الواثقة بالله
10-26-2017, 12:53 AM
بيان المغزى
من قول الإمام أحمد
أمروها بلا معنى
الحمد لله رب العالمين الذي وضح الحق وبينه أتم التوضيح و التبيين ، ثم الصلاة و السلام على النبي الأمين ، بعثه الله بالهدى ودين الحق رحمة للعالمين وقدوة للعاملين ، وحجة على العباد أجمعين ، فأدى الأمانة وبلغ الرسالة ونصح الأمة و جلى لهم جميع ما يحتاجون إليه في أصول الدين و فروعه ، و سار على دربه أصحابه الكرام المؤتمنون ، وتلقى عنهم أتباعهم الصادقون ، حتى خلف من بعدهم خلوف يعتقدون الباطل ، ويردون الحق ، ويسلكون في ذلك سبلاً خبيثة ويتخذون لأجله وسائل رخيصة ، فمنها أنهم :
- اخترعوا مصادر أخرى يتلقون عنها اعتقادهم ودينهم غير الكتاب و السنة وإجماع علماء الأمة . [ انظر وسائل أهل الباطل في تقرير باطلهم ، صفحة 36 ] .
- بتروا نصوص العلماء واجتزؤوا بعضها لخدمة باطلهم . [ انظر : وسائل أهل الباطل في تقرير باطلهم ، صفحة 63 ]
- قصروا في تتبع الروايات في الباب الواحد ، مما أوصلهم إلى فهم ناقص وتصور مغلوط . [ انظر : وسائل أهل الباطل في تقرير باطلهم ، صفحة 58 ] .
- واستدلوا بالمتشابه و أعرضوا عن المحكم الواضح . [ انظر : وسائل أهل الباطل في تقرير باطلهم ، صفحة 17 ] .
فهذه بعض أصولهم الفاسدة لتقرير باطلهم لها علاقة ببحثنا هذا ، وهو إبطال شبهة يرددونها ويريدون منها أن السلف كانوا ينظرون إلى نصوص الصفات كأنها ألفاظ جوفاء لا معاني لها ولا حقيقة .
ولست معنياً بالرد على شبهتهم كلها التي يقولون فيها أن السلف كانوا مفوضة، يفوضون المعنى و الكيف ، ذلك أن للعلماء جولات وصولات في ردم هذه الخرافة المتهاوية ، ولهم في ذلك جهود مبرورة في ثنايا مصنفاتهم أو في مصنفات خاصة ، لا تخفى على طالب العلم .
أما ما أنا بصدد بيان تهافته هو استدلالهم بكلام الإمام أحمد رحمه الله تعالى عن بعض نصوص الصفات : ( نؤمن بها ، ونصدق بها ، ولا كيف ، ولا معنى ) .
فقالوا : هاهو الإمام أحمد يقول : إننا نؤمن بهذه النصوص بدون معنى .
ونقول وبالله وحده نصول ونجول :
* أولاً :
نعم الإمام أحمد إمام عظيم من أئمة المسلمين ، ولكن لم يدَّع لنفسه العصمة من الخطأ و الزلل ، ولم يدَّعه له غيره ! ، و العصمة ليست لأحد من البشر إلا لأنبياء الله تعالى - عليهم الصلاة و السلام - ، أما الإمام أحمد فإنه يجوز عليه ما يجوز على غيره من أهل العلم من الكبوة و الزلة ، وكل الناس يؤخذ من كلامهم ويرد إلا نبينا صلى الله عليه وسلم ، كما قال الإمام مالك .
و الإمام أحمد نفسه قد قال : ( رأي الأوزاعي و رأي مالك و رأي أبي حنيفة كله رأي ، وهو عندي سواء ، و إنما الحجة في الآثار ) [ انظر مقدمة صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم للشيخ الألباني ]
وكلام الإمام أحمد ليس قرآناً ولا حديثاً وليس بإجماع ، قال أبو المظفر السمعاني : ( أما أهل الحق فجعلوا الكتاب و السنة أمامهم ، و طلبوا الدين من قِبلهما ...) [ صون المنطق و الكلام (167) بواسطة " وسائل أهل الباطل في تقرير باطلهم ، صفحة 37" ]
و أنتم لا تحترمون الإمام أحمد و لا تتخذون طريقته طريقة لكم ، بل هو بريء من دعواكم المجردة هذه ، ولكنني أردت أن أقول ابتداءً أن طريقتكم في الاستدلال ساقطةٌ من أصلها .
ثم هب أن هذا هو مذهب الإمام أحمد هبه كذلك - وهو ليس كذلك مطلقاً كما سيظهر لكل منصف - فإن الحق لا يعارض بكلام أحد من أهل العلم مهما بلغ علمه و علا قدره .
قال الأصبهاني : ( ... تبين للناس أمر دينهم فعلينا الاتباع ؛ لأن الدين إنما جاء من قِبَل الله تعالى ، لم يوضع على عقول الرجال و آرائهم ، قد بين الرسول صلى الله عليه وسلم السنة لأمته و أوضحها لأصحابه ، فمن خالف الرسول صلى الله عليه وسلم في شيء من الدين فقد ضل ) [ الحجة في بيان المحجة (2/440)]
بل قال ابن تيمية : ( معارضة أقوال الأنبياء بآراء الرجال ، وتقديم ذلك عليها هو من فعل المكذبين للرسل ، بل هو جماع كل كفر ) [ درء التعارض (5/204) ]
فكيف لو لم تكن دعواكم الفارغة هذه مذهباً له ولا قولاً يقوله ولا رأياً يراه ؟ وما في هذه الأسطر بيان ذلك بما لا يدع مجالاً لأي شكاك - بإذن الله تعالى - ولا يفسح لأي ملبس فسحة و فرجة بحول الله وقوته .
فهذه واحدة .
* ثانياً :
يقال لهم : إنكم بترتم كلام الإمام أحمد واقتصرتم على ما يظهر أن فيه موافقة لضلالكم و إليكم تمام كلامه :
قال ابن قدامة : " قال أبو بكر الخلال : أخبرنا المرُّوذي ، قال : سألت أبا عبد الله عن أخبار الصفات فقال : ( نُمرها كما جاءت ) .
قال : و أخبرني علي بن عيسى أن حنبلاً حدَّثهم قال : سألت أبا عبد الله عن الأحاديث التي تُروى : { إن الله تبارك و تعالى ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا } ، و { أن الله يُرى } ، و { إن الله يضع قدمه } وما أشبهه ؟
فقال أبو عبد الله : نؤمن بها ، ونصدق بها ، ولا كيف ، ولا معنى ، ولا نرد منها شيئاً ، ونعلم أن ما جاء به الرسول حق ، إذا كانت بأسانيد صحاح ، ولا نرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله ، ولا يوصف الله تعالى بأكثر مما وصف به نفسه ، أو وصفه به رسوله بلا حد ولا غاية { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } [ الشورة : 11 ] ، ولا يبلغ الواصفون صفته ، وصفاته منه ، ولا نتعدى القرآن و الحديث ، فنقول كما قال ، ونصفه كما وصف نفسه ، ولا نتعدى ذلك ، نؤمن بالقرآن كله ، محكمه ومتشابهه ، ولا نزيل عنه صفة من صفاته لشناعة شنعت " [1] [ ذم التأويل صفحة (2 ]
و قال اللالكائي : " قال حنبل بن إسحاق قال سألت أبا عبد الله أحمد بن حنبل عن الأحاديث التي تروى عن النبي صلى الله عليه وسلم : { إن الله ينزل إلى السماء الدنيا } فقال أبو عبد الله :
نؤمن بها ، ونصدق بها ، ولا نرد شيئاً منها إذا كانت أسانيد صحاح ، ولا نرد على رسول الله قوله ، ونعلم أن ما جاء به الرسول حق .
حتى قلت لأبي عبد الله : ينزل الله إلى سماء الدنيا ، قال : قلت : نزوله بعلمه بماذا ؟ ، فقال لي :
اسكت عن هذا ؛ ما لك ولهذا ، امض الحديث على ما روي بلا كيف ولا حد ، بما جاءت به الآثار وجاء به الكتاب ، قال الله عز وجل { فلا تضربوا لله الأمثال } [ النحل :74] .
ينزل كيف يشاء بعلمه وقدرته [ وعظمته ] ، أحاط بكل شيء علما ، لا يبلغ قدره واصف ، ولا ينأى عنه هَرَب هارب " [ في شرح أصول اعتقاد أهل السنة و الجماعة ( رقم : 777 ) ]
قال أبو يعلى : " وقال – يعني الإمام أحمد - في رواية حنبل في الأحاديث التي تروى: " إن الله، تبارك وتعالى، ينزل إلى سماء الدنيا " والله يرى " وأنه يضع قدمه " وما أشبه بذلك، نؤمن بها ونصدق بها ولا كيف ولا معنى ولا نرد شيئا منها، ونعلم أن ما قاله الرسول، صلى الله عليه وسلم، حق إذا كانت بأسانيد صحاح .
وقال في رواية حنبل: يضحك الله، ولا نعلم كيف ذلك إلا بتصديق الرسول وقال: المشبهة تقول: بصر كبصري، ويد كيدي، وقدم كقدمي، ومن قال ذلك فقد شبه الله بخلقه فقد نص أحمد على القول بظاهر الأخبار من غير تشبيه ولا تأويل " [ إبطال التأويلات (صفحة :45) ]
فلماذا ضربتم عن الجزء الذي فيه نقض دعواكم من قواعدها ؟
ذلك أن كلام الإمام أحمد واضح بيّن في إثبات الصفات لله تعالى كما وصف به نفسه ولا يرد حديث النبي صلى الله عليه وسلم ولا ينكر صفة ثبتت لله تعالى لأجل شناعة شنعت .
فهذا نوع من التحريف و التلبيس ، و النوع الثاني هو ما في :
* ثالثاً :
النهج الصحيح يقتضي دراسة الروايات عن الإمام أحمد في هذا الباب ، لا سلوك الانتقائية باختيار عبارةٍ ما من كلام الإمام أحمد وجعلها منهجاً له مع إغفال كمٍ كبيرٍ من نصوصه الواضحةِ في هذا الأمر ، و من ذلك :
ما قاله القاضي أبو يعلى : " قال يوسف بن موسى قيل لأبي عبد الله إن الله ينزل إلى السماء الدنيا كيف يشاء من غير وصف ؟ قال نعم " [ إبطال التأويلات (1/260) ]
و روى اللالكائي : أن الإمام أحمد قال في أحاديث الرؤية : " نؤمن بها ، ونقر ، وكل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم بأسانيد جيدة نؤمن به ونقر " [1/322]
و روى الآجرِّي أن الإمام أحمد سئل عمن قال: إن الله عز وجل لم يكلم موسى ؟ فقال : " يستتاب ، فإن تاب وإلا ضربت عنقه " [ الشريعة ( برقم :723) ]
و روى الخلال عن الإمام أحمد قوله : " أسماء الله في القرآن و صفاته في القرآن من علم الله وصفاته منه ... لم يزل الله عالماً متكلماً نعبد الله بصفاته غير محدودة ولا معلومة إلا بما وصف به نفسه سميع عليم غفور رحيم عالم الغيب و الشهادة علام الغيوب ، فهذه صفات الله تبارك وصف بها نفسه ، لا تُدفع ولا تُرد ، وهو على العرش بلا حدَّ ، كما قال استوى على العرش كيف شاء و المشيئة إليه و الاستطاعة له ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، لا يبلغ وصفه الواصفون وهو كما وصف به نفسه " [ في السنة ( برقم 185 ]
وعند الخلال أيضاً عن الإمام أحمد أنه قال : " من قال إن أسماء الله مخلوقة و أن علم الله مخلوق فهو كافر " [برقم:1864]
و قال عبد الله ابن الإمام أحمد : " سمعت أبي يقول : حدثنا يحيى بن سعيد بحديث سفيان عن الأعمش عن إبراهيم عن عبيدة عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم : { إن الله يمسك السماوات على أصبع ...} ، قال أبي : وجعل يحيى يشير بأصابعه ، و أراني أبي كيف جعل يشير بأصبُعه ، يضع أصبعاً ، حتى أتى على آخرها " [ السنة لعبد الله ابن الإمام أحمد ، برقم 484 ] .
وقال : " سألت أبي رحمه الله عن قوم يقولون لما كلم الله عز وجل موسى لم يتكلم بصوت ؟ فقال أبي : بلى ، إن ربك عز وجل تكلم بصوت ، هذه الأحاديث نرويها كما جاءت " [ المصدر السابق ، برقم 527 ] .
و قال : " رأيت أبي يصحح الأحاديث التي تُروى عن النبي صلى الله عليه وسلم في الرؤية ويذهب إليها ، وجمعها أبي رحمه الله في كتاب وحدثنا بها " [ المصدر السابق (1/165) ] .
و قال الإمام أحمد : " يضحك الله ولا نعلم كيف ذلك إلا بتصديق الرسول " [ رواه أبو يعلى في إبطال التأويلات ، 45 ، وذكره الأصبهاني في الحجة في بيان المحجة (1/473) وقال عقبه : قد نص أحمد على القول بظاهر الأخبار من غير تشبيه ولا تأويل ]
و قال الإمام أحمد : " إن الله يحب ويكره ويبغض ويرضى ويغضب ويسخط ويرحم ويعفو ويغفر ويعطي ويمنع " [ الحجة في بيان المحجة (1/463) ]
وروى اللالكائي عن يوسف بن موسى البغدادي " قيل لأبي عبد الله : الله عز وجل فوق السماء السابعة على عرشه بائن من خلقه ، وقدرته وعلمه في كل مكان ؟ ، قال : نعم على العرش ، وعلمه لا يخلو منه مكان " [ برقم :674]
ناهيك عن الأجزاء الكثيرة التي صنفها تلاميذ الإمام أحمد أو تلاميذهم ويذكرون فيها رأي الإمام أحمد بشكلٍ بيّنٍ واضح ، وسنكتفي بمثالٍ واحدٍ فقط :
قال حرب الكرماني – وهو من تلاميذ الإمام أحمد – في عقيدته المشهورة :
" هذا مذهب أئمة العلم و أصحاب الأثر و أهل السنة ... وهو مذهب أحمد ... "
و كان مما قاله في هذا المعتقد الذي نسبه للإمام أحمد :
" وهو على العرش فوق السماء السابعة ... يسمع ويبصر وينظر و يقبض ويبسط ويضحك و يفرح ويحب و يكره ويبغض ويرضى ويسخط ويغضب ويرحم ويعفو ويغفر ويعطي ويمنع .
وينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا كيف شاء وكما شاء { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } " إلى آخر كلامه المتين .
و أيضاً لا تغفل الإجماعات [2] الكثيرة المتواترة التي ذكرها أئمة أهل الحديث و السنة من بعد الإمام أحمد – وهو داخل في ذكر الإجماع بلا ريب – عن السلف و طريقتهم مع نصوص الصفات من أنهم يؤمنون بحقيقتها ومعناها الصحيح ويفوضون كيفيتها .
و أيضاً فإنها لا تغفل تلك النصوص الكثيرة عن السلف في هذا الباب ، و التي إنما وصلتنا عن طريق الإمام أحمد ، وفيها التصريح بالإيمان بحقيقة صفات رب العالمين [3] فلو كان يراها باطلاً لما رواها أو لحذر منها .
فهاهو يذكر الصفات و الإيمان بها حقيقة تفصيلاً و إجمالاً ، فظهر أن دعواكم على الإمام أحمد ما هي إلا مجرد دعوى ودعوى مجردة ، وإلا فهذه النصوص عنه واضحة وضوح الشمس في رائعة الضحى تلفح وجوهكم و تلهب ظهوركم ، فما أنتم قائلون ؟
* رابعاً :
يقال لهم : ليس في كلام الإمام أحمد شيء مما ذهبتم إليه ، بل هو حجة عليكم ، وهذا لأمور :
الأول : أنتم تدّعون على الإمام أحمد و السلف أن طريقتهم هي الإيمان بمجرد ألفاظ النصوص من غير إثبات لأي معنى ، فهم عندكم يؤمنون بألفاظٍ جوفاءَ لا معنى لها ، وهذا كذبٌ على السلف وهو اعتقادٌ باطلٌ تكذبه الأدلةُ و تفضحه الشواهد ، وقد سقنا بعضاً منها عن الإمام أحمد فقط ، فكيف لو ذكرنا الأدلة من الكتاب و السنة و إجماع السلف ؟
الثاني : على فرض التسليم بدعواكم هذه ، فإنه يقال لكم : إن كانت طريقة الإمام أحمد هي تفويض المعنى و الإيمان بألفاظ لا معاني لها فما وجه قوله : " نؤمن بها ونصدق "
فما الذي يؤمنُ به ويصدق ؟ أهو النص كنص ؟ قطعاً لا ! لأن الإيمان بمثل هذه النصوص – القرآنية خاصة – ثابتٌ بالضرورة ، وهو خارج البحث ؛ لأنه لم يُسأل عنه ، وإنما سئل عن معنى النص ، فيصير وجه كلامه " نؤمن بها ونصدق بمعناها " ولكن أي معنى ؟ إن عدنا إلى الآثار السابقة و إلى مفصل عقيدة الإمام أحمد عرفنا أنه يريد أنه يؤمن بهذه النصوص بلا تعطيل ولا تكييف .
وكيف توجهون قوله " لا كيف " فلإن كان هو ينفي المعنى أصلاً – كما تزعمون – فما الحاجة لنفي الكيف ؟
فبهذا يتضح لكل منصف أن نفي الإمام أحمد للمعنى إنما أراد به شيئاً خاصاً ، ويظهر لنا إذا جمعنا هذا النص مع بقية النصوص الواضحة الصريحة عنه ، أنه ما أراد إلا نفي " المعنى الذي ابتكره المعطلة من الجهمية وغيرهم ، وحرفوا به نصوص الكتاب و السنة عن ظاهرها إلى معاني تخالفة "[4]
يدل عليه :
ما قاله المروذي : " سألت أبا عبد الله عن عبد الله التيمي ، فقال : صدوق ، وقد كتبت عنه من الرقائق ، ولكن حكي عنه أنه ذكر حديث الضحك فقال : مثل الزرع ، وهذا كلام الجهمية " [الإبانة (3/111) ]
إذن فإن الإمام أحمد ينكر هذا المعنى المخترع المبتكر الذي جاء به المبتدعة ليعطِّلوا ظواهرَ النصوصِ ، مع أنَّ الإمام أحمد قد روي عنه أنه يؤمن بهذه النصوص و ظواهرها ومعناها كما سبق ذكر شيء من ذلك .
وقال الأثرم : " قلت لأبي عبد الله حَرْبٌ محدِّث وأنا عنده بحديث { يضع الرحمن فيها قدمه } ، وعنده غلام ، فأقبل عليَّ الغلام فقال : إن لهذا تفسيراً ! ، فقال أبو عبد الله : انظر ؛ كما تقول الجهمية سواء " [ الإبانة (3/331)]
مع أنه لما سُئل عن هذا الحديث أثبت ظاهر النص ، ولكنه أنكرَ مرادَ الغلامِ من أن لصفة القدم تفسيراً مخالفاً لتعطيل الصفة عن الرحمن تبارك و تعالى .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " قوله من غير تفسير : أراد به تفسير الجهمية المعطلة الذين ابتدعوا تفسير الصفات بخلاف ما كان عليه الصحابة و التابعون من الإثبات " [ الحموية / مجموع الفتاوى (5/50) ] .
و هذه بعض أقوال أهل العلم تؤيد ما مضى :
قال الشيخ المحقق العلامة محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله تعالى - [في شرح لمعة الاعتقاد ( صفحة : 36)] :
" قوله: ولا معنى أي: لا نثبت لها معنى يخالف ظاهرها كما فعله أهل التأويل وليس مراده نفي المعنى الصحيح الموافق لظاهرها الذي فسرها به السلف فإن هذا ثابت، ويدل على هذا قوله: "ولا نرد شيئاً منها، ونصفه بما وصف به نفسه، ولا نزيل عنه صفة من صفاته لشناعة شنعت، ولا نعلم كيف كنه ذلك". فإن نفيه لرد شيء منها، ونفيه لعلم كيفيتها دليل على إثبات المعنى المراد منها " ا.هـ
قال العلامة الشيخ صالح الفوزان - حفظه الله تعالى - [ في شرحه على لمعة الاعتقاد ( صفحة :49) ] :
" ولا معنى : المراد بهذه اللفظة ، أي المعنى الذي يفسره به المبتدعة وهو التأويل ، ليس المراد نفي المعنى الحقيقي ، فإن معناها معروف ، - كما يقول الإمام مالك : ( الاستواء معلوم ، و الكيف مجهول ، و الإيمان به واجب ، و السؤال عنه - أي عن الكيفية - بدعة - فمعنى قوله : ( ولا معنى ) أي : المعنى الذي يريده أهل الضلال وهو التأويل ، مثل تأويل اليد بالقدرة ، و المجيء بمجيء أمره ، و النزول بنزول أمره ، و ما أشبه ذلك .
هذه معان جاؤوا بها هم ، ونحن ننفيها ، وليست هي المعاني التي أرادها الله سبحانه و تعالى . فهو لا يريد نفي المعنى الذي هو معنى الكلام في اللغة العربية و إنما يريد نفي المعنى المحدث ؛ لأنه يرد على المبتدعة فهو يريد المعنى الذي قصدوه و أحدثوه .
فلا يتعلق بهذه العبارة من يريد التلبيس ، و يقول : إن الإمام أحمد مفوض يقول : لا معنى . هذه طريقة المفوضة ، و الإمام أحمد ليس من المفوضة . هو من المفوضة في الكيفية ، لأن الكيفية يجب تفويضها أما المعنى اللغوي فهذا واضح لا يفوض ، بل يفسر و يبين " ا.هـ
قال الشيخ صالح آل الشيخ - حفظه الله - [ في شرحه على لمعة الاعتقاد ( صفحة 8 من النسخة التي نشرها الأخ سالم الجزائري ) ] :
" أهل العلم يقولون : إن الإمام أحمد أراد بقوله : (بلا كيف ولا معنى) الرد على طائفتين:
1. الطائفة الأولى المشبهة المجسمة رد عليهم بقوله : (بلا كيف) يعني الكيفية التي تتوهمها العقول، أو وَصَفَ اللهَ جل وعلا بها المجسمة أو الممثلة.
2. وقوله : (ولا معنى) ردّ بها رحمه الله على المعطلة، الذين جعلوا معاني النصوص على خلاف الظاهر المتبادر منها، فقالوا : إن معنى النزول الرحمة، وقالوا إن معنى الاستواء الاستيلاء، وقالوا إن معنى الرحمة الإرادة؛ إرادة الإحسان أو إرادة الخير، وإن الغضب معناه إرادة الانتقام ونحو ذلك فهذا تأويل منه.
فالإمام أحمد يقول (بلا كيف) الكيف الذي جعله المجسمة، (ولا معنى) الذي جعله المعطلة، يعني المعنى الباطل الذي صرف الألفاظ إليه المبتدعة المؤولة.
فإذن قوله (بلا كيف ولا معنى) يريد بقوله (ولا معنى) المعنى الباطل الذي تأول به وإليه المبتدعة نصوص الصفات والنصوص الغيبية.
وهذا نأخذ منه قاعدة مهمة: وهي أن طالب العلم الذي يعتني بأمر الاعتقاد يجب عليه أن يفهم اعتقاد أهل السنة والجماعة تماما، فإذا فهمه وورد بعد ذلك ألفاظ مشكلة عن الأئمة, عن التابعين, من تبع التابعين، عن بعض الأئمة فإنه بفهمه للاعتقاد الصحيح سيوجّه معناها إلى معنىً مستقيم، لأنه لا يُظن بالإمام أحمد وهو إمام أهل السنة والجماعة الذي حكم بالبدعة على المفوضة أنه يقول (ولا معنى) يعني ليس للآيات والأحاديث معنى يفهم بتاتا .
فإذن فهمُك لأصول الاعتقاد وأصول ما كان عليه أهل السنة والجماعة، وضبطُك لذلك، به يمكنك أن تجيب على كثير من الإشكالات.
ونحن في هذا الزمان ربما كتب بعض الناس كتابات في أن السلف يقرّون التأويل، وأنه وُجد التأويل للصفات في زمن الصحابة، أو وجد في زمن الصحابة من ينكر بعض الصفات، أو وجد في التابعين من يؤول، والإمام أحمد أوَّلَ، ونحو ذلك، وهذا من جرّاء عدم فهمهم لأصول أهل السنة والجماعة، وابتغاء الفتنة، وابتغاء التأويل الذي وصف الله جل وعلا به الزائغين.
وإذا فهمت الصواب وفهمت المنهج الحق والاعتقاد الحق فإنه يمكن بذلك أن تجيب عن ما ورد عن بعض أئمة أهل السنة من ألفاظ ربما خالف ظاهرُها المعتقد، أو ظُن أن فيها شيء من التأويل، يمكن أن تجيب عليها بأجوبة محققة واضحة" ا.هـ
فظهر لنا طريقة القوم في التلبيس و التدليس و التحريف و التعطيل ، فإن هم فعلوه مع كلام الله تعالى فإنهم على كلام غيره أجرؤ ! و الله المستعان و لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
فاعرف شبهاتهم ولا تغرنَّك فما هي إلا زبدٌ يطيشُ ولا يستقر ، وهذه هي طريقتهم مع بقية العلماء ، فإن هم استدلوا بمثل هذا عن عالم سني آخر فاسلك هذه الخطوات التي في هذا المقال تعرف تهافت دعواهم وخيبة مسعاهم .
و الله الموفق لا رب سواه
محمد جميل حمامي
القدس [8/2/1433 ]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] : هو هكذا في ذم التأويل ، و النقل الأول عن الإمام أحمد في السنة للخلال [283] ، أما النقل الثاني فبحثت عنه في السنة للخلال ولم أجده فيه إما لتقصيري أو أنه في الجزء الذي لم يطبع من السنة للخلال أو أنه من الساقط منه ، وهو أشبه بكلام الإمام أحمد لأمور :
- نقله ونسبه للإمام أحمد أئمة كبار كابن قدامة وابن تيمية و ابن القيم بهذا النص .
- موافق لكلام الإمام أحمد و يتفق مع أصوله .
- ويشهد له الأثر التالي له .
[2] : مثل الذي نقله أبو عثمان الصابوني و أبو بطة العكبري و ابن تيمية و غيرهم كثير.
[3] : للشيخ أسعد الزعتري حفظه الله تعالى مصنف رائق جمع فيه مرويات السلف في الاعتقاد من كتب سؤالات الإمام أحمد وخرج هذه الآثار تخريجاً علمياً دقيقاً ، وطبع الكتاب في مجلدين عن دار المعارف في الرياض
[4] :فتح رب البرية بتلخيص الحموية ، للعلامة ابن عثيمين ( صفحة : 32) ، وفي مقدمة هذا المقال شيء من مقدمة الكتاب .
من قول الإمام أحمد
أمروها بلا معنى
الحمد لله رب العالمين الذي وضح الحق وبينه أتم التوضيح و التبيين ، ثم الصلاة و السلام على النبي الأمين ، بعثه الله بالهدى ودين الحق رحمة للعالمين وقدوة للعاملين ، وحجة على العباد أجمعين ، فأدى الأمانة وبلغ الرسالة ونصح الأمة و جلى لهم جميع ما يحتاجون إليه في أصول الدين و فروعه ، و سار على دربه أصحابه الكرام المؤتمنون ، وتلقى عنهم أتباعهم الصادقون ، حتى خلف من بعدهم خلوف يعتقدون الباطل ، ويردون الحق ، ويسلكون في ذلك سبلاً خبيثة ويتخذون لأجله وسائل رخيصة ، فمنها أنهم :
- اخترعوا مصادر أخرى يتلقون عنها اعتقادهم ودينهم غير الكتاب و السنة وإجماع علماء الأمة . [ انظر وسائل أهل الباطل في تقرير باطلهم ، صفحة 36 ] .
- بتروا نصوص العلماء واجتزؤوا بعضها لخدمة باطلهم . [ انظر : وسائل أهل الباطل في تقرير باطلهم ، صفحة 63 ]
- قصروا في تتبع الروايات في الباب الواحد ، مما أوصلهم إلى فهم ناقص وتصور مغلوط . [ انظر : وسائل أهل الباطل في تقرير باطلهم ، صفحة 58 ] .
- واستدلوا بالمتشابه و أعرضوا عن المحكم الواضح . [ انظر : وسائل أهل الباطل في تقرير باطلهم ، صفحة 17 ] .
فهذه بعض أصولهم الفاسدة لتقرير باطلهم لها علاقة ببحثنا هذا ، وهو إبطال شبهة يرددونها ويريدون منها أن السلف كانوا ينظرون إلى نصوص الصفات كأنها ألفاظ جوفاء لا معاني لها ولا حقيقة .
ولست معنياً بالرد على شبهتهم كلها التي يقولون فيها أن السلف كانوا مفوضة، يفوضون المعنى و الكيف ، ذلك أن للعلماء جولات وصولات في ردم هذه الخرافة المتهاوية ، ولهم في ذلك جهود مبرورة في ثنايا مصنفاتهم أو في مصنفات خاصة ، لا تخفى على طالب العلم .
أما ما أنا بصدد بيان تهافته هو استدلالهم بكلام الإمام أحمد رحمه الله تعالى عن بعض نصوص الصفات : ( نؤمن بها ، ونصدق بها ، ولا كيف ، ولا معنى ) .
فقالوا : هاهو الإمام أحمد يقول : إننا نؤمن بهذه النصوص بدون معنى .
ونقول وبالله وحده نصول ونجول :
* أولاً :
نعم الإمام أحمد إمام عظيم من أئمة المسلمين ، ولكن لم يدَّع لنفسه العصمة من الخطأ و الزلل ، ولم يدَّعه له غيره ! ، و العصمة ليست لأحد من البشر إلا لأنبياء الله تعالى - عليهم الصلاة و السلام - ، أما الإمام أحمد فإنه يجوز عليه ما يجوز على غيره من أهل العلم من الكبوة و الزلة ، وكل الناس يؤخذ من كلامهم ويرد إلا نبينا صلى الله عليه وسلم ، كما قال الإمام مالك .
و الإمام أحمد نفسه قد قال : ( رأي الأوزاعي و رأي مالك و رأي أبي حنيفة كله رأي ، وهو عندي سواء ، و إنما الحجة في الآثار ) [ انظر مقدمة صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم للشيخ الألباني ]
وكلام الإمام أحمد ليس قرآناً ولا حديثاً وليس بإجماع ، قال أبو المظفر السمعاني : ( أما أهل الحق فجعلوا الكتاب و السنة أمامهم ، و طلبوا الدين من قِبلهما ...) [ صون المنطق و الكلام (167) بواسطة " وسائل أهل الباطل في تقرير باطلهم ، صفحة 37" ]
و أنتم لا تحترمون الإمام أحمد و لا تتخذون طريقته طريقة لكم ، بل هو بريء من دعواكم المجردة هذه ، ولكنني أردت أن أقول ابتداءً أن طريقتكم في الاستدلال ساقطةٌ من أصلها .
ثم هب أن هذا هو مذهب الإمام أحمد هبه كذلك - وهو ليس كذلك مطلقاً كما سيظهر لكل منصف - فإن الحق لا يعارض بكلام أحد من أهل العلم مهما بلغ علمه و علا قدره .
قال الأصبهاني : ( ... تبين للناس أمر دينهم فعلينا الاتباع ؛ لأن الدين إنما جاء من قِبَل الله تعالى ، لم يوضع على عقول الرجال و آرائهم ، قد بين الرسول صلى الله عليه وسلم السنة لأمته و أوضحها لأصحابه ، فمن خالف الرسول صلى الله عليه وسلم في شيء من الدين فقد ضل ) [ الحجة في بيان المحجة (2/440)]
بل قال ابن تيمية : ( معارضة أقوال الأنبياء بآراء الرجال ، وتقديم ذلك عليها هو من فعل المكذبين للرسل ، بل هو جماع كل كفر ) [ درء التعارض (5/204) ]
فكيف لو لم تكن دعواكم الفارغة هذه مذهباً له ولا قولاً يقوله ولا رأياً يراه ؟ وما في هذه الأسطر بيان ذلك بما لا يدع مجالاً لأي شكاك - بإذن الله تعالى - ولا يفسح لأي ملبس فسحة و فرجة بحول الله وقوته .
فهذه واحدة .
* ثانياً :
يقال لهم : إنكم بترتم كلام الإمام أحمد واقتصرتم على ما يظهر أن فيه موافقة لضلالكم و إليكم تمام كلامه :
قال ابن قدامة : " قال أبو بكر الخلال : أخبرنا المرُّوذي ، قال : سألت أبا عبد الله عن أخبار الصفات فقال : ( نُمرها كما جاءت ) .
قال : و أخبرني علي بن عيسى أن حنبلاً حدَّثهم قال : سألت أبا عبد الله عن الأحاديث التي تُروى : { إن الله تبارك و تعالى ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا } ، و { أن الله يُرى } ، و { إن الله يضع قدمه } وما أشبهه ؟
فقال أبو عبد الله : نؤمن بها ، ونصدق بها ، ولا كيف ، ولا معنى ، ولا نرد منها شيئاً ، ونعلم أن ما جاء به الرسول حق ، إذا كانت بأسانيد صحاح ، ولا نرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله ، ولا يوصف الله تعالى بأكثر مما وصف به نفسه ، أو وصفه به رسوله بلا حد ولا غاية { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } [ الشورة : 11 ] ، ولا يبلغ الواصفون صفته ، وصفاته منه ، ولا نتعدى القرآن و الحديث ، فنقول كما قال ، ونصفه كما وصف نفسه ، ولا نتعدى ذلك ، نؤمن بالقرآن كله ، محكمه ومتشابهه ، ولا نزيل عنه صفة من صفاته لشناعة شنعت " [1] [ ذم التأويل صفحة (2 ]
و قال اللالكائي : " قال حنبل بن إسحاق قال سألت أبا عبد الله أحمد بن حنبل عن الأحاديث التي تروى عن النبي صلى الله عليه وسلم : { إن الله ينزل إلى السماء الدنيا } فقال أبو عبد الله :
نؤمن بها ، ونصدق بها ، ولا نرد شيئاً منها إذا كانت أسانيد صحاح ، ولا نرد على رسول الله قوله ، ونعلم أن ما جاء به الرسول حق .
حتى قلت لأبي عبد الله : ينزل الله إلى سماء الدنيا ، قال : قلت : نزوله بعلمه بماذا ؟ ، فقال لي :
اسكت عن هذا ؛ ما لك ولهذا ، امض الحديث على ما روي بلا كيف ولا حد ، بما جاءت به الآثار وجاء به الكتاب ، قال الله عز وجل { فلا تضربوا لله الأمثال } [ النحل :74] .
ينزل كيف يشاء بعلمه وقدرته [ وعظمته ] ، أحاط بكل شيء علما ، لا يبلغ قدره واصف ، ولا ينأى عنه هَرَب هارب " [ في شرح أصول اعتقاد أهل السنة و الجماعة ( رقم : 777 ) ]
قال أبو يعلى : " وقال – يعني الإمام أحمد - في رواية حنبل في الأحاديث التي تروى: " إن الله، تبارك وتعالى، ينزل إلى سماء الدنيا " والله يرى " وأنه يضع قدمه " وما أشبه بذلك، نؤمن بها ونصدق بها ولا كيف ولا معنى ولا نرد شيئا منها، ونعلم أن ما قاله الرسول، صلى الله عليه وسلم، حق إذا كانت بأسانيد صحاح .
وقال في رواية حنبل: يضحك الله، ولا نعلم كيف ذلك إلا بتصديق الرسول وقال: المشبهة تقول: بصر كبصري، ويد كيدي، وقدم كقدمي، ومن قال ذلك فقد شبه الله بخلقه فقد نص أحمد على القول بظاهر الأخبار من غير تشبيه ولا تأويل " [ إبطال التأويلات (صفحة :45) ]
فلماذا ضربتم عن الجزء الذي فيه نقض دعواكم من قواعدها ؟
ذلك أن كلام الإمام أحمد واضح بيّن في إثبات الصفات لله تعالى كما وصف به نفسه ولا يرد حديث النبي صلى الله عليه وسلم ولا ينكر صفة ثبتت لله تعالى لأجل شناعة شنعت .
فهذا نوع من التحريف و التلبيس ، و النوع الثاني هو ما في :
* ثالثاً :
النهج الصحيح يقتضي دراسة الروايات عن الإمام أحمد في هذا الباب ، لا سلوك الانتقائية باختيار عبارةٍ ما من كلام الإمام أحمد وجعلها منهجاً له مع إغفال كمٍ كبيرٍ من نصوصه الواضحةِ في هذا الأمر ، و من ذلك :
ما قاله القاضي أبو يعلى : " قال يوسف بن موسى قيل لأبي عبد الله إن الله ينزل إلى السماء الدنيا كيف يشاء من غير وصف ؟ قال نعم " [ إبطال التأويلات (1/260) ]
و روى اللالكائي : أن الإمام أحمد قال في أحاديث الرؤية : " نؤمن بها ، ونقر ، وكل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم بأسانيد جيدة نؤمن به ونقر " [1/322]
و روى الآجرِّي أن الإمام أحمد سئل عمن قال: إن الله عز وجل لم يكلم موسى ؟ فقال : " يستتاب ، فإن تاب وإلا ضربت عنقه " [ الشريعة ( برقم :723) ]
و روى الخلال عن الإمام أحمد قوله : " أسماء الله في القرآن و صفاته في القرآن من علم الله وصفاته منه ... لم يزل الله عالماً متكلماً نعبد الله بصفاته غير محدودة ولا معلومة إلا بما وصف به نفسه سميع عليم غفور رحيم عالم الغيب و الشهادة علام الغيوب ، فهذه صفات الله تبارك وصف بها نفسه ، لا تُدفع ولا تُرد ، وهو على العرش بلا حدَّ ، كما قال استوى على العرش كيف شاء و المشيئة إليه و الاستطاعة له ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، لا يبلغ وصفه الواصفون وهو كما وصف به نفسه " [ في السنة ( برقم 185 ]
وعند الخلال أيضاً عن الإمام أحمد أنه قال : " من قال إن أسماء الله مخلوقة و أن علم الله مخلوق فهو كافر " [برقم:1864]
و قال عبد الله ابن الإمام أحمد : " سمعت أبي يقول : حدثنا يحيى بن سعيد بحديث سفيان عن الأعمش عن إبراهيم عن عبيدة عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم : { إن الله يمسك السماوات على أصبع ...} ، قال أبي : وجعل يحيى يشير بأصابعه ، و أراني أبي كيف جعل يشير بأصبُعه ، يضع أصبعاً ، حتى أتى على آخرها " [ السنة لعبد الله ابن الإمام أحمد ، برقم 484 ] .
وقال : " سألت أبي رحمه الله عن قوم يقولون لما كلم الله عز وجل موسى لم يتكلم بصوت ؟ فقال أبي : بلى ، إن ربك عز وجل تكلم بصوت ، هذه الأحاديث نرويها كما جاءت " [ المصدر السابق ، برقم 527 ] .
و قال : " رأيت أبي يصحح الأحاديث التي تُروى عن النبي صلى الله عليه وسلم في الرؤية ويذهب إليها ، وجمعها أبي رحمه الله في كتاب وحدثنا بها " [ المصدر السابق (1/165) ] .
و قال الإمام أحمد : " يضحك الله ولا نعلم كيف ذلك إلا بتصديق الرسول " [ رواه أبو يعلى في إبطال التأويلات ، 45 ، وذكره الأصبهاني في الحجة في بيان المحجة (1/473) وقال عقبه : قد نص أحمد على القول بظاهر الأخبار من غير تشبيه ولا تأويل ]
و قال الإمام أحمد : " إن الله يحب ويكره ويبغض ويرضى ويغضب ويسخط ويرحم ويعفو ويغفر ويعطي ويمنع " [ الحجة في بيان المحجة (1/463) ]
وروى اللالكائي عن يوسف بن موسى البغدادي " قيل لأبي عبد الله : الله عز وجل فوق السماء السابعة على عرشه بائن من خلقه ، وقدرته وعلمه في كل مكان ؟ ، قال : نعم على العرش ، وعلمه لا يخلو منه مكان " [ برقم :674]
ناهيك عن الأجزاء الكثيرة التي صنفها تلاميذ الإمام أحمد أو تلاميذهم ويذكرون فيها رأي الإمام أحمد بشكلٍ بيّنٍ واضح ، وسنكتفي بمثالٍ واحدٍ فقط :
قال حرب الكرماني – وهو من تلاميذ الإمام أحمد – في عقيدته المشهورة :
" هذا مذهب أئمة العلم و أصحاب الأثر و أهل السنة ... وهو مذهب أحمد ... "
و كان مما قاله في هذا المعتقد الذي نسبه للإمام أحمد :
" وهو على العرش فوق السماء السابعة ... يسمع ويبصر وينظر و يقبض ويبسط ويضحك و يفرح ويحب و يكره ويبغض ويرضى ويسخط ويغضب ويرحم ويعفو ويغفر ويعطي ويمنع .
وينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا كيف شاء وكما شاء { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } " إلى آخر كلامه المتين .
و أيضاً لا تغفل الإجماعات [2] الكثيرة المتواترة التي ذكرها أئمة أهل الحديث و السنة من بعد الإمام أحمد – وهو داخل في ذكر الإجماع بلا ريب – عن السلف و طريقتهم مع نصوص الصفات من أنهم يؤمنون بحقيقتها ومعناها الصحيح ويفوضون كيفيتها .
و أيضاً فإنها لا تغفل تلك النصوص الكثيرة عن السلف في هذا الباب ، و التي إنما وصلتنا عن طريق الإمام أحمد ، وفيها التصريح بالإيمان بحقيقة صفات رب العالمين [3] فلو كان يراها باطلاً لما رواها أو لحذر منها .
فهاهو يذكر الصفات و الإيمان بها حقيقة تفصيلاً و إجمالاً ، فظهر أن دعواكم على الإمام أحمد ما هي إلا مجرد دعوى ودعوى مجردة ، وإلا فهذه النصوص عنه واضحة وضوح الشمس في رائعة الضحى تلفح وجوهكم و تلهب ظهوركم ، فما أنتم قائلون ؟
* رابعاً :
يقال لهم : ليس في كلام الإمام أحمد شيء مما ذهبتم إليه ، بل هو حجة عليكم ، وهذا لأمور :
الأول : أنتم تدّعون على الإمام أحمد و السلف أن طريقتهم هي الإيمان بمجرد ألفاظ النصوص من غير إثبات لأي معنى ، فهم عندكم يؤمنون بألفاظٍ جوفاءَ لا معنى لها ، وهذا كذبٌ على السلف وهو اعتقادٌ باطلٌ تكذبه الأدلةُ و تفضحه الشواهد ، وقد سقنا بعضاً منها عن الإمام أحمد فقط ، فكيف لو ذكرنا الأدلة من الكتاب و السنة و إجماع السلف ؟
الثاني : على فرض التسليم بدعواكم هذه ، فإنه يقال لكم : إن كانت طريقة الإمام أحمد هي تفويض المعنى و الإيمان بألفاظ لا معاني لها فما وجه قوله : " نؤمن بها ونصدق "
فما الذي يؤمنُ به ويصدق ؟ أهو النص كنص ؟ قطعاً لا ! لأن الإيمان بمثل هذه النصوص – القرآنية خاصة – ثابتٌ بالضرورة ، وهو خارج البحث ؛ لأنه لم يُسأل عنه ، وإنما سئل عن معنى النص ، فيصير وجه كلامه " نؤمن بها ونصدق بمعناها " ولكن أي معنى ؟ إن عدنا إلى الآثار السابقة و إلى مفصل عقيدة الإمام أحمد عرفنا أنه يريد أنه يؤمن بهذه النصوص بلا تعطيل ولا تكييف .
وكيف توجهون قوله " لا كيف " فلإن كان هو ينفي المعنى أصلاً – كما تزعمون – فما الحاجة لنفي الكيف ؟
فبهذا يتضح لكل منصف أن نفي الإمام أحمد للمعنى إنما أراد به شيئاً خاصاً ، ويظهر لنا إذا جمعنا هذا النص مع بقية النصوص الواضحة الصريحة عنه ، أنه ما أراد إلا نفي " المعنى الذي ابتكره المعطلة من الجهمية وغيرهم ، وحرفوا به نصوص الكتاب و السنة عن ظاهرها إلى معاني تخالفة "[4]
يدل عليه :
ما قاله المروذي : " سألت أبا عبد الله عن عبد الله التيمي ، فقال : صدوق ، وقد كتبت عنه من الرقائق ، ولكن حكي عنه أنه ذكر حديث الضحك فقال : مثل الزرع ، وهذا كلام الجهمية " [الإبانة (3/111) ]
إذن فإن الإمام أحمد ينكر هذا المعنى المخترع المبتكر الذي جاء به المبتدعة ليعطِّلوا ظواهرَ النصوصِ ، مع أنَّ الإمام أحمد قد روي عنه أنه يؤمن بهذه النصوص و ظواهرها ومعناها كما سبق ذكر شيء من ذلك .
وقال الأثرم : " قلت لأبي عبد الله حَرْبٌ محدِّث وأنا عنده بحديث { يضع الرحمن فيها قدمه } ، وعنده غلام ، فأقبل عليَّ الغلام فقال : إن لهذا تفسيراً ! ، فقال أبو عبد الله : انظر ؛ كما تقول الجهمية سواء " [ الإبانة (3/331)]
مع أنه لما سُئل عن هذا الحديث أثبت ظاهر النص ، ولكنه أنكرَ مرادَ الغلامِ من أن لصفة القدم تفسيراً مخالفاً لتعطيل الصفة عن الرحمن تبارك و تعالى .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " قوله من غير تفسير : أراد به تفسير الجهمية المعطلة الذين ابتدعوا تفسير الصفات بخلاف ما كان عليه الصحابة و التابعون من الإثبات " [ الحموية / مجموع الفتاوى (5/50) ] .
و هذه بعض أقوال أهل العلم تؤيد ما مضى :
قال الشيخ المحقق العلامة محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله تعالى - [في شرح لمعة الاعتقاد ( صفحة : 36)] :
" قوله: ولا معنى أي: لا نثبت لها معنى يخالف ظاهرها كما فعله أهل التأويل وليس مراده نفي المعنى الصحيح الموافق لظاهرها الذي فسرها به السلف فإن هذا ثابت، ويدل على هذا قوله: "ولا نرد شيئاً منها، ونصفه بما وصف به نفسه، ولا نزيل عنه صفة من صفاته لشناعة شنعت، ولا نعلم كيف كنه ذلك". فإن نفيه لرد شيء منها، ونفيه لعلم كيفيتها دليل على إثبات المعنى المراد منها " ا.هـ
قال العلامة الشيخ صالح الفوزان - حفظه الله تعالى - [ في شرحه على لمعة الاعتقاد ( صفحة :49) ] :
" ولا معنى : المراد بهذه اللفظة ، أي المعنى الذي يفسره به المبتدعة وهو التأويل ، ليس المراد نفي المعنى الحقيقي ، فإن معناها معروف ، - كما يقول الإمام مالك : ( الاستواء معلوم ، و الكيف مجهول ، و الإيمان به واجب ، و السؤال عنه - أي عن الكيفية - بدعة - فمعنى قوله : ( ولا معنى ) أي : المعنى الذي يريده أهل الضلال وهو التأويل ، مثل تأويل اليد بالقدرة ، و المجيء بمجيء أمره ، و النزول بنزول أمره ، و ما أشبه ذلك .
هذه معان جاؤوا بها هم ، ونحن ننفيها ، وليست هي المعاني التي أرادها الله سبحانه و تعالى . فهو لا يريد نفي المعنى الذي هو معنى الكلام في اللغة العربية و إنما يريد نفي المعنى المحدث ؛ لأنه يرد على المبتدعة فهو يريد المعنى الذي قصدوه و أحدثوه .
فلا يتعلق بهذه العبارة من يريد التلبيس ، و يقول : إن الإمام أحمد مفوض يقول : لا معنى . هذه طريقة المفوضة ، و الإمام أحمد ليس من المفوضة . هو من المفوضة في الكيفية ، لأن الكيفية يجب تفويضها أما المعنى اللغوي فهذا واضح لا يفوض ، بل يفسر و يبين " ا.هـ
قال الشيخ صالح آل الشيخ - حفظه الله - [ في شرحه على لمعة الاعتقاد ( صفحة 8 من النسخة التي نشرها الأخ سالم الجزائري ) ] :
" أهل العلم يقولون : إن الإمام أحمد أراد بقوله : (بلا كيف ولا معنى) الرد على طائفتين:
1. الطائفة الأولى المشبهة المجسمة رد عليهم بقوله : (بلا كيف) يعني الكيفية التي تتوهمها العقول، أو وَصَفَ اللهَ جل وعلا بها المجسمة أو الممثلة.
2. وقوله : (ولا معنى) ردّ بها رحمه الله على المعطلة، الذين جعلوا معاني النصوص على خلاف الظاهر المتبادر منها، فقالوا : إن معنى النزول الرحمة، وقالوا إن معنى الاستواء الاستيلاء، وقالوا إن معنى الرحمة الإرادة؛ إرادة الإحسان أو إرادة الخير، وإن الغضب معناه إرادة الانتقام ونحو ذلك فهذا تأويل منه.
فالإمام أحمد يقول (بلا كيف) الكيف الذي جعله المجسمة، (ولا معنى) الذي جعله المعطلة، يعني المعنى الباطل الذي صرف الألفاظ إليه المبتدعة المؤولة.
فإذن قوله (بلا كيف ولا معنى) يريد بقوله (ولا معنى) المعنى الباطل الذي تأول به وإليه المبتدعة نصوص الصفات والنصوص الغيبية.
وهذا نأخذ منه قاعدة مهمة: وهي أن طالب العلم الذي يعتني بأمر الاعتقاد يجب عليه أن يفهم اعتقاد أهل السنة والجماعة تماما، فإذا فهمه وورد بعد ذلك ألفاظ مشكلة عن الأئمة, عن التابعين, من تبع التابعين، عن بعض الأئمة فإنه بفهمه للاعتقاد الصحيح سيوجّه معناها إلى معنىً مستقيم، لأنه لا يُظن بالإمام أحمد وهو إمام أهل السنة والجماعة الذي حكم بالبدعة على المفوضة أنه يقول (ولا معنى) يعني ليس للآيات والأحاديث معنى يفهم بتاتا .
فإذن فهمُك لأصول الاعتقاد وأصول ما كان عليه أهل السنة والجماعة، وضبطُك لذلك، به يمكنك أن تجيب على كثير من الإشكالات.
ونحن في هذا الزمان ربما كتب بعض الناس كتابات في أن السلف يقرّون التأويل، وأنه وُجد التأويل للصفات في زمن الصحابة، أو وجد في زمن الصحابة من ينكر بعض الصفات، أو وجد في التابعين من يؤول، والإمام أحمد أوَّلَ، ونحو ذلك، وهذا من جرّاء عدم فهمهم لأصول أهل السنة والجماعة، وابتغاء الفتنة، وابتغاء التأويل الذي وصف الله جل وعلا به الزائغين.
وإذا فهمت الصواب وفهمت المنهج الحق والاعتقاد الحق فإنه يمكن بذلك أن تجيب عن ما ورد عن بعض أئمة أهل السنة من ألفاظ ربما خالف ظاهرُها المعتقد، أو ظُن أن فيها شيء من التأويل، يمكن أن تجيب عليها بأجوبة محققة واضحة" ا.هـ
فظهر لنا طريقة القوم في التلبيس و التدليس و التحريف و التعطيل ، فإن هم فعلوه مع كلام الله تعالى فإنهم على كلام غيره أجرؤ ! و الله المستعان و لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
فاعرف شبهاتهم ولا تغرنَّك فما هي إلا زبدٌ يطيشُ ولا يستقر ، وهذه هي طريقتهم مع بقية العلماء ، فإن هم استدلوا بمثل هذا عن عالم سني آخر فاسلك هذه الخطوات التي في هذا المقال تعرف تهافت دعواهم وخيبة مسعاهم .
و الله الموفق لا رب سواه
محمد جميل حمامي
القدس [8/2/1433 ]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] : هو هكذا في ذم التأويل ، و النقل الأول عن الإمام أحمد في السنة للخلال [283] ، أما النقل الثاني فبحثت عنه في السنة للخلال ولم أجده فيه إما لتقصيري أو أنه في الجزء الذي لم يطبع من السنة للخلال أو أنه من الساقط منه ، وهو أشبه بكلام الإمام أحمد لأمور :
- نقله ونسبه للإمام أحمد أئمة كبار كابن قدامة وابن تيمية و ابن القيم بهذا النص .
- موافق لكلام الإمام أحمد و يتفق مع أصوله .
- ويشهد له الأثر التالي له .
[2] : مثل الذي نقله أبو عثمان الصابوني و أبو بطة العكبري و ابن تيمية و غيرهم كثير.
[3] : للشيخ أسعد الزعتري حفظه الله تعالى مصنف رائق جمع فيه مرويات السلف في الاعتقاد من كتب سؤالات الإمام أحمد وخرج هذه الآثار تخريجاً علمياً دقيقاً ، وطبع الكتاب في مجلدين عن دار المعارف في الرياض
[4] :فتح رب البرية بتلخيص الحموية ، للعلامة ابن عثيمين ( صفحة : 32) ، وفي مقدمة هذا المقال شيء من مقدمة الكتاب .