المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : شرح باب (من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب)


الجوهرة
11-22-2016, 11:26 PM
بسم الله الرحمن الرحيم

شرح (باب من حقَّق التوحيد؛ دخل الجنة بغير حساب)
للشيخ العلامة صالح آل الشيخ -حفظه الله تعالى-
من كتاب كفاية المستزيد بشرح كتاب التوحيد


وقول الله تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾[النحل:120].
وقوله: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ﴾[المؤمنون: 59].

وعن حُصَيْنِ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ رضي الله عنه فَقَالَ: أَيّكُمْ رَأَى الْكَوْكَبَ الّذِي انْقَضّ الْبَارِحَةَ؟ قُلْتُ: أَنَا. ثُمّ قُلْتُ: أَمَا إِنّي لَمْ أَكُنْ فِي صَلاَةٍ. وَلَكِنّي لُدِغْتُ. قَالَ: فَمَاذَا صَنَعْتَ؟ قُلْتُ: اَرْتقَيْتُ. قَالَ: فَمَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ؟ قُلْتُ: حَدِيثٌ حَدّثَنَاهُ الشّعْبِيّ. قَالَ: وَمَا حَدّثَكُمُ الشّعْبِيّ؟ قُلْتُ: حَدّثَنَا عَنْ بُرَيْدَةَ بْنِ حُصَيْبٍ, أَنّهُ قَالَ: لاَ رُقْيَةَ إِلاّ مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَةٍ. قَالَ: قَدْ أَحْسَنَ مَنِ انْتَهَى إِلَى مَا سَمِعَ. وَلَكِنْ حَدّثَنَا ابْنُ عَبّاسٍ عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنه قَالَ: «عُرِضَتْ عَلَيّ الأُمَمُ. فَرَأَيْتُ النّبِيّ وَمَعَهُ الرّهَطُ. وَالنّبِيّ وَمَعَهُ الرّجُلُ وَالرّجُلاَنِ. وَالنّبِيّ ولَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ. إِذْ رُفِعَ لِي سَوَادٌ عَظِيمٌ. فَظَنَنْتُ أَنّهُمْ أُمّتِي. فَقِيلَ لِي: هَذَا مُوسَىَ وَقَوْمُهُ. وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الأُفُقِ. فَنَظَرْتُ. فَإِذَا سَوَادٌ عَظِيمٌ. فَقِيلَ لِي: هَذِهِ أُمّتُكَ. وَمَعَهُمْ سَبْعُونَ أَلْفاً يَدْخُلُونَ الْجَنّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلاَ عَذَابٍ».
فنَهَضَ فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ. فَخَاضَ النّاسُ فِي أُولَئِكَ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: فَلَعَلّهُمُ الّذِينَ صَحِبُوا رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: فَلَعَلّهُمُ الّذِينَ وُلِدُوا فِي الإِسْلاَمِ فَلَمْ يُشْرِكُوا بِالله. وَذَكَرُوا أَشْيَاءَ.
فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرُوهُ. فَقَالَ: «هُمُ الّذِينَ لاَ يَسْتَرْقُونَ. وَلاَ يَكْتَوُون. وَلاَ يَتَطَيّرُونَ. وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ»، فَقَامَ عُكّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ. فَقَالَ: يا رسول الله ادْعُ الله أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ. قَالَ: «أَنْتَ مِنْهُمْ» ثُمّ قَامَ رَجُلٌ آخَرُ فَقَالَ: ادْعُ الله أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ. فَقَالَ: «سَبَقَكَ بِهَا عُكّاشَةُ».

[الشرح]

هذا الباب (باب من حقق التوحيد؛ دخل الجنة بغير حساب)، وقد ذكر في الباب قبله (فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب)، وهذا الباب أرفع رتبة من بيان فضل التوحيد، فإن فضل التوحيد يشترك فيه أهله.
وأهل التوحيد هم أهل الإسلام، فلكلٍّ من التوحيد فضل، ولكل مسلم نصيب من التوحيد، وله بالتالي نصيب من فضل التوحيد، وتكفير الذنوب.
أمّا خاصة هذه الأمة فهم الذين حققوا التوحيد، ولهذا عطف هذا الباب على ما قبله لأنه أخص (باب من حقق التوحيد؛ دخل الجنة بغير حساب).
وتحقيق التوحيد هو مدار هذا الباب، تحقيقه بمعنى تحقيق الشهادتين: لا إله إلاَّ الله، محمد رسول الله. ومعنى تحقيق الشهادتين تصفية الدي -يعني ما يدين به المرء- من شوائب الشرك والبدع والمعاصي.

فصار تحقيق التوحيد يرجع إلى ثلاثة أشياء:
الأول: ترك الشرك بأنواعه الأكبر والأصغر والخفي.
والثاني: ترك البدع بأنواعها.
والثالث: ترك المعاصي بأنواعها.

وتحقيق التوحيد صار تصفيته من: أنواع الشرك، وأنواع البدع، وأنواع المعاصي.
وتحقيق التوحيد يكون على هذا على درجتين:
¨ درجة واجبة.
¨ ودرجة مستحبة.

وعليها يكون الذين حققوا التوحيد على درجتين أيضا:
فالدرجة الواجبة: أن يترك ما يجب عليه تركه من الثلاث التي ذكرت؛ يترك الشرك خفيَّه وجليه صغيرَه وكبيره، ويترك البدع ويترك المعاصي، فهذه الدرجة الواجبة.
والدرجة المستحبة من تحقيق التوحيد: وهي التي يتفاضل فيها الناس من المحققين للتوحيد أعظم تفاضل، ألا وهي: ألاّ يكون في القلب شيء من التوجّه أو القصد لغير الله جلّ وعلا؛ ([1] (http://www.ajurry.com/vb/#_ftn1)) يعني أن يكون القلب متوجها إلى الله بكليته، ليس فيه إلتفات إلى غير الله؛ نُطْقه لله وفعله وعمله لله؛ بل وحركةُ قلبه لله جلّ جلاله، وقد عبّر عنها بعض أهل العلم -أعني هذه الدرجة المستحبة-: أن يترك ما لا بأس به حذرا مما به بأس، يعني في مجال أعمال القلوب، وأعمال اللسان، وأعمال الجوارح.
فإذن رجع تحقيق التوحيد -الذي هذا فضله؛ وهو أن يدخل أهله الجنة بغير حساب ولا عذاب-، رجع إلى تَيْنِكَ المرتبتين، وتحقيقه تحقيق الشهادتين لا إله إلا الله، محمد رسول الله؛ لأن في قوله لا إله إلا الله الإتيان بالتوحيد والبعد عن الشرك بأنواعه. ولأن في قوله أشهد أن محمدا رسول الله البعد عن المعصية والبعد عن البدع؛ لأن مقتضى الشهادة بأن محمدا رسول الله أن يطاع فيما أمر، وأن يصدَّق فيما أخبر، وأن يجتنب ما عنه نهى وزجر، وأن لا يُعبد الله إلا بما شرع.
فمن أتى شيئا من المعاصي والذنوب ثم لم يتب منها، أو لم تُكفَّر له, فإنه لم يحقق التوحيدَ الواجب، وإذا أتى شيئا من البدع فإنه لم يحقق التوحيد الواجب، وإذا لم يأتِ شيئا من البدع، ولكن حسّنها بقلبه، أو قال لا شيء فيها، فإن حركة القلب كانت في غير تحقيق التوحيد، في غير تحقيق شهادة أنّ محمدا رسول الله فلا يكون من أهل تحقيق التوحيد.
كذلك أهل الشرك بأنواعه ليسوا من أهل تحقيق التوحيد.
وأمّا مرتبة الخاصة التي ذكرتُ، ففيها يتنافس المتنافسون، وما ثَمَّ إلاّ عفو الله و مغفرته ورضوانه.

(باب من حقق التوحيد؛ دخل الجنة بغير حساب) استدل الشيخ في هذا الباب بآيتين وبحديث.
أما الآية الأولى قال رحمه الله (وقول الله تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾[النحل:120]) هذه الآية فيها الدِّلالة على أنَّ إبراهيم عليه السلام كان محققا للتوحيد؛ وجه الدلالة أن الله جلّ وعلا وصفه بصفات:

الأولى: أنه كان أُمّة، والأمة هو الإمام الذي جمع جميع صفات الكمال البشري وصفات الخير، وهذا يعني أنه لم ينقص من صفات الخير شيئا، وهذا هو معنى تحقيق التوحيد.
والأمَّة تطلق في القرآن إطلاقات، ومن تلك الإطلاقات أن يكون معنى الأمّة الإمـام المقتدى به في الخير، وسُمِّي أمّة لأنه يقوم مقام أمَّة في الإقتداء، ولأنه يكون من سار على سيره غير مستوحش ولا متردّد، لأنه ليس مع واحد فقط وإنما هو مع أمة.

الوصف الثاني الذي فيه تحقيق التوحيد: أنه قال (قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا) وهاتان صفتان؛ (قَانِتًا لِلَّهِ) صفة, (حَنِيفًا) صفة؛ ولكن هذه وهذه متلازمتان؛ لأن القنوت لله معناه دوام الطاعة وملازمة الطاعة لله جل وعلا، فهو ملازم الطاعة لله جل وعلا، (حَنِيفًا) هذا فيه النفي، ففي قوله (قَانِتًا لِلَّهِ) الإثبات في لزوم الطاعة ولزوم إفراد التوحيد، وفي قوله (حَنِيفًا) النفي.
قال العلماء: الحنيف هو ذو الحَنَفِيّ وهو الميل عن طريق المشركين. مائلا عن طريق المشركين, مائلا عن هدي وسبيل المشركين.
فصار -إذن- عنده ديمومة وقنوت وملازمة للطاعة وبُعْد عن سبيل المشركين، ومعلوم أن سبيل المشركين الذي صار إبراهيم عليه السلام حنيفا عن ذلك السبيل -يعني مائلا عن ذلك السبيل بعيدا عنه-, معلوم أنه يشتمل على الشرك والبدعة والمعصية، فهي ثلاث أخلاق المشركين؛ شرك وبدعة ومعصية من غير إنابة ولا استغفار.

قال (وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)، (لَمْ يَكُ)، (يَكُ) هذه هي (يكن)، وفي النفي يجوز حذف النون -نون (يكن)- في مثل هذا (وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)، وفي آية أخرى (ولم يكن من المشركين)، ([2] (http://www.ajurry.com/vb/#_ftn2)) فهما جائزان في اللغة إذا جاءت (يكن) في سياق النفي كما هو معلوم.
(وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)، (الْمُشْرِكِينَ) جمع تصحيح للمشرك، والمشرك اسم فاعل الشرك، و(الـ) -كما هو معلوم في العربية- إذا جاءت قبل اسم الفاعل، أو اسم المفعول، فإنها تكون موصولة كما قال ابن مالك في الألفية:

وَصِفَةٌ صَرِيحَةٌ صِــلَةُ أَلْ
وَكَوْنُهَـا بِمُعْرَبِ الأَفْعَالِ قَلْ

والإسم الموصول عند الأصوليين يدل على العموم، فكان إذن المعنى: (وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) يعني ولم يكُ فاعلا للشرك بأنواعه؛ لم يكُ منهم، ولم يكُ من الذين يفعلون الشرك بأنواعه. وأيضا دل قوله (وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) على أنه ابتعد عنهم، لأن (مِن) تحتمل أن تكون تبعيضية؛ فتكون المباعدة بالأجسام، ويحتمل أن تكون بيانية؛ فتكون المباعدة بمعنى الشرك.
المقصود أن الشيخ رحمه الله استحضر هذه المعاني من الآية، فدلته الآية على أنها في تحقيق التوحيد، قال جل وعلا (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ذلك لأن من جمع تلك الصفات فقد حقق التوحيد، ومن حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب.
في تفسير إمـام الدعوة المصنف الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله؛ في تفسيره لآخر سورة النحل؛ فسر هذه الآية فقال رحمه الله: إنَّ إبراهيم (كَانَ أُمَّةً) لأنْ لا يستوحش سالكُ الطريق من قلة السالكين، (قَانِتًا لِلَّهِ) لا للملوك ولا للتجار المترَفين، (حَنِيفًا) لا يميل يمينا ولا شمالا، كحال العلماء المفتونين، (وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) خلافا لمن كثّر سوادهم وزعم أنه من المسلمين.
وهو من التفاسير الرائقة، الفائقة، البعيدة المعاني، ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾[فصلت:35].
وقال بعد ذلك ( وقولُه ﴿وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ﴾[المؤمنون: 59].) هذه من آيات من سورة المؤمنون، فهي في مدح خاصة المؤمنين، ووجه الاستدلال من الآية على الباب أنه قال (وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ).
(لَا يُشْرِكُونَ) نفي للشرك -كما ذكرتُ لكم من قبل- أنَّ النفي إذا تسلَّط على الفعل المضارع فإنه يفيد عموم المصدر الذي إستكنَّ في الفعل؛ يعني كأنه قال جل وعلا: والذين هم بربهم لا يفعلون شركا، أو لا يشركون لا بشرك أكبر، ولا أصغر، ولا خفي.
والذي لا يُشرك هو الموحد، فصار عندنا لازمٌ وهو أنَّ من لم يشرك أي نوع من أنواع الشرك، فإنه ما ترك الشرك إلا لتوحيده.
قال العلماء: قدّم هنا قوله (بِرَبِّهِمْ)، (وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ) لأن الربوبية تستلزم العبودية. فصار عدم الإشراك في الربوبية معناه عدم الإشراك في الطاعة وعدم الإشراك في العبودية، وهذا وصف الذين حققوا التوحيد؛ لأنه يلزم من عدم الإشراك ألاَّ يُشرك هواه، وإذا أشرك المرء هواه أتى بالبدع أو أتى بالمعصية، فصار نفي الشرك نفيا للشرك بأنواعه، ونفيا للبدعة، ونفيا للمعصية، وهذا هو تحقيق التوحيد لله جل وعلا.
فإذن الآية دالة على ما ترجم به الإمـام رحمه الله من قوله (باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حسـاب)، وأولئك قال فيهم الله جل وعلا (وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ).

أمَّا الحديث فهو حديث طويل، وموضع الشاهد منه؛ قوله عليه الصلاة والسلام (فَنَظَرْتُ. فَإِذَا سَوَادٌ عَظِيمٌ. فَقِيلَ لِي: هَذِهِ أُمّتُكَ. وَمَعَهُمْ سَبْعُونَ أَلْفاً يَدْخُلُونَ الْجَنّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلاَ عَذَابٍ».
فنَهَضَ فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ. فَخَاضَ النّاسُ فِي أُولَئِكَ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: فَلَعَلّهُمُ الّذِينَ صَحِبُوا رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: فَلَعَلّهُمُ الّذِينَ وُلِدُوا فِي الإِسْلاَمِ فَلَمْ يُشْرِكُوا بِالله. وَذَكَرُوا أَشْيَاءَ.
فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرُوهُ. فَقَالَ: «هُمُ الّذِينَ وَلاَ يَسْتَرْقُونَ. وَلاَ يَكْتَوُون. وَلاَ يَتَطَيّرُونَ. وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ») هذه في صفة الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، وهذه صفة من صفاتهم، وتلك الصفة خاصة بهم لا يلتبس أمرهم بغيرهم؛ لأن هذه الصفة كالشامة يُعرفون بها.

من هم الذين حققوا التوحيد؟ قال (هُمُ الّذِينَ لاَ يَسْتَرْقُونَ. وَلاَ يَكْتَوُون. وَلاَ يَتَطَيّرُونَ. [وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ]) فذكر أربع صفات:

· الأولى أنهم (لاَ يَسْتَرْقُونَ): ومعنى (لاَ يَسْتَرْقُونَ) لا يطلبون الرقية، والطالب للرقية في قلبه ميل للراقي حتى يرفع ما به من جهة السبب. وهذا النفي (لاَ يَسْتَرْقُونَ)؛ لأن الناس في شأن الرقية تتعلق قلوبهم جدا أكثر من تعلقهم بالطب ونحوه، فالرقية عند العرب في الجاهلية -وهكذا حال أكثر الناس- لهم تعلُّقٌ بها، فالقلب يتعلق بالراقي، ويتعلق بالرقية، وهذا ينافي كمال التوكل على الله جل جلاله.
وأما ما جاء في بعض الروايات أنهم الذين (لاَ يَرْقُون) فهذا غلط؛ لأنّ الراقي محسن إلى غيره، وهي لفظة شاذة، والصواب ما جاء في هذه الرواية من أنهم الذين (لاَ يَسْتَرْقُونَ)، يعني لا يطلبون الرقية؛ وذلك لأن طالب الرقية يكون في قلبه ميل إلى هذا الذي رقاه وإلى الرقية، ونَوْعُ تَوَكُّلٍ أو نوع استرواحٍ لهذا الذي يَرقي أو للرقية.

· قال (وَلاَ يَكْتَوُون): والكيُّ مكروه في أصله؛ لأن فيه تعذيبا بالنار، مع أنَّه مأذون به شرعا؛ لكن فيه كراهة. والعرب تعتقد أن الكيَّ يُحدث المقصود دائما، فلهذا تتعلق قلوبهم بالكي، فصار تعلق القلب بهذا الكي من جهة أنَّه سبب يؤثر دائما، ومعلوم أن الكيَّ يؤثر بإذن الله جل وعلا إذا اجتمعت الأسباب وانتفت الموانع. فالنفي لأجل أن في الكيِّ بخصوصه ما يتعلق الناس به من أجله.

· قال (وَلاَ يَتَطَيّرُونَ): والطِّيَرَة شيء يعرض على القلب من جرَّاء شيء يحدث أمامه، إما أن يجعله يُقدم على أمرٍ، أو أن يُحجم عنه، وهذه صفة من لم يكن التوكل في قلبه عظيما.

· قال بعدها (وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ): وهي جامعة للصفات السابقة.

هذه الصفات لا يُعنى بذكرها أن الذين حققوا التوحيد لا يباشرون الأسباب، كما فهمه بعضهم من أن تحقيق التوحيد أو أن الكمال أن لا يباشر سببا البتة، أو أن لا يتداوى البتة، هذا غلط؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رُقِيَ عليه الصلاة والسلام، ولأنه عليه الصلاة والسلام تداوى، وأمر بالتداوي، وأمر أيضا الصحابة بأن يكتوي ونحو ذلك، فليس فيه أن أولئك لا يباشرون الأسباب مطلقا، أو لا يباشرون الدواء، إنما فيها ذكر هذه الثلاث بخصوصها؛ لأنها يكثر تعلق القلب والتفاته إلى الراقي أو الكي أو الكاوي أو إلى التطير، ففيها إنقاص من التوكل.
أما التداوي فهو مشروع، إمّا واجب أو مستحب، وفي بعض الأحوال يكون مباحا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم «تداووا عباد الله ولا تتداووا بحرام»، المقصود من هذا أن التداوي فعلاً، يعني أن يفعل التداوي وأن يطلب الدواء، ليس خارما لتحقيق التوحيد؛ ولكن الذي هو من صفة أهل تحقيق التوحيد أنهم لا يسترقون -بخصوص الرقية-، ولا يكتوون -بخصوص الكيّ-، ولا يتطيرون، وأمّا ما عدا ذلك مما أُذِن به فلا يدخل فيما يختصّ به أهل تحقيق التوحيد.
فإذن يكون الأظهر عندي؛ مما في هذا الحديث أنه مخصوص بهذه الثلاثة (لاَ يَسْتَرْقُونَ. وَلاَ يَكْتَوُون. وَلاَ يَتَطَيّرُونَ)، أمّا الأسباب الأخرى المأذون بها فلا تدخل في صفة الذين حققوا التوحيد.

قال (فَقَامَ عُكّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ. فَقَالَ: ادْعُ الله أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ. قَالَ: «أَنْتَ مِنْهُمْ» ثُمّ قَامَ رَجُلٌ آخَرُ فَقَالَ: ادْعُ الله أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ. فَقَالَ: «سَبَقَكَ بِهَا عُكّاشَةُ») هذا فيه دليل على أنّ أهل تحقيق التوحيد قليل، وليسوا بكثير؛ ولهذا جاء عديدهم في هذا الحديث بأنهم سبعون ألفا، قد جاء في بعض الروايات عند الإمـام أحمد وعند غيره, بأنّ الله جل وعلا أعطى النبي صلى الله عليه وسلم مع كل ألف من السبعين ألفا أعطاه سبعين ألفا, فيكون العدد قَرابة خمسة ملايين من هذه الأمـة، فإن كان ذلك الحديث صحيحا -وقد صحح إسناده بعض أهل العلم- فإنه لا يكون للعدد في هذا الحديث مفهوم، أو كان قبل سؤال النبي صلى الله عليه وسلم أن يُزاد في عدد أولئك الذين حققوا التوحيد.
مـا معني أن يُزاد في عددهم؟ يعني أن الله جلّ وعلا يمنُّ على أناس من هذه الأمة أكثر من السبعين ألفا ممن سيأتون، فيوفقهم لعمل تحقيق التوحيد، والله جل وعلا هو الذي يوفق، وهو الذي يهدي، ثم هو الذي يجازي فما أعظمه من محسن، برٍّ، كريم، رحيم.



([1]) انتهى الشريط الأول.

([2])لم أجدها ولكن يوجد شواهد كثيرة في القرآن منها ﴿ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾[البقرة:196].



http://www.ajurry.com/vb/showthread.php?t=33930