محمد الفاريابي
09-21-2011, 02:17 AM
الشيخ محمد صالح بن عثيمين
الخطبة الأولى
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله الذي فرض الحج على عباده إلى بيته الحرام، ورتب على ذلك جزيل الأجر ووافر الإنعام، فمن حج البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج كيوم ولدته أمه نقيًّا من الذنوب والآثام، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة دار السلام، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الجلال والإكرام، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أفضل من صلَّى وزكَّى وحجَّ وصام، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان ما تعاقبت الليالي والأيام، وسلَّم تسليماً كثيراً .
أما بعد:
فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى، وأدوا ما فرض الله عليكم من الحج إلى بيته الحرام حيث استطعتم إلى ذلك سبيلاً، فإن الله - تعالى - قال في كتابه: +وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ" [آل عمران:97]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الإسلام أن تشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً» (1) وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الإسلام بني على هذه الدعائم الخمس فلا يتم إسلام عبد حتى يحج، ولا يستقيم بنيان إسلامه حتى يحج، و «عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال: حين كان خليفة على المسلمين: لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار فينظروا كل من له جدة أي: كل من كان غنياً ولم يحج فيضربوا عليهم الجزية ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين»(2) .
أيها المسلمون، إن فريضة الحج إلى بيت الله ثابتة بكتاب الله وبسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبإجماع المسلمين عليها إجماعاً قطعيًّا، فمن أنكر فريضة الحج فقد كفر، ومن أقرَّ بها وتركها تهاوناً فهو على خطر، فإن الله - تعالى - قال بعد ذكر إيجابه على عباده قال:+وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ"[آل عمران:97] .
أيها المسلمون، كيف تطيب نفس المؤمن أن يترك الحج مع قدرته عليه بماله وبدنه وهو يعلم أنه ركن من أركان الإسلام وفرائضه ! كيف يبخل الإنسان بماله على نفسه في أداء هذه الفريضة وهو ينفق الكثير من ماله في هوى نفسه ! كيف يوفر نفسه عن التعب في الحج وهو يرهق نفسه في التعب في أمور دنياه ! كيف يتثاقل فريضة الحج وهو لا يجب في العمر إلا مرة واحدة ! كيف يتراخى في أداء الحج ويؤخره وهو لا يدري فلعله لا يستطيع الوصول إليه بعد عامه. فاتقوا الله عباد الله، وأدوا ما فرض الله عليكم من الحج تعبداً لله تعالى ورضاً بحكمه وسمعاً وطاعةً لأمره إن كنتم مؤمنين، قال الله عزَّ وجل: +وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً" [الأحزاب: 36] .
إن المسلم إذا أدى الحج والعمرة بعد بلوغه مرة واحدة فقد أسقط الفريضة عن نفسه وأكمل بذلك أركان دينه ولم يجب عليه بعد ذلك حج ولا عمرة إلا أن يوجبه على نفسه بالنذر فإنه يلزمه الوفاء بما نذر لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من نذر أن يطيع الله فليطعه»(3).
أيها المسلمون، إن من تمام رحمة الله ومن بالغ حكمته أن جعل للفرائض حدوداً وشروطاً؛ لتنضبط بذلك وتتحدد المسؤولية، وجعل هذه الشروط في غاية المناسبة للفاعل الزمان والمكان، ومن هذه الفرائض التي جعل الله لها شروطاً: الحج إلى بيت الله الحرام، فإن الحج له حدوداً و شروطاً لا يجب على المسلم إلا إذا توافرت هذه الشروط، فمن شروط الحج: أن يكون الإنسان بالغاً، ويحصل البلوغ في الذكور بواحد من أمور ثلاثة: إنزال المني بشهوة، أو تمام خمس عشرة سنة أو نبات شعر العانة، أما في الإناث فإنه يحصل بذلك وزيادة أمر رابع وهو: الحيض، فمتى حاضت المرأة ولو لم يكن لها إلا عشر سنوات فإنها بالغة، أما من لم يبلغ من ذكورٍ وإناثٍ فلا حج عليه ولو كان غنياً ولكنه لو حج صحَّ حجه تطوعاً وله أجره، فإذا بلغ أدى الفريضة؛ لأن حجه قبل البلوغ لا يسقط به الفرض؛ فإنه لم يفرض عليه، فهو كما لو تصدق بمال ينوي به الزكاة قبل أن يملك نصابه، وعلى هذا فمن حج ومعه أبناءه أو بناته الصغار فإن حجوا معه كان له أجر ولهم ثواب الحج، وإن لم يحجوا فلا شيء عليه ولا عليهم، وينبغي في هذه الحال أن ينظر الأصلح والأوفق، فإذا كان يشق عليهم وعليه أن يحرموا بالحج أو العمرة فإنه لا داعي لذلك؛ لئلا يشق عليهم وعلى نفسه؛ لأنكم تعرفون أن الناس في هذه العصور كثروا كثرةً عظيمةً لم يوجد لها نظير في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كان يشق عليكم أو على أولادكم من بنين أو بنات أن يحرموا وهم لم يبلغوا بالحج فإنه لا داعي لذلك، ومن شروط وجوب الحج: أن يكون الإنسان مستطيعاً بماله وبدنه لقول الله تعالى: +مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً" [آل عمران:97]، فمن لم يكن مستطيعاً فلا حج عليه، والاستطاعة بالمال: أن يملك الإنسان ما يكفي لحجه زائداً عن حوائج بيته وعما يحتاجه من نفقة وكسوة له ولعياله، وعن أجرة سكن، وعن قضاء ديون حالَّة، فمن كان عنده مال يحتاجه لما ذكر لم يجب عليه الحج، ومن كان عليه دَيْن حالٌّ لم يجب عليه الحج حتى يوفيه، والدَّيْن: كل ما ثبت في ذمة المرء من قرض وثمن مبيع وأجرة وغيرها، فمن كان في ذمته شيء بسبب هذه الأمور أو غيرها فهو مدين، ولا يجب عليه الحج حتى يبرأ من دينه كله؛ لأن قضاء الدَّيْن مهم جدًّا، حتى أن الرجل لو قتل في سبيل الله شهيداً فإن الشهادة تكفر عنه كل شيء إلا الدَّين فإنها لا تكفره وحتى أن الرجل ليموت وعليه الدَّين فتعلق نفسه بدينه حتى يُقضى عنه، ولقد كان النبي- صلى الله عليه وسلم -«إذا أُتي إليه بميِّت ليصلي عليه سأل هل عليه دَيْن له وفاء فإن قالوا: نعم، صلى عليه وإن قالوا: لا، لم يصلِّ عليه، وأمرهم أن يصلوا عليه وترك الصلاة عليه هو بنفسه»(4)، وهذا يدل على عِظَمِ الدَّين، خلافاً لما يفعله بعض الناس اليوم يتهاونون بالديون عليهم، ويتهاونون بوفائها إذا تعلقت بذممهم، ويتهاونون في استحصالها، تجد الرجل يتدين لأمر ليس له به ضرورة بل أحياناً ليس له به حاجة ولا شك أن هذا من السفه في العقل ومن الضلال في الدين، لأنه لا ينبغي للإنسان أن يتديَّن إلا للحاجة الملحة أو للضرورة، أما ما يفعله بعض الناس اليوم فإنه أمر يؤسف له، يتدينون من أجل كماليات لا حاجة لهم بها، فنسأل الله أن يهدينا وإياهم، أما الدين المؤجل فإن كان موثقا برهن يكفيه لم يسقط وجوب الحج، أما إذا لم يكن فيه رهن فإن كان الإنسان يستطيع أن يوفيه عند حلول الأجل وعنده في وقت الحج ما يحج به فإنه يحج به؛ لأنه مستطيع، أما الاستطاعة بالبدن فأن يكون الإنسان قادراً على الوصول إلى مكة بنفسه بدون مشقه، فإن كان لا يستطيع الوصول إلى مكة أو يستطيع الوصول ولكن بمشقة شديدة فإننا ننظر إن كان يرجو الاستطاعة في المستقبل انتظر حتى يستطيع ثم يحج فإن مات حج عنه من تركته وإن كان لا يرجو الاستطاعة في المستقبل كالكبير و المريض والميؤوس من برئه فإنه يُوَكِّلُ من يحج عنه من أقاربه أو غيرهم فإن مات قبل التوكيل عنه حج عنه من تركته، وإذا لم يكن للمرأة مَحْرم ليس عليها حج بل ولا يحل لها أن تحج؛ لأنها لا تستطيع الوصول إلى مكة؛ لأنها ممنوعة من السفر شرعاً بلا محرم، قال ابن عباس - رضي الله عنهما - سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب يقول: «لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم ولا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم فقام رجل فقال: يا رسول الله، إنَّ امرأتي خرجت حاجَّة وإني اكتتبت في غزوة كذا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: انطلق فحج مع امرأتك»(5)، فأمره النبي -صلى الله عليه وسلم - أن يحج مع امرأته وأن يدع الغزوة التي كتب فيها، ولم يستفصل النبي - صلى الله عليه وسلم - هل كانت امرأته شابة ؟ هل كان معها نساء ؟ هل هي آمنة ؟ وهذا دليل على أن المرأة يحرم عليها السفر على أي حال وعلى أي مركوب كان، سواء كانت على طائرة أو على سيارة أو في سفينة أو غير ذلك، لا يحل لها أن تسافر إلا بمحرم، والمقصود من المحرم: أن يكون حافظاً لها صائناً لها عما يمكن أن يكون عليها في هذا السفر .
أيها المسلمون، من رأى من نفسه أنه قد استكمل شروط وجوب الحج فليبادر به ولا يتأخر، فإن أوامر الله ورسوله على الفور بدون تأخير، قال ابن القيم - رحمه الله - وهو من العلماء المشهورين ومن أكبر تلاميذ شيخ الإسلام بن تيمية - قال رحمه الله: مَنْ ترك الحج عمداً مع القدرة عليه حتى مات أو ترك الزكاة فلم يخرجها حتى مات فإن مقتضى الدليل وقواعد الشرع تقتضي أن فعلهما بعد موته لا يبرئ ذمته ولا يقبل منه، قال: والحق أحق أن يتبع، وما قاله رحمه الله فإنه وجيه إلا في الزكاة؛ لأن الزكاة يتعلق بها حق الغير، فإذا مات ولم يخرجها فإنها تخرج من تركته ولكنه يبوء بإثمها حيث أخرها في حياته بدون عذر .
أيها المسلمون، إن الإنسان لا يدري ماذا يحصل له في المستقبل، وإن الله قد يسَّر لنا - ولله الحمد - في هذه البلاد ما لم ييسره لغيرنا، من سهولة الوصول إلى البيت، وأداء المناسك، فقابلوا هذه النعمة بشكرها، وأدوا فريضة الله عليكم قبل أن يأتي أحدكم الموت فيندم حين لا ينفع الندم، واسمعوا قول الله عزَّ وجل:+وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ"[الزمر:54 - 58]، اللهم وفقنا جميعاً للقيام بفرائضك، والتزام حدودك، وزودنا من فضلك وكرمك، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم اجعلنا من المنيبين إليك، المسلمين لك، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم، إنك جواد كريم، والحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين .
الخطبة الثانية
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد:
أيها الناس، فإنه قد اشتهر عند بعض العامة أن من لم يتمم له فإنه لا يصح حجه يعني: من لم يعق عنه فإنه لا يصح حجه وهذا ليس بصحيح، فإن الإنسان يصح حجه وإن لم يُعَق عنه، ولا علاقة بين العقيقة والحج، فالحج ركن من أركان الإسلام متعلق بنفس الإنسان الحاج، أما العقيقة فإنها سنة مؤكدة متعلقة بنفس الأب، فالأب هو المطالِب بالعقيقة وليس الولد، فإن كان غنيًّا وقت وجوب العقيقة فإنه مندوب أن يعق عن ولده عن الذكر اثنتين وعن الأنثى واحدة، وإن بعض الناس يتوهم أن العقيقة مثل الأضحية فيكون عنده أولاد متعددون فيعق عنهم بعيراً يظن أن البعير تجزئ عن سبع عقائق ولكن هذا ليس بصحيح، فالبعير لا تجزئ إلا عن عقيقة واحدة مع أن الشاة أفضل منها، فإذا كان عند الإنسان بعير وعنده شاة و أراد أن يعق وسألنا هل الأفضل أن أعق بالبعير أو بالشاة قلنا: الأفضل أن تعق بالشاة؛ لأن هذا هو الذي جاءت به السنة، ولم يأتِ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العقيقة بالبعير، ولهذا قال العلماء: إن الشاة أفضل من البعير في باب العقيقة، أما الأمر الثاني: فإنه قد اشتهر عند العامة - أيضاً - أن من عليه قضاء من رمضان فإنه لا يحج وهذا ليس بصحيح أيضاً، فالإنسان يجوز أن يحج ولو كان عليه قضاء من رمضان، ولا علاقة بين الحج وبين قضاء رمضان؛ لأن قضاء رمضان عبادة مستقلة والحج عبادة مستقلة وكل واحدة من جنس غير الجنس الآخر. أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى، واعرفوا حدود ما أنزل الله على رسوله، وإياكم أن تفتوا أحداً بغير علم، فإن من أفتى بغير علم فقد قال على الله ما لا يعلم، استمع إلى قوله تعالى+فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" [الأنعام:144]، وحريٌ بمن أفتى بغير علم، حريٌ ألا يهديه الله؛ لأن الله قال: ?+إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" [الأنعام:144]، أما من أراد الحق والتمس الحق وتحرى الحق ولم يفتِ للناس إلا بما يعلم أو بما يغلب على ظنه بمقتضى دلالة الكتاب والسنة وهو أهل لأن يستنبط الأحكام من الكتاب والسنة فإنه لا إثم عليه ولا حرج عليه .
أيها المسلمون، اسألوا إذا أشكل عليكم الأمر، اسألوا العلماء «فإن العلماء ورثة الأنبياء؛ لأن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً وإنما ورثوا العلم فمن أخذ بالعلم أخذ بحظ وافر» (6) من ميراث الأنبياء، اللهم إنا نسألك علماً نافعاً وعملاً صالحاً ورزقاً طيباً واسعاً تغنينا به عن خلقك وتعيننا به على طاعتك يا رب العالمين، واعلموا - أيها المسلمون - أن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة في دين الله بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، فعليكم بالجماعة، عليكم بالجماعة، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار، واعلموا أن الله أمركم بأمر بدأه بنفسه، فقال جلَّ من قائل عليماً:+إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا"[الأحزاب:56]، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، اللهم ارزقنا محبته واتباعه ظاهراً وباطناً، اللهم توفنا على ملته، اللهم احشرنا في زمرته، اللهم اسقنا من حوضه، اللهم أدخلنا في شفاعته، اللهم اجمعنا به في جنات النعيم في جوارك يا رب العالمين مع الذين أنعمت عليهم من النبيين، والصديقين، والشهداء والصالحين، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم من أراد بالمسلمين سوءاً فاجعل كيده في نحره، و شتت شمله، وفرق جمعه، واهزم جنده، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا رب العالمين، يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أصلح للمسلمين ولاة أمورهم، اللهم أصلح للمسلمين ولاة أمورهم، اللهم أصلح للمسلمين ولاة أمورهم، اللهم أصلح لولاة أمور المسلمين بطانتهم، اللهم هيئ لهم بطانة صالحة، تدلهم على الخير، وتحثهم عليه، وتُبَين لهم الشر، وتحذرهم منه يا رب العالمين، اللهم أصلح شعوب المسلمين، اللهم أصلح شعوب المسلمين، ذكورهم وإناثهم، شبابهم وكهولهم وشيوخهم يا رب العالمين، إنك جواد كريم، اللهم إنا نسألك أن تؤيد هذه الصحوة الإسلامية بتأييدك، وأن تنصرها بنصرك، وأن ترزقها علماً ترشد به إلى ما فيه رضاك يا رب العالمين، إنك على كل شيء قدير .
عباد الله، إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم، ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً، إن الله يعلم ما تفعلون، واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نِعَمِهِ يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون .
--------------------------
(1) أخرجه الإمام مسلم رحمه الله تعالى في ك الإيمان من حديث أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ( 9 ). ت ط ع .
(2) عزاه الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره من حديث أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأخرجه سعيد بن منصور في سننه عن الحسين البصري عند تغيره لقوله تعالى:+وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ" وانظر إلى كتاب التحقيق في أحاديث الخلاق المجلد الثاني ص 118 رقم الحديث ( 1213 ) .
(3) أخرجه البخاري رحمه الله تعالى في كتاب الإيمان والنذور في (باب النذر في الطاعة ) من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها ( 6202 ) ت ط ع .
(4) أخرجه الإمام البخاري رحمه الله تعالى في ك الحواله من حديث سلمة بن الأكوع رضي الله تعالى عنه ( 2127 ) وأخرجه الإمام مسلم رحمه الله تعالى في ك الفرائض من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ( 3040 ) ت ط ع .
(5) أخرجه الإمام البخاري رحمه الله تعالى في ك المهاد والسير من حديث بن عباس رضي الله تعالى ( 2784 ) وأخرجه الإمام مسلم رحمه الله تعالى في ك الحج من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ( 2391 ) ت ط ع .
(6) أخرجه الإمام احمد رحمه الله تعالى في مسنده ( 20723 ) من أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه ت ط ع . وأخرجه الترمذي في ك العلم ( 2606 ) وأخرجه أبو داود في ك العلم ( 3157 ) وأخرجه ابن ماجة في ك المقدمة ( 219 ) وأخرجه الدارمي في ك المقدمة ( 346 ) من ح أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه ت ط ع .
الخطبة الأولى
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله الذي فرض الحج على عباده إلى بيته الحرام، ورتب على ذلك جزيل الأجر ووافر الإنعام، فمن حج البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج كيوم ولدته أمه نقيًّا من الذنوب والآثام، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة دار السلام، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الجلال والإكرام، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أفضل من صلَّى وزكَّى وحجَّ وصام، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان ما تعاقبت الليالي والأيام، وسلَّم تسليماً كثيراً .
أما بعد:
فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى، وأدوا ما فرض الله عليكم من الحج إلى بيته الحرام حيث استطعتم إلى ذلك سبيلاً، فإن الله - تعالى - قال في كتابه: +وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ" [آل عمران:97]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الإسلام أن تشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً» (1) وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الإسلام بني على هذه الدعائم الخمس فلا يتم إسلام عبد حتى يحج، ولا يستقيم بنيان إسلامه حتى يحج، و «عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال: حين كان خليفة على المسلمين: لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار فينظروا كل من له جدة أي: كل من كان غنياً ولم يحج فيضربوا عليهم الجزية ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين»(2) .
أيها المسلمون، إن فريضة الحج إلى بيت الله ثابتة بكتاب الله وبسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبإجماع المسلمين عليها إجماعاً قطعيًّا، فمن أنكر فريضة الحج فقد كفر، ومن أقرَّ بها وتركها تهاوناً فهو على خطر، فإن الله - تعالى - قال بعد ذكر إيجابه على عباده قال:+وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ"[آل عمران:97] .
أيها المسلمون، كيف تطيب نفس المؤمن أن يترك الحج مع قدرته عليه بماله وبدنه وهو يعلم أنه ركن من أركان الإسلام وفرائضه ! كيف يبخل الإنسان بماله على نفسه في أداء هذه الفريضة وهو ينفق الكثير من ماله في هوى نفسه ! كيف يوفر نفسه عن التعب في الحج وهو يرهق نفسه في التعب في أمور دنياه ! كيف يتثاقل فريضة الحج وهو لا يجب في العمر إلا مرة واحدة ! كيف يتراخى في أداء الحج ويؤخره وهو لا يدري فلعله لا يستطيع الوصول إليه بعد عامه. فاتقوا الله عباد الله، وأدوا ما فرض الله عليكم من الحج تعبداً لله تعالى ورضاً بحكمه وسمعاً وطاعةً لأمره إن كنتم مؤمنين، قال الله عزَّ وجل: +وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً" [الأحزاب: 36] .
إن المسلم إذا أدى الحج والعمرة بعد بلوغه مرة واحدة فقد أسقط الفريضة عن نفسه وأكمل بذلك أركان دينه ولم يجب عليه بعد ذلك حج ولا عمرة إلا أن يوجبه على نفسه بالنذر فإنه يلزمه الوفاء بما نذر لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من نذر أن يطيع الله فليطعه»(3).
أيها المسلمون، إن من تمام رحمة الله ومن بالغ حكمته أن جعل للفرائض حدوداً وشروطاً؛ لتنضبط بذلك وتتحدد المسؤولية، وجعل هذه الشروط في غاية المناسبة للفاعل الزمان والمكان، ومن هذه الفرائض التي جعل الله لها شروطاً: الحج إلى بيت الله الحرام، فإن الحج له حدوداً و شروطاً لا يجب على المسلم إلا إذا توافرت هذه الشروط، فمن شروط الحج: أن يكون الإنسان بالغاً، ويحصل البلوغ في الذكور بواحد من أمور ثلاثة: إنزال المني بشهوة، أو تمام خمس عشرة سنة أو نبات شعر العانة، أما في الإناث فإنه يحصل بذلك وزيادة أمر رابع وهو: الحيض، فمتى حاضت المرأة ولو لم يكن لها إلا عشر سنوات فإنها بالغة، أما من لم يبلغ من ذكورٍ وإناثٍ فلا حج عليه ولو كان غنياً ولكنه لو حج صحَّ حجه تطوعاً وله أجره، فإذا بلغ أدى الفريضة؛ لأن حجه قبل البلوغ لا يسقط به الفرض؛ فإنه لم يفرض عليه، فهو كما لو تصدق بمال ينوي به الزكاة قبل أن يملك نصابه، وعلى هذا فمن حج ومعه أبناءه أو بناته الصغار فإن حجوا معه كان له أجر ولهم ثواب الحج، وإن لم يحجوا فلا شيء عليه ولا عليهم، وينبغي في هذه الحال أن ينظر الأصلح والأوفق، فإذا كان يشق عليهم وعليه أن يحرموا بالحج أو العمرة فإنه لا داعي لذلك؛ لئلا يشق عليهم وعلى نفسه؛ لأنكم تعرفون أن الناس في هذه العصور كثروا كثرةً عظيمةً لم يوجد لها نظير في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كان يشق عليكم أو على أولادكم من بنين أو بنات أن يحرموا وهم لم يبلغوا بالحج فإنه لا داعي لذلك، ومن شروط وجوب الحج: أن يكون الإنسان مستطيعاً بماله وبدنه لقول الله تعالى: +مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً" [آل عمران:97]، فمن لم يكن مستطيعاً فلا حج عليه، والاستطاعة بالمال: أن يملك الإنسان ما يكفي لحجه زائداً عن حوائج بيته وعما يحتاجه من نفقة وكسوة له ولعياله، وعن أجرة سكن، وعن قضاء ديون حالَّة، فمن كان عنده مال يحتاجه لما ذكر لم يجب عليه الحج، ومن كان عليه دَيْن حالٌّ لم يجب عليه الحج حتى يوفيه، والدَّيْن: كل ما ثبت في ذمة المرء من قرض وثمن مبيع وأجرة وغيرها، فمن كان في ذمته شيء بسبب هذه الأمور أو غيرها فهو مدين، ولا يجب عليه الحج حتى يبرأ من دينه كله؛ لأن قضاء الدَّيْن مهم جدًّا، حتى أن الرجل لو قتل في سبيل الله شهيداً فإن الشهادة تكفر عنه كل شيء إلا الدَّين فإنها لا تكفره وحتى أن الرجل ليموت وعليه الدَّين فتعلق نفسه بدينه حتى يُقضى عنه، ولقد كان النبي- صلى الله عليه وسلم -«إذا أُتي إليه بميِّت ليصلي عليه سأل هل عليه دَيْن له وفاء فإن قالوا: نعم، صلى عليه وإن قالوا: لا، لم يصلِّ عليه، وأمرهم أن يصلوا عليه وترك الصلاة عليه هو بنفسه»(4)، وهذا يدل على عِظَمِ الدَّين، خلافاً لما يفعله بعض الناس اليوم يتهاونون بالديون عليهم، ويتهاونون بوفائها إذا تعلقت بذممهم، ويتهاونون في استحصالها، تجد الرجل يتدين لأمر ليس له به ضرورة بل أحياناً ليس له به حاجة ولا شك أن هذا من السفه في العقل ومن الضلال في الدين، لأنه لا ينبغي للإنسان أن يتديَّن إلا للحاجة الملحة أو للضرورة، أما ما يفعله بعض الناس اليوم فإنه أمر يؤسف له، يتدينون من أجل كماليات لا حاجة لهم بها، فنسأل الله أن يهدينا وإياهم، أما الدين المؤجل فإن كان موثقا برهن يكفيه لم يسقط وجوب الحج، أما إذا لم يكن فيه رهن فإن كان الإنسان يستطيع أن يوفيه عند حلول الأجل وعنده في وقت الحج ما يحج به فإنه يحج به؛ لأنه مستطيع، أما الاستطاعة بالبدن فأن يكون الإنسان قادراً على الوصول إلى مكة بنفسه بدون مشقه، فإن كان لا يستطيع الوصول إلى مكة أو يستطيع الوصول ولكن بمشقة شديدة فإننا ننظر إن كان يرجو الاستطاعة في المستقبل انتظر حتى يستطيع ثم يحج فإن مات حج عنه من تركته وإن كان لا يرجو الاستطاعة في المستقبل كالكبير و المريض والميؤوس من برئه فإنه يُوَكِّلُ من يحج عنه من أقاربه أو غيرهم فإن مات قبل التوكيل عنه حج عنه من تركته، وإذا لم يكن للمرأة مَحْرم ليس عليها حج بل ولا يحل لها أن تحج؛ لأنها لا تستطيع الوصول إلى مكة؛ لأنها ممنوعة من السفر شرعاً بلا محرم، قال ابن عباس - رضي الله عنهما - سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب يقول: «لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم ولا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم فقام رجل فقال: يا رسول الله، إنَّ امرأتي خرجت حاجَّة وإني اكتتبت في غزوة كذا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: انطلق فحج مع امرأتك»(5)، فأمره النبي -صلى الله عليه وسلم - أن يحج مع امرأته وأن يدع الغزوة التي كتب فيها، ولم يستفصل النبي - صلى الله عليه وسلم - هل كانت امرأته شابة ؟ هل كان معها نساء ؟ هل هي آمنة ؟ وهذا دليل على أن المرأة يحرم عليها السفر على أي حال وعلى أي مركوب كان، سواء كانت على طائرة أو على سيارة أو في سفينة أو غير ذلك، لا يحل لها أن تسافر إلا بمحرم، والمقصود من المحرم: أن يكون حافظاً لها صائناً لها عما يمكن أن يكون عليها في هذا السفر .
أيها المسلمون، من رأى من نفسه أنه قد استكمل شروط وجوب الحج فليبادر به ولا يتأخر، فإن أوامر الله ورسوله على الفور بدون تأخير، قال ابن القيم - رحمه الله - وهو من العلماء المشهورين ومن أكبر تلاميذ شيخ الإسلام بن تيمية - قال رحمه الله: مَنْ ترك الحج عمداً مع القدرة عليه حتى مات أو ترك الزكاة فلم يخرجها حتى مات فإن مقتضى الدليل وقواعد الشرع تقتضي أن فعلهما بعد موته لا يبرئ ذمته ولا يقبل منه، قال: والحق أحق أن يتبع، وما قاله رحمه الله فإنه وجيه إلا في الزكاة؛ لأن الزكاة يتعلق بها حق الغير، فإذا مات ولم يخرجها فإنها تخرج من تركته ولكنه يبوء بإثمها حيث أخرها في حياته بدون عذر .
أيها المسلمون، إن الإنسان لا يدري ماذا يحصل له في المستقبل، وإن الله قد يسَّر لنا - ولله الحمد - في هذه البلاد ما لم ييسره لغيرنا، من سهولة الوصول إلى البيت، وأداء المناسك، فقابلوا هذه النعمة بشكرها، وأدوا فريضة الله عليكم قبل أن يأتي أحدكم الموت فيندم حين لا ينفع الندم، واسمعوا قول الله عزَّ وجل:+وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ"[الزمر:54 - 58]، اللهم وفقنا جميعاً للقيام بفرائضك، والتزام حدودك، وزودنا من فضلك وكرمك، اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم اجعلنا من المنيبين إليك، المسلمين لك، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم، إنك جواد كريم، والحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين .
الخطبة الثانية
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد:
أيها الناس، فإنه قد اشتهر عند بعض العامة أن من لم يتمم له فإنه لا يصح حجه يعني: من لم يعق عنه فإنه لا يصح حجه وهذا ليس بصحيح، فإن الإنسان يصح حجه وإن لم يُعَق عنه، ولا علاقة بين العقيقة والحج، فالحج ركن من أركان الإسلام متعلق بنفس الإنسان الحاج، أما العقيقة فإنها سنة مؤكدة متعلقة بنفس الأب، فالأب هو المطالِب بالعقيقة وليس الولد، فإن كان غنيًّا وقت وجوب العقيقة فإنه مندوب أن يعق عن ولده عن الذكر اثنتين وعن الأنثى واحدة، وإن بعض الناس يتوهم أن العقيقة مثل الأضحية فيكون عنده أولاد متعددون فيعق عنهم بعيراً يظن أن البعير تجزئ عن سبع عقائق ولكن هذا ليس بصحيح، فالبعير لا تجزئ إلا عن عقيقة واحدة مع أن الشاة أفضل منها، فإذا كان عند الإنسان بعير وعنده شاة و أراد أن يعق وسألنا هل الأفضل أن أعق بالبعير أو بالشاة قلنا: الأفضل أن تعق بالشاة؛ لأن هذا هو الذي جاءت به السنة، ولم يأتِ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العقيقة بالبعير، ولهذا قال العلماء: إن الشاة أفضل من البعير في باب العقيقة، أما الأمر الثاني: فإنه قد اشتهر عند العامة - أيضاً - أن من عليه قضاء من رمضان فإنه لا يحج وهذا ليس بصحيح أيضاً، فالإنسان يجوز أن يحج ولو كان عليه قضاء من رمضان، ولا علاقة بين الحج وبين قضاء رمضان؛ لأن قضاء رمضان عبادة مستقلة والحج عبادة مستقلة وكل واحدة من جنس غير الجنس الآخر. أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى، واعرفوا حدود ما أنزل الله على رسوله، وإياكم أن تفتوا أحداً بغير علم، فإن من أفتى بغير علم فقد قال على الله ما لا يعلم، استمع إلى قوله تعالى+فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" [الأنعام:144]، وحريٌ بمن أفتى بغير علم، حريٌ ألا يهديه الله؛ لأن الله قال: ?+إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" [الأنعام:144]، أما من أراد الحق والتمس الحق وتحرى الحق ولم يفتِ للناس إلا بما يعلم أو بما يغلب على ظنه بمقتضى دلالة الكتاب والسنة وهو أهل لأن يستنبط الأحكام من الكتاب والسنة فإنه لا إثم عليه ولا حرج عليه .
أيها المسلمون، اسألوا إذا أشكل عليكم الأمر، اسألوا العلماء «فإن العلماء ورثة الأنبياء؛ لأن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً وإنما ورثوا العلم فمن أخذ بالعلم أخذ بحظ وافر» (6) من ميراث الأنبياء، اللهم إنا نسألك علماً نافعاً وعملاً صالحاً ورزقاً طيباً واسعاً تغنينا به عن خلقك وتعيننا به على طاعتك يا رب العالمين، واعلموا - أيها المسلمون - أن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة في دين الله بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، فعليكم بالجماعة، عليكم بالجماعة، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار، واعلموا أن الله أمركم بأمر بدأه بنفسه، فقال جلَّ من قائل عليماً:+إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا"[الأحزاب:56]، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، اللهم ارزقنا محبته واتباعه ظاهراً وباطناً، اللهم توفنا على ملته، اللهم احشرنا في زمرته، اللهم اسقنا من حوضه، اللهم أدخلنا في شفاعته، اللهم اجمعنا به في جنات النعيم في جوارك يا رب العالمين مع الذين أنعمت عليهم من النبيين، والصديقين، والشهداء والصالحين، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم من أراد بالمسلمين سوءاً فاجعل كيده في نحره، و شتت شمله، وفرق جمعه، واهزم جنده، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا رب العالمين، يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أصلح للمسلمين ولاة أمورهم، اللهم أصلح للمسلمين ولاة أمورهم، اللهم أصلح للمسلمين ولاة أمورهم، اللهم أصلح لولاة أمور المسلمين بطانتهم، اللهم هيئ لهم بطانة صالحة، تدلهم على الخير، وتحثهم عليه، وتُبَين لهم الشر، وتحذرهم منه يا رب العالمين، اللهم أصلح شعوب المسلمين، اللهم أصلح شعوب المسلمين، ذكورهم وإناثهم، شبابهم وكهولهم وشيوخهم يا رب العالمين، إنك جواد كريم، اللهم إنا نسألك أن تؤيد هذه الصحوة الإسلامية بتأييدك، وأن تنصرها بنصرك، وأن ترزقها علماً ترشد به إلى ما فيه رضاك يا رب العالمين، إنك على كل شيء قدير .
عباد الله، إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم، ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً، إن الله يعلم ما تفعلون، واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نِعَمِهِ يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون .
--------------------------
(1) أخرجه الإمام مسلم رحمه الله تعالى في ك الإيمان من حديث أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ( 9 ). ت ط ع .
(2) عزاه الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره من حديث أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وأخرجه سعيد بن منصور في سننه عن الحسين البصري عند تغيره لقوله تعالى:+وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ" وانظر إلى كتاب التحقيق في أحاديث الخلاق المجلد الثاني ص 118 رقم الحديث ( 1213 ) .
(3) أخرجه البخاري رحمه الله تعالى في كتاب الإيمان والنذور في (باب النذر في الطاعة ) من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها ( 6202 ) ت ط ع .
(4) أخرجه الإمام البخاري رحمه الله تعالى في ك الحواله من حديث سلمة بن الأكوع رضي الله تعالى عنه ( 2127 ) وأخرجه الإمام مسلم رحمه الله تعالى في ك الفرائض من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ( 3040 ) ت ط ع .
(5) أخرجه الإمام البخاري رحمه الله تعالى في ك المهاد والسير من حديث بن عباس رضي الله تعالى ( 2784 ) وأخرجه الإمام مسلم رحمه الله تعالى في ك الحج من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ( 2391 ) ت ط ع .
(6) أخرجه الإمام احمد رحمه الله تعالى في مسنده ( 20723 ) من أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه ت ط ع . وأخرجه الترمذي في ك العلم ( 2606 ) وأخرجه أبو داود في ك العلم ( 3157 ) وأخرجه ابن ماجة في ك المقدمة ( 219 ) وأخرجه الدارمي في ك المقدمة ( 346 ) من ح أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه ت ط ع .