محمد الفاريابي
09-21-2011, 03:51 AM
الشيخ محمد صالح العثيمين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمدُ لله حمدًا كثيرًا طيِّبًا مباركًا فيه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا .
أما بعد:
أيها الناس، فلقد أظلّكم شهر كريم وموسم عظيم، «أُعطِيت فيه هذه الأمة خمس خصال لم تعطهنّ أمة من الأمم قبلهم: خلوفُ فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك - وخلوفُ فم الصائم هي: الرائحة الكريهة التي تخرج من المعدة عند خلوِّها من الطعام، هذه الرائحة أطيب عند الله من ريح المسك - وتستغفر لهم الملائكةُ حتى يفطروا، ويُزيِّن الله كل يوم جنته فيقول: يوشك عبادي الصالحون أن يلقوا عنهم المؤونة والأذى ويصيروا إليك، وتصفّد فيه مردةُ الشياطين فلا يخلصون إلى ما كانوا يخلصون إليه في غيره، ويُغفر لهم في آخر ليلة منه»(1).
إنه شهر رمضان «مَن صامه إيمانًا واحتسابًا غفرَ الله له ما تقدّم من ذنبه»(2)،«ومَن قامه إيمانًا واحتسابًا غفَرَ الله له ما تقدم من ذنبه»(3)، «فيه تُفتح أبواب الجنة وتُغلق أبواب النيران»(4) .
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «قال الله عزَّ وجل: «كل عمل بن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به»، والصوم جُنَّة - يعني: وقاية من الإثم والنار - فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابَّه أحد أو قاتله فلْيقل: إني صائم، والذي نفس محمد بيده، لخلوفُ فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما: فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه»(5)، أما فرحه عند فطره فيفرح بنعمتين؛ أُولى هما: نعمة الله عليه بالصيام، وقد ضَلَّ عنه كثير من الناس، والثانية: نعمة الله عليه بإباحة الأكل والشرب والنكاح وما كان ممنوعًا منه في الصيام، وأما فرحه عند لقاء ربه: فيفرح بِما يجده من النّعيم المقيم في دار السلام .
وفي صحيح البخاري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن في الجنة بابًا يقال له الريان يدخل منه الصائمون لا يدخله غيرهم، فإذا دخلوا أُغلق ولم يُفتح لغيرهم»(6).
اللهم إنَّا نسألك أن تجعلنا من الداخلين فيه، اللهم اجعلنا من الداخلين فيه، اللهم اجعلنا من الداخلين فيه .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا تُرد دعوتهم: الصائم حتى يفطر، والإمام العادل ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام وتُفتح لها أبواب السماء ويقول الرب: وعزَّتي لأنصرنَّكِ ولو بعد حين»(7) .
عباد الله، اغتنموا شهر رمضان بكثرة العبادة، وكثرة الصلاة والقراءة، والإحسان إلى الخلق بالمال والبدن والعفو عنهم؛ فإن الله يحب المحسنين ويعفو عن العافين، واستكثروا فيه من «أربع خصال: اثنتان تُرضون بهما ربكم واثنتان لا غنى لكم عنهما، فأما اللتان تُرضون بهما ربكم: فشاهدة أن لا إله إلا الله والاستغفار، وأما اللتان لا غنى لكم عنهما: فتسألون الله الجنة وتستعيذون به من النار»(8).
عباد الله، احفظوا صيامكم عن النواقص والنواقض، احفظوه عن اللغو والرفث وقول الزور، وقول الزور: كلُّ قول محرم، وعمل الزور: كلُّ عمل محرم«فمَن لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه»(9)، ومَن لم يحفظ صيامه عمَّا حرّم الله فيوشك ألا يكون له من صيامه إلا الجوع والظمأ .
اجتنبوا الكذب والفحش والغش والخيانة، اجتنبوا الغِيبة والنّميمة، اجتنبوا الأغاني المحرمة واللهو المحرم فعلاً وسماعًا؛ فإن كل هذه من منقّصات الصيام .
قوموا بِما أوجب الله عليكم من الصلاة في أوقاتها وأداءها مع الجماعة، قوموا بالنصيحة للمؤمنين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإن الحكمة من الصيام التّقوى، يقول الله عزَّ وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة:183] .
اجتهدوا - أيها المسلمون - في قراءة القرآن فإنه كلام الله عزَّ وجل، لكم الشرف في تلاوته والأجر، ولكم بالعمل به الحياة الطيّبة وطيب الذكْر، «ولكم بكل حرف منه عشر حسنات»(10)، وإذا مررتم بآية سجدة فاسجدوا في أي ساعة من ليل أو نهار، كبِّروا عند السجود وقولوا في السجود: سبحان ربي الأعلى وادعوا بِما شئتم، إن تيسَّر لكم معرفة ما ورد في ذلك فادعوا به وإلا فادعوا بأي دعاء مناسب ثم قوموا من السجود بلا تكبير ولا سلام إلا إذا سجدتم في الصلاة فلا بُدّ من التكبير عند السجود وعند النهوض .
أما بعد: أيها المسلمون، فاحرصوا على تلاوة كتاب الله، واسمعوا إلى قول الله عزَّ وجل: ﴿الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ﴾ [إبراهيم:1-3] .
اللهم ارزقنا اغتنام الأوقات بالأعمال الصالحة، اللهم احفظنا عن الأعمال السيئة، اللهم وفِّقنا لِمَا تحبه وترضاه يا رب العالمين .
اللهم حقِّق لنا ما نرجوه من المصالح في الدنيا والآخرة، اللهم ﴿لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾ [آل عمران: 8] .
والحمدُ لله رب العالمين، وأصلي وأسلِّم على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
الخطبة الثانية
الحمدُ لله حمدًا كثيرًا كما أمر، وأشكره وقد تأذن بالزيادة لِمَن شكر، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولو كَرِهَ ذلك مَن أشرك به وكفر، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله سيّد البشر، الشافع المشفّع في المحشر، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه خير صحب ومعشر، وعلى التابعين لهمبإحسان ما بدا الفجر وأنور، وسلَّم تسليمًا كثيرًا .
أما بعد:
فيا أيها الناس، اتَّقوا الله تعالى واعلموا أن للزكاة موضعًا لا يصحّ أن تصرف إلا فيه، فمَن صرف الزكاة في غير مصارفها التي فرضها الله - عزَّ وجل - فإن زكاته لا تقبل ولا تبرأ بها ذمته .
ألا وإن من المصارف التي فرضها الله أن تصرف إليها الزكاة مَن كانوا فقراء أو مساكين، وهم: الذين لا يجدون ما ينفقون على أنفسهم وأهليهم، فمَن كان لا يجد ما ينفق على نفسه وأهله أو كان يجد شيئًا لا يكفي فإنه يُعطى كفايته التي تكفيه هو وعائلته لمدة سنة؛ لإزالة فقرهم حتى يأتي الدور الذي تجب فيه الزكاة مرة أخرى، هكذا قال أهل العلم.
فإذا كان عند الإنسان راتب ولكن راتبه لا يفي بمتطلبات حياته هو وعائلته فإنه في هذه الحال يجوز أن يُعطى من الزكاة ما يكفيه؛ لأنه فقير محتاج، وإذا كان عند الإنسان راتب يكفيه للكسوة وللأكل والشرب وللسكنى ولكنه محتاج إلى الزواج فإنه يُعطى ما يتزوج به ولو كثر حتى لو بلغ أربعين ألفًا أو أكثر أو أقل فإنه يُعطى من الزكاة؛ لأن الحاجة إلى الزواج حاجة ملحّة، بل هي من الضروريات أحيانًا .
ومن المواضع التي تُصرف الزكاة إليها الغرماء، وهم: المدينون الذين في ذممهم أطلاب للناس ولا يستطيعون وفاءها، فهؤلاء يوفّى عنهم من الزكاة ولو كثرت ديونهم، ولكن كيف نوفّي عنهم ؟ هل نعطيهم المال ليدفعوه إلى من يطلبهم ؟ أم نذهب نحن إلى الطالب فنعطيه المال ؟
الأحسن أن نذهب نحن إلى الطالب ونعطيه المال ونقول له: هذا المال من دَيْنك الذي تطلبه زيدًا، وفي هذا الحال تبرأ ذمة المطلوب .
نعم، لو فرضنا أن المطلوب إنسان ثقة وصاحب دَيْن ويحب براءة ذمته من الدَّيْن وهو موثوق ويستحي أن نذهب نحن ونقضي دَيْنه ففي هذه الحال نعطيه؛ لأننا واثقون منه، واثقون من أن يدفع دَيْنه إلى غريمه الذي يطلبه، أما إذا كان الإنسان غير موثوق منه ونخشى إذا أعطيناه ليوفي أن يأكله ولا يوفي دَيْنه؛ فإن الأفضل والأولى أن نقضي دَيْنه نحن كما وصفنا آنفًا .
ومن أصناف أهل الزكاة الذين تدفع إليهم الجهاد في سبيل الله، فيجوز للإنسان أن يصرف زكاته في المجاهدين في سبيل الله، وهم: الذين يقاتلون لتكون كلمة الله هي العليا؛ لأن الله تعالى يقول في سورة التوبة: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾[التوبة: 60] .
ولا يجوز للإنسان إذا كان له دَيْن على فقير، لا يجوز له أن يسقط من دَيْنه ويحتسبه من الزكاة؛ لأن هذا إبراء لا إعطاء، والله - عزَّ وجل - أمرنا بالإعطاء، فقال لنبيِّه صلى الله عليه وسلم: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾[التوبة: 103]،وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ بن جبل وقد بعثه إلى اليمن: «أعْلِمْهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وتُردّ على فقرائهم»(11)، ومَن أبرأ غريمه من دَيْنه فإنه لم يعطه؛ وعلى هذا فيجب التنبّه لهذه المسألة؛ لأن كثيرًا من الناس يظن أن ذلك جائز وليس بجائز؛ أي: أنه لا يجوز إذا كان لك شخص تطلبه دَيْن وهو فقير، لا يجوز أن تُسقط عنه شيئًا من الدَّيْن وتحتسبه من الزكاة، ولا يجوز كذلك أن تقضي دَيْنًا عن ميت من الزكاة؛ لأن الزكاة إنما هي للأحياء وليست للأموات، والميت الذي خلفَ تركة يجب أن يقضى دَينه من تركته، فإن لم يخلف تركة فإن الله - سبحانه وتعالى - يقضيه عنه يوم القيامة إذا كان أخذ أموال الناس يريد أداءها لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَن أخذ أموال الناس يريد أداءها أدّى الله عنه، ومَن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله»(12)؛ ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قبل أن يفتح الله عليه الفتوح إذا أُتي بشخص ميّت عليه دَيْن ليس له وفاء كان لا يصلي عليه، ويقول للصحابة: صلوا على صاحبكم، فلما فتح الله عليه الفتوح وكثرت الأموال عنده صار إذا قُدّم إليه الميت عليه الدَّيْن يقول صلى الله عليه وسلم: «أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم»(13)، فيقضي دَيْنه من المال الذي أتاه الله، ولو كانت الزكاة تدفع في دَيْن الأموات لكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدفعها في دَيْن هؤلاء الأموات الذين يموتون أو الذين ماتوا قبل أن يفتح الله عليه .
أيها المسلمون، إن بعض أهل العلم حكى إجماع أهل العلم على أنه لا يُقضى من الزكاة دَيْن على ميت، والإجماع في الواقع ليس بصحيح، بل هناك خلاف، ولكن جمهور أهل العلم ومنهم المذاهب الأربعة على أنه لا يُقضى دَيْن الميت من الزكاة، فلا تتهاونوا في هذا الأمر، ولا تخاطروا في زكاتكم، والميت أمره إلى الله عزَّ وجل، والأحياء أحق أن تُقضى ديونهم من الزكاة .
أيها المسلمون، اعلموا «أن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة في دين الله بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار»(14)، «فعليكم بالجماعة؛ فإن يد الله على الجماعة، ومَن شَذَّ شَذَّ في النار»، وأكْثروا من الصلاة والسلام على نبيّكم يعظم الله لكم بها أجرًا؛ فإن «مَن صلى عليه مرّة واحدة صلى الله عليه بها عشرًا» .
اللهم صلِّ وسلّم على عبدك ورسولك محمد، اللهم ارزقنا محبته واتّباعه ظاهرًا وباطنًا، اللهم توفَّنا على ملّته، اللهم احشرنا في زمرته، اللهم أسْقنا من حوضه، اللهم أدخلنا في شفاعته، اللهم اجمعنا به في جنّات النّعيم مع الذين أنعمت عليهم من النبيين، والصديقين، والشهداء والصالحين .
اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم انصرهم على عدوهم، اللهم مَن أرادنا بسوء فاجعل كيده في نحره، وشتِّت شمله، وفرِّق جمعه، واهزم جنده يا رب العالمين .
اللهم مَن أرادنا بسوء فأنزل به بأسَكَ الذي لا يرد عن القوم المجرمين يا رب العالمين .
اللهم اكتب عليه الذل إلى يوم القيامة مادام يريد السوء للمسلمين؛ إنك على كل شيء قدير .
اللهم أصْلح للمسلمين ولاة أمورهم، اللهم أصْلح للمسلمين ولاة أمورهم، اللهم أصْلح للمسلمين ولاة أمورهم صغيرهم وكبيرهم، اللهم وأصْلح لهم بطانة أمورهم، اللهم وأصْلح البطانة وأعنهم على تحمل الأمانة يا رب العالمين .
اللهم مَن كان من بطانة ولاة أمورنا غير مستقيم على شرعك ولا ناصح لولاتنا ولا لرعيتهم فأبعده عنهم يا رب العالمين .
اللهم أنْزِل في قلوبهم بغضه، وحبِّب إليهم البطانة الصالحة؛ إنك على كل شيء قدير، ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [الحشر: 10] .
عباد الله، ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ [النحل: 90-91]، واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نِعَمِهِ يزدكم، ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾ [العنكبوت: 45] .
-----------------------
(1) أخرجه الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- في مسنده، من حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- في باقي مسند المكثرين من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، رقم [7576]، قال شيخنا -رحمه الله تعالى- في كتابه [مجالس شهر رمضان] رواه البزار والبيهقي في كتاب [الثواب] وإسناده ضعيف جدًّا ولكن لبعضه شواهد صحيحة هذا في المجلس الأول .
(2) أخرجه الإمام البخاري رحمه الله تعالى، من حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- في كتاب [الإيمان] باب: صوم رمضان احتسابًا من الإيمان، رقم [37]، وأخرجه الإمام مسلم رحمه الله تعالى، من حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- في كتاب [صلاة المسافرين وقصرها] باب: الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح، رقم [1268] ت ط ع .
(3) أخرجه الإمام البخاري رحمه الله تعالى، من حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- في كتاب [صلاة التراويح] باب: فضل مَن قام رمضان، رقم [1869] ت ط ع .
(4) أخرجه الإمام البخاري رحمه الله تعالى، من حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- في كتاب [بدء الخلق] باب: صفة إبليس وجنوده، رقم [3035]، وأخرجه الإمام مسلم رحمه الله تعالى، من حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- في كتاب [الصيام] باب: فضل شهر رمضان، رقم [1793]، أخرجه الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- في مسنده في باقي مسند الأنصار، من حديث رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، رقم [22393]، وأخرجه الإمام النسائي -رحمه الله تعالى- في سننه، من حديث أبي هريرة وعتبة بن فرقد -رضي الله تعالى عنهما- في كتاب [الصيام] باب: فضل شهر رمضان، رقم [2202] ت ط ع .
(5) أخرجه الإمام البخاري رحمه الله تعالى، من حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- في كتاب [الصوم] باب: هل يقول: إني صائم إذا شتم، رقم [1771]، وأخرجه الإمام مسلم رحمه الله تعالى، من حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- في كتاب [الصيام] باب: فضل الصيام، رقم [1944] ت ط ع .
(6) أخرجه الإمام البخاري رحمه الله تعالى، من حديث سهل -رضي الله تعالى عنه- في كتاب [الصوم] باب: الريان للصائمين، رقم [1763]، وأخرجه الإمام مسلم رحمه الله تعالى، في كتاب [الصيام] باب: فضل الصيام، رقم [1947] ت ط ع .
(7) أخرجه الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- في مسنده، من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، رقم [7700]، وأخرجه الإمام الترمذي -رحمه الله تعالى- في سننه في كتاب [الدعوات]، من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، باب: في العفو والعافية، رقم [3522]، وأخرجه ابن ماجة -رحمه الله تعالى- في سننه، في كتاب [الصيام] في باب: في الصائم لا ترد دعوته، رقم [1742] ت ط ع .
(8) أخرجه ابن خزيمة -رحمه الله تعالى- في صحيحه، الجزء [3] الصفحة [191]، من حديث سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه، رقم [1887]، وأخرجه البيهقي -رحمه الله تعالى- في كتاب [شعب الإيمان] الجزء [3] الصفحة [305]، وأخرجه الحارث في مسنده [زوائد الهيثمي] الجزء [1] الصفحة [412] ت م ش .
(9) أخرجه الإمام البخاري رحمه الله تعالى، من حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- في كتاب [الأدب] باب: قوله تعالى: ﴿وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾[الحج: 30]، رقم [5597] ت ط ع .
(10) أخرجه الترمذي -رحمه الله تعالى- في سننه، من حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله تعالى عنهما- في كتاب [فضائل القرآن] باب: ما جاء فيمَن قرأ حرفًا من القرآن ما له من الأجر، رقم [2835]، وأخرجه الدارمي رحمه الله تعالى، من حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله تعالى عنه- في كتاب [فضائل القرآن] باب: فضل مَن قرأ القرآن، رقم [3181] ت ط ع .
(11) أخرجه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في كتاب [الزكاة] باب: وجوب الزكاة، رقم [1308]، وأخرجه الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في كتاب [الإيمان] باب: الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام، من حديث ابن عباس في قصة معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنهم، رقم [27-28] ت ط ع .
(12) أخرجه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في كتاب [الاستقراض وأداء الديون]، من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، رقم [2212] ت ط ع .
(13) أخرجه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في كتاب [الحوالة] باب: مَن تكفّل عن ميت دَيْنًا فليس له أن يرجع ربه، قال الحسن من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، رقم [2133]، وأخرجه الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في كتاب [الفرائض] باب: مَن ترك مالاً فلورثته، من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، رقم [3040] ت ط ع .
(14) أخرجه الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في كتاب [الجمعة] باب: تخفيف الصلاة والخطبة، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه، وأخرجه النسائي -رحمه الله تعالى- في سننه في كتاب [صلاة العيدين] كيف الخطبة، رقم [1560] ت ط ع، واللفظ للنسائي «وكلُّ ضلالة في النار» .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمدُ لله حمدًا كثيرًا طيِّبًا مباركًا فيه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا .
أما بعد:
أيها الناس، فلقد أظلّكم شهر كريم وموسم عظيم، «أُعطِيت فيه هذه الأمة خمس خصال لم تعطهنّ أمة من الأمم قبلهم: خلوفُ فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك - وخلوفُ فم الصائم هي: الرائحة الكريهة التي تخرج من المعدة عند خلوِّها من الطعام، هذه الرائحة أطيب عند الله من ريح المسك - وتستغفر لهم الملائكةُ حتى يفطروا، ويُزيِّن الله كل يوم جنته فيقول: يوشك عبادي الصالحون أن يلقوا عنهم المؤونة والأذى ويصيروا إليك، وتصفّد فيه مردةُ الشياطين فلا يخلصون إلى ما كانوا يخلصون إليه في غيره، ويُغفر لهم في آخر ليلة منه»(1).
إنه شهر رمضان «مَن صامه إيمانًا واحتسابًا غفرَ الله له ما تقدّم من ذنبه»(2)،«ومَن قامه إيمانًا واحتسابًا غفَرَ الله له ما تقدم من ذنبه»(3)، «فيه تُفتح أبواب الجنة وتُغلق أبواب النيران»(4) .
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «قال الله عزَّ وجل: «كل عمل بن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به»، والصوم جُنَّة - يعني: وقاية من الإثم والنار - فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابَّه أحد أو قاتله فلْيقل: إني صائم، والذي نفس محمد بيده، لخلوفُ فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما: فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه»(5)، أما فرحه عند فطره فيفرح بنعمتين؛ أُولى هما: نعمة الله عليه بالصيام، وقد ضَلَّ عنه كثير من الناس، والثانية: نعمة الله عليه بإباحة الأكل والشرب والنكاح وما كان ممنوعًا منه في الصيام، وأما فرحه عند لقاء ربه: فيفرح بِما يجده من النّعيم المقيم في دار السلام .
وفي صحيح البخاري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن في الجنة بابًا يقال له الريان يدخل منه الصائمون لا يدخله غيرهم، فإذا دخلوا أُغلق ولم يُفتح لغيرهم»(6).
اللهم إنَّا نسألك أن تجعلنا من الداخلين فيه، اللهم اجعلنا من الداخلين فيه، اللهم اجعلنا من الداخلين فيه .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة لا تُرد دعوتهم: الصائم حتى يفطر، والإمام العادل ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام وتُفتح لها أبواب السماء ويقول الرب: وعزَّتي لأنصرنَّكِ ولو بعد حين»(7) .
عباد الله، اغتنموا شهر رمضان بكثرة العبادة، وكثرة الصلاة والقراءة، والإحسان إلى الخلق بالمال والبدن والعفو عنهم؛ فإن الله يحب المحسنين ويعفو عن العافين، واستكثروا فيه من «أربع خصال: اثنتان تُرضون بهما ربكم واثنتان لا غنى لكم عنهما، فأما اللتان تُرضون بهما ربكم: فشاهدة أن لا إله إلا الله والاستغفار، وأما اللتان لا غنى لكم عنهما: فتسألون الله الجنة وتستعيذون به من النار»(8).
عباد الله، احفظوا صيامكم عن النواقص والنواقض، احفظوه عن اللغو والرفث وقول الزور، وقول الزور: كلُّ قول محرم، وعمل الزور: كلُّ عمل محرم«فمَن لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه»(9)، ومَن لم يحفظ صيامه عمَّا حرّم الله فيوشك ألا يكون له من صيامه إلا الجوع والظمأ .
اجتنبوا الكذب والفحش والغش والخيانة، اجتنبوا الغِيبة والنّميمة، اجتنبوا الأغاني المحرمة واللهو المحرم فعلاً وسماعًا؛ فإن كل هذه من منقّصات الصيام .
قوموا بِما أوجب الله عليكم من الصلاة في أوقاتها وأداءها مع الجماعة، قوموا بالنصيحة للمؤمنين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإن الحكمة من الصيام التّقوى، يقول الله عزَّ وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة:183] .
اجتهدوا - أيها المسلمون - في قراءة القرآن فإنه كلام الله عزَّ وجل، لكم الشرف في تلاوته والأجر، ولكم بالعمل به الحياة الطيّبة وطيب الذكْر، «ولكم بكل حرف منه عشر حسنات»(10)، وإذا مررتم بآية سجدة فاسجدوا في أي ساعة من ليل أو نهار، كبِّروا عند السجود وقولوا في السجود: سبحان ربي الأعلى وادعوا بِما شئتم، إن تيسَّر لكم معرفة ما ورد في ذلك فادعوا به وإلا فادعوا بأي دعاء مناسب ثم قوموا من السجود بلا تكبير ولا سلام إلا إذا سجدتم في الصلاة فلا بُدّ من التكبير عند السجود وعند النهوض .
أما بعد: أيها المسلمون، فاحرصوا على تلاوة كتاب الله، واسمعوا إلى قول الله عزَّ وجل: ﴿الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ﴾ [إبراهيم:1-3] .
اللهم ارزقنا اغتنام الأوقات بالأعمال الصالحة، اللهم احفظنا عن الأعمال السيئة، اللهم وفِّقنا لِمَا تحبه وترضاه يا رب العالمين .
اللهم حقِّق لنا ما نرجوه من المصالح في الدنيا والآخرة، اللهم ﴿لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ﴾ [آل عمران: 8] .
والحمدُ لله رب العالمين، وأصلي وأسلِّم على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
الخطبة الثانية
الحمدُ لله حمدًا كثيرًا كما أمر، وأشكره وقد تأذن بالزيادة لِمَن شكر، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولو كَرِهَ ذلك مَن أشرك به وكفر، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله سيّد البشر، الشافع المشفّع في المحشر، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه خير صحب ومعشر، وعلى التابعين لهمبإحسان ما بدا الفجر وأنور، وسلَّم تسليمًا كثيرًا .
أما بعد:
فيا أيها الناس، اتَّقوا الله تعالى واعلموا أن للزكاة موضعًا لا يصحّ أن تصرف إلا فيه، فمَن صرف الزكاة في غير مصارفها التي فرضها الله - عزَّ وجل - فإن زكاته لا تقبل ولا تبرأ بها ذمته .
ألا وإن من المصارف التي فرضها الله أن تصرف إليها الزكاة مَن كانوا فقراء أو مساكين، وهم: الذين لا يجدون ما ينفقون على أنفسهم وأهليهم، فمَن كان لا يجد ما ينفق على نفسه وأهله أو كان يجد شيئًا لا يكفي فإنه يُعطى كفايته التي تكفيه هو وعائلته لمدة سنة؛ لإزالة فقرهم حتى يأتي الدور الذي تجب فيه الزكاة مرة أخرى، هكذا قال أهل العلم.
فإذا كان عند الإنسان راتب ولكن راتبه لا يفي بمتطلبات حياته هو وعائلته فإنه في هذه الحال يجوز أن يُعطى من الزكاة ما يكفيه؛ لأنه فقير محتاج، وإذا كان عند الإنسان راتب يكفيه للكسوة وللأكل والشرب وللسكنى ولكنه محتاج إلى الزواج فإنه يُعطى ما يتزوج به ولو كثر حتى لو بلغ أربعين ألفًا أو أكثر أو أقل فإنه يُعطى من الزكاة؛ لأن الحاجة إلى الزواج حاجة ملحّة، بل هي من الضروريات أحيانًا .
ومن المواضع التي تُصرف الزكاة إليها الغرماء، وهم: المدينون الذين في ذممهم أطلاب للناس ولا يستطيعون وفاءها، فهؤلاء يوفّى عنهم من الزكاة ولو كثرت ديونهم، ولكن كيف نوفّي عنهم ؟ هل نعطيهم المال ليدفعوه إلى من يطلبهم ؟ أم نذهب نحن إلى الطالب فنعطيه المال ؟
الأحسن أن نذهب نحن إلى الطالب ونعطيه المال ونقول له: هذا المال من دَيْنك الذي تطلبه زيدًا، وفي هذا الحال تبرأ ذمة المطلوب .
نعم، لو فرضنا أن المطلوب إنسان ثقة وصاحب دَيْن ويحب براءة ذمته من الدَّيْن وهو موثوق ويستحي أن نذهب نحن ونقضي دَيْنه ففي هذه الحال نعطيه؛ لأننا واثقون منه، واثقون من أن يدفع دَيْنه إلى غريمه الذي يطلبه، أما إذا كان الإنسان غير موثوق منه ونخشى إذا أعطيناه ليوفي أن يأكله ولا يوفي دَيْنه؛ فإن الأفضل والأولى أن نقضي دَيْنه نحن كما وصفنا آنفًا .
ومن أصناف أهل الزكاة الذين تدفع إليهم الجهاد في سبيل الله، فيجوز للإنسان أن يصرف زكاته في المجاهدين في سبيل الله، وهم: الذين يقاتلون لتكون كلمة الله هي العليا؛ لأن الله تعالى يقول في سورة التوبة: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾[التوبة: 60] .
ولا يجوز للإنسان إذا كان له دَيْن على فقير، لا يجوز له أن يسقط من دَيْنه ويحتسبه من الزكاة؛ لأن هذا إبراء لا إعطاء، والله - عزَّ وجل - أمرنا بالإعطاء، فقال لنبيِّه صلى الله عليه وسلم: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾[التوبة: 103]،وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ بن جبل وقد بعثه إلى اليمن: «أعْلِمْهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وتُردّ على فقرائهم»(11)، ومَن أبرأ غريمه من دَيْنه فإنه لم يعطه؛ وعلى هذا فيجب التنبّه لهذه المسألة؛ لأن كثيرًا من الناس يظن أن ذلك جائز وليس بجائز؛ أي: أنه لا يجوز إذا كان لك شخص تطلبه دَيْن وهو فقير، لا يجوز أن تُسقط عنه شيئًا من الدَّيْن وتحتسبه من الزكاة، ولا يجوز كذلك أن تقضي دَيْنًا عن ميت من الزكاة؛ لأن الزكاة إنما هي للأحياء وليست للأموات، والميت الذي خلفَ تركة يجب أن يقضى دَينه من تركته، فإن لم يخلف تركة فإن الله - سبحانه وتعالى - يقضيه عنه يوم القيامة إذا كان أخذ أموال الناس يريد أداءها لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَن أخذ أموال الناس يريد أداءها أدّى الله عنه، ومَن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله»(12)؛ ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قبل أن يفتح الله عليه الفتوح إذا أُتي بشخص ميّت عليه دَيْن ليس له وفاء كان لا يصلي عليه، ويقول للصحابة: صلوا على صاحبكم، فلما فتح الله عليه الفتوح وكثرت الأموال عنده صار إذا قُدّم إليه الميت عليه الدَّيْن يقول صلى الله عليه وسلم: «أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم»(13)، فيقضي دَيْنه من المال الذي أتاه الله، ولو كانت الزكاة تدفع في دَيْن الأموات لكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يدفعها في دَيْن هؤلاء الأموات الذين يموتون أو الذين ماتوا قبل أن يفتح الله عليه .
أيها المسلمون، إن بعض أهل العلم حكى إجماع أهل العلم على أنه لا يُقضى من الزكاة دَيْن على ميت، والإجماع في الواقع ليس بصحيح، بل هناك خلاف، ولكن جمهور أهل العلم ومنهم المذاهب الأربعة على أنه لا يُقضى دَيْن الميت من الزكاة، فلا تتهاونوا في هذا الأمر، ولا تخاطروا في زكاتكم، والميت أمره إلى الله عزَّ وجل، والأحياء أحق أن تُقضى ديونهم من الزكاة .
أيها المسلمون، اعلموا «أن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة في دين الله بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار»(14)، «فعليكم بالجماعة؛ فإن يد الله على الجماعة، ومَن شَذَّ شَذَّ في النار»، وأكْثروا من الصلاة والسلام على نبيّكم يعظم الله لكم بها أجرًا؛ فإن «مَن صلى عليه مرّة واحدة صلى الله عليه بها عشرًا» .
اللهم صلِّ وسلّم على عبدك ورسولك محمد، اللهم ارزقنا محبته واتّباعه ظاهرًا وباطنًا، اللهم توفَّنا على ملّته، اللهم احشرنا في زمرته، اللهم أسْقنا من حوضه، اللهم أدخلنا في شفاعته، اللهم اجمعنا به في جنّات النّعيم مع الذين أنعمت عليهم من النبيين، والصديقين، والشهداء والصالحين .
اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم انصرهم على عدوهم، اللهم مَن أرادنا بسوء فاجعل كيده في نحره، وشتِّت شمله، وفرِّق جمعه، واهزم جنده يا رب العالمين .
اللهم مَن أرادنا بسوء فأنزل به بأسَكَ الذي لا يرد عن القوم المجرمين يا رب العالمين .
اللهم اكتب عليه الذل إلى يوم القيامة مادام يريد السوء للمسلمين؛ إنك على كل شيء قدير .
اللهم أصْلح للمسلمين ولاة أمورهم، اللهم أصْلح للمسلمين ولاة أمورهم، اللهم أصْلح للمسلمين ولاة أمورهم صغيرهم وكبيرهم، اللهم وأصْلح لهم بطانة أمورهم، اللهم وأصْلح البطانة وأعنهم على تحمل الأمانة يا رب العالمين .
اللهم مَن كان من بطانة ولاة أمورنا غير مستقيم على شرعك ولا ناصح لولاتنا ولا لرعيتهم فأبعده عنهم يا رب العالمين .
اللهم أنْزِل في قلوبهم بغضه، وحبِّب إليهم البطانة الصالحة؛ إنك على كل شيء قدير، ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [الحشر: 10] .
عباد الله، ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ [النحل: 90-91]، واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نِعَمِهِ يزدكم، ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾ [العنكبوت: 45] .
-----------------------
(1) أخرجه الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- في مسنده، من حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- في باقي مسند المكثرين من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، رقم [7576]، قال شيخنا -رحمه الله تعالى- في كتابه [مجالس شهر رمضان] رواه البزار والبيهقي في كتاب [الثواب] وإسناده ضعيف جدًّا ولكن لبعضه شواهد صحيحة هذا في المجلس الأول .
(2) أخرجه الإمام البخاري رحمه الله تعالى، من حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- في كتاب [الإيمان] باب: صوم رمضان احتسابًا من الإيمان، رقم [37]، وأخرجه الإمام مسلم رحمه الله تعالى، من حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- في كتاب [صلاة المسافرين وقصرها] باب: الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح، رقم [1268] ت ط ع .
(3) أخرجه الإمام البخاري رحمه الله تعالى، من حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- في كتاب [صلاة التراويح] باب: فضل مَن قام رمضان، رقم [1869] ت ط ع .
(4) أخرجه الإمام البخاري رحمه الله تعالى، من حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- في كتاب [بدء الخلق] باب: صفة إبليس وجنوده، رقم [3035]، وأخرجه الإمام مسلم رحمه الله تعالى، من حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- في كتاب [الصيام] باب: فضل شهر رمضان، رقم [1793]، أخرجه الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- في مسنده في باقي مسند الأنصار، من حديث رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، رقم [22393]، وأخرجه الإمام النسائي -رحمه الله تعالى- في سننه، من حديث أبي هريرة وعتبة بن فرقد -رضي الله تعالى عنهما- في كتاب [الصيام] باب: فضل شهر رمضان، رقم [2202] ت ط ع .
(5) أخرجه الإمام البخاري رحمه الله تعالى، من حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- في كتاب [الصوم] باب: هل يقول: إني صائم إذا شتم، رقم [1771]، وأخرجه الإمام مسلم رحمه الله تعالى، من حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- في كتاب [الصيام] باب: فضل الصيام، رقم [1944] ت ط ع .
(6) أخرجه الإمام البخاري رحمه الله تعالى، من حديث سهل -رضي الله تعالى عنه- في كتاب [الصوم] باب: الريان للصائمين، رقم [1763]، وأخرجه الإمام مسلم رحمه الله تعالى، في كتاب [الصيام] باب: فضل الصيام، رقم [1947] ت ط ع .
(7) أخرجه الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- في مسنده، من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، رقم [7700]، وأخرجه الإمام الترمذي -رحمه الله تعالى- في سننه في كتاب [الدعوات]، من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، باب: في العفو والعافية، رقم [3522]، وأخرجه ابن ماجة -رحمه الله تعالى- في سننه، في كتاب [الصيام] في باب: في الصائم لا ترد دعوته، رقم [1742] ت ط ع .
(8) أخرجه ابن خزيمة -رحمه الله تعالى- في صحيحه، الجزء [3] الصفحة [191]، من حديث سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه، رقم [1887]، وأخرجه البيهقي -رحمه الله تعالى- في كتاب [شعب الإيمان] الجزء [3] الصفحة [305]، وأخرجه الحارث في مسنده [زوائد الهيثمي] الجزء [1] الصفحة [412] ت م ش .
(9) أخرجه الإمام البخاري رحمه الله تعالى، من حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- في كتاب [الأدب] باب: قوله تعالى: ﴿وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾[الحج: 30]، رقم [5597] ت ط ع .
(10) أخرجه الترمذي -رحمه الله تعالى- في سننه، من حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله تعالى عنهما- في كتاب [فضائل القرآن] باب: ما جاء فيمَن قرأ حرفًا من القرآن ما له من الأجر، رقم [2835]، وأخرجه الدارمي رحمه الله تعالى، من حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله تعالى عنه- في كتاب [فضائل القرآن] باب: فضل مَن قرأ القرآن، رقم [3181] ت ط ع .
(11) أخرجه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في كتاب [الزكاة] باب: وجوب الزكاة، رقم [1308]، وأخرجه الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في كتاب [الإيمان] باب: الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام، من حديث ابن عباس في قصة معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنهم، رقم [27-28] ت ط ع .
(12) أخرجه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في كتاب [الاستقراض وأداء الديون]، من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، رقم [2212] ت ط ع .
(13) أخرجه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في كتاب [الحوالة] باب: مَن تكفّل عن ميت دَيْنًا فليس له أن يرجع ربه، قال الحسن من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، رقم [2133]، وأخرجه الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في كتاب [الفرائض] باب: مَن ترك مالاً فلورثته، من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، رقم [3040] ت ط ع .
(14) أخرجه الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في كتاب [الجمعة] باب: تخفيف الصلاة والخطبة، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه، وأخرجه النسائي -رحمه الله تعالى- في سننه في كتاب [صلاة العيدين] كيف الخطبة، رقم [1560] ت ط ع، واللفظ للنسائي «وكلُّ ضلالة في النار» .