محمد الفاريابي
09-21-2011, 10:41 PM
الشيخ محمد صالح العثيمين
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضلّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا .
أما بعد:
أيها الناس، اتّقوا الله تعالى واعرفوا حدود ما أنزل الله على رسوله، واعرفوا عظمةَ ما عظَّمه الله ورسوله من زمان ومكان؛ لتقوموا بِما يجب عليكم من تعظيم ما عظَّمه الله ورسوله، فقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ما من أيام العمل الصالح فيهنّ أحبّ إلى الله من هذه الأيام العشر»(1)؛ يعني: عشر ذي الحجة التي يقع فيها أكثر أعمال الحجاج إلى بيت الله الحرام، فهذا زمن أداء المناسك أحبّ الأيام التي تؤدّى فيها الأعمال الصالحة إلى الله عزَّ وجل، العمل الصالح فيهنّ أحب إلى الله تعالى من العمل في أي زمن آخر، فهذا تعظيمٌ لزمان أداء مناسك الحج، أما تعظيم مكان أداء مناسك الحج فاستمعوا قول الله عزَّ وجل: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ [البقرة: 125]، وقال الله عزَّ وجل: ﴿جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماًَ لِّلنَّاسِ﴾ [المائدة: 97]، فالبيت مثابة الناس يثوبون إليه من كل وجه ومن كل فجٍّ عميق، يؤدّون مناسك الحج ويثوبون إليه بالتوجه إليه في صلواتهم، والبيت مكان أمن الناس يأمنون فيه على دمائهم وأموالهم، ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ﴾ [العنكبوت: 67] .
إن البيت مكان أمْن حتى للجماد الذي لا يُحسّ إحساس بني آدم، إنه لا يُقطع شجره ولا يُحشّ حشيشه ولا تَحِل ساقطته إلا لمنشد، مَن وجد في الأرض دراهم أو حُلِيًّا أو متاعًا فإنه لا يأخذه إلا إذا كان ملتزمًا وملْزِمًا نفسه بأن يُنشد عنه مدى الدهر وإلا فلا يَحِل له أن يأخذه من أرضه، لماذا ؟ ليبقى في أرضه حتى يجده صاحبه .
عباد الله، ما أعظم هذا الأمن حتى الأشجار والحشائش والأموال آمنة فيه، البيت الحرام قيام للناس تقوم به وتقوم فيه مصالح دينهم ودنياهم، ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ﴾ [الحج: 27-28] .
هذا البيت الحرام الآمن هو البيت الذي أضافه الله تعالى إلى نفسه في كتابه ﴿وَطَهِّرْ بَيْتِيَ﴾ [الحج: 26]، أضافه الله إلى نفسه في كتابه تشريفًا له وتعظيمًا وعناية وحماية؛ ولهذا ما هتك حرمته طاغٍ إلا فتكَ الله به؛ ومن أجل ذلك كان من أسماء مكة: بكّة، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ﴾ [آل عمران: 96]، قال عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما: سُمِّيت بذلك؛ لأنها تَبُكُّ أعناقَ الجبابرة، أي: تدكُّها فلم يقصدها جبارٌ بسوء إلا قصمه الله، هكذا نقله البغوي في تفسيره، واقرؤوا شاهدًا لذلك إن شئتم، اقرؤوا سورة الفيل، سورةً بأكملها أنزلها الله تعالى في بيان عقوبة مَنْ أراد بيته بسوء، ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ﴾ [الفيل: 1- 5] .
هذا البيت الذي حرَّمه الله تعالى يوم خلَقَ السماوات والأرض وفرضَ على عباده أن يحجّوا إليه، فرض على كل إنسان قادر أن يحجّ إليه وفرَضَ على العباد عمومًا أن يحجوا إليه كل سنة كما ذهب إلى ذلك كثير من أهل العلم أن حجّ البيت فرضُ كفاية كل سنة على المسلمين، أما على الأعيان فإنه فرض مرّة واحدة كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وفرض الله على عباده أن يستقبلوه في صلواتهم في أي مكان كانوا وفي أي زمان كانوا، قال الله تعالى: ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ [البقرة: 150]، حتى أموات المسلمين يُدفنون ووجوههم نحو الكعبة .
أيها المسلمون، هذا البيت الذي حرّم الله القتال فيه إلا دفاعًا عن النفس، قال الله عزَّ جل: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ﴾ [البقرة: 217]، وقال عزَّ وجل: ﴿وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ﴾ [البقرة: 191] .
يقول عزَّ وجل: ﴿وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ﴾ [البقرة: 191] .
أيها الناس، هذا البيت الذي حرّم الله القتال فيه إلا دفاعًا عن النفس، قال الله تعالى: ﴿وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ﴾ [البقرة: 191] .
فتأمَّل أيها المسلم، تأمّل كيف فرَّق الله - عزَّ وجل - بين الجملة الشرطية وبين فعل الشرط وجوابه فقال: ﴿فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ﴾ ولم يقل: فقاتلوهم بل قال: فاقتلوهم وهو أبلغ وأعظم .
وعن أبي شريح الخزاعي - رضي الله عنه - أنه قال لعمرو بن سعيد بن العاص وهو يبعث الجيوش إلى مكة، قال له أبو شُريح الخزاعي رضي الله عنه: ائذن لي - أيها الأمير - أن أُحدثك قولاً قام به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الغَد يوم الفتح؛ يعني: فتح مكة، فَسَمِعَتْهُ أذناي ووعاه قلبي وأبصرته عيناي حين تكلّم به أنه صلى الله عليه وسلم حَمِدَ الله وأثنى عليه ثم قال: «إن مكة حرَّمها الله يوم خلقَ السماوات والأرض ولم يحرّمها الناس، فلا يَحِل لامرئٍ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفكَ بها دمًا ولا يعضد بها شجرة فإن أحدٌ ترخَّص بقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقولوا: إن الله أذِن لرسوله ولم يأذن لكم وإنما أذِن لي ساعة من نهار وقد عادت حرمتُها اليوم كحرمتها بالأمس فلْيبلّغ الشاهد الغائب»(2)، وفي حديث أبي هريرة وابن عباس - رضي الله عنهم - قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يُعضد شوكه ولا يُنفّر صيده ولا يُختلى خلاه»(3) بل ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه منع من حمل السلاح بمكة؛ وذلك لأجل أن يستتبّ الأمر ولا يحصل في القلوب أدنى رعب إذا شاهدوا السلاح، اللهم إلا أن يكون حمل السلاح حماية للأمن فلا بأس به، قال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: سمعتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا يَحل لأحدكم أن يحمل بمكة السلاح»(4)؛ وما ذاك - أيها المسلمون - إلا ليستتب الأمن في ذلك البلد الأمين ويزول الخوف ويشتغل الناس بِما جاؤوا من أجله وهو حق الله - عزَّ وجل - الذي أوجبه على عباده في قوله: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْت﴾[آل عمران: 97]، فحجُّ البيت لله - عزَّ وجل - على الناس ليس لأحد غيره، فلا يُقام فيه سوى ما يكون عبادة لله - عزَّ وجل - وإقامة لذكره بالطواف بالبيت وبالصفا والمروة ورمي الجمار وغيرها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما جُعل الطواف بالبيت وبالصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكْر الله»(5) .
أيها الناس، إن حمل السلاح عند البيت الحرام وفي الشهر الحرام على قاصد البيت الحرام وحارس أمنه إنه لمضادَّة لله ورسوله ومنافٍ للإيمان وإخلال بالأمان الذي جعله الله من خصائص هذا البيت، وإنه لَمُوجب للعقوبة في الدنيا وفي الآخرة، قال الله عزَّ وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَاناً﴾ [المائدة: 2]، وقال عزَّ وجل: ﴿يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ [البقرة: 217]، وخطَبَ النبي - صلى الله عليه وسلم - في مِنى يوم النحر فقال: «إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلقون ربكم، ألا هل بلّغت ؟ قالوا: نَعم، قال: «اللهم فاشهد، فلْيبلّغ الشاهد الغائب، فربَّ مبلغ أوعى من سامع»(6) .
أيها المسلمون، إن الهمَّ بالسيئة بل إن الهمَّ بالإفساد في الحرم أو الإلحاد فيه موجب للعذاب الأليم وإن لم يفعل الإنسان ما هَمَّ به، قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الحج: 25] ، قال ابن عباس رضي الله عنهما: هو أن تستحل من الحرم ما حرَّم الله عليك من إساءة أو قتل فتظلم مَن لا يظلمك وتقتل مَن لا يقتلك، فإذا فعل ذلك فقد وجب له العذاب الأليم .
أقول: بل الهمُّ بذلك أيضًا موجبٌ للعذاب الأليم كما يُفيده قوله: ﴿وَمَنْ يُرِدْ﴾ فعلّق الحكم بالإرادة فكيف بالفعل ؟ ولهذا قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «لو أن رجلاً أراد فيه بإلحاد بظلم وهو بعَدَن أبْيَن لأذَاقَه الله من العذاب الأليم»(7) .
اللهم إنَّا نسألك في مقامنا هذا ونحن في انتظار فريضة من فرائضك أن تُذيق مَن أراد هذا الحرام بسوءٍ من العذاب الأليم، اللهم أذِقْه من العذاب الأليم، اللهم أذِقْه من العذاب الأليم، اللهم أَنْزل به بأسَك الذي لا يُرد عن القوم المجرمين، اللهم أَنْزل به بأسَك الذي لا يُردّ عن القوم المجرمين، اللهم أَفْسد عليه أمره، اللهم اشدد وطأتك عليه، اللهم اهزم جنده، اللهم فرِّق جمعه، اللهم شتِّت شمله، اللهم اجعله نكالاً لِمَا بين يديه وما خلفه، اللهم اجعله عبرة للعالَمين إلى يوم الدين، اللهم أذِقْه العذاب الأليم، اللهم انصر المسلمين عليه في كل مكان يا رب العالمين؛ إنك على كل شيءٍ قدير .
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم؛ إنك حميدٌ مجيد .
اللهم بارِك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم؛ إنك حميدٌ مجيد .
الخطبة الثانية
الحمدُ لله على إحسانه، وأشكره على توفيقه وامتنانه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشانه، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله الذي أيَّده الله ببرهانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأنصاره وأعوانه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا .
أما بعد:
أيها الناس، اتّقوا الله تعالى .
أيها المسلمون، أيها الحجاج الذين منَّ الله عليهم بمغفرة الذنوب وتكفير السيئات، إياكم أن ترجعوا بعد حجّكم إلى المعاصي؛ فإن السيئات قد يذهبْنَ الحسنات كما أن الحسنات يذهبْنَ السيئات، مَنْ مَنَّ الله عليه بمغفرة الذنوب وصقل قلبه من معائبها ومصائبها فلْيحمد الله على ذلك ولْيستمر في عبادة الله عزَّ وجل، ولْيصدُق الإنابة إلى الله، ولْيكن دائمًا مع الله تعالى بذكره في قلبه ولسانه وجوارحه؛ فإن ﴿اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ﴾ [النحل: 128] .
أيها المسلمون، إن الإنسان إذا تاب إلى الله توبة نصوحًا فإن التوبة تَجُبُّ ما قبلها وإن عظمت الذنوب كما قال الله تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [الزمر: 53 - 58] .
أيها المسلمون، إن الله تعالى بنعمته قد أبانَ لنا الطريق وأوضحه، وبيَّن لنا طريق الخير وطريق الشر، ودعانا إلى الخير ونهانا عن الشر وحذّرنا، فأين القلوب العاقلة ؟ وأين الآذان الواعية ؟ وأين الأعين المبصرة ؟
أسأل الله تعالى أن يرزقني وإياكم قلبًا واعيًا وأذنًا صاغيةً للحق وعينًا مبصرةً له، وأن يوفِّقنا لِمَا يحب ويرضاه؛ إنه جوادٌ كريم .
واعلموا أن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشرّ الأمور محدثاتها، وكل محدثة في دين الله بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، فعليكم بالجماعة؛ فإن يد الله على الجماعة، ومَنْ شذَّ شذَّ في النار، واعلموا أن الله أمركم بأمر بدأه بنفسه فقال جلَّ من قائل عليمًا: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾ [الأحزاب: 56] .
فسمعًا لك اللهم ربنا خالقنا وطاعةً لك .
اللهم صلِّ وسلِّم على نبيّك محمد الذي بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة .
اللهم صلِّ وسلِّم عليه، اللهم ارزقنا محبّته واتّباعه ظاهرًا وباطنًا، اللهم توفَّنا على ملّته، اللهم احشرنا في زمرته، اللهم أسْقنا من حوضه، اللهم أدخلنا في شفاعته، اللهم اجمعنا به في جنّات النّعيم مع الذين أنعمت عليهم من النبيين، والصديقين، والشهداء والصالحين .
اللهم ارضَ عن خلفائه الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي أفضل أتباع المرسلين، اللهم ارضَ عن أولاده الغُرّ الميامين، وعن زوجاته أمهات المؤمنين، وعن الصحابة أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم ارضَ عنَّا معهم بِمَنِّك وكرمك يا رب العالمين .
اللهم انصر المسلمين المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك بالعلْم والبيان وبالسلاح والسِّنان يا رب العالمين، اللهم انصرهم على عدوهم، اللهم اهزم كل عدوٍّ للإسلام وإن تلبَّس به، اللهم اهزم كل عدوٍّ للإسلام وإن تلبَّس به، اللهم اهزم كل عدوٍّ للإسلام وإن تلبَّس به يا رب العالمين، وإن ادعاه ظاهرًا وقلبه مُنْطَوٍ على الكفر؛ إنك على كل شيءٍ قدير .
اللهم اهزم أعداء المسلمين في كل مكان، اللهم أَلبسهم ذُلَّ العار والخزي والدمار؛ إنك على كل شيءٍ قدير، ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [الحشر: 10] .
عباد الله، ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ [النحل: 90-91]، واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نِعَمِهِ يزِدْكُم، ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾ [العنكبوت: 45] .
-------------------------
(1) أخرجه الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- في مسنده برقم [1867]، وأخرجه الدارمي في سننه في كتاب [الصوم] رقم [1708]، وأخرجه الترمذي في سننه في كتاب [الصوم] رقم [688] من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وأخرجه أبو داوود في سننه في كتاب [الصوم] رقم [2082] من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وأخرجه ابن ماجة في سننه في كتاب [الصيام] رقم [1717] من حديث ابن عباس رضي الله عنهما .
(2) أخرجه البخاري في كتاب [الحج] رقم [1701] من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وأخرجه مسلم في كتاب [الحج] رقم [2413] من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما .
(3) أخرجه البخاري في كتاب [الحج] رقم [1703] من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وأخرجه مسلم في كتاب [الحج] رقم [2412] من حديث ابن عباس رضي الله عنهما .
(4) أخرجه الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في كتاب [الحج] رقم [2416] من حديث جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه، ت ط ع .
(5) أخرجه الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- في مسنده، من حديث أم المؤمنين أم عبد الله رضي الله تعالى عنها، رقم [23415]، وأخرجه أبو داوود في سننه في كتاب [المناسك] رقم [1612] من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، وأخرجه الدارمي في سننه في كتاب [المناسك] رقم [1780] ت ط ع .
(6) أخرجه البخاري في كتاب [الحج] رقم [1625] من حديث أبي بكرة رضي الله عنه، وأخرجه الإمام أحمد في مسنده، رقم [19594] من حديث أبي بكرة رضي الله عنه .
(7) أخرجه الإمام أحمد في مسنده برقم [3864] من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأيضًا برقم [4089] ت ط ع.
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضلّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا .
أما بعد:
أيها الناس، اتّقوا الله تعالى واعرفوا حدود ما أنزل الله على رسوله، واعرفوا عظمةَ ما عظَّمه الله ورسوله من زمان ومكان؛ لتقوموا بِما يجب عليكم من تعظيم ما عظَّمه الله ورسوله، فقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ما من أيام العمل الصالح فيهنّ أحبّ إلى الله من هذه الأيام العشر»(1)؛ يعني: عشر ذي الحجة التي يقع فيها أكثر أعمال الحجاج إلى بيت الله الحرام، فهذا زمن أداء المناسك أحبّ الأيام التي تؤدّى فيها الأعمال الصالحة إلى الله عزَّ وجل، العمل الصالح فيهنّ أحب إلى الله تعالى من العمل في أي زمن آخر، فهذا تعظيمٌ لزمان أداء مناسك الحج، أما تعظيم مكان أداء مناسك الحج فاستمعوا قول الله عزَّ وجل: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ [البقرة: 125]، وقال الله عزَّ وجل: ﴿جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماًَ لِّلنَّاسِ﴾ [المائدة: 97]، فالبيت مثابة الناس يثوبون إليه من كل وجه ومن كل فجٍّ عميق، يؤدّون مناسك الحج ويثوبون إليه بالتوجه إليه في صلواتهم، والبيت مكان أمن الناس يأمنون فيه على دمائهم وأموالهم، ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ﴾ [العنكبوت: 67] .
إن البيت مكان أمْن حتى للجماد الذي لا يُحسّ إحساس بني آدم، إنه لا يُقطع شجره ولا يُحشّ حشيشه ولا تَحِل ساقطته إلا لمنشد، مَن وجد في الأرض دراهم أو حُلِيًّا أو متاعًا فإنه لا يأخذه إلا إذا كان ملتزمًا وملْزِمًا نفسه بأن يُنشد عنه مدى الدهر وإلا فلا يَحِل له أن يأخذه من أرضه، لماذا ؟ ليبقى في أرضه حتى يجده صاحبه .
عباد الله، ما أعظم هذا الأمن حتى الأشجار والحشائش والأموال آمنة فيه، البيت الحرام قيام للناس تقوم به وتقوم فيه مصالح دينهم ودنياهم، ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ﴾ [الحج: 27-28] .
هذا البيت الحرام الآمن هو البيت الذي أضافه الله تعالى إلى نفسه في كتابه ﴿وَطَهِّرْ بَيْتِيَ﴾ [الحج: 26]، أضافه الله إلى نفسه في كتابه تشريفًا له وتعظيمًا وعناية وحماية؛ ولهذا ما هتك حرمته طاغٍ إلا فتكَ الله به؛ ومن أجل ذلك كان من أسماء مكة: بكّة، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ﴾ [آل عمران: 96]، قال عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما: سُمِّيت بذلك؛ لأنها تَبُكُّ أعناقَ الجبابرة، أي: تدكُّها فلم يقصدها جبارٌ بسوء إلا قصمه الله، هكذا نقله البغوي في تفسيره، واقرؤوا شاهدًا لذلك إن شئتم، اقرؤوا سورة الفيل، سورةً بأكملها أنزلها الله تعالى في بيان عقوبة مَنْ أراد بيته بسوء، ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ﴾ [الفيل: 1- 5] .
هذا البيت الذي حرَّمه الله تعالى يوم خلَقَ السماوات والأرض وفرضَ على عباده أن يحجّوا إليه، فرض على كل إنسان قادر أن يحجّ إليه وفرَضَ على العباد عمومًا أن يحجوا إليه كل سنة كما ذهب إلى ذلك كثير من أهل العلم أن حجّ البيت فرضُ كفاية كل سنة على المسلمين، أما على الأعيان فإنه فرض مرّة واحدة كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وفرض الله على عباده أن يستقبلوه في صلواتهم في أي مكان كانوا وفي أي زمان كانوا، قال الله تعالى: ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ [البقرة: 150]، حتى أموات المسلمين يُدفنون ووجوههم نحو الكعبة .
أيها المسلمون، هذا البيت الذي حرّم الله القتال فيه إلا دفاعًا عن النفس، قال الله عزَّ جل: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ﴾ [البقرة: 217]، وقال عزَّ وجل: ﴿وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ﴾ [البقرة: 191] .
يقول عزَّ وجل: ﴿وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ﴾ [البقرة: 191] .
أيها الناس، هذا البيت الذي حرّم الله القتال فيه إلا دفاعًا عن النفس، قال الله تعالى: ﴿وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ﴾ [البقرة: 191] .
فتأمَّل أيها المسلم، تأمّل كيف فرَّق الله - عزَّ وجل - بين الجملة الشرطية وبين فعل الشرط وجوابه فقال: ﴿فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ﴾ ولم يقل: فقاتلوهم بل قال: فاقتلوهم وهو أبلغ وأعظم .
وعن أبي شريح الخزاعي - رضي الله عنه - أنه قال لعمرو بن سعيد بن العاص وهو يبعث الجيوش إلى مكة، قال له أبو شُريح الخزاعي رضي الله عنه: ائذن لي - أيها الأمير - أن أُحدثك قولاً قام به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الغَد يوم الفتح؛ يعني: فتح مكة، فَسَمِعَتْهُ أذناي ووعاه قلبي وأبصرته عيناي حين تكلّم به أنه صلى الله عليه وسلم حَمِدَ الله وأثنى عليه ثم قال: «إن مكة حرَّمها الله يوم خلقَ السماوات والأرض ولم يحرّمها الناس، فلا يَحِل لامرئٍ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفكَ بها دمًا ولا يعضد بها شجرة فإن أحدٌ ترخَّص بقتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقولوا: إن الله أذِن لرسوله ولم يأذن لكم وإنما أذِن لي ساعة من نهار وقد عادت حرمتُها اليوم كحرمتها بالأمس فلْيبلّغ الشاهد الغائب»(2)، وفي حديث أبي هريرة وابن عباس - رضي الله عنهم - قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة لا يُعضد شوكه ولا يُنفّر صيده ولا يُختلى خلاه»(3) بل ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه منع من حمل السلاح بمكة؛ وذلك لأجل أن يستتبّ الأمر ولا يحصل في القلوب أدنى رعب إذا شاهدوا السلاح، اللهم إلا أن يكون حمل السلاح حماية للأمن فلا بأس به، قال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: سمعتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا يَحل لأحدكم أن يحمل بمكة السلاح»(4)؛ وما ذاك - أيها المسلمون - إلا ليستتب الأمن في ذلك البلد الأمين ويزول الخوف ويشتغل الناس بِما جاؤوا من أجله وهو حق الله - عزَّ وجل - الذي أوجبه على عباده في قوله: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْت﴾[آل عمران: 97]، فحجُّ البيت لله - عزَّ وجل - على الناس ليس لأحد غيره، فلا يُقام فيه سوى ما يكون عبادة لله - عزَّ وجل - وإقامة لذكره بالطواف بالبيت وبالصفا والمروة ورمي الجمار وغيرها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما جُعل الطواف بالبيت وبالصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكْر الله»(5) .
أيها الناس، إن حمل السلاح عند البيت الحرام وفي الشهر الحرام على قاصد البيت الحرام وحارس أمنه إنه لمضادَّة لله ورسوله ومنافٍ للإيمان وإخلال بالأمان الذي جعله الله من خصائص هذا البيت، وإنه لَمُوجب للعقوبة في الدنيا وفي الآخرة، قال الله عزَّ وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَاناً﴾ [المائدة: 2]، وقال عزَّ وجل: ﴿يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾ [البقرة: 217]، وخطَبَ النبي - صلى الله عليه وسلم - في مِنى يوم النحر فقال: «إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلقون ربكم، ألا هل بلّغت ؟ قالوا: نَعم، قال: «اللهم فاشهد، فلْيبلّغ الشاهد الغائب، فربَّ مبلغ أوعى من سامع»(6) .
أيها المسلمون، إن الهمَّ بالسيئة بل إن الهمَّ بالإفساد في الحرم أو الإلحاد فيه موجب للعذاب الأليم وإن لم يفعل الإنسان ما هَمَّ به، قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الحج: 25] ، قال ابن عباس رضي الله عنهما: هو أن تستحل من الحرم ما حرَّم الله عليك من إساءة أو قتل فتظلم مَن لا يظلمك وتقتل مَن لا يقتلك، فإذا فعل ذلك فقد وجب له العذاب الأليم .
أقول: بل الهمُّ بذلك أيضًا موجبٌ للعذاب الأليم كما يُفيده قوله: ﴿وَمَنْ يُرِدْ﴾ فعلّق الحكم بالإرادة فكيف بالفعل ؟ ولهذا قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «لو أن رجلاً أراد فيه بإلحاد بظلم وهو بعَدَن أبْيَن لأذَاقَه الله من العذاب الأليم»(7) .
اللهم إنَّا نسألك في مقامنا هذا ونحن في انتظار فريضة من فرائضك أن تُذيق مَن أراد هذا الحرام بسوءٍ من العذاب الأليم، اللهم أذِقْه من العذاب الأليم، اللهم أذِقْه من العذاب الأليم، اللهم أَنْزل به بأسَك الذي لا يُرد عن القوم المجرمين، اللهم أَنْزل به بأسَك الذي لا يُردّ عن القوم المجرمين، اللهم أَفْسد عليه أمره، اللهم اشدد وطأتك عليه، اللهم اهزم جنده، اللهم فرِّق جمعه، اللهم شتِّت شمله، اللهم اجعله نكالاً لِمَا بين يديه وما خلفه، اللهم اجعله عبرة للعالَمين إلى يوم الدين، اللهم أذِقْه العذاب الأليم، اللهم انصر المسلمين عليه في كل مكان يا رب العالمين؛ إنك على كل شيءٍ قدير .
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم؛ إنك حميدٌ مجيد .
اللهم بارِك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم؛ إنك حميدٌ مجيد .
الخطبة الثانية
الحمدُ لله على إحسانه، وأشكره على توفيقه وامتنانه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشانه، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله الذي أيَّده الله ببرهانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأنصاره وأعوانه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا .
أما بعد:
أيها الناس، اتّقوا الله تعالى .
أيها المسلمون، أيها الحجاج الذين منَّ الله عليهم بمغفرة الذنوب وتكفير السيئات، إياكم أن ترجعوا بعد حجّكم إلى المعاصي؛ فإن السيئات قد يذهبْنَ الحسنات كما أن الحسنات يذهبْنَ السيئات، مَنْ مَنَّ الله عليه بمغفرة الذنوب وصقل قلبه من معائبها ومصائبها فلْيحمد الله على ذلك ولْيستمر في عبادة الله عزَّ وجل، ولْيصدُق الإنابة إلى الله، ولْيكن دائمًا مع الله تعالى بذكره في قلبه ولسانه وجوارحه؛ فإن ﴿اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ﴾ [النحل: 128] .
أيها المسلمون، إن الإنسان إذا تاب إلى الله توبة نصوحًا فإن التوبة تَجُبُّ ما قبلها وإن عظمت الذنوب كما قال الله تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [الزمر: 53 - 58] .
أيها المسلمون، إن الله تعالى بنعمته قد أبانَ لنا الطريق وأوضحه، وبيَّن لنا طريق الخير وطريق الشر، ودعانا إلى الخير ونهانا عن الشر وحذّرنا، فأين القلوب العاقلة ؟ وأين الآذان الواعية ؟ وأين الأعين المبصرة ؟
أسأل الله تعالى أن يرزقني وإياكم قلبًا واعيًا وأذنًا صاغيةً للحق وعينًا مبصرةً له، وأن يوفِّقنا لِمَا يحب ويرضاه؛ إنه جوادٌ كريم .
واعلموا أن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشرّ الأمور محدثاتها، وكل محدثة في دين الله بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، فعليكم بالجماعة؛ فإن يد الله على الجماعة، ومَنْ شذَّ شذَّ في النار، واعلموا أن الله أمركم بأمر بدأه بنفسه فقال جلَّ من قائل عليمًا: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾ [الأحزاب: 56] .
فسمعًا لك اللهم ربنا خالقنا وطاعةً لك .
اللهم صلِّ وسلِّم على نبيّك محمد الذي بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة .
اللهم صلِّ وسلِّم عليه، اللهم ارزقنا محبّته واتّباعه ظاهرًا وباطنًا، اللهم توفَّنا على ملّته، اللهم احشرنا في زمرته، اللهم أسْقنا من حوضه، اللهم أدخلنا في شفاعته، اللهم اجمعنا به في جنّات النّعيم مع الذين أنعمت عليهم من النبيين، والصديقين، والشهداء والصالحين .
اللهم ارضَ عن خلفائه الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي أفضل أتباع المرسلين، اللهم ارضَ عن أولاده الغُرّ الميامين، وعن زوجاته أمهات المؤمنين، وعن الصحابة أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم ارضَ عنَّا معهم بِمَنِّك وكرمك يا رب العالمين .
اللهم انصر المسلمين المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك بالعلْم والبيان وبالسلاح والسِّنان يا رب العالمين، اللهم انصرهم على عدوهم، اللهم اهزم كل عدوٍّ للإسلام وإن تلبَّس به، اللهم اهزم كل عدوٍّ للإسلام وإن تلبَّس به، اللهم اهزم كل عدوٍّ للإسلام وإن تلبَّس به يا رب العالمين، وإن ادعاه ظاهرًا وقلبه مُنْطَوٍ على الكفر؛ إنك على كل شيءٍ قدير .
اللهم اهزم أعداء المسلمين في كل مكان، اللهم أَلبسهم ذُلَّ العار والخزي والدمار؛ إنك على كل شيءٍ قدير، ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [الحشر: 10] .
عباد الله، ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ [النحل: 90-91]، واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نِعَمِهِ يزِدْكُم، ﴿وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾ [العنكبوت: 45] .
-------------------------
(1) أخرجه الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- في مسنده برقم [1867]، وأخرجه الدارمي في سننه في كتاب [الصوم] رقم [1708]، وأخرجه الترمذي في سننه في كتاب [الصوم] رقم [688] من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وأخرجه أبو داوود في سننه في كتاب [الصوم] رقم [2082] من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وأخرجه ابن ماجة في سننه في كتاب [الصيام] رقم [1717] من حديث ابن عباس رضي الله عنهما .
(2) أخرجه البخاري في كتاب [الحج] رقم [1701] من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وأخرجه مسلم في كتاب [الحج] رقم [2413] من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما .
(3) أخرجه البخاري في كتاب [الحج] رقم [1703] من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وأخرجه مسلم في كتاب [الحج] رقم [2412] من حديث ابن عباس رضي الله عنهما .
(4) أخرجه الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في كتاب [الحج] رقم [2416] من حديث جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه، ت ط ع .
(5) أخرجه الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- في مسنده، من حديث أم المؤمنين أم عبد الله رضي الله تعالى عنها، رقم [23415]، وأخرجه أبو داوود في سننه في كتاب [المناسك] رقم [1612] من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، وأخرجه الدارمي في سننه في كتاب [المناسك] رقم [1780] ت ط ع .
(6) أخرجه البخاري في كتاب [الحج] رقم [1625] من حديث أبي بكرة رضي الله عنه، وأخرجه الإمام أحمد في مسنده، رقم [19594] من حديث أبي بكرة رضي الله عنه .
(7) أخرجه الإمام أحمد في مسنده برقم [3864] من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأيضًا برقم [4089] ت ط ع.