثم ليصم بذا الحديث أفصحا
هذا البيت فيه بيان قضية تتعلق بالصوم وهي قضية من أصبح جنبا وهو صائم ، أي : أدركه الفجر ولما يغتسل ، وللعلماء في هذه المسألة أقوال :
القول الأول : الجزم بصحة صوم من أصبح جنبا سواء عن جماع أو احتلام وهو قول الجمهور واختاره الناظم ، وبه اطمأنت النفس وإليه جنحت ، وقد جزم الإمام النووي بأنه استقر الإجماع على ذلك ، وقال ابن دقيق العيد : إنه صار ذلك إجماعا أو كالإجماع ، وقد استدل أصحاب هذا القول بثلاثة أحاديث :
1 - ما رواه أحمد ومسلم وأبوداود عن عائشة رضي الله عنها :" أن رجلا قال : يا رسول الله ، تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وأنا تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم ، فقال : لست مثلنا يا رسول الله ، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، فقال : والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله ، وأعلمكم بما أتقي " .
2 - ما رواه الشيخان عن عائشة ولأم سلمة رضي الله عنهما :" أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصبح جنبا من جماع غير احتلام ثم يصوم في رمضان " .
3 - وفي مسلم عن أم سلمة رضي الله عنها قالت :" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح جنبا من جماع لا حلم ثم لا يفطر ولا يقضي " .
ففي هذه النصوص الثلاثة أعظم دلالة على صحة صوم من أصبح جنبا بل هي صريحة في ذلك لا تحتمل تأويلا غيره كما ترى .
كما استدلوا أيضا بالآية الكريمة http://bamhrez.com/vb/(أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر )) [ سورة البقرة 187 ] .
ووجه الدلالة فيها على صحة صوم من أصبح جنبا أن قوله تعالى http://bamhrez.com/vb/( أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم )) يقتضي إباحة الجماع في ليلة الصوم ومن جملتها الوقت المقارن لطلوع الفجر فيلزم إباحة الجماع فيه ومن ضرورته أن يصبح فاعل ذلك جنبا ، ولا يفسد صومه وإنه لدليل قوي إلى تلك الأدلة الصريحة نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء .
القول الثاني : عدم صحة صوم من أصبح جنبا وهو قول عروة بن الزبير وطاوس بن كيسان وقد استدلا بحديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي يثبت من طرق متعددة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" من أدركه الصبح جنبا فلا صوم له " .
وفي رواية في المسند :" من أدركه الصبح وهو جنب فلا يصومن يومئذ".
وإسنادهما صحيح ، وقد خرج ذلك الجمهور على أحد وجهين :
الوجه الأول : القول بالنسخ غير أن دعوى النسخ تحتاج إلى معرفة التاريخ للمتقدم والمتأخر إذ بدون ذلك لا يحكم بالنسخ .
الوجه الثاني : الترجيح وهو أن الأحاديث الواردة في صحة صوم من أصبح جنبا بعضها في الصحيحين بالإضافة إلى مدلول الآية الكريمة التي سبق ذكرها بينما حديث أبي هريرة وإن كان صحيحا إلا أنه لا يصل إلى درجة تلك النصوص لأنه لم يرد في الصحيحين مرفوعا مسندا ، كما يُروى أن أبا هريرة لما بلغه حديث عائشة وأم سلمة رجع عن الفتوى بمقتضى حديثه .
القول الثالث : فرق قائله بين المفترض والمتنفل حيث قال : من أصبح جنبا في صوم فرض فقد فسد صومه ووجب عليه القضاء وكأن مستنده حديث أبي هريرة المتقدم ، ومن أصبح جنبا في صوم نفل فلا شيء عليه ، ذلك لأن المتنفل أمير نفسه فلو أصبح أفطر اختيارا أثناء النهار فلا إثم عليه ولا قضاء عليه إذ ليس في ذمته شيء ، وهذا القول مروي عن ابراهيم النخعي .
القول الرابع : لبعض السلف كسالم بن عبد الله بن عمر والحسن البصري أن من أصبح جنبا وهو صائم وجب عليه أن يتم صومه ويقضي يوما مكانه ، ولم أقف لهما على دليل على المضي في الصيام وعلى القضاء .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر : الأفنان الندية شرح منظومة السبل السوية لفقه السنن المروية لناظمه الشيخ حافظ بن أحمد بن علي الحكمي - رحمه الله -
تأليف : الشيخ زيد بن محمد المدخلي - حفظه الله -
تقديم : الشيخ أحمد بن يحي النجمي - حفظه الله -
والشيخ ربيع بن هادي عمير المدخلي - حفظه الله
يتبع إن شاء الله .
سحاب السلفية