ثابت
09-30-2011, 01:01 AM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمدُ لله الذي بَيَّنَ لعباده الحرام والحلال، وحدَّ لهم حدودًا بيّنة المعالم لا غموض فيها ولا إشكال، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الكبير المتعال، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله أهدى الخلق وأتقاهم لله في المقال والفعال، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان ما تعاقب الأيام والليال، وسلَّم تسليمًا كثيرًا .
أما بعد:
فيا عباد الله، اشكروا الله - تبارك وتعالى - على ما نوّع لكم من مواسم الخيرات التي تتكرّر عليكم لتزدادوا بها إيمانًا وإكثارًا من الأعمال الصالحات، ثم اشكروه على ما أبانَ لكم من معالم الدين، والتزموا طاعته وتقواه فإنها سيرة النبيين والمرسلين .
إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيّعوها، وحدَّ حدودًا فلا تعتدوها، ألا وإن مِمَّا حدَّه الله تعالى وأوضحه وأبانه وأظهره ذلكم الصوم الذي هو أحد أركان الإسلام، فقد بيَّن الله تعالى ابتداءه وانتهاءه شهريًّا، وابتداءه وانتهاءه يوميًّا، بيَّن الله ذلك في كتابه وفي سنَّة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقال الله تعالى:﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ [البقرة: 185]، وقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غُمّ عليكم فأكملوا العدة ثلاثين»(1)، وقال الله تعالى في تحديده اليومي: ﴿فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾ [البقرة: 187] .
إن الخيط الأبيض: بياض النهار، والخيط الأسود: سواد الليل، وقال النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - لأصحابه: «كُلُوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم؛ فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر»(2)، وقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «إذا أقبلَ الليل من هاهنا - وأشار إلى المشرق - وأدبر النهار من هاهنا -وأشار إلى المغرب - فقد أفطر الصائم»(3)، فمتى شاهد الإنسان الفجر المعترض في الأفق أو سمع المؤذن الثقة الذي لا يؤذن حتى يطلع الفجر وجبَ عليه الإمساك، ومتى شاهد قرص الشمس غائبًا في الأفق ولو كان شعاعها باقيًا في السماء أو سمع المؤذن الثقة الذي لا يؤذن حتى تغرب الشمس حَلَّ له الفطر، ولو سمع المؤذن لأذان المغرب ولكنه يرى الشمس لم تغب فإنه لا يَحِل له أن يفطر؛ لأن العبرة بغروب الشمس، ولو شاهد الفجر ولم يسمع المؤذن وجَبَ عليه الإمساك؛ لأن العبرة بطلوع الفجر .
أيها المسلمون، إن الصوم الشرعي هو: التعبد لله - تبارك وتعالى - بالإمساك من طلوع الفجر إلى غروب الشمس عن المفطّرات التي بيَّنها الله تعالى في كتابه وبيَّنها رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - في سنَّته، وهي سبعة أنواع:
الأول: الجِماع وهو أعظم المفطّرات وأشدها وفيه الكفّارة المغلظة إذا حصل في نهار رمضان مِمَّن يجب عليه الصوم، وهي عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين لا يفطر فيهما يومًا واحدًا إلا من عذر، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينًا، هكذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، «فقد جاءه رجل فقال: يا رسول الله، هلَكْت، قال: ما أهلكك ؟ قال: وقعت على امرأتي في رمضان وأنا صائم، فأمره صلى الله عليه وسلم بالعتق، فقال: إنه لا يجد، ثم أمره بالصيام فقال: إنه لا يستطيع، ثم أمره بالإطعام فقال: إنه لا يجد»(4) .
المفطّر الثاني: إنزال المني باختياره بتقبيلٍ، أو لمس، أو ضمٍّ، أو استمناء أو غير ذلك، فأما إنزال المني بالاحتلام فلا يفطّر؛ لأنه من نائم والنائم لا اختيار له، وأما المذي فلا يفطّر أيضًا؛ لأنه لا دليل على أنه يفطر، والأصل بقاء الصوم حتى يقوم الدليل على أنه فاسد .
المفطّر الثالث: الأكل والشرب وهو: إيصال الطعام أو الشراب إلى جوفه سواء كان الطعام أو الشراب حلالاً أم حرامًا، نافعًا أم غير نافع، وسواء كان عن طريق الفم أم عن طريق الأنف لقول النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - للصحابي لقيط بن صبرة رضي الله عنه: «بالِغْ في الاستنشاق - يعني: في الوضوء -إلا أن تكون صائمًا»(5)، وفي هذا إشارة إلى أن الداخل من الأنف كالداخل من الفم، فأما شم الروائح فإنه لا يفطّر؛ يعني: لو أن الإنسان شم دهن عود، أو ماء ورد، أو غيرهما مِمَّا له رائحة قوية أو ضعيفة فإنه لا يفطّر ولو وصل ذلك إلى حلقه؛ لأنه ليس للرائحة جرمٌ يصل إلى الجوف، وأما دخان البخور فإنه لا يشمه الإنسان ولكن له أن يتبخر ولا حرج عليه، وله أن يضع المبخرة تحت غترته، وله أن يضعها تحت لحيته ولا حرج عليه لكن لا يشم الدخان؛ لأن الدخان له جرمٌ يصل إلى الجوف .
الرابع: ما كان بمعنى الأكل والشرب، مثل: الإبر المغذِّية التي يُستغنى بها عن الطعام والشراب؛ لأنها بمعنى الأكل والشرب، والشريعة الإسلامية لا تفرّق بين شيئين متماثلين كما أنها لا تجمع بين شيئين متفارقين، أما الإبر غير المغذّية فإنها لا تفطّر سواء أُخذت للتداوي، أم للتنشيط أم لغير ذلك، وسواء أُخذت مع العرق أم مع العضلات؛ لأنها ليست بمعنى الأكل والشرب .
وهنا قاعدة أحبُّ أن أزفّها إليكم معشر الإخوة من طلاب علْم وغيرهم وهي: أن الأصل صحة الصيام وبقاؤه صحيحًا حتى يثبت ما يفسده بالنص، أو الإجماع أو القياس الصحيح .
المفطر الخامس: إخراج الدم بالحجامة لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «أفطر الحاجم والمحجوم»(6)، فأما أَخْذُ الدم من البدن للتحليل فإنه لا يفطّر؛ لأنه يسيرٌ لا يؤثر على البدن تأثير الحجامة، ولا يفطّر خروج الدم بالرعاف ولو كثر؛ لأنه بغير اختيار الإنسان، ومثل ذلك: لو خرج الدم من جرح سكين، أو زجاجة، أو حادث ولو كثر؛ لأنه بغير اختياره، ولا يفطّر خروج الدم من قلع السن أو الضرس ولكن لا يبلع الدم؛ لأن بلع الدم حرام على الصائم وغيره؛ وعلى هذا فيجوز للصائم أن يقلع ضرسه وسنَّه ولا إثم عليه في ذلك، ولو وصل شيء من الدم إلى جوفه بغير اختياره في هذه الحال فإنه لا حرج عليه، ولا يفطر الصائم بشق الجرح لإخراج المادة منه ولو خرج معها دم، أما سحب الدم من شخص ليُحْقَنَ في شخص آخر فإنه يفطّر إذا كان كثيرًا يؤثر على البدن تأثير الحجامة؛ وعلى هذا فمَن كان صومه واجبًا فإنه لا يحلُّ له أن يتبرع بشيء من دمه إلا أن يكون لشخص مضطر لا يمكن صبره إلى الغروب فإنه يجوز للإنسان أن يتبرع بدم منه لهذا المضطر إذا قال الأطباء إنه تزول به الضرورة، وإذا سُحب منه الدم لهذا المضطر فإنه يكون مفطرًا بسبب مباح ويجوز له أن يأكل ويشرب بقية يومه ويقضي يومًا مكانه .
المفطر السادس: القيء وهو: إخراج ما في المعدة من طعام أو شراب، فإن خرج ذلك بدون تعمّد فلا حرج، لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «مَن ذرعه القيء - أي: غَلَبَه - فليس عليه قضاء، ومَن استقاء عمدًا فلْيقْضِ»(7).
وهذه المفطّرات الستة لا تفطّر الصائم إلا بشروط وهي: أن يكون عالِمًا، ذاكرًا، مُختارًا، هذه شروط المفطّرات، فأما إذا فعلها جاهلاً فإنه لا يفطر سواء كان جاهلاً بالحكم أم جاهلاً بالوقت، فمَن أكل مثلاً يظن أن الفجر لم يطلع ثم تبيَّن له أنه طالع فصيامه صحيح، مثاله: رجل قام من النوم فأدنى سحوره وجعل يتسحّر وإذا بالناس يُقيمون الصلاة فإنه يجب عليه الإمساك حينئذٍ وليس عليه قضاء وصومه صحيح؛ لأنه جاهل، وكذلك لو أن أحدًا سمع مؤذِنًا للمغرب ثم أفطر وتبيَّن أن الشمس لم تغرب فإن صومه صحيح ولا قضاء عليه .
إني أقول هذا بدلالة الكتاب والسنَّة على ذلك، أما الكتاب فاسمعوا قول الله عزَّ وجل: ﴿وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ﴾[الأحزاب: 5]، وهذا الرجل الذي أكل في النهار من أوله أو آخره وهو لا يدري لم يتعمّد الإثم ولا الفطر ولكنه أخطأ، وقد نفى ربنا - وهو أرحم الراحمين - الجناحَ علينا إذا كان ذلك عن خطإٍ .
وفي صحيح البخاري عن أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنهما - قالت: «أفطرنا على عهد النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - في يوم غيم ثم طلعت الشمس، فقد أفطروا في النهار لكنهم يظنّون أن الشمس قد غربت ولم يأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقضاء»(8)، ولو كان القضاء واجبًا لأمَرَهم به؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يجب عليه أن يبلّغ رسالة ربه لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ [المائدة: 67]، ولو أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقضاء لنُقِل إلينا نقلاً صحيحًا واضحًا؛ لأنه حينئذٍ يكون من شرع الله، وقد تكفَّل الله تعالى ببيانه وأوجب على رسوله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - تبليغه، ولكن متى علم أنه في نهار وجب عليه أن يُمسك، فإن استمر بعد علمه بطَلَ صومه، ومَن أتى شيئًا من المفطرات ناسيًا فصومه تامٌّ ولا قضاء عليه حتى لو أكل حتى شبع أو شرب حتى روي وهو ناسٍ فإن صومه تامٌّ لا نقص فيه ولا قضاء عليه، أسْتَدِلُ لذلك بكلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، أما كلام الله فقد قال الله تعالى: ﴿رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ [البقرة: 286]، فقال الله تعالى: «قد فعلت»(9) أي: لا أؤاخذكم بالنسيان أو الخطأ، وأما كلام النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - فقد قال: «مَن نسي وهو صائم فأكل أو شرب فلْيُتمّ صومه فإنما أطعمه الله وسقاه»(10)، وتأمَّل - يا أخي - قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «فلْيُتمّ صومه» ليتبيَّن لك أن الصوم تامٌّ لا نقص فيه، ولكن متى ذَكَرَ أو ذُكِّرَ وجب عليه أن يُمسك حتى الذي في فمه يجب أن يلفظه، فإن بلعه بعد أن ذَكَرَ أو ذُكِّرَ بطل صومه، ومَن رأى صائمًا يأكل أو يشرب ناسيًا فلْيذكِّره؛ فإنه من التعاون على البر والتقوى، ومَن حصل عليه شيء من المفطّرات بغير اختياره فصومه صحيح، فلو طار إلى جوفه غبار أو تسرّب إليه ماء من المضمضة أو الاستنشاق فإن صومه صحيح ولا قضاء عليه .
النوع السابع من المفطرات: خروج دم الحيض والنفاس فهذا يختص بالنساء، فمتى خرج من المرأة حيض أو نفاس قبل الغروب ولو بلحظة بطلَ صومها، فإن خرج بعد الغروب ولو بلحظة فصومها صحيح ولا قضاء عليها حتى لو أن المرأة أحسّت بقرب خروج الحيض أو النفاس قبل الغروب ولكنه لم يخرج إلا بعد غروب الشمس فإن صومها صحيح ولا قضاء عليها، وأما ما اشتهر عند النساء من أن المرأة إذا حاضت بعد غروب الشمس وقبل أن تصلي المغرب فصومها باطل فإن هذا لا أساس له من الصحة .
ويجوز للصائم أن يكتحل وأن يتداوى بأي كحل أو دواء شاء وأن يقطّر دواء في أذنه ولا يُفطر بذلك ولو وجد طعمه في حلقه، ويجوز للصائم أن يداوي جروحه وأن يتطيَّب بالبخور وغيره ولكن لا يستنشق دخان البخور فيصلُ إلى جوفه .
ويجوز للصائم أن يستاك في أول النهار وآخر النهار بل السواك سنَّة للصائم وغير الصائم قبل الزوال وبعد الزوال ويتأكد عند الوضوء والصلاة والقيام من النوم ودخول البيت أول ما يدخل؛ فإن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - كان إذا دخل بيته أول ما يبدأ به السواك .
أيها الإخوة المسلمون، ماذا تظنون بفرض الصيام عليكم ؟ أَتَظُنُّون أنه للإمساك عن الأكل، والشرب، ومباشرة النساء، وغيرها من المفطّرات ؟
نعم، هذا هو الصيام الحسي ولكن الصيام المعنوي الذي هو روح الصيام هو أن تتقوا الله تعالى كما قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 183]، وقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «مَن لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه»(11).
فاحفظوا - أيها المسلمون - صيامكم وحافظوا عليه والتزموا فيه حدود الله غير مُغالين ولا مفرّطين؛ فإن دين الله تعالى وسط بين الغالي فيه والجافي عنه«وتسحّروا فإن في السحور بركة»(12) كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فمِن بركته: أنه يُعين على الصيام، ومن بركته: أن فيه امتثالاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، ومِن بركته: أن فيه تأسِّيًا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه كان يتسحر، وأخِّروا السحور فإن تأخيره أفضل، وأفطروا إذا غربت الشمس وبادروا بالفطر «فلا يزال الناس بخير ما عجّلوا الفطر»(13)، وأفطروا على رُطَب، فإن لم يكن فتمر، فإن لم يكن فماء فإنه طهور، فإن لم يكن فعَلَى أي طعام أو شراب حلال، فإذا غربت الشمس والإنسان في مكان ليس فيه ما يفطر به فإنه ينوي الفطر بقلبه، وما اشتهر عند العوام أنه يمصّ أصبعه أو يعلك ثوبه ثم يمصّ ريقه الذي ابتلَّ به ثوبه فإن هذا لا أساس له من الصحة .
أيها الإخوة المسلمون، قوموا بِما أوجب الله عليكم في أيام صيامكم وليالي شهركم وفي جميع عمركم ولا تهاونوا واعلموا أن كل واجب ضيّعتموه أو محرّم فعلتموه فإنه نقص في إيمانكم وصيامكم .
ابتعدوا - أيها الإخوة - عن استماع المعازف آلات اللهو من الراديو أو غيره؛ فإن الصوم جُنَّة يتقي بها الصائم من الآثام وينجو بها من النار .
اللهم إنَّا نسألك في مقامنا هذا أن تحفظ علينا ديننا، اللهم احفظ علينا ديننا، وثبّتنا عليه إلى الممات، اللهم لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، اللهم هَبْ لنا من لدنك رحمة؛ إنك أنت الوهاب .
اللهم اجعلنا مِمَّن يصوم رمضان ويقومه إيمانًا بك واحتسابًا لثوابك يا رب العالمين .
والحمدُ لله رب العالمين، وصلى الله وسلّم على نبيِّنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين .
الخطبة الثانية
الحمدُ لله حمدًا كثيرًا طيِّبًا مباركًا فيه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تُنجي قائلها يوم يلاقيه، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد:
فيا أيها الناس، إنكم في استقبال شهر مبارك كريم، إنكم في استقبال شهر رمضان الذي خصَّه الله تعالى بخصائص لم تكن في غيره؛ خصّه الله تعالى بفرض صيامه وجعل صيامه أحد أركان الإسلام ورتَّب على صيامه إيمانًا واحتسابًا مغفرة ما سبق من الذنوب والآثام، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَن صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفرَ الله له ما تقدّم من ذنبه»(14) .
إن شهر رمضان اختصّه الله تعالى بمشروعية قيام لياليه؛ فإن «مَن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفرَ الله له ما تقدّم من ذنبه»(15) .
إن شهر رمضان اختصّه الله تعالى بليلة القدر التي قال الله عنها منوِّهًا بفضلها؛ حيث أنزل فيها سورة كاملة: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾ [القدر: 1-5]، ووصف الله هذه الليلة بأنها ليلة مباركة، فقال تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَة﴾ [الدخان: 3]، ووقعت فيه انتصارات عظيمة للمسلمين في بدر، وفي فتح مكة، والانتصار لهذه الأمة في أولها هو انتصار لها إلى يوم القيامة.
أسأل الله تعالى أن ينصر دينه في كل زمان ومكان .
أيها الإخوة، قوموا في رمضان، احرصوا على قيام رمضان إيمانًا واحتسابًا؛ فإن «مَن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفرَ الله له ما تقدّم من ذنبه»(16)، واحرصوا على متابعة الإمام من أول الصلاة إلى آخرها؛ فإن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - قال: «مَن قام مع الإمام حتى ينصرف كُتب له قيام ليلة»(17).
لا تضيّعوا هذه الليالي الكريمة بالتسكّع يمينًا وشمالاً، اغتنموا الفرصة فإن الإنسان الذي يدركه هذا العام لا يدري أَيُدركه بعد هذا العام أو لا يدركه ؟
اغتنموا - أيها الإخوة - مواسم الخيرات، لا تفرّطوا في هذه التراويح؛ إنها إذا تابع الإمام فيها حتى ينصرف فإنه يُكتب له قيام ليلة ولو كان نائمًا على فراشه، فلله الحمد رب العالمين .
وإني أوجّه نصيحة إلى إخواني الأئمة أن يتّقوا الله تعالى فيمَن وراءهم من المسلمين، وأن يصلّوا صلاة يطمئنون فيها حتى يتمكّن إخوانهم من الدعاء والتسبيح والقراءة على مهل، ولا يسرعوا؛ فإن البِرَّ ليس بالإسراع، إن البِرَّ في موافقة السنَّة، ولقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُطيل القيام حتى ربما جاء السَّحَر وهو يصلي عليه الصلاة والسلام في أصحابه .
أيها الإخوة الأئمة، إنني أنصحكم نصيحة أرجو الله تعالى أن يُثيبنا عليها جميعًا، أن يُثيب الناصح والمنصوح إذا امتثل، لا تسرعوا في الصلاة، ليس البر في الإسراع، لا تغترّوا إذا كثر الناس وراءكم من أجل أنكم تسرعون ولا تطمئنون؛ إن هذا خطأ؛ إن الإمام مؤتمن، إنه تحمل أمانة أن يكون الناس وراءه يأتون بالعبادة على الوجه المطلوب، سبّحوا ثلاثًا أو أكثر وأكْثروا من الدعاء وأَتِمُّوا التشهد؛ فإن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - قال: «إذا تشهَّد أحدكم التشهد الأخير فلْيستعيذْ بالله من أربع: أعوذ بالله من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال»(18)، وكثير من الأئمة إذا كمّل التشهد الأول إلى قوله: «وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله» قال: اللهم صلِّ على محمد ثم سلّم، وهذا تفريط في الأمانة؛ لأن الذين وراءَه قد لا يصِلون إلى هذا، قد يُسَلِّمون قبل أن يُصَلّوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - في التشهد الأخير، والمعروف عند فقهاء الحنابلة أن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في التشهد الأخير ركنٌ لا تصح الصلاة إلا به، فهل ترضى لنفسك - أيها الإمام - أن يخرج إخوانك من الصلاة وهم لم يتموّها ؟
أكْملوا التشهد الأول كله، ومع ذلك هؤلاء الذين يسرعون ويعجّلون إذا خرج الناس فإلى أين يخرجون ؟ أَيَخْرجون إلى عبادة أفضل ؟ !
إنهم يخرجون ليتسكَّعوا في الأسواق، أو يذهبوا إلى متاجرهم، أو يذهبوا إلى أهليهم، وربما يبقون في السهر إلى حدٍّ بالغ على غير فائدة، فما الذي يحدو بالأئمة أن يسرعوا هذا الإسراع الفاحش الذي قد يُخلُّ بالطمأنينة ؟ إن عليهم أن يتّقوا الله .
أما عدد القيام التي هي التراويح فإن الأمر فيها واسع: يجوز للإنسان أن يصلي إحدى عشرة ركعة، أو ثلاث عشرة ركعة، أو تسع عشرة ركعة، أو ثلاثًا وعشرين ركعة، أو أكثر من ذلك أو أقل، ولكن العدد المفضّل الذي كان عليه النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - هو إحدى عشرة ركعة، أو ثلاث عشرة ركعة كما سُئلت عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - وهي من أعلم الناس بصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الليل، سئلت: كيف كانت - صلاة النبي صلى الله عليه وسلم - في رمضان ؟ فقالت: «كان لا يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعًا فلا تسأل عن حُسنهنّ وطولهن ثم يصلي أربعًا فلا تسأل عن حُسنهنّ وطولهنّ ثم يصلي ثلاثًا»(19) هكذا قالت رضي الله عنها، وقد فهم بعض الناس أن معنى قولها: «يصلى أربعًا» أنه يصليها بسلام واحد وهذا فهم خاطئ؛ لأن عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - التي قالت هذا هي التي صَحَّ عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي إحدى عشرة ركعة ويسلّم من كل ركعتين، وعليه فمجمل كلامها يُحمل على مفصّله، وهذا - أعني: كون بعض الناس يأخذ ببعض الأدلة دون أن يجمع أطرافها - هذا نقص عظيم في العلْم ونقص عظيم في هداية الخلق؛ ولذلك يجب على طالب العلم إذا أراد أن يحكم على شيء أن يجمع الأدلة من جميع أطرافها حتى لا يُضلّ عباد الله عن دين الله، لا يمكن أن يكون الرسول - عليه الصلاة والسلام - يجمع أربعًا في تسليم واحد وهو الذي قال: «صلاة الليل مثنى مثنى»(20) فكيف يخالف ما أرشد إليه أمته ؟ وإذا كان هذا الحديث المجمل قد فُصّل من راويه في موضع آخر فإنه يجب الرجوع إليه، أما الوتر فنعم، الوتر يجوز للإنسان أن يوتر بثلاث بتشهّد واحد وتسليم واحد، ويجوز أن يوتر بخمس ولا يسلّم إلا في آخرها وهو الأفضل، وأن يوتر بسبع ولا يسلّم إلا في آخرها وهو الأفضل، وأن يوتر بتسع ولا يسلّم إلا في آخرها لكنّه يتشهّد في الثانية التشهد الأول ولا يسلّم ثم يأتي بالتاسعة ويسلّم وهو الأفضل، ولكن هذا إذا كان الإنسان المصلي وحده فله أن يوتر بالخمس، والسبع، والتسع بتسليم واحد، أما إذا كان إمامًا فلا يفعل؛ لأنه إذا فعل ذلك شَقَّ على المأمومين مشقة عظيمة، وأرْبَكَ المؤمنين الذين يدخلون معه بعد انتهاء الفريضة لا يدرون أَيَنْوي الوتر أم ينوي التراويح فيُشكل عليهم بالنيَّة، وإذا قُدِّر أنه نَبَّهَ مَن حوله عند ابتداء التراويح وقال: إنّا سنجعلها وترًا خمسًا، أو سبعًا، أو تسعًا فإن الداخلين بعد ذلك لا يدرون ما نوى فيقعون في إشكال، ثم إنني لا أعلم إلى ساعتي هذه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام بأصحابه بخمس، أو سبع، أو تسع، لكن بعض الناس، بعض الإخوة المجتهدين قالوا: إذا كان هذا ثابتًا عن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - فإنه ينبغي أن نفعله؛ حتى نُظهر السنَّة، ولكننا نقول: لم يثبت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه أوتر بأصحابه بخمس، أو سبع، أو تسع، ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال كلمة عامة، قال: «أيّكم أَمَّ الناس فلْيوجز؛ فإن مَن ورائه الضعيف والكبير والمريض وذا الحاجة»(21)؛ لذلك أقول أيها الإخوة: اجمعوا أطراف الأدلة حتى يتبيَّن لكم الحق واضحًا بيِّنًا لا إشكال فيه؛ ولا تأخذوا ببعض منها على فهم خاطئ، فإذا قال قائل: إن في هذا إظهار للسنَّة، قلنا: إن إظهار السنَّة لا يتعيَّن بالفعل بل يمكن أن يُظهر السنَّة بالقول فيتكلم مع الناس ويعظهم ويقول: مَن أراد منكم أن يوتر بخمس فلا يسلّم إلا في آخرها، أو بسبع فلا يسلّم إلا في آخرها، أو بتسع فلا يسلّم إلا في آخرها ويتشهّد في الثامنة، وبذلك تتبيَّن السنَّة دون الإشفاق على الناس والعنت عليهم .
اللهم إنّا نسألك في مقامنا هذا أن تهدينا لِما اختُلِفَ فيه من الحق بإذنك؛ إنك تهدي من تشاء إلى صراط المستقيم .
اللهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتِّباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه .
والخلاصة أنني أوجه النصيحة إلى الأئمة بأن يتأنوا في صلاة التراويح؛ حتى يتمكَّن المسلمون من التسبيح والدعاء، وألا يُطيلوا على الناس بالإيتار بخمس أو سبع أو تسع؛ لأن ذلك لم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما أعلم أنه صلى بالناس بهذا العدد، ولِمَا فيه من المشقة المنافية لقول الرسول عليه الصلاة والسلام: «أيُّكم أَمَّ الناس فلْيوجز» .
ثم إننا نشكر وزارة الأوقاف على ما نشرته على الأئمة بألا يرفعوا الصلاة من على المناير؛ لأن في ذلك تشويش على الناس الذين حولهم من المساجد وعلى أهل البيوت الذين يصلّون في بيوتهم من المرضى والنساء؛ ولذلك كان هذا القرار موفّقًا .
نسأل الله أن يوفِّق هذه الوزارة وغيرها من وزارت حكومتنا لِما فيه صلاح البلاد والعباد .
وعلى هذا فإنني أنصح الأئمة بأن يُغلِقوا مكبِّر الصوت من المنارة وأن يجعلوا مكبِّر الصوت في داخل المسجد فقط .
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم .
-----------------------------
(1)أخرجه البخاري برقم [1907]، ومسلم برقم [1080]، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما .
(2)أخرجه البخاري برقم [1918]، ومسلم برقم [1092]، من حديث عائشة رضي الله عنها .
(3)أخرجه البخاري برقم [1954]، ومسلم برقم [1100]، من حديث عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه .
(4)أخرجه البخاري في كتاب [الصوم] باب: إذا جامَعَ في رمضان ولم يكن له شيء، رقم [1936]، ومسلم كتاب [الصيام] باب: تغليظ تحريم الجِماع في نهار رمضان على الصائم، رقم [1111]، من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه .
(5)أخرجه أبو داوود، رقم [2365]، والترمذي برقم [788]، والنسائي برقم [1/66]، وابن ماجة برقم [407]، من حديث لقيط بن صبرة رضي الله تعالى عنه .
(6)أخرجه الإمام أحمد، رقم [5/277]، وأبو داوود برقم [2367]، والنسائي في الكبرى برقم [3137]، وابن ماجة برقم [1680]، من حديث ثوبان رضي الله تعالى عنه .
(7)أخرجه الإمام أحمد، رقم [2/498]، وأبو داوود برقم [2380]، والترمذي برقم [720]، وابن ماجة برقم [1676]، وابن حبان برقم [3518]، من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه .
(8)أخرجه البخاري برقم [1959]، من حديث أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما .
(9)أخرجه مسلم، كتاب [الإيمان] باب: بيان قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ﴾ [البقرة: 284]، رقم [126]، من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما .
(10)أخرجه البخاري برقم [1933]، ومسلم برقم [1155]، من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه .
(11)أخرجه البخاري برقم [1903]، من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه .
(12)أخرجه البخاري برقم [1923]، ومسلم برقم [1095]، من حديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنهما .
(13)أخرجه البخاري برقم [1957]، ومسلم برقم [1098]، من حديث سهل بن سعد رضي الله تعالى عنه .
(14)أخرجه البخاري برقم [1901]، ومسلم برقم [760]، من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه .
(15)أخرجه البخاري برقم [37]، ومسلم برقم [759]، وأخرجه البخاري في كتاب [الإيمان] رقم [36]، وأحمد في مسنده في المكثرين، رقم [9913]، من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه .
(16)أخرجه البخاري برقم [37]، ومسلم برقم [759]، وأخرجه البخاري في كتاب [الإيمان] رقم [36]، وأحمد في مسنده في المكثرين، رقم [9913]، من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه .
(17)أخرجه الترمذي برقم [806]، والنسائي برقم [1605]، وابن ماجة برقم [1327]، من حديث أبي ذر رضي الله تعالى عنه .
(18)أخرجه الإمام أحمد في باقي مسند المكثرين من الصحابة، رقم [6939]، والبخاري في كتاب [الجنائز] رقم [1388]، ومسلم في كتاب [المساجد ومواضع السجود] رقم [924]، والنسائي في كتاب [سجود السهو] رقم [1292]، وأبو داوود في كتاب [الصلاة] رقم [833]، وابن ماجة في كتاب [إقامة الصلاة] رقم [899]، والدارمي في كتاب [الصلاة] رقم [1310]، من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه [وكل الروايات بلفظ إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير] ت ط ع .
(19)أخرجه الإمام أحمد في مسند الأنصار، رقم [22944]، والبخاري في كتاب [الجمعة] رقم [1079]، ومسلم في كتاب [صلاة المسافرين وقصرها] رقم [1220-1221]، من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها .
(20)أخرجه الإمام أحمد في مسند المكثرين من الصحابة، رقم [6133]، والبخاري في كتاب [الصلاة] رقم [452]، ومسلم في كتاب [صلاة المسافرين] رقم [1239]، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، ت ط ع .
(21)أخرجه الإمام أحمد في باقي مسند الأنصار، رقم [21312]، والبخاري في كتاب [الأحكام] رقم [6626]، ومسلم في كتاب [الصلاة] رقم [713]، من حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله تعالى عنه، ت ط ع .
الحمدُ لله الذي بَيَّنَ لعباده الحرام والحلال، وحدَّ لهم حدودًا بيّنة المعالم لا غموض فيها ولا إشكال، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك الكبير المتعال، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله أهدى الخلق وأتقاهم لله في المقال والفعال، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان ما تعاقب الأيام والليال، وسلَّم تسليمًا كثيرًا .
أما بعد:
فيا عباد الله، اشكروا الله - تبارك وتعالى - على ما نوّع لكم من مواسم الخيرات التي تتكرّر عليكم لتزدادوا بها إيمانًا وإكثارًا من الأعمال الصالحات، ثم اشكروه على ما أبانَ لكم من معالم الدين، والتزموا طاعته وتقواه فإنها سيرة النبيين والمرسلين .
إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيّعوها، وحدَّ حدودًا فلا تعتدوها، ألا وإن مِمَّا حدَّه الله تعالى وأوضحه وأبانه وأظهره ذلكم الصوم الذي هو أحد أركان الإسلام، فقد بيَّن الله تعالى ابتداءه وانتهاءه شهريًّا، وابتداءه وانتهاءه يوميًّا، بيَّن الله ذلك في كتابه وفي سنَّة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقال الله تعالى:﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ [البقرة: 185]، وقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غُمّ عليكم فأكملوا العدة ثلاثين»(1)، وقال الله تعالى في تحديده اليومي: ﴿فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾ [البقرة: 187] .
إن الخيط الأبيض: بياض النهار، والخيط الأسود: سواد الليل، وقال النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - لأصحابه: «كُلُوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم؛ فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر»(2)، وقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «إذا أقبلَ الليل من هاهنا - وأشار إلى المشرق - وأدبر النهار من هاهنا -وأشار إلى المغرب - فقد أفطر الصائم»(3)، فمتى شاهد الإنسان الفجر المعترض في الأفق أو سمع المؤذن الثقة الذي لا يؤذن حتى يطلع الفجر وجبَ عليه الإمساك، ومتى شاهد قرص الشمس غائبًا في الأفق ولو كان شعاعها باقيًا في السماء أو سمع المؤذن الثقة الذي لا يؤذن حتى تغرب الشمس حَلَّ له الفطر، ولو سمع المؤذن لأذان المغرب ولكنه يرى الشمس لم تغب فإنه لا يَحِل له أن يفطر؛ لأن العبرة بغروب الشمس، ولو شاهد الفجر ولم يسمع المؤذن وجَبَ عليه الإمساك؛ لأن العبرة بطلوع الفجر .
أيها المسلمون، إن الصوم الشرعي هو: التعبد لله - تبارك وتعالى - بالإمساك من طلوع الفجر إلى غروب الشمس عن المفطّرات التي بيَّنها الله تعالى في كتابه وبيَّنها رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - في سنَّته، وهي سبعة أنواع:
الأول: الجِماع وهو أعظم المفطّرات وأشدها وفيه الكفّارة المغلظة إذا حصل في نهار رمضان مِمَّن يجب عليه الصوم، وهي عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين لا يفطر فيهما يومًا واحدًا إلا من عذر، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينًا، هكذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، «فقد جاءه رجل فقال: يا رسول الله، هلَكْت، قال: ما أهلكك ؟ قال: وقعت على امرأتي في رمضان وأنا صائم، فأمره صلى الله عليه وسلم بالعتق، فقال: إنه لا يجد، ثم أمره بالصيام فقال: إنه لا يستطيع، ثم أمره بالإطعام فقال: إنه لا يجد»(4) .
المفطّر الثاني: إنزال المني باختياره بتقبيلٍ، أو لمس، أو ضمٍّ، أو استمناء أو غير ذلك، فأما إنزال المني بالاحتلام فلا يفطّر؛ لأنه من نائم والنائم لا اختيار له، وأما المذي فلا يفطّر أيضًا؛ لأنه لا دليل على أنه يفطر، والأصل بقاء الصوم حتى يقوم الدليل على أنه فاسد .
المفطّر الثالث: الأكل والشرب وهو: إيصال الطعام أو الشراب إلى جوفه سواء كان الطعام أو الشراب حلالاً أم حرامًا، نافعًا أم غير نافع، وسواء كان عن طريق الفم أم عن طريق الأنف لقول النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - للصحابي لقيط بن صبرة رضي الله عنه: «بالِغْ في الاستنشاق - يعني: في الوضوء -إلا أن تكون صائمًا»(5)، وفي هذا إشارة إلى أن الداخل من الأنف كالداخل من الفم، فأما شم الروائح فإنه لا يفطّر؛ يعني: لو أن الإنسان شم دهن عود، أو ماء ورد، أو غيرهما مِمَّا له رائحة قوية أو ضعيفة فإنه لا يفطّر ولو وصل ذلك إلى حلقه؛ لأنه ليس للرائحة جرمٌ يصل إلى الجوف، وأما دخان البخور فإنه لا يشمه الإنسان ولكن له أن يتبخر ولا حرج عليه، وله أن يضع المبخرة تحت غترته، وله أن يضعها تحت لحيته ولا حرج عليه لكن لا يشم الدخان؛ لأن الدخان له جرمٌ يصل إلى الجوف .
الرابع: ما كان بمعنى الأكل والشرب، مثل: الإبر المغذِّية التي يُستغنى بها عن الطعام والشراب؛ لأنها بمعنى الأكل والشرب، والشريعة الإسلامية لا تفرّق بين شيئين متماثلين كما أنها لا تجمع بين شيئين متفارقين، أما الإبر غير المغذّية فإنها لا تفطّر سواء أُخذت للتداوي، أم للتنشيط أم لغير ذلك، وسواء أُخذت مع العرق أم مع العضلات؛ لأنها ليست بمعنى الأكل والشرب .
وهنا قاعدة أحبُّ أن أزفّها إليكم معشر الإخوة من طلاب علْم وغيرهم وهي: أن الأصل صحة الصيام وبقاؤه صحيحًا حتى يثبت ما يفسده بالنص، أو الإجماع أو القياس الصحيح .
المفطر الخامس: إخراج الدم بالحجامة لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «أفطر الحاجم والمحجوم»(6)، فأما أَخْذُ الدم من البدن للتحليل فإنه لا يفطّر؛ لأنه يسيرٌ لا يؤثر على البدن تأثير الحجامة، ولا يفطّر خروج الدم بالرعاف ولو كثر؛ لأنه بغير اختيار الإنسان، ومثل ذلك: لو خرج الدم من جرح سكين، أو زجاجة، أو حادث ولو كثر؛ لأنه بغير اختياره، ولا يفطّر خروج الدم من قلع السن أو الضرس ولكن لا يبلع الدم؛ لأن بلع الدم حرام على الصائم وغيره؛ وعلى هذا فيجوز للصائم أن يقلع ضرسه وسنَّه ولا إثم عليه في ذلك، ولو وصل شيء من الدم إلى جوفه بغير اختياره في هذه الحال فإنه لا حرج عليه، ولا يفطر الصائم بشق الجرح لإخراج المادة منه ولو خرج معها دم، أما سحب الدم من شخص ليُحْقَنَ في شخص آخر فإنه يفطّر إذا كان كثيرًا يؤثر على البدن تأثير الحجامة؛ وعلى هذا فمَن كان صومه واجبًا فإنه لا يحلُّ له أن يتبرع بشيء من دمه إلا أن يكون لشخص مضطر لا يمكن صبره إلى الغروب فإنه يجوز للإنسان أن يتبرع بدم منه لهذا المضطر إذا قال الأطباء إنه تزول به الضرورة، وإذا سُحب منه الدم لهذا المضطر فإنه يكون مفطرًا بسبب مباح ويجوز له أن يأكل ويشرب بقية يومه ويقضي يومًا مكانه .
المفطر السادس: القيء وهو: إخراج ما في المعدة من طعام أو شراب، فإن خرج ذلك بدون تعمّد فلا حرج، لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «مَن ذرعه القيء - أي: غَلَبَه - فليس عليه قضاء، ومَن استقاء عمدًا فلْيقْضِ»(7).
وهذه المفطّرات الستة لا تفطّر الصائم إلا بشروط وهي: أن يكون عالِمًا، ذاكرًا، مُختارًا، هذه شروط المفطّرات، فأما إذا فعلها جاهلاً فإنه لا يفطر سواء كان جاهلاً بالحكم أم جاهلاً بالوقت، فمَن أكل مثلاً يظن أن الفجر لم يطلع ثم تبيَّن له أنه طالع فصيامه صحيح، مثاله: رجل قام من النوم فأدنى سحوره وجعل يتسحّر وإذا بالناس يُقيمون الصلاة فإنه يجب عليه الإمساك حينئذٍ وليس عليه قضاء وصومه صحيح؛ لأنه جاهل، وكذلك لو أن أحدًا سمع مؤذِنًا للمغرب ثم أفطر وتبيَّن أن الشمس لم تغرب فإن صومه صحيح ولا قضاء عليه .
إني أقول هذا بدلالة الكتاب والسنَّة على ذلك، أما الكتاب فاسمعوا قول الله عزَّ وجل: ﴿وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ﴾[الأحزاب: 5]، وهذا الرجل الذي أكل في النهار من أوله أو آخره وهو لا يدري لم يتعمّد الإثم ولا الفطر ولكنه أخطأ، وقد نفى ربنا - وهو أرحم الراحمين - الجناحَ علينا إذا كان ذلك عن خطإٍ .
وفي صحيح البخاري عن أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنهما - قالت: «أفطرنا على عهد النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - في يوم غيم ثم طلعت الشمس، فقد أفطروا في النهار لكنهم يظنّون أن الشمس قد غربت ولم يأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقضاء»(8)، ولو كان القضاء واجبًا لأمَرَهم به؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يجب عليه أن يبلّغ رسالة ربه لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ [المائدة: 67]، ولو أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقضاء لنُقِل إلينا نقلاً صحيحًا واضحًا؛ لأنه حينئذٍ يكون من شرع الله، وقد تكفَّل الله تعالى ببيانه وأوجب على رسوله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - تبليغه، ولكن متى علم أنه في نهار وجب عليه أن يُمسك، فإن استمر بعد علمه بطَلَ صومه، ومَن أتى شيئًا من المفطرات ناسيًا فصومه تامٌّ ولا قضاء عليه حتى لو أكل حتى شبع أو شرب حتى روي وهو ناسٍ فإن صومه تامٌّ لا نقص فيه ولا قضاء عليه، أسْتَدِلُ لذلك بكلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، أما كلام الله فقد قال الله تعالى: ﴿رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ [البقرة: 286]، فقال الله تعالى: «قد فعلت»(9) أي: لا أؤاخذكم بالنسيان أو الخطأ، وأما كلام النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - فقد قال: «مَن نسي وهو صائم فأكل أو شرب فلْيُتمّ صومه فإنما أطعمه الله وسقاه»(10)، وتأمَّل - يا أخي - قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «فلْيُتمّ صومه» ليتبيَّن لك أن الصوم تامٌّ لا نقص فيه، ولكن متى ذَكَرَ أو ذُكِّرَ وجب عليه أن يُمسك حتى الذي في فمه يجب أن يلفظه، فإن بلعه بعد أن ذَكَرَ أو ذُكِّرَ بطل صومه، ومَن رأى صائمًا يأكل أو يشرب ناسيًا فلْيذكِّره؛ فإنه من التعاون على البر والتقوى، ومَن حصل عليه شيء من المفطّرات بغير اختياره فصومه صحيح، فلو طار إلى جوفه غبار أو تسرّب إليه ماء من المضمضة أو الاستنشاق فإن صومه صحيح ولا قضاء عليه .
النوع السابع من المفطرات: خروج دم الحيض والنفاس فهذا يختص بالنساء، فمتى خرج من المرأة حيض أو نفاس قبل الغروب ولو بلحظة بطلَ صومها، فإن خرج بعد الغروب ولو بلحظة فصومها صحيح ولا قضاء عليها حتى لو أن المرأة أحسّت بقرب خروج الحيض أو النفاس قبل الغروب ولكنه لم يخرج إلا بعد غروب الشمس فإن صومها صحيح ولا قضاء عليها، وأما ما اشتهر عند النساء من أن المرأة إذا حاضت بعد غروب الشمس وقبل أن تصلي المغرب فصومها باطل فإن هذا لا أساس له من الصحة .
ويجوز للصائم أن يكتحل وأن يتداوى بأي كحل أو دواء شاء وأن يقطّر دواء في أذنه ولا يُفطر بذلك ولو وجد طعمه في حلقه، ويجوز للصائم أن يداوي جروحه وأن يتطيَّب بالبخور وغيره ولكن لا يستنشق دخان البخور فيصلُ إلى جوفه .
ويجوز للصائم أن يستاك في أول النهار وآخر النهار بل السواك سنَّة للصائم وغير الصائم قبل الزوال وبعد الزوال ويتأكد عند الوضوء والصلاة والقيام من النوم ودخول البيت أول ما يدخل؛ فإن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - كان إذا دخل بيته أول ما يبدأ به السواك .
أيها الإخوة المسلمون، ماذا تظنون بفرض الصيام عليكم ؟ أَتَظُنُّون أنه للإمساك عن الأكل، والشرب، ومباشرة النساء، وغيرها من المفطّرات ؟
نعم، هذا هو الصيام الحسي ولكن الصيام المعنوي الذي هو روح الصيام هو أن تتقوا الله تعالى كما قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 183]، وقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «مَن لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه»(11).
فاحفظوا - أيها المسلمون - صيامكم وحافظوا عليه والتزموا فيه حدود الله غير مُغالين ولا مفرّطين؛ فإن دين الله تعالى وسط بين الغالي فيه والجافي عنه«وتسحّروا فإن في السحور بركة»(12) كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فمِن بركته: أنه يُعين على الصيام، ومن بركته: أن فيه امتثالاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، ومِن بركته: أن فيه تأسِّيًا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه كان يتسحر، وأخِّروا السحور فإن تأخيره أفضل، وأفطروا إذا غربت الشمس وبادروا بالفطر «فلا يزال الناس بخير ما عجّلوا الفطر»(13)، وأفطروا على رُطَب، فإن لم يكن فتمر، فإن لم يكن فماء فإنه طهور، فإن لم يكن فعَلَى أي طعام أو شراب حلال، فإذا غربت الشمس والإنسان في مكان ليس فيه ما يفطر به فإنه ينوي الفطر بقلبه، وما اشتهر عند العوام أنه يمصّ أصبعه أو يعلك ثوبه ثم يمصّ ريقه الذي ابتلَّ به ثوبه فإن هذا لا أساس له من الصحة .
أيها الإخوة المسلمون، قوموا بِما أوجب الله عليكم في أيام صيامكم وليالي شهركم وفي جميع عمركم ولا تهاونوا واعلموا أن كل واجب ضيّعتموه أو محرّم فعلتموه فإنه نقص في إيمانكم وصيامكم .
ابتعدوا - أيها الإخوة - عن استماع المعازف آلات اللهو من الراديو أو غيره؛ فإن الصوم جُنَّة يتقي بها الصائم من الآثام وينجو بها من النار .
اللهم إنَّا نسألك في مقامنا هذا أن تحفظ علينا ديننا، اللهم احفظ علينا ديننا، وثبّتنا عليه إلى الممات، اللهم لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، اللهم هَبْ لنا من لدنك رحمة؛ إنك أنت الوهاب .
اللهم اجعلنا مِمَّن يصوم رمضان ويقومه إيمانًا بك واحتسابًا لثوابك يا رب العالمين .
والحمدُ لله رب العالمين، وصلى الله وسلّم على نبيِّنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين .
الخطبة الثانية
الحمدُ لله حمدًا كثيرًا طيِّبًا مباركًا فيه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تُنجي قائلها يوم يلاقيه، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد:
فيا أيها الناس، إنكم في استقبال شهر مبارك كريم، إنكم في استقبال شهر رمضان الذي خصَّه الله تعالى بخصائص لم تكن في غيره؛ خصّه الله تعالى بفرض صيامه وجعل صيامه أحد أركان الإسلام ورتَّب على صيامه إيمانًا واحتسابًا مغفرة ما سبق من الذنوب والآثام، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَن صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفرَ الله له ما تقدّم من ذنبه»(14) .
إن شهر رمضان اختصّه الله تعالى بمشروعية قيام لياليه؛ فإن «مَن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفرَ الله له ما تقدّم من ذنبه»(15) .
إن شهر رمضان اختصّه الله تعالى بليلة القدر التي قال الله عنها منوِّهًا بفضلها؛ حيث أنزل فيها سورة كاملة: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾ [القدر: 1-5]، ووصف الله هذه الليلة بأنها ليلة مباركة، فقال تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَة﴾ [الدخان: 3]، ووقعت فيه انتصارات عظيمة للمسلمين في بدر، وفي فتح مكة، والانتصار لهذه الأمة في أولها هو انتصار لها إلى يوم القيامة.
أسأل الله تعالى أن ينصر دينه في كل زمان ومكان .
أيها الإخوة، قوموا في رمضان، احرصوا على قيام رمضان إيمانًا واحتسابًا؛ فإن «مَن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفرَ الله له ما تقدّم من ذنبه»(16)، واحرصوا على متابعة الإمام من أول الصلاة إلى آخرها؛ فإن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - قال: «مَن قام مع الإمام حتى ينصرف كُتب له قيام ليلة»(17).
لا تضيّعوا هذه الليالي الكريمة بالتسكّع يمينًا وشمالاً، اغتنموا الفرصة فإن الإنسان الذي يدركه هذا العام لا يدري أَيُدركه بعد هذا العام أو لا يدركه ؟
اغتنموا - أيها الإخوة - مواسم الخيرات، لا تفرّطوا في هذه التراويح؛ إنها إذا تابع الإمام فيها حتى ينصرف فإنه يُكتب له قيام ليلة ولو كان نائمًا على فراشه، فلله الحمد رب العالمين .
وإني أوجّه نصيحة إلى إخواني الأئمة أن يتّقوا الله تعالى فيمَن وراءهم من المسلمين، وأن يصلّوا صلاة يطمئنون فيها حتى يتمكّن إخوانهم من الدعاء والتسبيح والقراءة على مهل، ولا يسرعوا؛ فإن البِرَّ ليس بالإسراع، إن البِرَّ في موافقة السنَّة، ولقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُطيل القيام حتى ربما جاء السَّحَر وهو يصلي عليه الصلاة والسلام في أصحابه .
أيها الإخوة الأئمة، إنني أنصحكم نصيحة أرجو الله تعالى أن يُثيبنا عليها جميعًا، أن يُثيب الناصح والمنصوح إذا امتثل، لا تسرعوا في الصلاة، ليس البر في الإسراع، لا تغترّوا إذا كثر الناس وراءكم من أجل أنكم تسرعون ولا تطمئنون؛ إن هذا خطأ؛ إن الإمام مؤتمن، إنه تحمل أمانة أن يكون الناس وراءه يأتون بالعبادة على الوجه المطلوب، سبّحوا ثلاثًا أو أكثر وأكْثروا من الدعاء وأَتِمُّوا التشهد؛ فإن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - قال: «إذا تشهَّد أحدكم التشهد الأخير فلْيستعيذْ بالله من أربع: أعوذ بالله من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال»(18)، وكثير من الأئمة إذا كمّل التشهد الأول إلى قوله: «وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله» قال: اللهم صلِّ على محمد ثم سلّم، وهذا تفريط في الأمانة؛ لأن الذين وراءَه قد لا يصِلون إلى هذا، قد يُسَلِّمون قبل أن يُصَلّوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - في التشهد الأخير، والمعروف عند فقهاء الحنابلة أن الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في التشهد الأخير ركنٌ لا تصح الصلاة إلا به، فهل ترضى لنفسك - أيها الإمام - أن يخرج إخوانك من الصلاة وهم لم يتموّها ؟
أكْملوا التشهد الأول كله، ومع ذلك هؤلاء الذين يسرعون ويعجّلون إذا خرج الناس فإلى أين يخرجون ؟ أَيَخْرجون إلى عبادة أفضل ؟ !
إنهم يخرجون ليتسكَّعوا في الأسواق، أو يذهبوا إلى متاجرهم، أو يذهبوا إلى أهليهم، وربما يبقون في السهر إلى حدٍّ بالغ على غير فائدة، فما الذي يحدو بالأئمة أن يسرعوا هذا الإسراع الفاحش الذي قد يُخلُّ بالطمأنينة ؟ إن عليهم أن يتّقوا الله .
أما عدد القيام التي هي التراويح فإن الأمر فيها واسع: يجوز للإنسان أن يصلي إحدى عشرة ركعة، أو ثلاث عشرة ركعة، أو تسع عشرة ركعة، أو ثلاثًا وعشرين ركعة، أو أكثر من ذلك أو أقل، ولكن العدد المفضّل الذي كان عليه النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - هو إحدى عشرة ركعة، أو ثلاث عشرة ركعة كما سُئلت عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - وهي من أعلم الناس بصلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - في الليل، سئلت: كيف كانت - صلاة النبي صلى الله عليه وسلم - في رمضان ؟ فقالت: «كان لا يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربعًا فلا تسأل عن حُسنهنّ وطولهن ثم يصلي أربعًا فلا تسأل عن حُسنهنّ وطولهنّ ثم يصلي ثلاثًا»(19) هكذا قالت رضي الله عنها، وقد فهم بعض الناس أن معنى قولها: «يصلى أربعًا» أنه يصليها بسلام واحد وهذا فهم خاطئ؛ لأن عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - التي قالت هذا هي التي صَحَّ عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي إحدى عشرة ركعة ويسلّم من كل ركعتين، وعليه فمجمل كلامها يُحمل على مفصّله، وهذا - أعني: كون بعض الناس يأخذ ببعض الأدلة دون أن يجمع أطرافها - هذا نقص عظيم في العلْم ونقص عظيم في هداية الخلق؛ ولذلك يجب على طالب العلم إذا أراد أن يحكم على شيء أن يجمع الأدلة من جميع أطرافها حتى لا يُضلّ عباد الله عن دين الله، لا يمكن أن يكون الرسول - عليه الصلاة والسلام - يجمع أربعًا في تسليم واحد وهو الذي قال: «صلاة الليل مثنى مثنى»(20) فكيف يخالف ما أرشد إليه أمته ؟ وإذا كان هذا الحديث المجمل قد فُصّل من راويه في موضع آخر فإنه يجب الرجوع إليه، أما الوتر فنعم، الوتر يجوز للإنسان أن يوتر بثلاث بتشهّد واحد وتسليم واحد، ويجوز أن يوتر بخمس ولا يسلّم إلا في آخرها وهو الأفضل، وأن يوتر بسبع ولا يسلّم إلا في آخرها وهو الأفضل، وأن يوتر بتسع ولا يسلّم إلا في آخرها لكنّه يتشهّد في الثانية التشهد الأول ولا يسلّم ثم يأتي بالتاسعة ويسلّم وهو الأفضل، ولكن هذا إذا كان الإنسان المصلي وحده فله أن يوتر بالخمس، والسبع، والتسع بتسليم واحد، أما إذا كان إمامًا فلا يفعل؛ لأنه إذا فعل ذلك شَقَّ على المأمومين مشقة عظيمة، وأرْبَكَ المؤمنين الذين يدخلون معه بعد انتهاء الفريضة لا يدرون أَيَنْوي الوتر أم ينوي التراويح فيُشكل عليهم بالنيَّة، وإذا قُدِّر أنه نَبَّهَ مَن حوله عند ابتداء التراويح وقال: إنّا سنجعلها وترًا خمسًا، أو سبعًا، أو تسعًا فإن الداخلين بعد ذلك لا يدرون ما نوى فيقعون في إشكال، ثم إنني لا أعلم إلى ساعتي هذه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام بأصحابه بخمس، أو سبع، أو تسع، لكن بعض الناس، بعض الإخوة المجتهدين قالوا: إذا كان هذا ثابتًا عن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - فإنه ينبغي أن نفعله؛ حتى نُظهر السنَّة، ولكننا نقول: لم يثبت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه أوتر بأصحابه بخمس، أو سبع، أو تسع، ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال كلمة عامة، قال: «أيّكم أَمَّ الناس فلْيوجز؛ فإن مَن ورائه الضعيف والكبير والمريض وذا الحاجة»(21)؛ لذلك أقول أيها الإخوة: اجمعوا أطراف الأدلة حتى يتبيَّن لكم الحق واضحًا بيِّنًا لا إشكال فيه؛ ولا تأخذوا ببعض منها على فهم خاطئ، فإذا قال قائل: إن في هذا إظهار للسنَّة، قلنا: إن إظهار السنَّة لا يتعيَّن بالفعل بل يمكن أن يُظهر السنَّة بالقول فيتكلم مع الناس ويعظهم ويقول: مَن أراد منكم أن يوتر بخمس فلا يسلّم إلا في آخرها، أو بسبع فلا يسلّم إلا في آخرها، أو بتسع فلا يسلّم إلا في آخرها ويتشهّد في الثامنة، وبذلك تتبيَّن السنَّة دون الإشفاق على الناس والعنت عليهم .
اللهم إنّا نسألك في مقامنا هذا أن تهدينا لِما اختُلِفَ فيه من الحق بإذنك؛ إنك تهدي من تشاء إلى صراط المستقيم .
اللهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتِّباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه .
والخلاصة أنني أوجه النصيحة إلى الأئمة بأن يتأنوا في صلاة التراويح؛ حتى يتمكَّن المسلمون من التسبيح والدعاء، وألا يُطيلوا على الناس بالإيتار بخمس أو سبع أو تسع؛ لأن ذلك لم يرد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما أعلم أنه صلى بالناس بهذا العدد، ولِمَا فيه من المشقة المنافية لقول الرسول عليه الصلاة والسلام: «أيُّكم أَمَّ الناس فلْيوجز» .
ثم إننا نشكر وزارة الأوقاف على ما نشرته على الأئمة بألا يرفعوا الصلاة من على المناير؛ لأن في ذلك تشويش على الناس الذين حولهم من المساجد وعلى أهل البيوت الذين يصلّون في بيوتهم من المرضى والنساء؛ ولذلك كان هذا القرار موفّقًا .
نسأل الله أن يوفِّق هذه الوزارة وغيرها من وزارت حكومتنا لِما فيه صلاح البلاد والعباد .
وعلى هذا فإنني أنصح الأئمة بأن يُغلِقوا مكبِّر الصوت من المنارة وأن يجعلوا مكبِّر الصوت في داخل المسجد فقط .
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم .
-----------------------------
(1)أخرجه البخاري برقم [1907]، ومسلم برقم [1080]، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما .
(2)أخرجه البخاري برقم [1918]، ومسلم برقم [1092]، من حديث عائشة رضي الله عنها .
(3)أخرجه البخاري برقم [1954]، ومسلم برقم [1100]، من حديث عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه .
(4)أخرجه البخاري في كتاب [الصوم] باب: إذا جامَعَ في رمضان ولم يكن له شيء، رقم [1936]، ومسلم كتاب [الصيام] باب: تغليظ تحريم الجِماع في نهار رمضان على الصائم، رقم [1111]، من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه .
(5)أخرجه أبو داوود، رقم [2365]، والترمذي برقم [788]، والنسائي برقم [1/66]، وابن ماجة برقم [407]، من حديث لقيط بن صبرة رضي الله تعالى عنه .
(6)أخرجه الإمام أحمد، رقم [5/277]، وأبو داوود برقم [2367]، والنسائي في الكبرى برقم [3137]، وابن ماجة برقم [1680]، من حديث ثوبان رضي الله تعالى عنه .
(7)أخرجه الإمام أحمد، رقم [2/498]، وأبو داوود برقم [2380]، والترمذي برقم [720]، وابن ماجة برقم [1676]، وابن حبان برقم [3518]، من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه .
(8)أخرجه البخاري برقم [1959]، من حديث أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما .
(9)أخرجه مسلم، كتاب [الإيمان] باب: بيان قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ﴾ [البقرة: 284]، رقم [126]، من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما .
(10)أخرجه البخاري برقم [1933]، ومسلم برقم [1155]، من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه .
(11)أخرجه البخاري برقم [1903]، من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه .
(12)أخرجه البخاري برقم [1923]، ومسلم برقم [1095]، من حديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنهما .
(13)أخرجه البخاري برقم [1957]، ومسلم برقم [1098]، من حديث سهل بن سعد رضي الله تعالى عنه .
(14)أخرجه البخاري برقم [1901]، ومسلم برقم [760]، من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه .
(15)أخرجه البخاري برقم [37]، ومسلم برقم [759]، وأخرجه البخاري في كتاب [الإيمان] رقم [36]، وأحمد في مسنده في المكثرين، رقم [9913]، من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه .
(16)أخرجه البخاري برقم [37]، ومسلم برقم [759]، وأخرجه البخاري في كتاب [الإيمان] رقم [36]، وأحمد في مسنده في المكثرين، رقم [9913]، من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه .
(17)أخرجه الترمذي برقم [806]، والنسائي برقم [1605]، وابن ماجة برقم [1327]، من حديث أبي ذر رضي الله تعالى عنه .
(18)أخرجه الإمام أحمد في باقي مسند المكثرين من الصحابة، رقم [6939]، والبخاري في كتاب [الجنائز] رقم [1388]، ومسلم في كتاب [المساجد ومواضع السجود] رقم [924]، والنسائي في كتاب [سجود السهو] رقم [1292]، وأبو داوود في كتاب [الصلاة] رقم [833]، وابن ماجة في كتاب [إقامة الصلاة] رقم [899]، والدارمي في كتاب [الصلاة] رقم [1310]، من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه [وكل الروايات بلفظ إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير] ت ط ع .
(19)أخرجه الإمام أحمد في مسند الأنصار، رقم [22944]، والبخاري في كتاب [الجمعة] رقم [1079]، ومسلم في كتاب [صلاة المسافرين وقصرها] رقم [1220-1221]، من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها .
(20)أخرجه الإمام أحمد في مسند المكثرين من الصحابة، رقم [6133]، والبخاري في كتاب [الصلاة] رقم [452]، ومسلم في كتاب [صلاة المسافرين] رقم [1239]، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، ت ط ع .
(21)أخرجه الإمام أحمد في باقي مسند الأنصار، رقم [21312]، والبخاري في كتاب [الأحكام] رقم [6626]، ومسلم في كتاب [الصلاة] رقم [713]، من حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله تعالى عنه، ت ط ع .