أبو ذر الفاضلي
09-20-2011, 05:45 PM
بن عثيمين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضلّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله الله تعالى بالهدى ودين الحق، فبلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد:
فيا أيها الناس، اتَّقوا الله تعالى واشْكروه على نِعَمِه العظيمة التي أجلّها وأفضلها وأسعدها في الدنيا والآخرة ما أنعم به عليكم حين بعث فيكم رسولاً من أنفسكم يتلو عليكم آياته ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة بعد أن كان الناس في ضلال مبين، رسولاً أخرج الله به من الظلمات إلى النور: من ظلمات الجهل إلى نور العلم، ومن ظلمات الشرك والكفر إلى نور التوحيد والإيمان، ومن ظلمات الجور والإساءة إلى نور العدل والإحسان، ومن ظلمات الفوضى الفكرية والمنهجية إلى نور الاستقامة بالهدف والمنهج، ومن ظلمات القلق النفسي وضيق الصدر إلى نور الطمأنينة وانشراح الصدر، قال الله عزَّ وجل:﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾[آل عمران: 164]،المعنى: وإنهم كانوا من قبل لفي ضلال مبين .
أيها الإخوة، اشْكروا الله على هذه النعمة التي بها سعادتكم في الدنيا والآخرة وراحتكم وطمأنينتكم، يقو ل الله تعالى: ﴿الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾[الرعد: 28]،اللهم اعمر قلوبنا بذكرك حتى تطمئن وتنشرح صدورنا، وقال الله عزَّ وجل: ﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ﴾[الزمر: 22]، يعني: كمَن لم يكن كذلك، لا واللهِ لا يستويان ﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾[الزمر: 22]، وقال الله تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآَخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ﴾[إبراهيم: 1-3] .
لقد بعث الله تعالى نبيَّه محمدًا - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - والناس يتخبَّطون في الجهالات والضلالات، ففتح لهم أبواب العلْم من كل وجه حتى يصلوا إلى أسمى الغايات، فتح لهم أبواب العلم بالله - عزَّ وجل - وبما له من الأسماء الحسنى والصفات الكاملة العليا والأفعال التي مبناها على الحكمة والغاية الحميدة وما له جلَّ وعلا من الحقوق وإخلاص التوحيد له، وفتح لهم صلى الله عليه وعلى آله وسلم أبواب العلْم في عالَمِ الكون في مبدئه ومنتهاه والغاية منه والحساب والجزاء، قال الله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآَتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ﴾[الحجر: 85]، وقال الله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ﴾[ص: 28]، وقال الله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾[الذاريات: 56-58]، وقال الله عزَّ وجل: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ﴾[المؤمنون: 12-16] .
فانظروا - أيها الإخوة - كيف ذكَرَ الله في هذه الآيات العظيمة مبدأ هذا الكون وغايته ومنتهاه ؟ من أين لكم هذا العلم إلا من طريق محمد صلى الله عليه وسلم .
وفتح الله تعالى ببعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - أبواب العلْم في عبادة الله - عزَّ وجل - والسير إلى رضوانه ودار كرامته فبيَّن لهم كيف تكون العبادة ؟ ومتى تكون العبادة؟ وأين تكون ؟ وفتح لهم أبواب العلم في معامله الخلق ناطِقِهِ وبهيمِهِ، وفتح لهم أبواب العلم في طلب الرزق واستخراج ما أودعه الله في الأرض من كنوز الذهب والفضة وغير ذلك، فما مِنْ شيء يحتاج الناس إلى معرفته من أمور الدين والدنيا إلا بيَّنه لهم أتَمَّ بيان، قال الله تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾[النحل: 89]، فكان الناس - وللهِ الحمد - بعد بعثة هذا النبي الكريم، كانوا على محجة بيضاء لا يزيغ عنها إلا هالك ولا يتيه فيها إلا أعمى القلب، قال أبو ذر رضي الله عنه: «لقد تُوفي رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - وما طائر يُقلّب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علْمًا»(1)، فالحمد لله على نِعَمِهِ والحمد لله على ما آتانا من فضله .
أيها الإخوة، بعث الله نبيَّه محمدًا - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - وأكثر الناس منغمسون في الشرك: فمنهم مَن يعبد البشر ومنهم مَن يعبد الشجر ومنهم مَن يعبد صنمًا ينحته بيده ومنهم مَن يعبد حجرًا يلتقطه من الأرض «حتى قيل: إن الواحد منهم إذا سافر فنزل منزلاً التقط أربعة أحجار فوضع ثلاثة منها تحت القدر ونصبَ الرابع إلهًا يعبده»(2)، وقيل: إن بعضهم يعجن من العجوة من التمر شكلاً على صنم فيعبده فإذا جاعَ أَكَلَه، أترون جهلاً أعظم من هذا الجهل ؟ لكن الله - عزَّ وجل - أنقذهم ببعثه محمد - صلى الله عليه وسلم - من هذه الهوَّة السحيقة والسَّفه البالغ من عبادة المخلوق إلى عبادة الخالق، فحقَّقَ التوحيَد تحقيقًا بالغًا وذلك بأن تكون العبادة لله وحده لا شريك له يتحقَّق فيها الإخلاص بالقصد والمحبة والتعظيم فيكون العبد مُخلصًا لله في قصده، مُخلصًا لله في محبَّته، مُخلصًا لله في تعظيمه ظاهرًا وباطنًا، قال الله تعالى لنبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾[الأنعام: 162-163]، هكذا أمر الله تعالى في كتابه أن يقول محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾[الأنعام: 162-163]؛ ولهذا جاءت السنَّة النبويَّة المطهرة مُبيِّنة لكتاب الله تعالى في حماية هذا التوحيد وسدِّ كل طريق يوصل إلى نقصه أو نقضه .
فروى النسائي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «ما شاء الله وشئت، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -مُنكرًا عليه: أَجَعَلْتني لله ندًّا، ما شاء الله وحده»(3)، فأنْكَرَ النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أنْكَرَ على هذا الرجل أن يقرن مشيئة النبي - صلى الله عليه وسلم - بمشيئة الله بحرفٍ يقتضي التسوية بينهما وجعل ذلك من اتِّخاذ الند لله عزَّ وجل، واتخاذ الند لله تعالى شركٌ بالله سبحانه .
وقريبٌ من ذلك ما يكتبه بعض الجهال في لوحات يُعلّقها أو في بعض الساعات الحائطية يكتب اسم الله من الجانب الأيمن واسم محمد - صلى الله عليه وسلم - من الجانب الأيسر بصفٍّ متساوٍ؛ فإن الناظر إليه من الجهال والعوام يظن أنهما في مرتبةٍ واحدة؛ لذلك نرى أنه يجب المسح عليهما حمايةً لجانب التوحيد وابتعادًا عن الشرك، والشرك يكون خفيًّا وربما يسري إلى القلب من حيث لا يشعر الإنسان، فاتقوا الله - عباد الله - وابتعدوا عما يُخِلُّ بالتوحيد وفِرُّوا منه فراركم من الأسد .
وروى النسائي أيضًا بسند جيِّد أن ناسًا جاؤوا إلى النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - فقالوا: «يا رسول الله، يا خيرنا وابن خيرنا، وسيِّدنا وابن سيدنا، فقال صلى الله عليه وسلم: يا أيها الناس، قولوا بقولكم ولا يستهوينَّكم الشيطان، أنا محمد عبد الله ورسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلَني الله عزَّ وجل»(4)، هذا مع أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم سيد بني آدم وخير بني آدم بلا شك ولكنه صلى الله عليه وسلم خاف أن يستهويهم الشيطان فيوقعهم في الغلو حتى يرفعوه إلى منزلة الخالق فقال صلى الله عليه وسلم إنه عبد الله ورسوله حمايةً لجانب التوحيد وسدًّا لطرق الشرك وبيانًا للحقيقة والمنزلة التي هي أعلى منازل البشر وهي العبودية لله - عزَّ وجل - والرسالة .
وروى الإمام أحمد وابن ماجة والترمذي وحسّنهُ عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: «قال رجل: يا رسول الله، الرجل منَّا يلقاه أخوه أو صديقه أيَنْحَني له ؟ قال: لا، قال: فيلتزمه ويقبّله ؟ قال: لا، قال: فيأخذ بيده ويصافحه ؟ قال: نَعَم»(5)، وقال الشعبي رحمه الله: «كان أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - إذا التقوا تصافحوا فإذا قدموا من السفر عانق بعضهم بعضًا»(6)، فمنع النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - من الانحناء عند التسليم؛ لأن ذلك خضوع للبشر قد يكون وسيلةً إلى تعظيم غير الله بالركوع والسجود، وكان السجود عند الملاقاة من باب التحية جائزًا في بعض الشرائع السابقة ولكن هذه الشريعة: شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيِّين منعت منه سواء كانت من أجل التحية والإكرام أم من أجل التذلل والخضوع .
أيها الناس، إن على الإنسان أن يراعي جانب التوحيد ويَعرف للخالق حقَّه فلا ينقصه ولا يُشرك به معه غيره لا باللفظ ولا بالفعل ولا بالقلب، وإن على الإنسان أن يعرف للمخلوق حقَّه ويقوم بما أوجب الله عليه فيه من غير غلوٍّ ولا تقصير، فلا يُنزل المخلوق منزلة الخالق لا بلفظه ولا بفعله ولا بقلبه؛ فإن للخالق - جلَّ وعلا - حقَّه المختص به لا يشركه فيه غيره وللمخلوق حقَّه الذي يليق به الذي أوجبه الله له لا يُزاد عليه ولا يُنقص منه .
أيها الإخوة، إن على الإنسان أن يَعلم أنه مسؤول عمَّا ينطق به لسانه كما قال الله تعالى: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾[ق: 18]، وأنه مسؤول عمَّا يعمله بجوارحه كما قال الله تعالى: ﴿وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾[النحل: 93]، وأنه مسؤول عمَّا يُكنه في ضميره كما قال الله تعالى: ﴿أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ﴾[العاديات: 9-10]، وقال الله تعالى: ﴿يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ﴾[الطارق: 9-10] .
فاتَّقوا الله - عباد الله - واشكروه على ما أنعم عليكم من هذا الدين القويم والصراط المستقيم واسألوه أن يثبِّتكم عليه إلى أنْ تلقوه .
اللهم ارزقنا شكر نعمتك على هذا الدين القويم وارزقنا الثبات عليه إلى أن نلقاك يا رب العالمين، اللهم وفِّقنا لِمَا فيه الخير والصلاح والإصلاح واجعلنا من عبادك الصالحين المصلحين يا رب العالمين .
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلَّم على نبيِّنا محمد وعلى آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الحمد في الآخرة والأولى، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله المصطفى وخليله المجتبى، صلى الله عليه على آله وأصحابه ومَن بهداهم اهتدى، وسلَّم تسليمًا كثيرًا .
أما بعد:
فإنَّكم سمعتم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حمى جانب التوحيد أعظم حماية ومنع من كل ما يكون وسيلة إلى الإشراك في الله - عزَّ وجل - محبةً وتعظيمًا؛ لأن محبة الله - عزَّ وجل - يجب أن تكون فوق كل محبة، ثم بعد ذلك محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، نُحبّه واللهِِ أحبّ إلينا من أبنائنا وأمهاتنا وآبائنا، نحبّه لأنه رسول الله فنحن نحبّه لمحبة الله عزَّ وجل.
أيها الإخوة، وإن من المهم أن يعلم الإنسان أنه لا يحل لأحد أن يُعظم المخلوق أكثر مما ينبغي أن يُعَظَم، فلا يحل لأحدٍ أن يمشي تكريمًا للمخلوقِ على وجه ليس فيه إكرام حاضر كما يفعل بعض الناس: يمشي من محلٍّ بعيد إلى محلٍّ بعيد عند حصول نعمة لأحد أو اندفاع نقمة؛ فإن المشي على هذا النحو لا ينبغي إلا أن يكون لبيت الله على أنه لا ينبغي للإنسان أن يشقّ على نفسه بالمشي إلى بيت الله؛ ولهذا لو نذَرَ الإنسان أن يمشي إلى مكة طاعة لله - عزَّ وجل - لقُلنا له: لا تُكلِّف نفسك، امشِ واركَب؛ فإن الله تعالى يقول: ﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ﴾[النساء: 147].
إنَّ كل مخلوق مهما عَلَتْ منزلته في الدنيا فإنه لا يستحق شيئًا مِمَّا يختص الله به وإنه لمثلك؛ إنه بشرٌ ولكنه يتميَّز عليك بما أنعم الله به عليه من تقوى الله عزَّ وجل؛ ولهذا قال الله تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾[الحجرات: 13]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا»(7)، ولا شك أن الناس شعوبًا وقبائل يتفاوتون ولكن لا يجوز بأي حال من الأحوال أن نَغْلوَ في الإنسان مهما علتْ منزلته حتى نفعل معه مثلما يُفعل لله عزَّ وجل؛ فإن حقّ الله خاصٌّ به وحقّ المخلوق خاصٌّ به .
أيها الإخوة المسلمون، عظِّموا الله - عزَّ وجل - بقلوبكم، أَحِبُّوه بقلوبكم، أَحِبُّوه لِمَا يغذوكم به من النِّعَم، ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾[النحل: 53]، وإذا مسَّكم الضرُّ فإلى مَن تلجؤون ؟ إنكم لن تلجؤوا إلا إلى الله عزَّ وجل .
إذنْ: فجالبُ النِّعم وكاشف النِّقم هو الله عزَّ وجل، أَحِبُّوا الله - عزَّ وجل - لِمَا هداكم فيه إلى الإيمان والتوحيد، أَحِبُّوا الله عزَّ وجل، قوموا بطاعته محبَّةً له، عظِّموا الله عزِّ وجل، فِرُّوا من معصيته مخافةً مِنْهُ وخشيةً له .
اللهم اجعلنا من أولئك المتَّقين المؤمنين وحزبك المفلحين؛ إنك على كل شيء قدير .
وأكْثروا - أيها الإخوة - من الصلاة والسلام على نبيِّكم محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ فإنه الذي دلَّكم لكل خير ورغَّبكم فيه، وهو الذي بيَّن لكم الشر وحذَّركم منه، واعلموا «أن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، فعليكم بالجماعة؛ فإن يد الله على الجماعة، ومَن شَذَّ شَذَّ في النار» .
اللهم إنا نسألك في مقامنا هذا أن تعزَّ الإسلام والمسلمين، وتُذلّ الشرك والمشركين، وتدمِّر أعداء الدين من الكفار، والمنافقين، واليهود، والنصارى، والملحدين يا رب العالمين .
﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [الأعراف: 23] .
عباد الله، ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ [النحل: 90-91]، واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نِعَمِهِ يزدكم، ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾ [العنكبوت: 45] .
-----------------------
(1)أخرجه الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- في مسنده في مسند الأنصار، من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله تعالى عنه، رقم [20399] وفي [المعجم الكبير] الجزء [2] الصفحة [155] رقم [1647] ت ط ع، وأخرجه النسائي في سننه الكبرى، الجزء [6] الصفحة [70]، من حديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، رقم [10077]، ت م ش .
(2)انظر إلى هذه المقولة في كتاب [تلبيس إبليس] الجزء [1] الصفحة [68]، وانظر أيضًا في كتاب [إغاثة اللهفان] الجزء [2] الصفحة [220]، وانظر أيضًا في كتاب [معارج القبول] الجزء [2] الصفحة [468] ت م ش .
(3)أخرجه الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله تعالى- في مسنده، من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، رقم [1742]، وابن ماجه في سننه في كتاب [الكفارات] رقم [2108]، واللفظ للإمام أحمد رحمه الله تعالى، أما لفظ ابن ماجه انفرد به، ت ط ع .
(4)أخرجه الإمام أحمد رحمه الله تعالى، من حديث أنس بن مالك -رضي الله تعالى عنه- في مسنده وفي رواية موافقة للتي ذكرها الشيخ رحمه الله تعالى رقم [12093، 13106] ت ط ع .
(5)أخرجه الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- في مسنده، من حديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، رقم [12571]، وأخرجه الترمذي -رحمه الله تعالى- وحسَّنه، رقم [4652]، وابن ماجه في سننه في كتاب [الأدب]، رقم [3692] ت ط ع .
(6)أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، الجزء [5] الصفحة [246]، رقم [25720]، وأخرجه الطبراني -رحمه الله تعالى- في الأوسط، من حديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، في الجزء [7] الصفحة [424]، واللفظ للطبراني وذكره ابن حجر العسقلاني -رحمه الله تعالى- في الفتح، الجزء [11] الصفحة [59] .
(7)أخرجه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في صحيحه، من حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- في كتاب [أحاديث الأنبياء]، رقم [3123]، وأخرجه الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في صحيحه، من حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- في كتاب [الفضائل] رقم [4283] .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضلّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله الله تعالى بالهدى ودين الحق، فبلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد:
فيا أيها الناس، اتَّقوا الله تعالى واشْكروه على نِعَمِه العظيمة التي أجلّها وأفضلها وأسعدها في الدنيا والآخرة ما أنعم به عليكم حين بعث فيكم رسولاً من أنفسكم يتلو عليكم آياته ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة بعد أن كان الناس في ضلال مبين، رسولاً أخرج الله به من الظلمات إلى النور: من ظلمات الجهل إلى نور العلم، ومن ظلمات الشرك والكفر إلى نور التوحيد والإيمان، ومن ظلمات الجور والإساءة إلى نور العدل والإحسان، ومن ظلمات الفوضى الفكرية والمنهجية إلى نور الاستقامة بالهدف والمنهج، ومن ظلمات القلق النفسي وضيق الصدر إلى نور الطمأنينة وانشراح الصدر، قال الله عزَّ وجل:﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾[آل عمران: 164]،المعنى: وإنهم كانوا من قبل لفي ضلال مبين .
أيها الإخوة، اشْكروا الله على هذه النعمة التي بها سعادتكم في الدنيا والآخرة وراحتكم وطمأنينتكم، يقو ل الله تعالى: ﴿الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾[الرعد: 28]،اللهم اعمر قلوبنا بذكرك حتى تطمئن وتنشرح صدورنا، وقال الله عزَّ وجل: ﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ﴾[الزمر: 22]، يعني: كمَن لم يكن كذلك، لا واللهِ لا يستويان ﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾[الزمر: 22]، وقال الله تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآَخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ﴾[إبراهيم: 1-3] .
لقد بعث الله تعالى نبيَّه محمدًا - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - والناس يتخبَّطون في الجهالات والضلالات، ففتح لهم أبواب العلْم من كل وجه حتى يصلوا إلى أسمى الغايات، فتح لهم أبواب العلم بالله - عزَّ وجل - وبما له من الأسماء الحسنى والصفات الكاملة العليا والأفعال التي مبناها على الحكمة والغاية الحميدة وما له جلَّ وعلا من الحقوق وإخلاص التوحيد له، وفتح لهم صلى الله عليه وعلى آله وسلم أبواب العلْم في عالَمِ الكون في مبدئه ومنتهاه والغاية منه والحساب والجزاء، قال الله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآَتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ﴾[الحجر: 85]، وقال الله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ﴾[ص: 28]، وقال الله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾[الذاريات: 56-58]، وقال الله عزَّ وجل: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ﴾[المؤمنون: 12-16] .
فانظروا - أيها الإخوة - كيف ذكَرَ الله في هذه الآيات العظيمة مبدأ هذا الكون وغايته ومنتهاه ؟ من أين لكم هذا العلم إلا من طريق محمد صلى الله عليه وسلم .
وفتح الله تعالى ببعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - أبواب العلْم في عبادة الله - عزَّ وجل - والسير إلى رضوانه ودار كرامته فبيَّن لهم كيف تكون العبادة ؟ ومتى تكون العبادة؟ وأين تكون ؟ وفتح لهم أبواب العلم في معامله الخلق ناطِقِهِ وبهيمِهِ، وفتح لهم أبواب العلم في طلب الرزق واستخراج ما أودعه الله في الأرض من كنوز الذهب والفضة وغير ذلك، فما مِنْ شيء يحتاج الناس إلى معرفته من أمور الدين والدنيا إلا بيَّنه لهم أتَمَّ بيان، قال الله تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾[النحل: 89]، فكان الناس - وللهِ الحمد - بعد بعثة هذا النبي الكريم، كانوا على محجة بيضاء لا يزيغ عنها إلا هالك ولا يتيه فيها إلا أعمى القلب، قال أبو ذر رضي الله عنه: «لقد تُوفي رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - وما طائر يُقلّب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علْمًا»(1)، فالحمد لله على نِعَمِهِ والحمد لله على ما آتانا من فضله .
أيها الإخوة، بعث الله نبيَّه محمدًا - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - وأكثر الناس منغمسون في الشرك: فمنهم مَن يعبد البشر ومنهم مَن يعبد الشجر ومنهم مَن يعبد صنمًا ينحته بيده ومنهم مَن يعبد حجرًا يلتقطه من الأرض «حتى قيل: إن الواحد منهم إذا سافر فنزل منزلاً التقط أربعة أحجار فوضع ثلاثة منها تحت القدر ونصبَ الرابع إلهًا يعبده»(2)، وقيل: إن بعضهم يعجن من العجوة من التمر شكلاً على صنم فيعبده فإذا جاعَ أَكَلَه، أترون جهلاً أعظم من هذا الجهل ؟ لكن الله - عزَّ وجل - أنقذهم ببعثه محمد - صلى الله عليه وسلم - من هذه الهوَّة السحيقة والسَّفه البالغ من عبادة المخلوق إلى عبادة الخالق، فحقَّقَ التوحيَد تحقيقًا بالغًا وذلك بأن تكون العبادة لله وحده لا شريك له يتحقَّق فيها الإخلاص بالقصد والمحبة والتعظيم فيكون العبد مُخلصًا لله في قصده، مُخلصًا لله في محبَّته، مُخلصًا لله في تعظيمه ظاهرًا وباطنًا، قال الله تعالى لنبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾[الأنعام: 162-163]، هكذا أمر الله تعالى في كتابه أن يقول محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾[الأنعام: 162-163]؛ ولهذا جاءت السنَّة النبويَّة المطهرة مُبيِّنة لكتاب الله تعالى في حماية هذا التوحيد وسدِّ كل طريق يوصل إلى نقصه أو نقضه .
فروى النسائي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «ما شاء الله وشئت، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -مُنكرًا عليه: أَجَعَلْتني لله ندًّا، ما شاء الله وحده»(3)، فأنْكَرَ النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أنْكَرَ على هذا الرجل أن يقرن مشيئة النبي - صلى الله عليه وسلم - بمشيئة الله بحرفٍ يقتضي التسوية بينهما وجعل ذلك من اتِّخاذ الند لله عزَّ وجل، واتخاذ الند لله تعالى شركٌ بالله سبحانه .
وقريبٌ من ذلك ما يكتبه بعض الجهال في لوحات يُعلّقها أو في بعض الساعات الحائطية يكتب اسم الله من الجانب الأيمن واسم محمد - صلى الله عليه وسلم - من الجانب الأيسر بصفٍّ متساوٍ؛ فإن الناظر إليه من الجهال والعوام يظن أنهما في مرتبةٍ واحدة؛ لذلك نرى أنه يجب المسح عليهما حمايةً لجانب التوحيد وابتعادًا عن الشرك، والشرك يكون خفيًّا وربما يسري إلى القلب من حيث لا يشعر الإنسان، فاتقوا الله - عباد الله - وابتعدوا عما يُخِلُّ بالتوحيد وفِرُّوا منه فراركم من الأسد .
وروى النسائي أيضًا بسند جيِّد أن ناسًا جاؤوا إلى النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - فقالوا: «يا رسول الله، يا خيرنا وابن خيرنا، وسيِّدنا وابن سيدنا، فقال صلى الله عليه وسلم: يا أيها الناس، قولوا بقولكم ولا يستهوينَّكم الشيطان، أنا محمد عبد الله ورسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلَني الله عزَّ وجل»(4)، هذا مع أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم سيد بني آدم وخير بني آدم بلا شك ولكنه صلى الله عليه وسلم خاف أن يستهويهم الشيطان فيوقعهم في الغلو حتى يرفعوه إلى منزلة الخالق فقال صلى الله عليه وسلم إنه عبد الله ورسوله حمايةً لجانب التوحيد وسدًّا لطرق الشرك وبيانًا للحقيقة والمنزلة التي هي أعلى منازل البشر وهي العبودية لله - عزَّ وجل - والرسالة .
وروى الإمام أحمد وابن ماجة والترمذي وحسّنهُ عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: «قال رجل: يا رسول الله، الرجل منَّا يلقاه أخوه أو صديقه أيَنْحَني له ؟ قال: لا، قال: فيلتزمه ويقبّله ؟ قال: لا، قال: فيأخذ بيده ويصافحه ؟ قال: نَعَم»(5)، وقال الشعبي رحمه الله: «كان أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - إذا التقوا تصافحوا فإذا قدموا من السفر عانق بعضهم بعضًا»(6)، فمنع النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - من الانحناء عند التسليم؛ لأن ذلك خضوع للبشر قد يكون وسيلةً إلى تعظيم غير الله بالركوع والسجود، وكان السجود عند الملاقاة من باب التحية جائزًا في بعض الشرائع السابقة ولكن هذه الشريعة: شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيِّين منعت منه سواء كانت من أجل التحية والإكرام أم من أجل التذلل والخضوع .
أيها الناس، إن على الإنسان أن يراعي جانب التوحيد ويَعرف للخالق حقَّه فلا ينقصه ولا يُشرك به معه غيره لا باللفظ ولا بالفعل ولا بالقلب، وإن على الإنسان أن يعرف للمخلوق حقَّه ويقوم بما أوجب الله عليه فيه من غير غلوٍّ ولا تقصير، فلا يُنزل المخلوق منزلة الخالق لا بلفظه ولا بفعله ولا بقلبه؛ فإن للخالق - جلَّ وعلا - حقَّه المختص به لا يشركه فيه غيره وللمخلوق حقَّه الذي يليق به الذي أوجبه الله له لا يُزاد عليه ولا يُنقص منه .
أيها الإخوة، إن على الإنسان أن يَعلم أنه مسؤول عمَّا ينطق به لسانه كما قال الله تعالى: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾[ق: 18]، وأنه مسؤول عمَّا يعمله بجوارحه كما قال الله تعالى: ﴿وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾[النحل: 93]، وأنه مسؤول عمَّا يُكنه في ضميره كما قال الله تعالى: ﴿أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ﴾[العاديات: 9-10]، وقال الله تعالى: ﴿يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ﴾[الطارق: 9-10] .
فاتَّقوا الله - عباد الله - واشكروه على ما أنعم عليكم من هذا الدين القويم والصراط المستقيم واسألوه أن يثبِّتكم عليه إلى أنْ تلقوه .
اللهم ارزقنا شكر نعمتك على هذا الدين القويم وارزقنا الثبات عليه إلى أن نلقاك يا رب العالمين، اللهم وفِّقنا لِمَا فيه الخير والصلاح والإصلاح واجعلنا من عبادك الصالحين المصلحين يا رب العالمين .
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلَّم على نبيِّنا محمد وعلى آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الحمد في الآخرة والأولى، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله المصطفى وخليله المجتبى، صلى الله عليه على آله وأصحابه ومَن بهداهم اهتدى، وسلَّم تسليمًا كثيرًا .
أما بعد:
فإنَّكم سمعتم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حمى جانب التوحيد أعظم حماية ومنع من كل ما يكون وسيلة إلى الإشراك في الله - عزَّ وجل - محبةً وتعظيمًا؛ لأن محبة الله - عزَّ وجل - يجب أن تكون فوق كل محبة، ثم بعد ذلك محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، نُحبّه واللهِِ أحبّ إلينا من أبنائنا وأمهاتنا وآبائنا، نحبّه لأنه رسول الله فنحن نحبّه لمحبة الله عزَّ وجل.
أيها الإخوة، وإن من المهم أن يعلم الإنسان أنه لا يحل لأحد أن يُعظم المخلوق أكثر مما ينبغي أن يُعَظَم، فلا يحل لأحدٍ أن يمشي تكريمًا للمخلوقِ على وجه ليس فيه إكرام حاضر كما يفعل بعض الناس: يمشي من محلٍّ بعيد إلى محلٍّ بعيد عند حصول نعمة لأحد أو اندفاع نقمة؛ فإن المشي على هذا النحو لا ينبغي إلا أن يكون لبيت الله على أنه لا ينبغي للإنسان أن يشقّ على نفسه بالمشي إلى بيت الله؛ ولهذا لو نذَرَ الإنسان أن يمشي إلى مكة طاعة لله - عزَّ وجل - لقُلنا له: لا تُكلِّف نفسك، امشِ واركَب؛ فإن الله تعالى يقول: ﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ﴾[النساء: 147].
إنَّ كل مخلوق مهما عَلَتْ منزلته في الدنيا فإنه لا يستحق شيئًا مِمَّا يختص الله به وإنه لمثلك؛ إنه بشرٌ ولكنه يتميَّز عليك بما أنعم الله به عليه من تقوى الله عزَّ وجل؛ ولهذا قال الله تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾[الحجرات: 13]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا»(7)، ولا شك أن الناس شعوبًا وقبائل يتفاوتون ولكن لا يجوز بأي حال من الأحوال أن نَغْلوَ في الإنسان مهما علتْ منزلته حتى نفعل معه مثلما يُفعل لله عزَّ وجل؛ فإن حقّ الله خاصٌّ به وحقّ المخلوق خاصٌّ به .
أيها الإخوة المسلمون، عظِّموا الله - عزَّ وجل - بقلوبكم، أَحِبُّوه بقلوبكم، أَحِبُّوه لِمَا يغذوكم به من النِّعَم، ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾[النحل: 53]، وإذا مسَّكم الضرُّ فإلى مَن تلجؤون ؟ إنكم لن تلجؤوا إلا إلى الله عزَّ وجل .
إذنْ: فجالبُ النِّعم وكاشف النِّقم هو الله عزَّ وجل، أَحِبُّوا الله - عزَّ وجل - لِمَا هداكم فيه إلى الإيمان والتوحيد، أَحِبُّوا الله عزَّ وجل، قوموا بطاعته محبَّةً له، عظِّموا الله عزِّ وجل، فِرُّوا من معصيته مخافةً مِنْهُ وخشيةً له .
اللهم اجعلنا من أولئك المتَّقين المؤمنين وحزبك المفلحين؛ إنك على كل شيء قدير .
وأكْثروا - أيها الإخوة - من الصلاة والسلام على نبيِّكم محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ فإنه الذي دلَّكم لكل خير ورغَّبكم فيه، وهو الذي بيَّن لكم الشر وحذَّركم منه، واعلموا «أن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، فعليكم بالجماعة؛ فإن يد الله على الجماعة، ومَن شَذَّ شَذَّ في النار» .
اللهم إنا نسألك في مقامنا هذا أن تعزَّ الإسلام والمسلمين، وتُذلّ الشرك والمشركين، وتدمِّر أعداء الدين من الكفار، والمنافقين، واليهود، والنصارى، والملحدين يا رب العالمين .
﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [الأعراف: 23] .
عباد الله، ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ [النحل: 90-91]، واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نِعَمِهِ يزدكم، ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾ [العنكبوت: 45] .
-----------------------
(1)أخرجه الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- في مسنده في مسند الأنصار، من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله تعالى عنه، رقم [20399] وفي [المعجم الكبير] الجزء [2] الصفحة [155] رقم [1647] ت ط ع، وأخرجه النسائي في سننه الكبرى، الجزء [6] الصفحة [70]، من حديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، رقم [10077]، ت م ش .
(2)انظر إلى هذه المقولة في كتاب [تلبيس إبليس] الجزء [1] الصفحة [68]، وانظر أيضًا في كتاب [إغاثة اللهفان] الجزء [2] الصفحة [220]، وانظر أيضًا في كتاب [معارج القبول] الجزء [2] الصفحة [468] ت م ش .
(3)أخرجه الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله تعالى- في مسنده، من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، رقم [1742]، وابن ماجه في سننه في كتاب [الكفارات] رقم [2108]، واللفظ للإمام أحمد رحمه الله تعالى، أما لفظ ابن ماجه انفرد به، ت ط ع .
(4)أخرجه الإمام أحمد رحمه الله تعالى، من حديث أنس بن مالك -رضي الله تعالى عنه- في مسنده وفي رواية موافقة للتي ذكرها الشيخ رحمه الله تعالى رقم [12093، 13106] ت ط ع .
(5)أخرجه الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- في مسنده، من حديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، رقم [12571]، وأخرجه الترمذي -رحمه الله تعالى- وحسَّنه، رقم [4652]، وابن ماجه في سننه في كتاب [الأدب]، رقم [3692] ت ط ع .
(6)أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، الجزء [5] الصفحة [246]، رقم [25720]، وأخرجه الطبراني -رحمه الله تعالى- في الأوسط، من حديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه، في الجزء [7] الصفحة [424]، واللفظ للطبراني وذكره ابن حجر العسقلاني -رحمه الله تعالى- في الفتح، الجزء [11] الصفحة [59] .
(7)أخرجه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في صحيحه، من حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- في كتاب [أحاديث الأنبياء]، رقم [3123]، وأخرجه الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في صحيحه، من حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- في كتاب [الفضائل] رقم [4283] .