الجوهرة
05-21-2016, 06:33 PM
~ سلامة المنهج ~
فضيلة الشيخ محمد سعيد رسلان حفظه الله
تفريغ المادة الصوتية -نسأل الله به النفع-:
الحمدُ لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، أمَّا بعدُ:
فإن من الفوائد الجليلة التي دلَّ عليها نبينا –صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وصحَّت بها الأحاديث أنه ينبغي علينا أن نفرِّق تفريقا حاسما جازما لا لبْس فيه ولا غموض بين الخطأ العارض الثانوي والخطأ الملازم الجوهري، ولو أننا تصوَّرنا مكينة أو آلة تُنتج مُنتَجا معينا ثم طرأ على هذه الآلة خلل فأصيب تُرس من تروسها بشيء من عطب أو وقع فيه بعض من خلل فصار المنتَج حينئذ إلى شيء من الخلل والإضطراب، هذا خلل عارض، يأتي أحد الفنيين فيقوم حينئذ بإصلاح يسير ويعود الأمر بعد ذلك إلى ما كان عليه من الصحة، ولكن لو كانت هذه الآلة أو هذه المكينة في أصل التكوين في أصل الصنع قد وقع بها خلل فإنها حينئذ لا يمكن أن يتطرق إليها إصلاح، هذا الأمر البدهي دلت عليه نصوص سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو الفارق بين المعصية التي ليست ببدعة والمعصية التي هي بدعة، لابد من صحَّة المعتقد وسلامة المنهج.
وفي البخاري عن عمر وغيره -رضوان الله عن الصحابة أجمعين- أن رجلا من الأصحاب كان يُسمَّى عبد الله ويُلقَّب حمارًا وكان يشرب الخمر وهذا خلل كما ترى طارئ عارض لا يمس المنهج ولا يصيب المعتقد وإنما هو من غلبة النزوة على النفس ومن إتيان الشهوة للنفس من أوسع أبوابها فضعُف أمام هذا الأمر فوقع في هذا الإثم، ويُؤتى به مخمورا إلى النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فيأمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- أصحابه بإقامة الحدّ عليه، يقول عمر -رضوان الله عليه- وأيضا في حديث أبي هريرة في الصحيح: "فَمِنَّا الضَّارِبُ بِنَعْلِهِ وَمِنَّا الضَّارِبُ بِيَدِهِ وَمِنَّا الضَّارِبُ بِثَوْبِهِ"، هذا الخلل العارض الطارئ الذي لا يمس المعتقد مع سلامة المنهج عند الصحابي -رضوان الله عليه- كان يتكرَّر فأوتي به مرة ومرة ومرة فقال أحد الأصحاب -رضوان الله عليهم جميعا-: "لَعَنَكَ الله مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِكَ"، وقال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قولة جليلة فقال: (لاَ تَلْعَنْهُ إِنّهُ يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ) -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- مع هذه المعصية الكبيرة التي تستوجب الحدّ.
في المقابل خطأ ببدعة إعتقادية تؤدي إلى تكوين فرقة وإلى إنشاء جماعة لا ينفع مع هذا الخلل الذاتي الجوهري الذي أصاب المعتقد في مقتل ودمَّر سلامة المنهج كثير صيام ولا كثير صلاة ولا كثير قراءة، الخوراج كما في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري وغيره من الأصحاب -رضوان الله عليهم جميعا- أن الرسول -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لمَّا اعترض الرجل على القسمة التي كان يقسمها النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: اعدل، وهمَّ عمر بأن يقتله مستأذنا فقال: "يَا رَسُولَ الله مُرْنِي فَلْأَضْرِبْ عُنُقَهُ"، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (دَعْهُ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا -يعني حرقوص بن زهير- قَوْمٌ يَحْقِرُ أَحَدَكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلاَتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ وَقِرَاءَتَهُ مَعَ قِرَاءَتِهِمْ)، ولكن هنا خلل في المنهج فدمَّر سلامة المنهج، وهنا شيء شابَ الإعتقاد فذهبَ بصحةِ المعتقد، يقول النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: (يَقْرَؤُونَ القُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ) وإذا فهو عمل كما ترى لا يمس القلب ولا ينحدر إليه صاعدا وهنا كما يقول الرسول -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في شأن هؤلاء الذين خرجوا عن صحة المعتقد مع سلامة المنهج هؤلاء مع شدة العبادة (يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ) والكلام موجَّه للأصحاب -رضوان الله عليهم- من أصحاب صحة المعتقد وسلامة المنهج ولكن هذا الإغراق في العبادة لم يغني شيئا يحقر، أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم ومع ذلك يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، والرمية المرميَّة، فالسهم يمرق منها لا يحمل شيئا؛ ينظر المرء في نصله فلا يرى شيئا في قدحه فلا يرى شيئا كما بيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الآخر، إذن الخطأ العارض الذي يَتَأَتَّى معصيةً لا بدعةَ معه شيءٌ يمكن أن يُستَدرَك كما بيَّن الرسول -صلى الله عليه وسلم- في نزوة النفس التي حملت الصحابي مع صحة المعتقد وسلامة المنهج؛ يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّهُ يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ) هذه الشهادة ربما لم يُثبتها الرسول -صلى الله عليه وسلم- للضارب للقائل المعترض الذي قال: "لَعَنَكَ الله مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِكَ" فقال: (دَعْهُ فَإِنَّهُ يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ) وأما الآخرون الذي أغرَقوا في العبادة مع تدمير صحة المعتقد وسلامة المنهج يقول فيهم النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: (قَتْلاَهُمْ شَرُّ قَتْلَى تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءْ)، ويقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في شأن هؤلاء: (لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ).
الرسول -صلى الله عليه وسلم- حذَّر هذه الأمة كما في الحديث الذي أخرجه الترمذي وغيره وفيه زياد الأفريقي فيه مقال، ولكن الحديث لا ينزل عن رتبة الحسن فهو حديث حسن، هذا الحديث من رواية عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- حذَّر فقال: (لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ)، قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (فَمَنْ؟)، وهو سؤال استنكاري، الغرض البلاغي منه التقرير يعني هم اليهود والنصارى، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه ثم قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اليَهُودَ قَدِ افْتَرَقَتْ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَإِنَّ النَّصَارَى قَدِ افْتَرَقَتْ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَإِنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً النَّاجِيَةُ مِنْهَا وَاحِدَةٌ) قيل: ومن الناجية يا رسول الله؟ قال: (مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ اليَوْمَ -هكذا بهذا الظرف الزمني المحكم- وَأَصْحَابِي)، والنبي -صلى الله عليه وسلم- قال ذلك يوم أن قاله والأصحاب -رضوان الله عليهم- متواترون، لم يكونوا قد فرَّقوا الأمَّة ولم يفرِّقوها بعد، ولم يحزِّبوا أحزابا، ولم يُنشئوا فرقا، ولا كانوا جماعات، وإنما كانوا جماعة واحدة وهو ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.
إن الأصل الأكبر في هذا الدين هو التوحيد، وإنَّ من توحيد الله -تبارك وتعالى- التسليم لنبيه الأمين -صلى الله عليه وسلم- في كلِّ ما جاء به، والنبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي صحَّ عنه من رواية عبد الله بن مسعود قال -رضي الله عنه-: كان النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- جالسا يوما فخطَّ على الأرض خطا مستقيما وخطَّ على جانبي هذا الخط خطوطا قصيرة، ثم قال: (هَذَا سَبِيلُ الله وَهَذِهِ سُبُلٌ عَلَى رَأْسِ كُلٍّ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ) ثم تلا قول الله -جل وعلا-: (وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ) (الأنعام:153)؛ فبيَّن لنا نبيُّنا -صلى الله عليه وسلم- أن السبيل واحد لا يتعدَّد وأن الحقَّ واحد لا يتفرق وأن الباطل سبل؛ وأن الباطل تَفرُّق وتشرذم وتحزُّب وهوًى وضلال، والنبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يخبر أن صحة المعتقد مع سلامة المنهج تذهب معها الذنوب بددًا ولا تؤثر شيئا إذا ما صحت للعبد إلى ربه أوبة وكانت للعبد مع ربه تبارك وتعالى توبة كما أخبر الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي الصحيح الذي رواه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه يرفعه إلى رب العزة يقول الله -جلَّ وعلا-: (يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ لَقِيتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لاَ تُشْرِكُ بِي شَيْئًا جِئْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً)، فهذا الأصل العظيم وهذا الأساس المتين في دين الله -تبارك وتعالى- هو الذي تصح معه الأعمال وتُقبل وأما إذا ما انهار هذا الأصل فإنه لا قيمة له.
والنبي -صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيحين من رواية معاذ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: كنت رديف النبي -صلى الله عليه وسلم- على حمار فقال: (يَا مُعَاذْ!) قلت: لبيك وسعديك يا رسول الله، قال: (أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ عَلى العِبَادْ وَمَا حَقُّ العِبَادِ عَلَى الله؟)، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: (حَقُّ اللهِ عَلَى العِبَادِ أنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَحَقُّ العِبَادِ عَلَى الله أَلاَّ يُعَذِّبَ مَنْ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا) قال قلت: يا رسول الله أفلا أبشر الناس؟ قال: (إِذًا يَتَّكِلُوا)، يقول الرواي: فأخبر بها معاذ عند موته تأثما، يعني تأثما من كتم العلم، فحق الله -تبارك وتعالى- على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، والنكرة في سياق النفي تفيد العموم، (لاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) من مطلق ما يقال له شرك أو من بداية ما يُقال له شرك، فعلى الوجهين لا يشرك العبد بربه شيئا، وهذا حق لازم ملازم لا ينفك العبد عنه أبدا، والنبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أخبرنا أن العبد إذا أتى ربه بصحة معتقد مع سلامة منهج كان ناجيا.
ففي حديث الترمذي وهو أيضا عند بعض أهل السنن وهو حديث صحيح أخرجه الحاكم أيضا في المستدرك أن الرسول -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أخبر عن رجل يؤتى به يوم القيامة وقد نُشرت له خطاياه بذنوبه في صحائف بلغت تسعة وتسعين صحيفة، كل صحيفة مدَّ البصر، كلها آثام وخطايا وذنوب تُجعَل في كفة السيئات فتطيش كفة الحسنات إذ لا شيء فيها، وحينئذ يُنادى هل لك من حسنة؟ هل ظلمك عبادي الحفظة؟ فحينئذ يوقن بالهلاك، فيُقال له: (بَلَى إِنَّهُ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَة وَإِنَّهُ لَا ظُلْمَ اليَوْمَ) وتنزل البطاقة من السماء فتطيش كفة السيئات فيها تسعة وتسعون سجلا، كل سجل مدَّ البصر من الذنوب والآثام والخطايا والموبقات، فتطيش كفة السيئات وترجح كفة الحسنات وإذا فيها -في البطاقة- لا إله إلا الله، فمن حقق لا إله إلا الله بشروطها وأتى بأركانها ونفى عنها ما يُمكن أن يشوبها مما يُحدِث بها خللا فإنه يكون ناجيا، صحَّة المعتقد هذا أصل لا هوادة في طلبه ولا رحمة لأحد يُخل به لأن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، وأما سلامة المنهج فكما مرَّ هذا الصحابي تأتي منه معصية غليظة ولكن يحب الله ورسوله ولابد من سلامة المنهج، لابد أن يكون الإنسان على قدمي نبيه -صلى الله عليه وسلم- وعلى ما كان عليه السلف الصالح -رضوان الله عليهم-، والسلف الصالح -رضوان الله عليهم- إنما كانوا يعودون إلى كتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، لا يتحزَّبون ولا يتشرذمون ولا يتفرَّقون، وإنما يجتمعون على قلب رجل واحد، وما وقع بعدُ من تلك المعاصي ومن تلك الذنوب فإنه شيء لا يتعلق لا بصحة المعتقد ولا بسلامة المنهج.
فهذه فائدة مما يُؤثَر من مشكاة النبوة الصادقة ومن أحاديث النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- الصحيحة، وهي فائدة جليلة دلَّنا عليها علماؤنا من سلفنا الصالح رضوان الله عليهم جميعا، نسأل الله -تبارك وتعالى- أن يحشرنا في زمرتهم وأن يجمعنا وإياهم مع نبينا -صلى الله عليه وسلم- في الفردوس الأعلى من الجنة، ونسأل الله -تبارك وتعالى- الذي جمعنا في هذا الموضع الذي نسأل الله -تبارك وتعالى- أن يجعل الرحمات متنزلة عليه، وأن يبارك في إخواننا من أهل العلم وأن يجمعنا دائما على الخير، وأن يجمعنا دائما على منهج السلف الصالح رضوان الله عليهم، وأن يقبضنا عليه، وأن يحشرنا عليه، وأن يحشرنا في زمرتهم، وأن ينزلنا الفردوس الأعلى مع نبينا -صلى الله عليه وسلم- إنه على كل شيء قدير،
وصلى الله وسلم على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وجزاكم الله -تبارك وتعالى- خيرا.
المصدر الأصلي من موقع الشيخ (http://www.rslan.com/vad/items_details.php?id=895)
فضيلة الشيخ محمد سعيد رسلان حفظه الله
تفريغ المادة الصوتية -نسأل الله به النفع-:
الحمدُ لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، أمَّا بعدُ:
فإن من الفوائد الجليلة التي دلَّ عليها نبينا –صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وصحَّت بها الأحاديث أنه ينبغي علينا أن نفرِّق تفريقا حاسما جازما لا لبْس فيه ولا غموض بين الخطأ العارض الثانوي والخطأ الملازم الجوهري، ولو أننا تصوَّرنا مكينة أو آلة تُنتج مُنتَجا معينا ثم طرأ على هذه الآلة خلل فأصيب تُرس من تروسها بشيء من عطب أو وقع فيه بعض من خلل فصار المنتَج حينئذ إلى شيء من الخلل والإضطراب، هذا خلل عارض، يأتي أحد الفنيين فيقوم حينئذ بإصلاح يسير ويعود الأمر بعد ذلك إلى ما كان عليه من الصحة، ولكن لو كانت هذه الآلة أو هذه المكينة في أصل التكوين في أصل الصنع قد وقع بها خلل فإنها حينئذ لا يمكن أن يتطرق إليها إصلاح، هذا الأمر البدهي دلت عليه نصوص سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو الفارق بين المعصية التي ليست ببدعة والمعصية التي هي بدعة، لابد من صحَّة المعتقد وسلامة المنهج.
وفي البخاري عن عمر وغيره -رضوان الله عن الصحابة أجمعين- أن رجلا من الأصحاب كان يُسمَّى عبد الله ويُلقَّب حمارًا وكان يشرب الخمر وهذا خلل كما ترى طارئ عارض لا يمس المنهج ولا يصيب المعتقد وإنما هو من غلبة النزوة على النفس ومن إتيان الشهوة للنفس من أوسع أبوابها فضعُف أمام هذا الأمر فوقع في هذا الإثم، ويُؤتى به مخمورا إلى النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فيأمر الرسول -صلى الله عليه وسلم- أصحابه بإقامة الحدّ عليه، يقول عمر -رضوان الله عليه- وأيضا في حديث أبي هريرة في الصحيح: "فَمِنَّا الضَّارِبُ بِنَعْلِهِ وَمِنَّا الضَّارِبُ بِيَدِهِ وَمِنَّا الضَّارِبُ بِثَوْبِهِ"، هذا الخلل العارض الطارئ الذي لا يمس المعتقد مع سلامة المنهج عند الصحابي -رضوان الله عليه- كان يتكرَّر فأوتي به مرة ومرة ومرة فقال أحد الأصحاب -رضوان الله عليهم جميعا-: "لَعَنَكَ الله مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِكَ"، وقال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قولة جليلة فقال: (لاَ تَلْعَنْهُ إِنّهُ يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ) -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- مع هذه المعصية الكبيرة التي تستوجب الحدّ.
في المقابل خطأ ببدعة إعتقادية تؤدي إلى تكوين فرقة وإلى إنشاء جماعة لا ينفع مع هذا الخلل الذاتي الجوهري الذي أصاب المعتقد في مقتل ودمَّر سلامة المنهج كثير صيام ولا كثير صلاة ولا كثير قراءة، الخوراج كما في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري وغيره من الأصحاب -رضوان الله عليهم جميعا- أن الرسول -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لمَّا اعترض الرجل على القسمة التي كان يقسمها النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: اعدل، وهمَّ عمر بأن يقتله مستأذنا فقال: "يَا رَسُولَ الله مُرْنِي فَلْأَضْرِبْ عُنُقَهُ"، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (دَعْهُ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا -يعني حرقوص بن زهير- قَوْمٌ يَحْقِرُ أَحَدَكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلاَتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ وَقِرَاءَتَهُ مَعَ قِرَاءَتِهِمْ)، ولكن هنا خلل في المنهج فدمَّر سلامة المنهج، وهنا شيء شابَ الإعتقاد فذهبَ بصحةِ المعتقد، يقول النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: (يَقْرَؤُونَ القُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ) وإذا فهو عمل كما ترى لا يمس القلب ولا ينحدر إليه صاعدا وهنا كما يقول الرسول -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في شأن هؤلاء الذين خرجوا عن صحة المعتقد مع سلامة المنهج هؤلاء مع شدة العبادة (يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ) والكلام موجَّه للأصحاب -رضوان الله عليهم- من أصحاب صحة المعتقد وسلامة المنهج ولكن هذا الإغراق في العبادة لم يغني شيئا يحقر، أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم وقراءته مع قراءتهم ومع ذلك يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، والرمية المرميَّة، فالسهم يمرق منها لا يحمل شيئا؛ ينظر المرء في نصله فلا يرى شيئا في قدحه فلا يرى شيئا كما بيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الآخر، إذن الخطأ العارض الذي يَتَأَتَّى معصيةً لا بدعةَ معه شيءٌ يمكن أن يُستَدرَك كما بيَّن الرسول -صلى الله عليه وسلم- في نزوة النفس التي حملت الصحابي مع صحة المعتقد وسلامة المنهج؛ يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّهُ يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ) هذه الشهادة ربما لم يُثبتها الرسول -صلى الله عليه وسلم- للضارب للقائل المعترض الذي قال: "لَعَنَكَ الله مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِكَ" فقال: (دَعْهُ فَإِنَّهُ يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ) وأما الآخرون الذي أغرَقوا في العبادة مع تدمير صحة المعتقد وسلامة المنهج يقول فيهم النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: (قَتْلاَهُمْ شَرُّ قَتْلَى تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءْ)، ويقول النبي -صلى الله عليه وسلم- في شأن هؤلاء: (لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ).
الرسول -صلى الله عليه وسلم- حذَّر هذه الأمة كما في الحديث الذي أخرجه الترمذي وغيره وفيه زياد الأفريقي فيه مقال، ولكن الحديث لا ينزل عن رتبة الحسن فهو حديث حسن، هذا الحديث من رواية عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- حذَّر فقال: (لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ)، قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (فَمَنْ؟)، وهو سؤال استنكاري، الغرض البلاغي منه التقرير يعني هم اليهود والنصارى، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه ثم قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ اليَهُودَ قَدِ افْتَرَقَتْ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَإِنَّ النَّصَارَى قَدِ افْتَرَقَتْ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَإِنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً النَّاجِيَةُ مِنْهَا وَاحِدَةٌ) قيل: ومن الناجية يا رسول الله؟ قال: (مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ اليَوْمَ -هكذا بهذا الظرف الزمني المحكم- وَأَصْحَابِي)، والنبي -صلى الله عليه وسلم- قال ذلك يوم أن قاله والأصحاب -رضوان الله عليهم- متواترون، لم يكونوا قد فرَّقوا الأمَّة ولم يفرِّقوها بعد، ولم يحزِّبوا أحزابا، ولم يُنشئوا فرقا، ولا كانوا جماعات، وإنما كانوا جماعة واحدة وهو ما جاء به الرسول -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.
إن الأصل الأكبر في هذا الدين هو التوحيد، وإنَّ من توحيد الله -تبارك وتعالى- التسليم لنبيه الأمين -صلى الله عليه وسلم- في كلِّ ما جاء به، والنبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي صحَّ عنه من رواية عبد الله بن مسعود قال -رضي الله عنه-: كان النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- جالسا يوما فخطَّ على الأرض خطا مستقيما وخطَّ على جانبي هذا الخط خطوطا قصيرة، ثم قال: (هَذَا سَبِيلُ الله وَهَذِهِ سُبُلٌ عَلَى رَأْسِ كُلٍّ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ) ثم تلا قول الله -جل وعلا-: (وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ) (الأنعام:153)؛ فبيَّن لنا نبيُّنا -صلى الله عليه وسلم- أن السبيل واحد لا يتعدَّد وأن الحقَّ واحد لا يتفرق وأن الباطل سبل؛ وأن الباطل تَفرُّق وتشرذم وتحزُّب وهوًى وضلال، والنبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يخبر أن صحة المعتقد مع سلامة المنهج تذهب معها الذنوب بددًا ولا تؤثر شيئا إذا ما صحت للعبد إلى ربه أوبة وكانت للعبد مع ربه تبارك وتعالى توبة كما أخبر الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي الصحيح الذي رواه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه يرفعه إلى رب العزة يقول الله -جلَّ وعلا-: (يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ لَقِيتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لاَ تُشْرِكُ بِي شَيْئًا جِئْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً)، فهذا الأصل العظيم وهذا الأساس المتين في دين الله -تبارك وتعالى- هو الذي تصح معه الأعمال وتُقبل وأما إذا ما انهار هذا الأصل فإنه لا قيمة له.
والنبي -صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيحين من رواية معاذ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: كنت رديف النبي -صلى الله عليه وسلم- على حمار فقال: (يَا مُعَاذْ!) قلت: لبيك وسعديك يا رسول الله، قال: (أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ عَلى العِبَادْ وَمَا حَقُّ العِبَادِ عَلَى الله؟)، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: (حَقُّ اللهِ عَلَى العِبَادِ أنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَحَقُّ العِبَادِ عَلَى الله أَلاَّ يُعَذِّبَ مَنْ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا) قال قلت: يا رسول الله أفلا أبشر الناس؟ قال: (إِذًا يَتَّكِلُوا)، يقول الرواي: فأخبر بها معاذ عند موته تأثما، يعني تأثما من كتم العلم، فحق الله -تبارك وتعالى- على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، والنكرة في سياق النفي تفيد العموم، (لاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) من مطلق ما يقال له شرك أو من بداية ما يُقال له شرك، فعلى الوجهين لا يشرك العبد بربه شيئا، وهذا حق لازم ملازم لا ينفك العبد عنه أبدا، والنبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أخبرنا أن العبد إذا أتى ربه بصحة معتقد مع سلامة منهج كان ناجيا.
ففي حديث الترمذي وهو أيضا عند بعض أهل السنن وهو حديث صحيح أخرجه الحاكم أيضا في المستدرك أن الرسول -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أخبر عن رجل يؤتى به يوم القيامة وقد نُشرت له خطاياه بذنوبه في صحائف بلغت تسعة وتسعين صحيفة، كل صحيفة مدَّ البصر، كلها آثام وخطايا وذنوب تُجعَل في كفة السيئات فتطيش كفة الحسنات إذ لا شيء فيها، وحينئذ يُنادى هل لك من حسنة؟ هل ظلمك عبادي الحفظة؟ فحينئذ يوقن بالهلاك، فيُقال له: (بَلَى إِنَّهُ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَة وَإِنَّهُ لَا ظُلْمَ اليَوْمَ) وتنزل البطاقة من السماء فتطيش كفة السيئات فيها تسعة وتسعون سجلا، كل سجل مدَّ البصر من الذنوب والآثام والخطايا والموبقات، فتطيش كفة السيئات وترجح كفة الحسنات وإذا فيها -في البطاقة- لا إله إلا الله، فمن حقق لا إله إلا الله بشروطها وأتى بأركانها ونفى عنها ما يُمكن أن يشوبها مما يُحدِث بها خللا فإنه يكون ناجيا، صحَّة المعتقد هذا أصل لا هوادة في طلبه ولا رحمة لأحد يُخل به لأن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، وأما سلامة المنهج فكما مرَّ هذا الصحابي تأتي منه معصية غليظة ولكن يحب الله ورسوله ولابد من سلامة المنهج، لابد أن يكون الإنسان على قدمي نبيه -صلى الله عليه وسلم- وعلى ما كان عليه السلف الصالح -رضوان الله عليهم-، والسلف الصالح -رضوان الله عليهم- إنما كانوا يعودون إلى كتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، لا يتحزَّبون ولا يتشرذمون ولا يتفرَّقون، وإنما يجتمعون على قلب رجل واحد، وما وقع بعدُ من تلك المعاصي ومن تلك الذنوب فإنه شيء لا يتعلق لا بصحة المعتقد ولا بسلامة المنهج.
فهذه فائدة مما يُؤثَر من مشكاة النبوة الصادقة ومن أحاديث النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- الصحيحة، وهي فائدة جليلة دلَّنا عليها علماؤنا من سلفنا الصالح رضوان الله عليهم جميعا، نسأل الله -تبارك وتعالى- أن يحشرنا في زمرتهم وأن يجمعنا وإياهم مع نبينا -صلى الله عليه وسلم- في الفردوس الأعلى من الجنة، ونسأل الله -تبارك وتعالى- الذي جمعنا في هذا الموضع الذي نسأل الله -تبارك وتعالى- أن يجعل الرحمات متنزلة عليه، وأن يبارك في إخواننا من أهل العلم وأن يجمعنا دائما على الخير، وأن يجمعنا دائما على منهج السلف الصالح رضوان الله عليهم، وأن يقبضنا عليه، وأن يحشرنا عليه، وأن يحشرنا في زمرتهم، وأن ينزلنا الفردوس الأعلى مع نبينا -صلى الله عليه وسلم- إنه على كل شيء قدير،
وصلى الله وسلم على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وجزاكم الله -تبارك وتعالى- خيرا.
المصدر الأصلي من موقع الشيخ (http://www.rslan.com/vad/items_details.php?id=895)