المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مسألة : اختلاف أهل العلم في تكفير الخوارج ؛ للشيخ علي أدم الأثيوبي وترجيحه لقول من يرى كفرهم .


طالب العلم
08-13-2015, 02:09 PM
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ



قال الشيخ العلامة محمد بن علي بن آدم بن موسى الإثيوبي الوَلوي .


في كتابه : شرح سنن النسائي المسمى «ذخيرة العقبى في شرح المجتبى» (32/96).



عند شرحه لحديث علي - رضي الله عنه - الذي سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حينما قال :


يخرج قوم في آخر الزمان أحداث الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من خير قول البرية ، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، فإذا لقيتموهم فاقتلوهم ، فإن قتلهم أجرٌ لمن قتلهم يوم القيامة.


قال الشيخ حفظه الله ضمن شرحه للحديث :



المسألة الثالثة


اختلاف أهل العلم في تكفير الخوارج



قال النوويّ - رحمه اللَّه تعالى - في "شرح مسلم" : وفِي هذِهِ الأحادِيث دلِيل لِمن يُكفِّرُ الخوارج .



قال القاضِي عِياض - رحِمهُ اللَّه تعالى : قال المازريّ : اختلف العُلماء في تكفِير الخوارِج ، قال : وقد كادت هذِهِ المسألة تكُون أشدّ إِشكالا من سائِر المسائِل ، ولقذ رأيت أبا المعالي ، وقذ رغِب إِليه الفقيه عبد الحقّ - رحِمهُما اللَّه تعالى - في الكلام عليها ، فرهب لهُ من ذَلِكَ ، واعتذر بِأنّ الغلط فِيها يصْعُبُ موْقِعُهُ ؛ لأن إِدْخال كافِر في الملَّة ، وإخراج مسلِم مِنها عظِيم في الدَّين ، وقد اضطرب فِيها قوْل القاضِي أبِي بكر الباقِلانِي ، وناهِيك بِهِ في علم الأُصُول ، وأشار ابن الباقِلانِيّ إِلى أنها من المعوِّصات ، لأن القوْم لم يُصرَّحُوا بالكُفرِ ، وإنما قالُوا أقوالا تُؤدِّي إِليهِ ، وأنا أكشِف لك نُكتة الخلاف ، وسَبَبَ الإشكال ، وذلِك أن المعتزليَّ مثلا يقُول :



إِنَّ اللَّه تعالى عالِم، ولكِن لا عِلم لهُ ، وحيٌّ ولا حياة لهُ ، يُوقِع الالتِباس في تكفِيره ، لأنَّا علِمْنا من دِين الأُمَّة ضرُورة ، أنَّ من قال : إِنَّ اللَّه تعالى ليس بِحيٍّ ، ولا عالِم ، كان كافِرًا ، وقامت الحجَّة على استِحالة كوْن العالِم ، لا عِلم لهُ ، فهل نقُول : إِنَّ المعتزليَّ ، إِذا نفى العِلم ، نفى أنْ يكُون اللَّه تعالى عالِمًا ، وذلِك كُفر بالإجماع ، ولا ينفعُهُ اعتِرافُهُ بِأنهُ عالِم ، مع نفيِهِ أصل العِلم ، أوْ نقُول : قدْ اعترف بِأن اللَّه تعالى عالِم ، وإنكاره العِلم لا يُكَفّرهُ ، وإن كان يُؤدّي إِلى أنّهُ ليس بِعالِم ، فهذا موْضِع الإشكال . هذا كلام المازريّ.



ومذهب الشَّافِعِي ، وجماهِير أصحابه العلماء ، أن الخوارج لا يكفرُون ، وكذلِك القدرِية ، وجماهِير المعتزِلة ، وسائر أهل الأهواء.



قال الشَّافِعِي - رحِمهُ اللَّه تعالى : أقبلُ شهادة أهل الأهواء إِلا الخطَّابِيَّة ، وهُم طائفة من الرَّافِضة ، يشهدُون لِمُوافِقِيهِم في المذهب بِمُجرَّدِ قوْلهم ، فردَّ شهادتُهم لِهذا ، لا لِبِدْعتِهِم . واللَّه تعالى أعلم . انتهى كلام النوويّ - رحمه اللَّه تعالى - (1).



(1)انظر : "شرح مسلم" 7/ 160. "كتاب الزكاة".



وقال في "الفتح" : استُدِلَّ بهِذا الحديث لِمن قال بِتكفِيرِ الخوارج .



وهُو مُقتضى صنِيع البُخارِيّ ، حيثُ قرنُهم بِالملحِدِين ، وأفرد عنهُم المتأولِين بترجمةٍ .



وبِذلِك صرّح القاضِي أبو بكر بن العربِيّ ، في شرح التزمِذِيّ ، فقال : الصحِيح أنَّهم كُفَّار ؛ لِقوْلِهِ - صلى اللَّه عليه وسلم : "يمرُقون من الإسلام" ، ولِقوْلِهِ : "لأقتُلنَّهُم قتل عاد" ، وفِي لفظ : "ثمُود"، وكُلّ مِنهُما إِنما هلك بِالكُفرِ ، وبِقوْلِهِ : "هُم شرُّ الخلق" ، ولا يُوصف بِذلِك إِلا الكُفَّار ، ولِقوْلِهِ : "إِنَّهُم أبغضُ الخلق إِلى اللَّه تعالى" ، ولِحُكمِهِم على كُلّ من خالف مُعتقدهم بِالكُفرِ ، والتخليد في النار ، فكانُوا هم أحقَّ بِالاسم مِنْهُم .



ومِمن جنح إِلى بعض هذا البحث الطبرِي ، في "تهذِيبه" ، فقال - بعد أن سرد أحادِيث الباب : فِيهِ الرَّدّ على قوْل من قال : لا يخرُج أحد مِن الإسلام من أهل القِبلة بعد استِحقاقه حُكمهُ ، إِلا بِقصدِ الخرُوج مِنهُ عالِمًا، فإِنه مُبطِل لِقوْلِهِ في الحديث : "يقُولُون الحقّ ، ويقرءُون القُرْآن ، ويمْرُقُون من الإسلام ، ولا يتعلقُون مِنهُ بِشيء" ، ومِن المعلوم أنهم لم يرْتكِبُوا استِحْلال دِماء المُسْلِمِين وأموالهم ، إِلا بِخطأٍ مِنْهُم ، فِيما تأوَّلُوهُ من آيِ القُرْآن ، على غير المراد مِنهُ .


ثُمَّ أخرج بِسندٍ صحِيح ، عن ابن عبّاس ، وذُكر عِنْده الخوارج ، وما يلقون عِند قِراءة القُرْآن ، فقال : يُؤمِنُون بِمُحْكمِهِ ، ويهلِكُون عِنْد مُتشابِهه.


قال الحافظ : ويؤيِّد القوْل المذكُور ؛ الأمرُ بِقتلِهم ، مع ما تقدّم من حدِيث ابْن مسعُود : "لا يحِلّ قتل امْرئ مُسلِم ، إِلا بِإِحْدى ثلاث" - وفِيهِ "التَّارِك لِدِينِهِ ، المُفارِق لِلجماعةِ".



قال القُرطُبِيّ في "المُفهِمِ" : يُؤيَّد القوْل بِتكفِيرِهِم التَّمْثِيل المذكور في حدِيث أبِي سعِيد ، فإِن ظاهِر مقصُوده أنهم خرجُوا من الإسلام ، ولم يتعلَّقُوا مِنهُ بِشيء ، كما خرج السَّهْم من الرَّمِية ؛ لِسُرْعتِهِ ، وقُوّة رامِيه ، بِحيثُ لم يتعلّق من الرَّمِيَّة بِشيء ، وقد أشار إِلى ذَلِكَ بقوْلِهِ "سبق الفرْث والدَّم".



وقال صاحِب "الشفاء" فِيهِ : وكذا نقطع بِكُفرِ كُل من قال قوْلاً ، يُتوصَّل بِهِ إِلى تضليل الأُمَّة ، أوْ تكفِير الصَّحابة ، وحكاهُ صاحِب "الرَّوْضة" في "كِتاب الرَّدَّة" عنهُ ، وأقرَّهُ .



ومِمّن جنح إِلى ذَلِكَ ، من الأئمَّة المُتأخَّرِين :



الشيخ تقِي الِدّين السُّبْكِيّ ، فقال في فتاوِيه : احْتجَّ من كفَّر الخوارج ، وغُلاة الرَّوافِض ، بِتكفِيرِهِم أعْلام الصَّحابة ؛ لِتضمُّنِهِ تكذِيب النَّبِيّ - صلى اللَّه عليه وسلم - في شهادته لهُم بِالجنَّة ، قال : وهُو عِندِي احْتِجاج صحِيح .


قال : واحْتجَّ من لم يُكفرهُم ، بِأن الحُكْم بِتكفِيرِهِم ، يستدْعِي تقدُّم عِلْمهم بِالشَّهادةِ المْذْكُورة ، عِلمًا قطعِيًّا ، وفِيهِ نظر ؛ لأنَّا نعْلم تزكِية من كفَّرُوهُ عِلْمًا قطعِيًّا ، إِلى حِين موْته ، وذلِك كاف في اعتِقادنا تكفِير من كفَّرهُم ، ويُؤيِّدهُ حدِيث : "من قال لأخِيهِ : كافِر ، فقد باء بِهِ أحدهما" ، وفِي لفظ مُسلِمِ : "من رمى مسْلِمًا بِالكُفرِ ، أوْ قال : عدُوّ اللَّه ، إِلا حار عليهِ" .


قال : وهؤلاءِ قدْ تحقَّق مِنهُم، أنَّهم يرمُون جمًاعة بالكُفرِ ، مِمن حصل عِندنا القطع بِإِيمانِهم ، فيجِب أن يُحكم بِكُفرِهِم ، بِمُقتضى خبر الشَّارع ، وهُو نحو ما قالُوهُ ، فِيمن سجد لِلصّنم ونحوِه ، مِمن لا تصرِيح بِالجحُودِ فِيهِ ، بعْد أن فسَّرُوا الكُفر بِالجُحُودِ ، فإِن احتجُّوا بِقِيام الإِجماع على تكفِير فاعِل ذَلِكَ ، قُلنا : وهذِهِ الأخبار الوارِدة في حقّ هؤلاءِ ، تقتضِي كُفرهُم ، ولوْ لم يعتقِدُوا تزكِية من كَفّرُوهُ ، عِلمًا قطعِيًّا ولا يُنجيهِم اعتِقادُ الإسلام إِجمالا ، والعمل بِالواجِباتِ عن الحكم بِكُفرِهِم ، كما لا يُنجّي السَّاجِد لِلصَّنم ذَلِكَ. واللَّه تعالى أعلم .



وذهب أكثَرُ أهل الأُصُول ، من أهل السُّنَّة ، إِلى أن الخوارج فُسَّاق ، وأنَّ حُكم الإسلام يجرِي عليهِم ؛ لِتلفُّظِهِم بِالشَّهادتين ، ومُواظبتِهِم على أرْكان الإسلام ، وإنَّمَا فُسِّقُوا بِتكفِيرِهِم المُسْلِمِين ، مستنِدِين إِلى تأوِيل فاسِد ، وجرَّهُم ذَلِكَ إِلى استِباحة دِماء مُخالِفِيهِم ، وأموالهمِ ، والشَّهادة عليهِم بِالكُفرِ والشًرْك.



وقال الخطَّابيّ : أجمع عُلماء المُسلمِينَ ، على أنَّ الخوارج مع ضلالتهم فِرْقة من فِرقِ المُسلمِينَ ، وأجازُوا مُناكحتهم ، وأكل ذبائحهمِ ، وأنهُم لا يُكفَّرُون ما دامُوا مُتمسِّكِين بِأصلِ الإسلام .



وقال عِياض : كادت هذِهِ المسْألة تكُون أشدّ إِشكالا عِند المُتكلِّمِين من غيرها ، حتّى سأل الفقِيهُ عبد الحقّ الإمام أبا المعالي عنها ، فاعتذر بِأن إِدخال كافِر في الملة ، وِإخراج مُسْلِم عنها عظِيم في الدين .


قال : وقد توقَّف قبْله القاضِي أبُو بكر الباقِلانِي ، وقال : لم يُصرِّح القوْم بِالكُفرِ ، وإِنما قالُوا أقوالا تُؤدِّي إِلى الكُفر.


وقال الغزاليّ في كِتاب "التَّفرِقة بين الإيمان والزَّندقة" : والذِي ينبغِي الاحتِراز عن التكفِير ، ما وجد إِليهِ سبِيل ، فإنَّ استِباحة دِماء المُصلين المقرّين بِالتوحِيدِ خطأ ، والخطأ في ترْك ألف كافِر في الحياة ، أهونُ مِن الخطأ في سفك دم لِمُسلِمِ واحِد.



ومِمَّا احْتَجَّ بِهِ من لم يُكفرهُم ، قوْله في الحديث بعد وصفهم بِالمرُوقِ من الدَّين : "كمُرُوقِ السَّهم ، فينظُر الرَّامِي إِلى سهمه"، إلى أن قال : "فيتمارى في الفُوقة ، هل علِق بهِا شيء".



قال ابن بطَّال : ذهب جُهُور العُلماء ، إلى أنَّ الخوارج غير خارِجِين ، عن جملة المُسلمِينَ ؛ لِقوْلِهِ : "يتمارى في الْفُوق"؛ لأنَّ التَّمارِي من الشَّك ، لمّا وقع الشَّكّ في ذَلِكَ ، لم يُقطع عليهِم بِالخرُوجِ من الإسلام ؛ لأنَّ من ثبت لهُ عقد الإسلام بِيقِين ، لم يخرُج مِنهُ ، إِلا بِيقِين .


قال : وقد سُئِل علِي عن أهل النَّهر ، هل كفرُوا ؟ فقال : من الكُفر فرُّوا.




قال الحافظ: وهذا إن ثبت عن عليّ ، حُمِل على أنهُ لم يكُن اطَّلع على مُعتقدهم ، الذِي أوْجب تكفِيرهم عِند من كفَّرهُم ، وفِي احتِجاجه بِقوْلِهِ : "يتمارى في الفُوق" نظر ، فإِنّ في بعض طُرُق الحديث المذكور : "لم يعلق مِنهُ بِشيء"، وفِي بعضها "سبق الفرث والدم" ، وطرِيق الجمع بينهما ، أنَّهُ تردَّد هل في الفُوق شيء ، أوْ لا ؟ ثُمَّ تحقَّق أنَّهُ لم يعلق بِالسَّهم ، ولا بِشيءِ مِنهُ من الرَّمِي بِشيءِ.



ويُمكِن أن يُحمل الاختِلاف فِيهِ ، على اختِلاف أشخاص مِنْهُم ، ويكون في قوْله : "يتمارى" إِشارة إِلى أنَّ بعضهم ، قدْ يبقى معهُ من الإسلام شيء.



قال القُرطُبِيّ في "المفهم" : والقوْل بِتكفِيرهِم أظهرُ في الحديث ، قال : فعلى القوْل بِتكفِيرِهِم يُقاتَلُون ، ويُقتلُون ، وتُسبى أموالُهُم ، وهُو قوْل طائِفة من أهل الحديث في أموال الخوارج .


وعلى القوْل بِعدمِ تكفِيرهم ، يُسلك بهم مسلك أهل البغي ، إِذا شقُّوا العصا ، ونصبُوا الحرْب ، فأمَّا من استسرَّ مِنْهُم بِبِدعةٍ ، فإِذا ظُهِر عليهِ ، هل يُقتل بعْد الاستِتابة ، أو لا يُقتل ، بل يُجتهد في ردّ بِدْعته؟


اختُلِف فِيهِ ، بِحسبِ الاختِلاف في تكفِيرهم ، قال : وباب التكفِير باب خطِر ، ولا نعْدِل بِالسلامةِ شيئًا . انتهى .



قال الجامع : - عفا اللَّه تعالى عنه - : عندي قول من قال بتكفير الخوارج أرجح ؛ لقوّة أدلته ، ووُضوحها ، فليُتأمّل .


واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا، ونعم الوكيل.




سحاب السلفية