محمد الفاريابي
09-21-2011, 11:18 PM
الشيخ محمد صالح العثيمين رحمه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمدُ لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِلّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسان، وسلَّم تسليمًا .
أما بعد:
أيها الناس، اتَّقوا الله تعالى واعلموا أن الله بحكمته ورحمته فرضَ عليكم فرائض فلا تضيّعوها، وحَدَّ حدودًا فلا تعتدوها، فرضَ عليكم تعظيم شعائره وحرماته، ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الحج: 32]، ﴿وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ﴾ [الحج: 30]، ألا وإن من شعائر الله: مناسك الحج والعمرة، ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ﴾ [البقرة: 158]، فعظّموا هذه المناسك فإنها عبادة عظيمة ونوع من الجهاد في سبيل الله .
سألت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل على النساء جهاد ؟ قال: عليهنّ جهاد لا قتالَ فيه: الحجُ والعمرة»(1).
عظّموا هذه المناسك بالقيام بِما أوجب الله عليكم والبعد عمّا حرّم الله عليكم، ﴿فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ﴾ [البقرة: 197] .
عظّموا هذه المناسك بالإخلاص فيها لله تعالى والاتّباع لنبيّكم محمد صلى الله عليه وسلم، قوموا بِما أوجب الله عليكم من الطهارة والصلاة جماعةًً في أوقاتها والنصح للمسلمين، واجتنبوا ما حرّم الله عليكم من المحرمات العامة من الفسوق بجميع أنواعه، فاجتنبوا الكذب، والغِش، والخيانة، والغِيبة، والنّميمة، والاستهزاء بالمسلمين والسخرية منهم، واجتنبوا الاستماع إلى المعازف وإلى الأغاني المحرمة، واجتنبوا التدخين - وهو: شرب الدخان - فإنه حرام لِمَا فيه من ضرر الأبدان وضياع الأموال، واعلموا أن المدخنين الذين يدخنون وهم مُحْرِمون سوف ينقص نسكهم ولا يحصل لهم ما وعد به النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: «مَن حجَّ فلم يرفث ولم يفسق خرجَ كيوم ولدته أمه»(2)؛ لأن هؤلاء المدخنين قد فسقوا بإصرارهم على الدخان فإنه مُحرّم والإصرار على صغائر الذنوب يجعل الإنسان فاسقًا لا عادلاً .
واجتنبوا ما حرّم الله عليكم تحريمًا خاصًّا بسبب الإحرام وهي محظورات الإحرام، فاجتنبوا الرفث وهو: الجِماع ومقدماته من اللمس والتّقبيل والنظر بشهوة وتلذّذ، فالجِماع أعظم محظورات الإحرام وأشدّها تأثيرًا، مَن جَامَع في الحج قبل التحلل الأول فَسَدَ حجُّه ولزمه إنهاؤه وقضاؤه من العام المقبل ولزمته فديةٌ بدنةٌ ينحرها ويتصدّق بها على الفقراء في مكة أو في مِنى .
واجتنبوا الأخذ من شعر الرأس؛ فإن الله يقول: ﴿وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّه﴾ [البقرة: 196]، وأَلْحَقَ جمهور أهل العلم شعر بقية البدن بشعر الرأس وقاسوا عليه إزالة الأظفار وقالوا: لا يجوز للمحرم أن يأخذ شيئًا من شعره أو أظفاره إلا أن ينكسر ظفره فيؤذيه فله أخذ ما يؤذيه فقط، فمَن حلَقَ رأسه لعذر أو غيره فعليه فدية لقوله تعالى: ﴿فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُك﴾ [البقرة: 196]، وبَيَّنَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الفدية بأنها: صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين: لكلِّ مسكين نصف صاع أو شاة يذبحها ويتصدّق بها على المساكين ويكون الإطعام والذبح في مكة أو في مكان فعل المحظور، أما الصيام فيجزئه في أي مكان .
واجتنبوا قتل الصيد؛ فإن الله يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾ [المائدة: 95]، سواء كان الصيد طائرًا كالحمام أم سائرًا كالظباء والأرانب، فمَن قتل صيدًا متعمّدًا فعليه الجزاء وهو: إما ذبح ما يماثله من الإبل أو البقر أو الغنم فيتصدّق به على المساكين في مكة أو في مِنى، وإما تقويمه بدراهم يتصدّق بِما يساويها من الطعام على المساكين في مكة أو مِنى: لكلّ مسكين ربع صاع من البُرِّ أو نصفه من غيره، وإما أن يصوم عن كل طعام مسكين يومًا، وأما قطع الشجر فلا تعلُّقَ له بالإحرام، فيجوز للمحرم وغير المحرم قطع الشجر إذا كان خارج أميال الحرَم، مثل: عرفة، فيجوز أن يقطع فيها الأشجار ولو كان مُحْرمًا؛ لأن عرفة ليست من الحرَم، ولا يجوز أن يقطع الشجر إذا كان داخل أميال الحرَم، مثل: مزدلفة ومِنى ومكة إلا ما غرسه الآدمي بنفسه فله قطعه، ويجوز أن يضع البساط على الأرض في مِنى أو مزدلفة أو غيرهما من أرض الحرَم ولو كان فيها حشيش أخضر إذا لم يقصد بذلك إتلافه .
واجتنبوا عقد النكاح وخطبة النساء؛ فإنه قد صحَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا يَنكحُ المحرم ولا يُنكح ولا يخطب»(3)، فلا يجوز للمُحرم أن يتزوج سواء كان رجلاً أم امرأة، ولا أن يزوّج غيره، ولا أن يخطب امرأة .
واجتنبوا الطِّيبَ بجميع أنواعه دُهنًا كان أم بخورًا، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تلبسوا ثوبًا مسَّه الزعفران»(4)، وقال في الرَّجل الذي مات بعرفة وهو مُحْرم: «اغسلوه بماء وسدر ولا تخمّروا رأسه ولا تحنّطوه فإنه يُبعث يوم القيامة مُلبِّيًا»(5)، والحنوط هو: الطِّيبُ الذي يُجعل في قطن على منافذ الميت ومواضع سجوده، فلا يجوز للمحرم أن يدَّهن بالطيب أو يتبخّر به أو يضعه في أكله أو شرابه أو يتنظّف بصابون مطيّب، وأما ما تطيّب به قبل إحرامه في رأسه ولحيته فإنه لا يضرّه مسّه بعد ذلك للحاجة، مثل: أن يمسح رأسه في الوضوء أو نحوه فإن هذا لا يضرّه، ويجوز له - أي: للمُحْرم - أن يغتسل ويزيل ما لوّثه من وسخ، وأما التطيّب عند عقد الإحرام فهو سنّة ولا يضرّ بقاؤه بعد عقد الإحرام، فقد قالت عائشة رضي الله عنها: «كنتُ أطيّبُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لإحرامه قبل أن يُحرِم، وقالت: كأني أنظر إلى وبيص المسك - أي: بَرِيقِه - في مفارق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مُحْرم»(6).
واجتنبوا تغطية الرأس بِما يغطى به عادةً و يلاصقه كالعمامة والغُتْرة والطّاقِيّة، فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في المحرِم الذي مات: «لا تخمّروا رأسه»(7)؛ أي: لا تغطوه، فأما ما لم تجرِ العادة بكونه غطاءً كالعفش يحمله المحرِم على رأسه فلا بأس به، وكذلك لا بأس بِما لا يلاصق الرأس كالشمسية ونحوها وكما لو وضع الإنسان منديلاً رفعه عن رأسه يستره من الحرِّ فإن ذلك لا بأس به؛ لأن المنهي عنه تغطية الرأس لا تظليل الرأس .
وعن أم الحصين - رضي الله عنها - قالت: «حجَجْتُ مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حجة الوداع فرأيت أسامة وبلالاً وأحدهما آخذٌ بخطام ناقة النبي - صلى الله عليه وسلم - والآخر رافع ثوبه يستره من الحرِّ حتى رمى جمرة العقبة»(8)، وتحريم تغطية الرأس خاصٌ بالرجال، أما المرأة فيجوز أن تغطي رأسها، وأما وجهها فالمشروع لها كشفه إلا أن يراها أحدٌ من الرجال غير محارمها فإنه يجب عليها ستره، ولا يجوز للمرأة أن تلبس النقاب ولا البرقع، واجتنبوا من اللباس ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث سُئل عمّا يلبس المحرِم فقال: «لا يلبس القميص ولا العمامة ولا البُرْنس ولا السراويل ولا الخِفاف»(9)، وقال: «مَنْ لم يجد نعلين فلْيلبس الخفّين ومَن لم يجد إزارًا فلْيلبس سراويل»(10)، وتحريم هذا اللباس خاصٌّ بالرجال، فلا يجوز للرَّجل إذا أحرم أن يلبس القميص مثل ثيابنا هذه ولا ما كان بمعناه كالفَنِيلة والصَّدْرِيّة والكَوْت، ولا يلبس العمامة ولا ما كان بمعناها كالغُتْرة والطّاقِيّة، ولا يلبس البُرنس - وهو: ثوب يوصل بغطاء للرأس - ولا ما كان بمعناه كالمِشْلَح، ولا يلبس السراويل سواء كان نازلاً عن الركبتين أم فوق الركبتين، ولا يلبس الخفّين ولا ما كان بمعناهما كالشرّاب، ويَحِل للرَّجل وللمرأة أيضًا أن يلبس الساعة والخاتم ونظّارة العين وسماعة الأذن وأن يعقد إزاره وأن يشبك رداءه إذا احتاج إليه وإلا فالأَوْلى ألا يشبّك الرداء، ولا يشبّك الرداء بمشابك متواصلة؛ لأنه يشبه القميص حينئذٍ .
ويجوز للمرأة أن تلبس ما شاءت من الثياب المباحة لها قبل الإحرام غير متبرّجةٍ بزينة؛ لأن النساء ليس لهنّ ثياب خاصة للإحرام، ويَحْرم على المرأة وعلى الرَّجل أيضًا لبس القفّازين وهما: شرّاب اليدين، ويَحِل للرَّجل والمرأة تغيير ثياب الإحرام إلى ثياب أخرى يجوز لبسها سواء غيَّرها لوسخ أو نجاسةٍ أو غيرهما .
أيها المسلمون، هذه هي محظورات الإحرام مَن فعلها فإنه يكون آثِمًا وعليه ما يلزمه فيها من فدية ومَن فعلها جاهلاً لا يدري أو ناسيًا لم يذكر فإنه لا حرج عليه، ولكن متى زال عذره وجبَ عليه التخلّي منها لقوله تعالى: ﴿وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ [الأحزاب: 5] .
اللهم إنا نسألك أن تعلّمنا حدودك، وأن ترزقنا العمل بِما يرضيك، وأن توفّقنا لِمَا تحب وترضى، وأن تجعلنا هداة مهتدين وصالحين مصلحين؛ إنك جوادٌ كريم .
وصلى الله وسلّم على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
الخطبة الثانية
الحمدُ لله الذي شرع العبادات لتزيكة النفوس وتكميل الإيمان، ونوَّعها ما بين بدنيّة وماليّة وجامعة بين الأموال والأبدان، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الديّان، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله إلى الإنس والجان، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان، وسلَّم تسليمًا .
أما بعد:
أيها الناس، اتَّقوا الله تعالى واعلموا أن الحج من أفضل العبادات وأعظمها ثوابًا وأنه من العبادات البدنيّة وإن كان فيها شيءٌ من المال كالهدي فإنها في ذاتها عبادة بدنيّة يُطلب من العبد فعلها بنفسه، وقد جاءت السنّة بالاستنابة فيها في الفريضة حال اليأس من فعلها إما لعجز مستمر أو موت، ففي صحيح البخاري عن ابن عباس - رضي الله عنهما - «أن امرأة قالت: يا رسول الله، إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخًا كبيرًا لا يثبت على الراحلة، أَفَأحُجّ عنه ؟ قال: نعم»(11) وذلك في حجة الوداع، «وأن امرأة أخرى قالت: يا رسول الله، إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت، أَفَأحُجّ عنها ؟ قال: نعم، حجي عنها، أرأيت لو كان على أمّك دينٌ أكنتُ قاضيته ؟ قالت: نعم، قال: اقضوا الله فالله أحق بالوفاء»(12)، فمَنْ كان قادرًا على الحج بنفسه فإنه لا يصح أن يوكِّل مَن يحج عنه، وقد تساهل كثيرٌ من الناس في التوكيل في حج التطوّع حتى أصبح لا يحدِّث نفسه أن يحج إلا بالتوكيل، يوكِّل غيره أن يحج عنه فيحرمُ نفسه الخير الحاصل له بالحج بنفسه من أجل تعب العبادة وما يكون فيها من ذكْرٍ ودعاءٍ وخشوعٍ ومضاعفة أعمال ولقاءاتٍ نافعةٍ وغير ذلك اعتمادًا على توكيله مَن يحج عنه، وقد منعَ الإمام أحمد - رحمه الله - في إحدى الروايتين عنه منع من توكيل القادر مَن يحج عنه في التطوّع، فلا ينبغي للمسلم أن يتساهل في هذا الأمر بل إما أن يحج بنفسه إن شاء أو يُعين الحجاج بشيءٍ من المال ليشاركهم في الأجر من غير أن ينقص من أجورهم شيء .
أيها الإخوة، إن الحج عبادةٌ من العبادات يفعلها العبد تقرّبًا إلى الله تعالى وابتغاءً لثواب الآخرة، فلا يجوز للعبد أن يصرفها إلى تكسّب مادِيّ يبتغي بها المال، وإن من المؤسف أن كثيرًا من الناس الذين يحجّون عن غيرهم إنّما يحجّون من أجل كسب المال فقط وهذا حرامٌ عليهم؛ فإن العبادات لا يجوز للعبد أن يقصد بها الدنيا لقوله تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآَخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [هود: 15-16]، ويقول الله تعالى: ﴿فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآَخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ﴾ [البقرة: 200]، فلا يقبل الله تعالى من عبدٍ عبادةً لا يبتغي بها وجهه، ولقد حمى رسول - الله صلى الله عليه وسلم - أماكن العبادة من التكسب للدنيا فقال: «إذا رأيتم مَن يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا له: لا أربح الله تجارتك»(13)، فإذا كان هذا فيمَن جعل موضع العبادة مكانًا للتكسّب يُدعى عليه ألا يُربح الله تجارته، فكيف بِمَن جعل العبادة نفسها غرضًا للتكسّب الدنيوي ؟ كأن الحج سلعةً أو عمل حِرْفة لبناء بيت أو إقامة جدار، تجد الذي تُعرض عليه النيابة يُكاسِر ويُماكس ويقول: هذه دراهم قليلة، هذه لا تكفي، أنا أعطاني فلان كذا وكذا، أو فلانٌ أُعْطِيَ كذا وكذا أو نحو هذا الكلام مِمَّا يقلب العبادة إلى حِرفة وصناعة؛ ولهذا أقول لكم: إن فقهاء الحنابلة يقولون: إن تأجير الرجل ليحج عن غيره غير صحيح ويقع العقد باطلاً، وتكون الحجة لِمَن حجّها، ويجب أن يرد الدراهم على مَن أخذها منه، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: مَن حج ليأخذ المال فليس له في الآخرة من خَلاق؛ يعني: ليس له في الآخرة من نصيب، لكنْ إذا أخذ الإنسان النيابة لغرض ديني، مثل: أن يقصد نفع أخيه بالحج عنه أو يقصد زيادة الطاعة والدعاء والذّكْر في المشاعر فهذا لا بأسَ به وهي نيّةٌ سليمة .
إن على الذين يأخذون النيابة بالحج أن يخلّصوا النيّة لله وأن تكون نيّتهم قضاء وطرهم بالتعبد حول بيت الله وذكره ودعائه مع قضاء حاجة إخوانهم بالحج عنهم، وأن يبتعدوا عن النيّة الدنيئة بقصد التكسّب بالمال، فإن لم يكن في نفوسهم إلا التكسّب بالمال فإنه لا يَحِل لهم أخذ النيابة حينئذٍ وهم بأخذها آثمون، ومتى أخذ النيابة بنيّة صالحة فالمال الذي يأخذه كله له ولا يلزمه ردّ ما بقي منه إلا أن يشترط عليه ردّه، وإذا استنابه شخصٌ ليحج عنه فإن العمرة تابعة للحج على المعروف بين الناس، فيجب على النائب أن ينوي العمرة للذي استنابه كما ينوي له الحج، ويجوز للنائب أن يشترط العمرة لنفسه، فإذا اشترطها لنفسه ووافق المستنيب صحَّتْ العمرة للنائب والحج للمستنيب، وثواب الأعمال المتعلّقة بالنسك كلّها للمستنيب، وأما ما كان خارجًا عن أعمال النسك كمضاعفة الأجر بالصلاة وقراءة القرآن ونحو ذلك فثوابه للنائب، ولكنْ ينبغي للنائب أن يُكثر الدعاء مِمَّن له الحج؛ لأنه نائب عنه، ومَنْ أخذ نيابة لشخص فإنه لا يَحِل له أن يعطيها غيره بل يجب عليه أن يقوم بنفسه فيها إلا أن يرضى صاحبها الذي أعطاه النيابة، ويجب على النائب في الحج والعمرة أن يتّقي الله بأداء الأمانة وأن يجتهد في إتمام أعمال النسك القوليّة والفعليّة؛ لأنه أمين في ذلك، وقد قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الأنفال: 27]، وإذا لبّى فلْيقل في تلبيته: لبّيك عن فلان ويسمّيه باسمه سواء كان رجلاً أم امرأة، فإن نَسِيَهُ نَوَاهُ بقلبه وقال: لبّيك عمّن استنابني في هذه العمرة أو في هذا الحج، والله سبحانه يعلم ذلك ولا يخفى عليه .
عباد الله، أعودُ لأحذّركم من أن تجعلوا الدنيا أكبر همّكم، فتُحَوِّلوا عبادة الحج إلى كسب مادِيّ تنوبون عن غيركم من أجله فتخسروا بذلك دينكم ودنياكم، فمَن كان لا يحج عن غيره إلا من أجل المال فلا يحج، ومَن كان يحج عن غيره لينفع أخاه ويقضي لازمه أو لأجل زيادة الطاعة والذكْر والدعاء في مكة و المشاعر ولكن أخذَ المال ليستعينَ به على ذلك فلا حرج عليه .
أيها الإخوة، قبل أن أختم هذه الخطبة، أودُّ أن أنَبّه إلى أمرين يخطئ فيهما كثيرٌ مِمَّن يحضرون هنا:
أولهما: أنه ذُكِر لي أن بعض الناس يجتمعون فُرَقًا في المظلّة التي خارج هذا البناء ويتحدّثون بأصوات مرتفعة فيؤذون المسلمين وينتهكون حرمة المكان، وذُكِر لي أنهم يتحدثون أيضًا والإمام يخطب وهذا حرام عليهم، وإذا فعلوا ذلك فإنه لا جمعةَ لهم؛ بمعنى: أنهم يُحْرَمون ثواب الجمعة ولا ينالون ثوابها الذي فضّل الله به هذه الأمة .
أما الأمر الثاني: فإن بعض الناس يقِفون بعد السلام - أي: بعد انتهاء الصلاة - يقِفون عند الباب فَيَسدُّون أبواب المسجد عن الخارجين منها، يقفون عند الباب ليتفقّدوا أصحابهم إذا خرجوا وهذا أيضًا مؤذٍ للناس وإيذاء المؤمنين مُحرّم، فمَن أراد أن يقف لأحد ليتفقّده فلْيكن بعيدًا عن أبواب المسجد؛ حتى لا يضيّق على المصلّين .
كذلك أمرٌ ثالث وهو: أن بعض الناس يأتي قبل دخول الإمام فيجلس حول الباب ويدع بقيّة المسجد فاضيًا وهذا خلاف السنّة؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا يزال قومٌ يتأخرون حتى يؤخّرهم الله»(14)؛ ولأنهم إذا فعلوا ذلك وجاء أحدٌ ليدخل فوجد ما حول الباب مملوءاً يظن أن المسجد كله ممتلئ فلا يدخل وحينئذٍ يحرمونه أن يدخل إلى المسجد في الظِلّ وهذا أمر بل هذه الأمور الثلاثة أُحِبُّ أن تنتبهوا لها .
بارَك الله فيكم وجزاكم خيرًا، وأعاذنا وإياكم من إيذاء المسلمين .
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم .
(1) أخرجه ابن ماجة في سننه في كتاب [المناسك] رقم [2892] من حديث عائشة رضي الله عنها .
(2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده، رقم [9885] من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وأخرجه الإمام مسلم في كتاب [الحج] رقم [2404] من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وأخرجه الدارمي في كتاب [المناسك] رقم [1728] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
(3) أخرجه مسلم في كتاب [النكاح] رقم [2522] عثمان بن عفان رضي الله عنه .
(4) أخرجه البخاري في كتاب [الحج] رقم [1707] من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وأخرجه مسلم في كتاب [الحج] رقم [2012] من حديث ابن عمر رضي الله عنهما واللفظ لمسلم .
(5) أخرجه البخاري في كتاب [الجنائز] رقم [1186] من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وأخرجه مسلم في كتاب [الحج] رقم [2092] من حديث ابن عباس رضي الله عنهما .
(6) أخرجه البخاري في كتاب [الحج] رقم [1438] من حديث عائشة رضي الله عنها، وأخرجه مسلم في كتاب [الحج] رقم [2050] من حديث عائشة رضي الله عنها .
(7) سبق تخريجه .
(8) أخرجه مسلم في كتاب [الحج] رقم [2288] من حديث أم الحصين رضي الله عنها .
(9) أخرجه البخاري في كتاب [الحج] رقم [1771] من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وأخرجه مسلم في كتاب [الحج] رقم [2013] من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما .
(10) أخرجه البخاري في كتاب [الحج] رقم [1712] من حديث بن عباس رضي الله عنهما، وأخرجه مسلم في كتاب [الحج] رقم [2015] من حديث بن عباس رضي الله عنهما .
(11) أخرجه البخاري في كتاب [الحج] رقم [1417] من حديث ابن عباس رضي الله عنه، وأخرجه مسلم في كتاب [الحج] رقم [2375] من حديث ابن عباس رضي الله عنه .
(12) أخرجه البخاري -رحمه الله تعالى- في كتاب [الحج] رقم [1720] من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ت ط ع.
(13) أخرجه الترمذي -رحمه الله تعالى- في سننه في كتاب [البيوع] رقم [1242]، وأخرجه الدارمي -رحمه الله تعالى- في سننه في كتاب [الصلاة] رقم [1365] من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى، ت ط ع .
(14) أخرجه الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في كتاب [الصلاة] من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه، رقم [662].
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمدُ لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِلّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسان، وسلَّم تسليمًا .
أما بعد:
أيها الناس، اتَّقوا الله تعالى واعلموا أن الله بحكمته ورحمته فرضَ عليكم فرائض فلا تضيّعوها، وحَدَّ حدودًا فلا تعتدوها، فرضَ عليكم تعظيم شعائره وحرماته، ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الحج: 32]، ﴿وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ﴾ [الحج: 30]، ألا وإن من شعائر الله: مناسك الحج والعمرة، ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ﴾ [البقرة: 158]، فعظّموا هذه المناسك فإنها عبادة عظيمة ونوع من الجهاد في سبيل الله .
سألت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل على النساء جهاد ؟ قال: عليهنّ جهاد لا قتالَ فيه: الحجُ والعمرة»(1).
عظّموا هذه المناسك بالقيام بِما أوجب الله عليكم والبعد عمّا حرّم الله عليكم، ﴿فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ﴾ [البقرة: 197] .
عظّموا هذه المناسك بالإخلاص فيها لله تعالى والاتّباع لنبيّكم محمد صلى الله عليه وسلم، قوموا بِما أوجب الله عليكم من الطهارة والصلاة جماعةًً في أوقاتها والنصح للمسلمين، واجتنبوا ما حرّم الله عليكم من المحرمات العامة من الفسوق بجميع أنواعه، فاجتنبوا الكذب، والغِش، والخيانة، والغِيبة، والنّميمة، والاستهزاء بالمسلمين والسخرية منهم، واجتنبوا الاستماع إلى المعازف وإلى الأغاني المحرمة، واجتنبوا التدخين - وهو: شرب الدخان - فإنه حرام لِمَا فيه من ضرر الأبدان وضياع الأموال، واعلموا أن المدخنين الذين يدخنون وهم مُحْرِمون سوف ينقص نسكهم ولا يحصل لهم ما وعد به النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله: «مَن حجَّ فلم يرفث ولم يفسق خرجَ كيوم ولدته أمه»(2)؛ لأن هؤلاء المدخنين قد فسقوا بإصرارهم على الدخان فإنه مُحرّم والإصرار على صغائر الذنوب يجعل الإنسان فاسقًا لا عادلاً .
واجتنبوا ما حرّم الله عليكم تحريمًا خاصًّا بسبب الإحرام وهي محظورات الإحرام، فاجتنبوا الرفث وهو: الجِماع ومقدماته من اللمس والتّقبيل والنظر بشهوة وتلذّذ، فالجِماع أعظم محظورات الإحرام وأشدّها تأثيرًا، مَن جَامَع في الحج قبل التحلل الأول فَسَدَ حجُّه ولزمه إنهاؤه وقضاؤه من العام المقبل ولزمته فديةٌ بدنةٌ ينحرها ويتصدّق بها على الفقراء في مكة أو في مِنى .
واجتنبوا الأخذ من شعر الرأس؛ فإن الله يقول: ﴿وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّه﴾ [البقرة: 196]، وأَلْحَقَ جمهور أهل العلم شعر بقية البدن بشعر الرأس وقاسوا عليه إزالة الأظفار وقالوا: لا يجوز للمحرم أن يأخذ شيئًا من شعره أو أظفاره إلا أن ينكسر ظفره فيؤذيه فله أخذ ما يؤذيه فقط، فمَن حلَقَ رأسه لعذر أو غيره فعليه فدية لقوله تعالى: ﴿فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُك﴾ [البقرة: 196]، وبَيَّنَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الفدية بأنها: صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين: لكلِّ مسكين نصف صاع أو شاة يذبحها ويتصدّق بها على المساكين ويكون الإطعام والذبح في مكة أو في مكان فعل المحظور، أما الصيام فيجزئه في أي مكان .
واجتنبوا قتل الصيد؛ فإن الله يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾ [المائدة: 95]، سواء كان الصيد طائرًا كالحمام أم سائرًا كالظباء والأرانب، فمَن قتل صيدًا متعمّدًا فعليه الجزاء وهو: إما ذبح ما يماثله من الإبل أو البقر أو الغنم فيتصدّق به على المساكين في مكة أو في مِنى، وإما تقويمه بدراهم يتصدّق بِما يساويها من الطعام على المساكين في مكة أو مِنى: لكلّ مسكين ربع صاع من البُرِّ أو نصفه من غيره، وإما أن يصوم عن كل طعام مسكين يومًا، وأما قطع الشجر فلا تعلُّقَ له بالإحرام، فيجوز للمحرم وغير المحرم قطع الشجر إذا كان خارج أميال الحرَم، مثل: عرفة، فيجوز أن يقطع فيها الأشجار ولو كان مُحْرمًا؛ لأن عرفة ليست من الحرَم، ولا يجوز أن يقطع الشجر إذا كان داخل أميال الحرَم، مثل: مزدلفة ومِنى ومكة إلا ما غرسه الآدمي بنفسه فله قطعه، ويجوز أن يضع البساط على الأرض في مِنى أو مزدلفة أو غيرهما من أرض الحرَم ولو كان فيها حشيش أخضر إذا لم يقصد بذلك إتلافه .
واجتنبوا عقد النكاح وخطبة النساء؛ فإنه قد صحَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا يَنكحُ المحرم ولا يُنكح ولا يخطب»(3)، فلا يجوز للمُحرم أن يتزوج سواء كان رجلاً أم امرأة، ولا أن يزوّج غيره، ولا أن يخطب امرأة .
واجتنبوا الطِّيبَ بجميع أنواعه دُهنًا كان أم بخورًا، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تلبسوا ثوبًا مسَّه الزعفران»(4)، وقال في الرَّجل الذي مات بعرفة وهو مُحْرم: «اغسلوه بماء وسدر ولا تخمّروا رأسه ولا تحنّطوه فإنه يُبعث يوم القيامة مُلبِّيًا»(5)، والحنوط هو: الطِّيبُ الذي يُجعل في قطن على منافذ الميت ومواضع سجوده، فلا يجوز للمحرم أن يدَّهن بالطيب أو يتبخّر به أو يضعه في أكله أو شرابه أو يتنظّف بصابون مطيّب، وأما ما تطيّب به قبل إحرامه في رأسه ولحيته فإنه لا يضرّه مسّه بعد ذلك للحاجة، مثل: أن يمسح رأسه في الوضوء أو نحوه فإن هذا لا يضرّه، ويجوز له - أي: للمُحْرم - أن يغتسل ويزيل ما لوّثه من وسخ، وأما التطيّب عند عقد الإحرام فهو سنّة ولا يضرّ بقاؤه بعد عقد الإحرام، فقد قالت عائشة رضي الله عنها: «كنتُ أطيّبُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لإحرامه قبل أن يُحرِم، وقالت: كأني أنظر إلى وبيص المسك - أي: بَرِيقِه - في مفارق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مُحْرم»(6).
واجتنبوا تغطية الرأس بِما يغطى به عادةً و يلاصقه كالعمامة والغُتْرة والطّاقِيّة، فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في المحرِم الذي مات: «لا تخمّروا رأسه»(7)؛ أي: لا تغطوه، فأما ما لم تجرِ العادة بكونه غطاءً كالعفش يحمله المحرِم على رأسه فلا بأس به، وكذلك لا بأس بِما لا يلاصق الرأس كالشمسية ونحوها وكما لو وضع الإنسان منديلاً رفعه عن رأسه يستره من الحرِّ فإن ذلك لا بأس به؛ لأن المنهي عنه تغطية الرأس لا تظليل الرأس .
وعن أم الحصين - رضي الله عنها - قالت: «حجَجْتُ مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حجة الوداع فرأيت أسامة وبلالاً وأحدهما آخذٌ بخطام ناقة النبي - صلى الله عليه وسلم - والآخر رافع ثوبه يستره من الحرِّ حتى رمى جمرة العقبة»(8)، وتحريم تغطية الرأس خاصٌ بالرجال، أما المرأة فيجوز أن تغطي رأسها، وأما وجهها فالمشروع لها كشفه إلا أن يراها أحدٌ من الرجال غير محارمها فإنه يجب عليها ستره، ولا يجوز للمرأة أن تلبس النقاب ولا البرقع، واجتنبوا من اللباس ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث سُئل عمّا يلبس المحرِم فقال: «لا يلبس القميص ولا العمامة ولا البُرْنس ولا السراويل ولا الخِفاف»(9)، وقال: «مَنْ لم يجد نعلين فلْيلبس الخفّين ومَن لم يجد إزارًا فلْيلبس سراويل»(10)، وتحريم هذا اللباس خاصٌّ بالرجال، فلا يجوز للرَّجل إذا أحرم أن يلبس القميص مثل ثيابنا هذه ولا ما كان بمعناه كالفَنِيلة والصَّدْرِيّة والكَوْت، ولا يلبس العمامة ولا ما كان بمعناها كالغُتْرة والطّاقِيّة، ولا يلبس البُرنس - وهو: ثوب يوصل بغطاء للرأس - ولا ما كان بمعناه كالمِشْلَح، ولا يلبس السراويل سواء كان نازلاً عن الركبتين أم فوق الركبتين، ولا يلبس الخفّين ولا ما كان بمعناهما كالشرّاب، ويَحِل للرَّجل وللمرأة أيضًا أن يلبس الساعة والخاتم ونظّارة العين وسماعة الأذن وأن يعقد إزاره وأن يشبك رداءه إذا احتاج إليه وإلا فالأَوْلى ألا يشبّك الرداء، ولا يشبّك الرداء بمشابك متواصلة؛ لأنه يشبه القميص حينئذٍ .
ويجوز للمرأة أن تلبس ما شاءت من الثياب المباحة لها قبل الإحرام غير متبرّجةٍ بزينة؛ لأن النساء ليس لهنّ ثياب خاصة للإحرام، ويَحْرم على المرأة وعلى الرَّجل أيضًا لبس القفّازين وهما: شرّاب اليدين، ويَحِل للرَّجل والمرأة تغيير ثياب الإحرام إلى ثياب أخرى يجوز لبسها سواء غيَّرها لوسخ أو نجاسةٍ أو غيرهما .
أيها المسلمون، هذه هي محظورات الإحرام مَن فعلها فإنه يكون آثِمًا وعليه ما يلزمه فيها من فدية ومَن فعلها جاهلاً لا يدري أو ناسيًا لم يذكر فإنه لا حرج عليه، ولكن متى زال عذره وجبَ عليه التخلّي منها لقوله تعالى: ﴿وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ﴾ [الأحزاب: 5] .
اللهم إنا نسألك أن تعلّمنا حدودك، وأن ترزقنا العمل بِما يرضيك، وأن توفّقنا لِمَا تحب وترضى، وأن تجعلنا هداة مهتدين وصالحين مصلحين؛ إنك جوادٌ كريم .
وصلى الله وسلّم على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
الخطبة الثانية
الحمدُ لله الذي شرع العبادات لتزيكة النفوس وتكميل الإيمان، ونوَّعها ما بين بدنيّة وماليّة وجامعة بين الأموال والأبدان، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الديّان، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله إلى الإنس والجان، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان، وسلَّم تسليمًا .
أما بعد:
أيها الناس، اتَّقوا الله تعالى واعلموا أن الحج من أفضل العبادات وأعظمها ثوابًا وأنه من العبادات البدنيّة وإن كان فيها شيءٌ من المال كالهدي فإنها في ذاتها عبادة بدنيّة يُطلب من العبد فعلها بنفسه، وقد جاءت السنّة بالاستنابة فيها في الفريضة حال اليأس من فعلها إما لعجز مستمر أو موت، ففي صحيح البخاري عن ابن عباس - رضي الله عنهما - «أن امرأة قالت: يا رسول الله، إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخًا كبيرًا لا يثبت على الراحلة، أَفَأحُجّ عنه ؟ قال: نعم»(11) وذلك في حجة الوداع، «وأن امرأة أخرى قالت: يا رسول الله، إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت، أَفَأحُجّ عنها ؟ قال: نعم، حجي عنها، أرأيت لو كان على أمّك دينٌ أكنتُ قاضيته ؟ قالت: نعم، قال: اقضوا الله فالله أحق بالوفاء»(12)، فمَنْ كان قادرًا على الحج بنفسه فإنه لا يصح أن يوكِّل مَن يحج عنه، وقد تساهل كثيرٌ من الناس في التوكيل في حج التطوّع حتى أصبح لا يحدِّث نفسه أن يحج إلا بالتوكيل، يوكِّل غيره أن يحج عنه فيحرمُ نفسه الخير الحاصل له بالحج بنفسه من أجل تعب العبادة وما يكون فيها من ذكْرٍ ودعاءٍ وخشوعٍ ومضاعفة أعمال ولقاءاتٍ نافعةٍ وغير ذلك اعتمادًا على توكيله مَن يحج عنه، وقد منعَ الإمام أحمد - رحمه الله - في إحدى الروايتين عنه منع من توكيل القادر مَن يحج عنه في التطوّع، فلا ينبغي للمسلم أن يتساهل في هذا الأمر بل إما أن يحج بنفسه إن شاء أو يُعين الحجاج بشيءٍ من المال ليشاركهم في الأجر من غير أن ينقص من أجورهم شيء .
أيها الإخوة، إن الحج عبادةٌ من العبادات يفعلها العبد تقرّبًا إلى الله تعالى وابتغاءً لثواب الآخرة، فلا يجوز للعبد أن يصرفها إلى تكسّب مادِيّ يبتغي بها المال، وإن من المؤسف أن كثيرًا من الناس الذين يحجّون عن غيرهم إنّما يحجّون من أجل كسب المال فقط وهذا حرامٌ عليهم؛ فإن العبادات لا يجوز للعبد أن يقصد بها الدنيا لقوله تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآَخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [هود: 15-16]، ويقول الله تعالى: ﴿فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآَخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ﴾ [البقرة: 200]، فلا يقبل الله تعالى من عبدٍ عبادةً لا يبتغي بها وجهه، ولقد حمى رسول - الله صلى الله عليه وسلم - أماكن العبادة من التكسب للدنيا فقال: «إذا رأيتم مَن يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا له: لا أربح الله تجارتك»(13)، فإذا كان هذا فيمَن جعل موضع العبادة مكانًا للتكسّب يُدعى عليه ألا يُربح الله تجارته، فكيف بِمَن جعل العبادة نفسها غرضًا للتكسّب الدنيوي ؟ كأن الحج سلعةً أو عمل حِرْفة لبناء بيت أو إقامة جدار، تجد الذي تُعرض عليه النيابة يُكاسِر ويُماكس ويقول: هذه دراهم قليلة، هذه لا تكفي، أنا أعطاني فلان كذا وكذا، أو فلانٌ أُعْطِيَ كذا وكذا أو نحو هذا الكلام مِمَّا يقلب العبادة إلى حِرفة وصناعة؛ ولهذا أقول لكم: إن فقهاء الحنابلة يقولون: إن تأجير الرجل ليحج عن غيره غير صحيح ويقع العقد باطلاً، وتكون الحجة لِمَن حجّها، ويجب أن يرد الدراهم على مَن أخذها منه، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: مَن حج ليأخذ المال فليس له في الآخرة من خَلاق؛ يعني: ليس له في الآخرة من نصيب، لكنْ إذا أخذ الإنسان النيابة لغرض ديني، مثل: أن يقصد نفع أخيه بالحج عنه أو يقصد زيادة الطاعة والدعاء والذّكْر في المشاعر فهذا لا بأسَ به وهي نيّةٌ سليمة .
إن على الذين يأخذون النيابة بالحج أن يخلّصوا النيّة لله وأن تكون نيّتهم قضاء وطرهم بالتعبد حول بيت الله وذكره ودعائه مع قضاء حاجة إخوانهم بالحج عنهم، وأن يبتعدوا عن النيّة الدنيئة بقصد التكسّب بالمال، فإن لم يكن في نفوسهم إلا التكسّب بالمال فإنه لا يَحِل لهم أخذ النيابة حينئذٍ وهم بأخذها آثمون، ومتى أخذ النيابة بنيّة صالحة فالمال الذي يأخذه كله له ولا يلزمه ردّ ما بقي منه إلا أن يشترط عليه ردّه، وإذا استنابه شخصٌ ليحج عنه فإن العمرة تابعة للحج على المعروف بين الناس، فيجب على النائب أن ينوي العمرة للذي استنابه كما ينوي له الحج، ويجوز للنائب أن يشترط العمرة لنفسه، فإذا اشترطها لنفسه ووافق المستنيب صحَّتْ العمرة للنائب والحج للمستنيب، وثواب الأعمال المتعلّقة بالنسك كلّها للمستنيب، وأما ما كان خارجًا عن أعمال النسك كمضاعفة الأجر بالصلاة وقراءة القرآن ونحو ذلك فثوابه للنائب، ولكنْ ينبغي للنائب أن يُكثر الدعاء مِمَّن له الحج؛ لأنه نائب عنه، ومَنْ أخذ نيابة لشخص فإنه لا يَحِل له أن يعطيها غيره بل يجب عليه أن يقوم بنفسه فيها إلا أن يرضى صاحبها الذي أعطاه النيابة، ويجب على النائب في الحج والعمرة أن يتّقي الله بأداء الأمانة وأن يجتهد في إتمام أعمال النسك القوليّة والفعليّة؛ لأنه أمين في ذلك، وقد قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [الأنفال: 27]، وإذا لبّى فلْيقل في تلبيته: لبّيك عن فلان ويسمّيه باسمه سواء كان رجلاً أم امرأة، فإن نَسِيَهُ نَوَاهُ بقلبه وقال: لبّيك عمّن استنابني في هذه العمرة أو في هذا الحج، والله سبحانه يعلم ذلك ولا يخفى عليه .
عباد الله، أعودُ لأحذّركم من أن تجعلوا الدنيا أكبر همّكم، فتُحَوِّلوا عبادة الحج إلى كسب مادِيّ تنوبون عن غيركم من أجله فتخسروا بذلك دينكم ودنياكم، فمَن كان لا يحج عن غيره إلا من أجل المال فلا يحج، ومَن كان يحج عن غيره لينفع أخاه ويقضي لازمه أو لأجل زيادة الطاعة والذكْر والدعاء في مكة و المشاعر ولكن أخذَ المال ليستعينَ به على ذلك فلا حرج عليه .
أيها الإخوة، قبل أن أختم هذه الخطبة، أودُّ أن أنَبّه إلى أمرين يخطئ فيهما كثيرٌ مِمَّن يحضرون هنا:
أولهما: أنه ذُكِر لي أن بعض الناس يجتمعون فُرَقًا في المظلّة التي خارج هذا البناء ويتحدّثون بأصوات مرتفعة فيؤذون المسلمين وينتهكون حرمة المكان، وذُكِر لي أنهم يتحدثون أيضًا والإمام يخطب وهذا حرام عليهم، وإذا فعلوا ذلك فإنه لا جمعةَ لهم؛ بمعنى: أنهم يُحْرَمون ثواب الجمعة ولا ينالون ثوابها الذي فضّل الله به هذه الأمة .
أما الأمر الثاني: فإن بعض الناس يقِفون بعد السلام - أي: بعد انتهاء الصلاة - يقِفون عند الباب فَيَسدُّون أبواب المسجد عن الخارجين منها، يقفون عند الباب ليتفقّدوا أصحابهم إذا خرجوا وهذا أيضًا مؤذٍ للناس وإيذاء المؤمنين مُحرّم، فمَن أراد أن يقف لأحد ليتفقّده فلْيكن بعيدًا عن أبواب المسجد؛ حتى لا يضيّق على المصلّين .
كذلك أمرٌ ثالث وهو: أن بعض الناس يأتي قبل دخول الإمام فيجلس حول الباب ويدع بقيّة المسجد فاضيًا وهذا خلاف السنّة؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا يزال قومٌ يتأخرون حتى يؤخّرهم الله»(14)؛ ولأنهم إذا فعلوا ذلك وجاء أحدٌ ليدخل فوجد ما حول الباب مملوءاً يظن أن المسجد كله ممتلئ فلا يدخل وحينئذٍ يحرمونه أن يدخل إلى المسجد في الظِلّ وهذا أمر بل هذه الأمور الثلاثة أُحِبُّ أن تنتبهوا لها .
بارَك الله فيكم وجزاكم خيرًا، وأعاذنا وإياكم من إيذاء المسلمين .
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم .
(1) أخرجه ابن ماجة في سننه في كتاب [المناسك] رقم [2892] من حديث عائشة رضي الله عنها .
(2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده، رقم [9885] من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وأخرجه الإمام مسلم في كتاب [الحج] رقم [2404] من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وأخرجه الدارمي في كتاب [المناسك] رقم [1728] من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
(3) أخرجه مسلم في كتاب [النكاح] رقم [2522] عثمان بن عفان رضي الله عنه .
(4) أخرجه البخاري في كتاب [الحج] رقم [1707] من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وأخرجه مسلم في كتاب [الحج] رقم [2012] من حديث ابن عمر رضي الله عنهما واللفظ لمسلم .
(5) أخرجه البخاري في كتاب [الجنائز] رقم [1186] من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وأخرجه مسلم في كتاب [الحج] رقم [2092] من حديث ابن عباس رضي الله عنهما .
(6) أخرجه البخاري في كتاب [الحج] رقم [1438] من حديث عائشة رضي الله عنها، وأخرجه مسلم في كتاب [الحج] رقم [2050] من حديث عائشة رضي الله عنها .
(7) سبق تخريجه .
(8) أخرجه مسلم في كتاب [الحج] رقم [2288] من حديث أم الحصين رضي الله عنها .
(9) أخرجه البخاري في كتاب [الحج] رقم [1771] من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وأخرجه مسلم في كتاب [الحج] رقم [2013] من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما .
(10) أخرجه البخاري في كتاب [الحج] رقم [1712] من حديث بن عباس رضي الله عنهما، وأخرجه مسلم في كتاب [الحج] رقم [2015] من حديث بن عباس رضي الله عنهما .
(11) أخرجه البخاري في كتاب [الحج] رقم [1417] من حديث ابن عباس رضي الله عنه، وأخرجه مسلم في كتاب [الحج] رقم [2375] من حديث ابن عباس رضي الله عنه .
(12) أخرجه البخاري -رحمه الله تعالى- في كتاب [الحج] رقم [1720] من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ت ط ع.
(13) أخرجه الترمذي -رحمه الله تعالى- في سننه في كتاب [البيوع] رقم [1242]، وأخرجه الدارمي -رحمه الله تعالى- في سننه في كتاب [الصلاة] رقم [1365] من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى، ت ط ع .
(14) أخرجه الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في كتاب [الصلاة] من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه، رقم [662].