محمد الفاريابي
10-01-2011, 01:39 AM
الشيخ محمد صالح العثيمين رحمه الله
الخطبة الأولى:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يُضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون اتقوا الله تعالى وأقيموا الصلاة في المساجد جماعة فإن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال:"لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِالصَّلاَةِ فَتُقَامَ ثُمَّ آمُرَ رَجُلاً فَيُصَلِّىَ بِالنَّاسِ ثُمَّ أَنْطَلِقَ مَعِي بِرِجَالٍ مَعَهُمْ حُزَمٌ مِنْ حَطَبٍ إِلَى قَوْمٍ لاَ يَشْهَدُونَ الصَّلاَةَ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ بِالنَّارِ"(1) ولقد أمر الله تعالى بصلاة الجماعة في حال الخوف ومقابلة الأعداء فقال الله عز وجل لرسوله محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ﴿وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً﴾ [النساء: 102] وفي هذه الآية الكريمة دليلٌ على وجوب صلاة الجماعة وأنها فرض عين لأنها لم تسقط في حال الخوف فإذا كانت لا تسقط في الخوف ففي حال الأمن من باب أولى وفيها أيضاً على إنها فرض عين لأنها لو كانت فرض كفاية لاكتفى بالطائفة الأولى، عباد الله ولقد جعل الله تعالى لصلاة الجماعة واجبات على المأموم وواجبات على الإمام فاتقوا الله عباد الله وتعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله لتعبدوا الله على بصيرة قال الله تعالى:﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر: 9] لا يستوي من يعبد الله وهو يعلم كيف يعبده ويعلم أنه يعبده على شريعة الله تعالى وعلى سُنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لا يستوي هذا ومن يعبد الله وهو يجهل ذلك وإذا علمتم حدود ما أنزل الله فعليكم أن تُطبقوا وأن تتقوا الله عز وجل في التزامها ما استطعتم قال الله تعالى: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [آل عمران: 132].
أيها الناس إن من حدود ما أنزل الله على رسوله حدود الجماعة حيث جعل للإمام فيها حداً وللمأموم فيها حداً وكل واحدٍ منهما مسؤول عما يختص به فمن مسئوليات الإمام أن يحرص على إكمال الصلاة بحيث تكون مثل صلاة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في أصحابه فإنه صلى الله عليه وسلم هو الأسوة التي يجب علينا أن نتأسى به صلوات الله وسلامه عليه وإن صلاة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله سلم هي أتم صلاة وأخفها كما قال أنس بن مالك رضي الله عنه: " مَا صَلَّيْتُ وَرَاءَ إِمَامٍ قَطُّ أَخَفَّ صَلاَةً وَلاَ أَتَمَّ مِنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -" (2).
أيها الإخوة إن الإمام لو صلى وحده لكان له الخيار بين أن يقتصر على أقل واجب في الصلاة أو أن يفعل أعلى مطلوب فيها أو يطول فيها ما شاء ولكنه إذا صلى بالجماعة لم يكن مخيراً في ذلك بل يجب عليه أن يُراعي مَنْ خلفه بحيث يتمكنون من فعل أدنى الكمال في صلاتهم لأنه لا يصلي لنفسه فحسب وإنما يُصلي لنفسه ومن خلفه فليتق الله فيهم ولا يحرمهم من فعل أدنى الكمال خلفه وإن ترقى إلا أن تكون صلاته كصلاة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فإن ذلك أكمل وأطيب وإن من الجهل أن بعض الأئمة يُراعي حتى في مخافة السُّنة المأمومين فتراه يقسم السور التي كان النبي صلى الله عليه وعلى آله يقرأها كاملة يقول أخاف أن أطول عليهم فيقرأ مثلاً في فجر يوم الجمعة الم تنزيل السجدة في الركعتين جميعاً ويدع سورة الإنسان أو يقرأ سورة الإنسان وسورة أخرى معها في الركعة الثانية وكل هذا مخالفة صريحة للسُّنة ولولا أني أخشى أن أتدخل في نية الناس لقلت أن هذا مضادة للرسول صلى الله عليه وسلم كأنه يقول إن الأكمل أن أقسم التنزيل في الركعتين جميعاً إن هدي النبي صلى الله عليه وسلم أكمل هدي فليقرأ السورتين كاملتين سورة: الم تنزيل السجدة في الركعة الأولى وهل أتى في الثانية أو ليدعهما ويقرأ بغيرهما أما تشطير السُّنة تبعاً للهوى الذي يُخالف ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فهذا غير صواب ومن مسؤوليات الإمام أن يحرص على إقامة الصفوف وتسويتها بالقول وبالفعل إذا لم يفد القول فليأمرهم بتسوية الصفوف وإقامتها ويؤكد ذلك عليهم ويتوعدهم على مخالفتها ويسويها بيده إن لم ينفع ذلك بلسانه كما كان نبينا وإمامنا وقدوتنا وأسوتنا يفعل ذلك فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"سَوُّوا صُفُوفَكُمْ فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصَّفِّ مِنْ تَمَامِ الصَّلاَةِ"(3) متفق عليه وفي رواية للبخاري: "فإن تسوية الصف من إقامة الصلاة"(4) وروى أبو داود: "رصوا صفوفكم وقاربوا بينها وحازوا بالأعناق"(5) وله أي: لأبي داود من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "أقيموا الصفوف وحاذوا بين المناكب وسدوا الخلل ولينوا بأيدي إخوانكم ولا تذروا فرجات الشيطان - يعني الفضاء بين الرجلين - إن الشيطان يدخل فيه من بين أهل الصف"(6) وقال صلى الله عليه وسلم: "من وصل صفاً وصله الله ومن قطع صفاً قطعه الله"(7) ومن قطع الصف أن يشرع الناس في الصف الثاني قبل تمام الأول فبعض الناس إذا جاء وخاف فوات الركعة ركع من خلف الصف وحده مع أن الصف لم يتم وبذلك يكون قاطعاً للصف لأن الذين يجيئون من بعده سوف يصفون معه ويدعون الصف الأول وفي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أُقيمت الصلاة فأقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه فقال: "أقيموا صفوفكم وتراصوا"(8) وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسوي صفوفنا حتى كأنما يسوي بها القداح حتى رأى أنَّا قد عقلنا عنه ثم خرج يوماً حتى كاد يكبر فرأى رجلاً بادياً صدره من الصف فقال: "عباد الله لتسوينَّ صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم"(9) "أي بين قلوبكم"(10) كما في رواية لأبي داود وهذا أيها الإخوة وعيدٌ شديدٌ على من لا يسوون الصفوف أن يخلف الله بينهم فتختلف آراؤهم وتختلف وجهات نظرهم وتضيع مصالحهم بسبب اختلافهم وفيه بشرى سارة لمن سووا الصفوف أن الله يجمع بين قلوبهم ويؤلف بينهم وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يتخلل الصف من ناحية إلى ناحية يمسح صدورنا ومناكبنا ويقول: "لا تختلفوا فتختلف قلوبكم"(11) وقال النعمان بن بشير رضي الله عنه: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يسوي يعني صفوفنا إذا قمنا للصلاة فإذا استوينا كبر"(12) رواهما أبو داود ففي قوله: "إذا استوينا كبر" نص صريح على أنه صلى الله عليه وسلم لا يُكبر للصلاة حتى تستوي الصفوف ولقد أدرك هذا المعني الجليل خلفاء رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم الراشدون والأئمة المتبعون لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ففي موطأ الإمام مالك رحمه الله عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه "كان يأمر بتسوية الصفوف أي يأمر رجالاً يسونها فإذا جاءوه فأخبروه أنها قد استوت كبر"(13) وقال مالك بن أبي عامر:"كنت مع عثمان بن عفان رضي الله عنه فأقيمت الصلاة وأنا أكلمه يعني في حاجة حتى جاء رجال كان قد وكلهم بتسوية الصفوف فأخبروه أن الصفوف قد استوت فقال لي: استوِ في الصف ثم كبر"(14).
فهذا أيها الإخوة فعل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وفعل خلفائه الراشدين لا يكبرون للصلاة حتى تستوي الصفوف أفليس من الجدير بنا أن يكون لنا فيهم أُسوة؟ أفليس من الجدير أن نأمر بتسوية وإقامة الصفوف وأن ننتظر فلا نكبر للصلاة حتى نراهم قد استووا على الوجه المطلوب، وألا نخشى في ذلك لومة لائم أو تضجر متضجر؟ ولكن مع الأسف أن كثيراً من الأئمة فتح الله علينا وعليهم لا يُولي هذا الأمر عناية وغايةُ ما عنده أن يقولها كلمةً على العادة: استووا اعتدلوا فلا يُشعر نفسه بالمقصود منها ولا يُبالي من خلفه بها ولا يأتمرون بها تجده يقول ذلك وهم باقون على وجادهم وتباعد بعضهم من بعض ولو أن الإمام شعر بالمقصود ونظر إلى الصفوف بعينه واستقبلهم بوجهه وانتظر حتى يراهم قد استووا استواءً كاملاً ثم كبر لبرئت ذمته وخرج من المسئولية ووافق هدي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، هذه بعض مسؤوليات الإمام في إمامته.
أما المأموم فإنه لو كان يُصلي وحده لكان مخيراً بين أن يقتصر على أدنى واجب في صلاته أو يُطول فيها ولكنه إذا كان مع الإمام فقد ارتبطت صلاته بصلاة إمامه فلا يجوز أن يتقدم على الإمام بالتكبير ولا بالقيام ولا بالقعود ولا بالركوع ولا بالسجود ولا يأتي بذلك مع الإمام أيضاً قال العلماء: وإذا كبر الإمام تكبيرة الإحرام وشرع الإنسان فيها ولو بالهمزة الأولى قبل أن يكملها الإمام لم تنعقد صلاته وصارت باطلة فلا يجوز لمأموم أن يتقدم على الإمام وإنما يأتي به بعده متابعاً له دون تأخير قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم:"أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار أو أن يجعل صورته صورة حمار"(15) وقال أيضا:"إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه فإذا ركع فاركعوا وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا ولك الحمد وإذا سجد فاسجدوا وإذا صلى جالسا فصلوا جلوساً أجمعون"(16) هكذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم وكان الصحابة رضي الله عنهم "إذا سجد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يحنِ أحدٌ منهم ظهره حتى يقع النبي صلى الله عليه وسلم ساجداً على الأرض ثم يسجدون بعده"(17) ومسؤوليات المأموم المحافظة على تسوية الصفوف وأن يحذر من العقوبة على من لم يسوها وأن يحافظ على المراصة فيها وسد خللها والمقاربة بينها ووصلها بتكميل الأول فالأول وأن يحذر من عقوبة قطع الصفوف كما سمعتم: "أن من قطع صفاً قطعه الله"(18) وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو يعلم الناس في النداء يعني الأذانالأَوَّلِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلاَّ أَنْ يَسْتَهِمُوا لاَسْتَهَمُوا عَلَيْهِ"(19) يعني ولم لم يجدوا للسبق إليه إلا بقرعة لفعلوا ذلك وقال صلى الله عليه وسلم: "خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا وَشَرُّهَا آخِرُهَا "(20) وقال صلى الله عليه وسلم: "أتموا الصف المقدم ثم الذي يليه فما كان من نقص فليكن في الصف المؤخر"(21) رواه أبو داود ورأى في أصحابه تأخراً وفي لفظ رأى قوماً في مؤخر المسجد فقال: "تَقَدَّمُوا فَائْتَمُّوا بِى وَلْيَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ لاَ يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمُ اللَّهُ"(22) وهذا معتاد في بعض الناس تجده يأتي مبكراً ثم يكون قد اختار مكاناً معيناً فيجلس فيه ويدع المقدم وهذا يخشى عليه من هذه العقوبة إذا تأخر أن يؤخره الله في جميع ميادين السبق.
أيها الإخوة هل يرضى أحدٌ منكم أن يكون في مؤخر الصفوف وهو آخرها مع تمكنه من أولها؟ وهل يرضى أن يعرض نفسه للعقوبة بالتأخر عن الصفوف حتى يؤخره الله في جميع مواقف الخير؟ هل يرضى الإنسان لنفسه ألا يصف بين يدي ربه كما تصف الملائكة عند ربها يتراصون ويكملون الصفوف المقدمة؟ ما مِنْ إنسان يرضى لنفسه بذلك إلا وقد رضي لها بالخسران، فتقدموا أيها المسلمون إلى الصفوف أكملوا الأول فالأول وتراصوا فيها وتساووا ولينوا بأيدي إخوانكم إذا جذبوكم إلى تسوية الصف أو للتراص فيها لتتموا صلاتكم وتمتثلوا أمر نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم وتقتفوا أثر سلفكم الصالح ومن وجد الصف تاماً ولم يجد له مكاناً فيه فليصلِّ خلف الصف وحده ولا حرج عليه، ومن صلى وحده خلف الصف وهو يجدُ مكاناً فيه فلا صلاة له وإذا اجتمع ثلاثة فأكثر فصلى بهم أحدهم فليتقدم عليهم وإن كانوا يصلون على مكان ضيق لا يتسع لتقدم الإمام عليهم فليصلوا صفاً واحداً ويكون الإمام بينهم وليس يكون عن يسارهم كما يتوهمه بعض العوام فإذا كانوا ثلاثة والمكان ضيق لا يتسع لتقدم الإمام فليكن واحد عن يمينه وواحد عن يساره لأن هذا هو السنة في أول الأمر فقد كان الناس في أول الأمر إذا كانوا ثلاثة لا يتقدم الإمام وإنما يكون بين الاثنين ولكنه نسخ أخيراً فصار يتقدم وهذا دليل على فائدتين عظيمتين الفائدة الأولى: أنه لا صحة لما يفهمه بعض الناس من كونه إنهم يكونون عن يمينه كلهم بل يكون بعضهم عن اليمن وبعضهم اليسار، الفائدة الثانية: اليمين أفضل حالاً من اليسار، وإذا بعد اليمين فاليسار الأقرب أفضل ولهذا لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أكملوا الأيمن فالأيمن ولو قال ذلك لقلنا: لا يصح أحد إذا انتهى اليمين ولكنه لم يقل ذلك ولاشك أن العدل والأفضل والأوجه أن يكون الإمام وسط الصف أي: أن يكون الذين عن يمينه وعن شماله متقاربين نعم لو تساوى اليمين واليسار فاليمين أفضل أما مع التباعد فإن اليسار مع القرب من الإمام أفضل فاتقوا الله عباد الله ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [البقرة: 189] ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [آل عمران: 132] كما قال الله عز وجل: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ [آل عمران: 133-136] اللهم اجعلنا من المتقين اللهم اجعلنا من المتقين اللهم اجعلنا من المتقين الذين يسارعون إلى مغفرتك وجنة عرضها السماوات والأرض اللهم اجعلنا من ساكنيها اللهم لا تحرمنا إياها بسوء أفعالنا اللهم اجعلنا من الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الحمد في الآخرة والأولى وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المصطفى وخليله المجتبى صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن بهداهم اهتدى وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله، إن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم "كان يُكثر الصيام في شهر شعبان فما رئي في شهر من الشهور أكثر صياماً منه في شهر شعبان حتى كان يصوم إلا قليلاً منه"(23) فمن استطاع منكم أن يصومه كثيراً فليفعل فإن ذلك من سنة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ومن كان منكم عليه قضاء من رمضان فليبادر به فإنه لا يجوز تأخير قضاء رمضان إلى رمضان الثاني لقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: "كان يكون عليّ الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان"(24) يعني لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، واعلموا أيها الإخوة "أن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة يعني في الدين بدعة وكل بدعة ضلالة فعليكم بالجماعة"(25) اجتمعوا على طاعة الله اجتمعوا على دين الله اعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا تناصحوا فيما بينكم تآمروا بالمعروف تناهوا عن المنكر وليكن بينكم لبعض كالطبيب يداوي المريض إذا رآه في منكر لا تُعنِفوا في إنكار المنكر ولا تشددوا فيه واعلموا أن الله عز وجل رفيق يحب الرفق في الأمر كله ويُعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف تناصحوا فيما بينكم ابتغاء مصلحة الأخ المنصوح لا لأجل أن تنتصروا لأنفسكم أو تذهبوا غيظكم وعاطفتكم اقصدوا بذلك نفع إخوانكم الذين تنصوحنهم أو تأمرونهم بالمعروف وتنهونهم عن المنكر واعلموا أيها الإخوة أن الأمر كله لله عز وجل من شاء الله لهداه اهتدى ومن لم يشأ فإن الله على كل شيء قدير واعلموا أن تأخر المطر عنكم إنما هو بأمر الله عز وجل وأنه لن يؤخره إلا من أجل أن ترجعوا الله عز وجل قال الله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ﴾ [الأعراف: 96] وقال نوح عليه السلام لقومه: ﴿اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا﴾ [نوح: 10-12] فالله عز وجل يبتلي العباد ما يبتليهم به من أجل أن يرجعوا إليه ويجددوا التوبة كما قال الله تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الروم: 41] اخرجوا من المظالم من مظالم أنفسكم بتضييع أمر الله عز وجل أو التقصير فيه فإن الذين يضيعون أمر الله أو يقصرون فيه إنما ظلموا أنفسهم كما قال الله تعالى: ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ﴾ [الزخرف: 76] اخرجوا من مظالم الخلق من كان في ذمته حق لأخيه فليبادر برده إليه فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مطل الغني ظلم"(26) فأنت كلما تأخرت عن وفاء الحق الذي عليك بدون عذر شرعي فإنك تزداد ظلماً على نفسك وانتبهوا لمظالم إخوانكم العمال فإن كثيراً من العمال يشكون من مكفوليهم بتأخر مكافآتهم وهؤلاء فقراء تركوا أوطانهم وأهليهم وأولادهم للحضور إلى هذه البلاد المباركة للقمة العيش فلا تظلموهم بمنع حقوقهم فقد قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه"(27) وقال صلى الله عليه وسلم:"قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر ورجل باع حراً فأكل ثمنه ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره"(28) فاتقوا الله أيها المسلمون اخرجوا من المظالم لا تظلموا أنفسكم بالمعاصي ولا تظلموا غيركم بهضم حقوقهم ومن ذلك أن من الأزواج من يتطاول على زوجته بدون سبب شرعي فتجده يكلفها ما لا تطيق ويضربها أحياناً بدون إذن الشارع ويهجرها بدون حق ويؤذيها إيذاءً كثيراً كذلك بعض النساء تتهاون بحقوق الأزواج فاتقوا الله فيما بينكم ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [الأنفال: 1] دخل رجل يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يخطب فقال: "يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل فادعُ الله يغيثنا فرفع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يديه ورفع الناس أيديهم معه وقال: اللهم أغثنا ثلاث مرات فأنشأ الله تعالى سحابة في الحال فتوسطت السماء فأمطرت ونزل النبي صلى الله عليه وسلم من منبره والمطر يتحادر من لحيته ثم بقي المطر أسبوعاً كاملاً لم يروا فيه الشمس"(29) فدخل رجل آخر أو الرجل الأول وقال: يا رسول تهدم البناء وغرق المال فادعُ الله أن يُمسِكه عنا فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه وقال: "اللهم حوالينا ولا علينا"(30) قال الراوي فما يشير إلى ناحية إلا انفرجت بإذن الله وخرج الناس يمشون في الشمس المدينة صحو وما حولها ممطر وذلك بتقدير العلي القدير جل وعلا اللهم أغثنا اللهم أغثنا اللهم أغثنا اللهم أغثنا غيثا مغيثا هنيئاً مريئاً غدقاً مجللاً عام طفقاً دائماً نافعاً غير ضار اللهم اسقنا غيثا تُحيي به البلاد وترحم به العباد وتجعله بلاغاً للحاضر والباد اللهم سقيا رحمة اللهم سقيا رحمة اللهم سقيا رحمة لا سقيا بلاء ولا عذاب ولا هدم ولا غرق إنك على كل شيء قدير اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
-----------------------------------
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده في باقي مسند المكثرين من الصحابة (9132)، والبخاري في كتاب الأذان (608)، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة (1041)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده في مسند المكثرين من الصحابة (13035)، والبخاري في كتاب الأذان (667)، ومسلم في كتاب الصلاة (721)، وغيرهم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده في باقي مسند المكثرين من الصحابة (13582)، والبخاري في كتاب الأذان (681)، ومسلم في كتاب الصلاة (656)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(4) أخرجه الإمام أحمد في مسنده في باقي مسند المكثرين من الصحابة (12113)، وأبو داود في سننه في كتاب الصلاة (571)، والنسائي في سننه في كتاب الإمامة (806)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(5) أخرجه الإمام أحمد في مسنده في مسند المكثرين من الصحابة (5466)، وأبو داود في سننه في كتاب الصلاة (570)، والنسائي في سننه في كتاب الإمامة (810)، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
(6) أخرجه أبو داود في سننه في كتاب الصلاة (570)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(7) أخرجه أبو داود في سننه في كتاب الصلاة (570)، والنسائي في سننه في كتاب الإمامة (810)، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
(8) أخرجه الإمام أحمد في مسنده في باقي مسند المكثرين من الصحابة (13279)، والبخاري في كتاب الأذان (678)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(9) أخرجه الإمام أحمد في مسنده في مسند المكثرين من الصحابة (17674)، والبخاري في كتاب الأذان (676)، ومسلم في كتاب الصلاة (660)، من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.
(10) وفي رواية أبي داود: يسوينا في الصفوف كما يقوم القدح، أخرجه في سننه في كتاب الصلاة (567)، من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.
(11) أخرجه النسائي في سننه في كتاب الإمامة (802)، وأبو داود في سننه في كتاب الصلاة (568)، من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه.
(12) أخرجه أبو داود في سننه في كتاب الصلاة (569)، من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.
(13) أخرجه الإمام مالك في الموطأ في كتاب النداء للصلاة (337)، من حديث نافع مولى عمر رضي الله عنهما.
(14) أخرجه الإمام مالك في الموطأ في كتاب النداء للصلاة (216)، عن عثمان بن عفان رضي الله عنه، من حديث مالك بن عامر رضي الله عنه.
(15) أخرجه الإمام أحمد في مسنده في باقي مسند المكثرين من الصحابة (10142)، والبخاري في كتاب الأذان (650)، ومسلم في كتاب الصلاة (647، 648)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(16) أخرجه الإمام أحمد في مسنده في باقي مسند المكثرين من الصحابة (7809)، والبخاري في كتاب الأذان (680)، ومسلم في كتاب الصلاة (625)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وغيرهم.
(17) أخرجه الإمام أحمد في مسند الكوفيين (17778، 17910، 17911)، والبخاري في كتاب الأذان (649)، ومسلم في كتاب الصلاة (728، 720، 721)، من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه.
(18) سبق تخريجه في حـ7.
(19) أخرجه الإمام أحمد في مسند المكثرين من الصحابة (6938)، والبخاري في كتاب الأذان (580)، ومسلم في كتاب الصلاة (661)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(20) أخرجه الإمام أحمد في مسند المكثرين من الصحابة (8130)، ومسلم في كتاب الصلاة (664)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(21) أخرجه أبو داود في سننه في كتاب الصلاة (574)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(22) أخرجه الإمام أحمد في مسند المكثرين من الصحابة (11087)، ومسلم في كتاب الصلاة (662)،وأبو داود في كتاب الصلاة (582)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(23) أخرجه الإمام أحمد في باقي مسند الأنصار (22987)،والبخاري في كتاب الصوم (1833)،ومسلم في كتاب الصيام (1956)، والإمام مالك في الموطأ في كتاب الصيام (601)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
(24) أخرجه الإمام أحمد في باقي مسند الأنصار (23850، 23781)، والبخاري في كتاب الصوم (1814)، ومسلم في كتاب الصيام (1933)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
(25) أخرجه الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى في مسنده، في مسند المكثرين من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين (14455)، ومسلم رحمه الله تعالى، في كتاب الجمعة (1435)، والنسائي، في كتاب صلاة العيدين (1560)،وأبو داود، في كتاب الخراج والإمارة والفيء (2565)، وابن ماجه، في كتاب المقدمة (44)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه.
(26) أخرجه الإمام أحمد في باقي مسند المكثرين من الصحابة (9621)، والبخاري في كتاب الحوالة (2125)، ومسلم في كتاب المساقاة (2924)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(27) أخرجه ابن ماجه في كتاب الأحكام (2434)، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
(28) أخرجه الإمام أحمد في باقي مسند المكثرين من الصحابة (8338)، والبخاري في كتاب البيوع (2075)، وابن ماجه في كتاب الأحكام (2423)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(29) أخرجه الإمام أحمد في مسند المكثرين من الصحابة (13246)،والبخاري في كتاب الجمعة (957)، ومسلم في كتاب صلاة الاستسقاء (1493)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(30) سبق تخريجه في الحديث رقم 29.
الخطبة الأولى:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يُضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون اتقوا الله تعالى وأقيموا الصلاة في المساجد جماعة فإن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال:"لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِالصَّلاَةِ فَتُقَامَ ثُمَّ آمُرَ رَجُلاً فَيُصَلِّىَ بِالنَّاسِ ثُمَّ أَنْطَلِقَ مَعِي بِرِجَالٍ مَعَهُمْ حُزَمٌ مِنْ حَطَبٍ إِلَى قَوْمٍ لاَ يَشْهَدُونَ الصَّلاَةَ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ بِالنَّارِ"(1) ولقد أمر الله تعالى بصلاة الجماعة في حال الخوف ومقابلة الأعداء فقال الله عز وجل لرسوله محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ﴿وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً﴾ [النساء: 102] وفي هذه الآية الكريمة دليلٌ على وجوب صلاة الجماعة وأنها فرض عين لأنها لم تسقط في حال الخوف فإذا كانت لا تسقط في الخوف ففي حال الأمن من باب أولى وفيها أيضاً على إنها فرض عين لأنها لو كانت فرض كفاية لاكتفى بالطائفة الأولى، عباد الله ولقد جعل الله تعالى لصلاة الجماعة واجبات على المأموم وواجبات على الإمام فاتقوا الله عباد الله وتعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله لتعبدوا الله على بصيرة قال الله تعالى:﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر: 9] لا يستوي من يعبد الله وهو يعلم كيف يعبده ويعلم أنه يعبده على شريعة الله تعالى وعلى سُنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لا يستوي هذا ومن يعبد الله وهو يجهل ذلك وإذا علمتم حدود ما أنزل الله فعليكم أن تُطبقوا وأن تتقوا الله عز وجل في التزامها ما استطعتم قال الله تعالى: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [آل عمران: 132].
أيها الناس إن من حدود ما أنزل الله على رسوله حدود الجماعة حيث جعل للإمام فيها حداً وللمأموم فيها حداً وكل واحدٍ منهما مسؤول عما يختص به فمن مسئوليات الإمام أن يحرص على إكمال الصلاة بحيث تكون مثل صلاة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في أصحابه فإنه صلى الله عليه وسلم هو الأسوة التي يجب علينا أن نتأسى به صلوات الله وسلامه عليه وإن صلاة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله سلم هي أتم صلاة وأخفها كما قال أنس بن مالك رضي الله عنه: " مَا صَلَّيْتُ وَرَاءَ إِمَامٍ قَطُّ أَخَفَّ صَلاَةً وَلاَ أَتَمَّ مِنَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -" (2).
أيها الإخوة إن الإمام لو صلى وحده لكان له الخيار بين أن يقتصر على أقل واجب في الصلاة أو أن يفعل أعلى مطلوب فيها أو يطول فيها ما شاء ولكنه إذا صلى بالجماعة لم يكن مخيراً في ذلك بل يجب عليه أن يُراعي مَنْ خلفه بحيث يتمكنون من فعل أدنى الكمال في صلاتهم لأنه لا يصلي لنفسه فحسب وإنما يُصلي لنفسه ومن خلفه فليتق الله فيهم ولا يحرمهم من فعل أدنى الكمال خلفه وإن ترقى إلا أن تكون صلاته كصلاة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فإن ذلك أكمل وأطيب وإن من الجهل أن بعض الأئمة يُراعي حتى في مخافة السُّنة المأمومين فتراه يقسم السور التي كان النبي صلى الله عليه وعلى آله يقرأها كاملة يقول أخاف أن أطول عليهم فيقرأ مثلاً في فجر يوم الجمعة الم تنزيل السجدة في الركعتين جميعاً ويدع سورة الإنسان أو يقرأ سورة الإنسان وسورة أخرى معها في الركعة الثانية وكل هذا مخالفة صريحة للسُّنة ولولا أني أخشى أن أتدخل في نية الناس لقلت أن هذا مضادة للرسول صلى الله عليه وسلم كأنه يقول إن الأكمل أن أقسم التنزيل في الركعتين جميعاً إن هدي النبي صلى الله عليه وسلم أكمل هدي فليقرأ السورتين كاملتين سورة: الم تنزيل السجدة في الركعة الأولى وهل أتى في الثانية أو ليدعهما ويقرأ بغيرهما أما تشطير السُّنة تبعاً للهوى الذي يُخالف ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فهذا غير صواب ومن مسؤوليات الإمام أن يحرص على إقامة الصفوف وتسويتها بالقول وبالفعل إذا لم يفد القول فليأمرهم بتسوية الصفوف وإقامتها ويؤكد ذلك عليهم ويتوعدهم على مخالفتها ويسويها بيده إن لم ينفع ذلك بلسانه كما كان نبينا وإمامنا وقدوتنا وأسوتنا يفعل ذلك فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"سَوُّوا صُفُوفَكُمْ فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصَّفِّ مِنْ تَمَامِ الصَّلاَةِ"(3) متفق عليه وفي رواية للبخاري: "فإن تسوية الصف من إقامة الصلاة"(4) وروى أبو داود: "رصوا صفوفكم وقاربوا بينها وحازوا بالأعناق"(5) وله أي: لأبي داود من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: "أقيموا الصفوف وحاذوا بين المناكب وسدوا الخلل ولينوا بأيدي إخوانكم ولا تذروا فرجات الشيطان - يعني الفضاء بين الرجلين - إن الشيطان يدخل فيه من بين أهل الصف"(6) وقال صلى الله عليه وسلم: "من وصل صفاً وصله الله ومن قطع صفاً قطعه الله"(7) ومن قطع الصف أن يشرع الناس في الصف الثاني قبل تمام الأول فبعض الناس إذا جاء وخاف فوات الركعة ركع من خلف الصف وحده مع أن الصف لم يتم وبذلك يكون قاطعاً للصف لأن الذين يجيئون من بعده سوف يصفون معه ويدعون الصف الأول وفي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: أُقيمت الصلاة فأقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه فقال: "أقيموا صفوفكم وتراصوا"(8) وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسوي صفوفنا حتى كأنما يسوي بها القداح حتى رأى أنَّا قد عقلنا عنه ثم خرج يوماً حتى كاد يكبر فرأى رجلاً بادياً صدره من الصف فقال: "عباد الله لتسوينَّ صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم"(9) "أي بين قلوبكم"(10) كما في رواية لأبي داود وهذا أيها الإخوة وعيدٌ شديدٌ على من لا يسوون الصفوف أن يخلف الله بينهم فتختلف آراؤهم وتختلف وجهات نظرهم وتضيع مصالحهم بسبب اختلافهم وفيه بشرى سارة لمن سووا الصفوف أن الله يجمع بين قلوبهم ويؤلف بينهم وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يتخلل الصف من ناحية إلى ناحية يمسح صدورنا ومناكبنا ويقول: "لا تختلفوا فتختلف قلوبكم"(11) وقال النعمان بن بشير رضي الله عنه: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يسوي يعني صفوفنا إذا قمنا للصلاة فإذا استوينا كبر"(12) رواهما أبو داود ففي قوله: "إذا استوينا كبر" نص صريح على أنه صلى الله عليه وسلم لا يُكبر للصلاة حتى تستوي الصفوف ولقد أدرك هذا المعني الجليل خلفاء رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم الراشدون والأئمة المتبعون لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ففي موطأ الإمام مالك رحمه الله عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه "كان يأمر بتسوية الصفوف أي يأمر رجالاً يسونها فإذا جاءوه فأخبروه أنها قد استوت كبر"(13) وقال مالك بن أبي عامر:"كنت مع عثمان بن عفان رضي الله عنه فأقيمت الصلاة وأنا أكلمه يعني في حاجة حتى جاء رجال كان قد وكلهم بتسوية الصفوف فأخبروه أن الصفوف قد استوت فقال لي: استوِ في الصف ثم كبر"(14).
فهذا أيها الإخوة فعل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وفعل خلفائه الراشدين لا يكبرون للصلاة حتى تستوي الصفوف أفليس من الجدير بنا أن يكون لنا فيهم أُسوة؟ أفليس من الجدير أن نأمر بتسوية وإقامة الصفوف وأن ننتظر فلا نكبر للصلاة حتى نراهم قد استووا على الوجه المطلوب، وألا نخشى في ذلك لومة لائم أو تضجر متضجر؟ ولكن مع الأسف أن كثيراً من الأئمة فتح الله علينا وعليهم لا يُولي هذا الأمر عناية وغايةُ ما عنده أن يقولها كلمةً على العادة: استووا اعتدلوا فلا يُشعر نفسه بالمقصود منها ولا يُبالي من خلفه بها ولا يأتمرون بها تجده يقول ذلك وهم باقون على وجادهم وتباعد بعضهم من بعض ولو أن الإمام شعر بالمقصود ونظر إلى الصفوف بعينه واستقبلهم بوجهه وانتظر حتى يراهم قد استووا استواءً كاملاً ثم كبر لبرئت ذمته وخرج من المسئولية ووافق هدي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، هذه بعض مسؤوليات الإمام في إمامته.
أما المأموم فإنه لو كان يُصلي وحده لكان مخيراً بين أن يقتصر على أدنى واجب في صلاته أو يُطول فيها ولكنه إذا كان مع الإمام فقد ارتبطت صلاته بصلاة إمامه فلا يجوز أن يتقدم على الإمام بالتكبير ولا بالقيام ولا بالقعود ولا بالركوع ولا بالسجود ولا يأتي بذلك مع الإمام أيضاً قال العلماء: وإذا كبر الإمام تكبيرة الإحرام وشرع الإنسان فيها ولو بالهمزة الأولى قبل أن يكملها الإمام لم تنعقد صلاته وصارت باطلة فلا يجوز لمأموم أن يتقدم على الإمام وإنما يأتي به بعده متابعاً له دون تأخير قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم:"أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار أو أن يجعل صورته صورة حمار"(15) وقال أيضا:"إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه فإذا ركع فاركعوا وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا ولك الحمد وإذا سجد فاسجدوا وإذا صلى جالسا فصلوا جلوساً أجمعون"(16) هكذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم وكان الصحابة رضي الله عنهم "إذا سجد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يحنِ أحدٌ منهم ظهره حتى يقع النبي صلى الله عليه وسلم ساجداً على الأرض ثم يسجدون بعده"(17) ومسؤوليات المأموم المحافظة على تسوية الصفوف وأن يحذر من العقوبة على من لم يسوها وأن يحافظ على المراصة فيها وسد خللها والمقاربة بينها ووصلها بتكميل الأول فالأول وأن يحذر من عقوبة قطع الصفوف كما سمعتم: "أن من قطع صفاً قطعه الله"(18) وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو يعلم الناس في النداء يعني الأذانالأَوَّلِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلاَّ أَنْ يَسْتَهِمُوا لاَسْتَهَمُوا عَلَيْهِ"(19) يعني ولم لم يجدوا للسبق إليه إلا بقرعة لفعلوا ذلك وقال صلى الله عليه وسلم: "خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا وَشَرُّهَا آخِرُهَا "(20) وقال صلى الله عليه وسلم: "أتموا الصف المقدم ثم الذي يليه فما كان من نقص فليكن في الصف المؤخر"(21) رواه أبو داود ورأى في أصحابه تأخراً وفي لفظ رأى قوماً في مؤخر المسجد فقال: "تَقَدَّمُوا فَائْتَمُّوا بِى وَلْيَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ لاَ يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمُ اللَّهُ"(22) وهذا معتاد في بعض الناس تجده يأتي مبكراً ثم يكون قد اختار مكاناً معيناً فيجلس فيه ويدع المقدم وهذا يخشى عليه من هذه العقوبة إذا تأخر أن يؤخره الله في جميع ميادين السبق.
أيها الإخوة هل يرضى أحدٌ منكم أن يكون في مؤخر الصفوف وهو آخرها مع تمكنه من أولها؟ وهل يرضى أن يعرض نفسه للعقوبة بالتأخر عن الصفوف حتى يؤخره الله في جميع مواقف الخير؟ هل يرضى الإنسان لنفسه ألا يصف بين يدي ربه كما تصف الملائكة عند ربها يتراصون ويكملون الصفوف المقدمة؟ ما مِنْ إنسان يرضى لنفسه بذلك إلا وقد رضي لها بالخسران، فتقدموا أيها المسلمون إلى الصفوف أكملوا الأول فالأول وتراصوا فيها وتساووا ولينوا بأيدي إخوانكم إذا جذبوكم إلى تسوية الصف أو للتراص فيها لتتموا صلاتكم وتمتثلوا أمر نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم وتقتفوا أثر سلفكم الصالح ومن وجد الصف تاماً ولم يجد له مكاناً فيه فليصلِّ خلف الصف وحده ولا حرج عليه، ومن صلى وحده خلف الصف وهو يجدُ مكاناً فيه فلا صلاة له وإذا اجتمع ثلاثة فأكثر فصلى بهم أحدهم فليتقدم عليهم وإن كانوا يصلون على مكان ضيق لا يتسع لتقدم الإمام عليهم فليصلوا صفاً واحداً ويكون الإمام بينهم وليس يكون عن يسارهم كما يتوهمه بعض العوام فإذا كانوا ثلاثة والمكان ضيق لا يتسع لتقدم الإمام فليكن واحد عن يمينه وواحد عن يساره لأن هذا هو السنة في أول الأمر فقد كان الناس في أول الأمر إذا كانوا ثلاثة لا يتقدم الإمام وإنما يكون بين الاثنين ولكنه نسخ أخيراً فصار يتقدم وهذا دليل على فائدتين عظيمتين الفائدة الأولى: أنه لا صحة لما يفهمه بعض الناس من كونه إنهم يكونون عن يمينه كلهم بل يكون بعضهم عن اليمن وبعضهم اليسار، الفائدة الثانية: اليمين أفضل حالاً من اليسار، وإذا بعد اليمين فاليسار الأقرب أفضل ولهذا لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أكملوا الأيمن فالأيمن ولو قال ذلك لقلنا: لا يصح أحد إذا انتهى اليمين ولكنه لم يقل ذلك ولاشك أن العدل والأفضل والأوجه أن يكون الإمام وسط الصف أي: أن يكون الذين عن يمينه وعن شماله متقاربين نعم لو تساوى اليمين واليسار فاليمين أفضل أما مع التباعد فإن اليسار مع القرب من الإمام أفضل فاتقوا الله عباد الله ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [البقرة: 189] ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [آل عمران: 132] كما قال الله عز وجل: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ [آل عمران: 133-136] اللهم اجعلنا من المتقين اللهم اجعلنا من المتقين اللهم اجعلنا من المتقين الذين يسارعون إلى مغفرتك وجنة عرضها السماوات والأرض اللهم اجعلنا من ساكنيها اللهم لا تحرمنا إياها بسوء أفعالنا اللهم اجعلنا من الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الحمد في الآخرة والأولى وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المصطفى وخليله المجتبى صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن بهداهم اهتدى وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله، إن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم "كان يُكثر الصيام في شهر شعبان فما رئي في شهر من الشهور أكثر صياماً منه في شهر شعبان حتى كان يصوم إلا قليلاً منه"(23) فمن استطاع منكم أن يصومه كثيراً فليفعل فإن ذلك من سنة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ومن كان منكم عليه قضاء من رمضان فليبادر به فإنه لا يجوز تأخير قضاء رمضان إلى رمضان الثاني لقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: "كان يكون عليّ الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان"(24) يعني لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، واعلموا أيها الإخوة "أن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة يعني في الدين بدعة وكل بدعة ضلالة فعليكم بالجماعة"(25) اجتمعوا على طاعة الله اجتمعوا على دين الله اعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا تناصحوا فيما بينكم تآمروا بالمعروف تناهوا عن المنكر وليكن بينكم لبعض كالطبيب يداوي المريض إذا رآه في منكر لا تُعنِفوا في إنكار المنكر ولا تشددوا فيه واعلموا أن الله عز وجل رفيق يحب الرفق في الأمر كله ويُعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف تناصحوا فيما بينكم ابتغاء مصلحة الأخ المنصوح لا لأجل أن تنتصروا لأنفسكم أو تذهبوا غيظكم وعاطفتكم اقصدوا بذلك نفع إخوانكم الذين تنصوحنهم أو تأمرونهم بالمعروف وتنهونهم عن المنكر واعلموا أيها الإخوة أن الأمر كله لله عز وجل من شاء الله لهداه اهتدى ومن لم يشأ فإن الله على كل شيء قدير واعلموا أن تأخر المطر عنكم إنما هو بأمر الله عز وجل وأنه لن يؤخره إلا من أجل أن ترجعوا الله عز وجل قال الله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ﴾ [الأعراف: 96] وقال نوح عليه السلام لقومه: ﴿اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا﴾ [نوح: 10-12] فالله عز وجل يبتلي العباد ما يبتليهم به من أجل أن يرجعوا إليه ويجددوا التوبة كما قال الله تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الروم: 41] اخرجوا من المظالم من مظالم أنفسكم بتضييع أمر الله عز وجل أو التقصير فيه فإن الذين يضيعون أمر الله أو يقصرون فيه إنما ظلموا أنفسهم كما قال الله تعالى: ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ﴾ [الزخرف: 76] اخرجوا من مظالم الخلق من كان في ذمته حق لأخيه فليبادر برده إليه فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مطل الغني ظلم"(26) فأنت كلما تأخرت عن وفاء الحق الذي عليك بدون عذر شرعي فإنك تزداد ظلماً على نفسك وانتبهوا لمظالم إخوانكم العمال فإن كثيراً من العمال يشكون من مكفوليهم بتأخر مكافآتهم وهؤلاء فقراء تركوا أوطانهم وأهليهم وأولادهم للحضور إلى هذه البلاد المباركة للقمة العيش فلا تظلموهم بمنع حقوقهم فقد قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه"(27) وقال صلى الله عليه وسلم:"قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر ورجل باع حراً فأكل ثمنه ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره"(28) فاتقوا الله أيها المسلمون اخرجوا من المظالم لا تظلموا أنفسكم بالمعاصي ولا تظلموا غيركم بهضم حقوقهم ومن ذلك أن من الأزواج من يتطاول على زوجته بدون سبب شرعي فتجده يكلفها ما لا تطيق ويضربها أحياناً بدون إذن الشارع ويهجرها بدون حق ويؤذيها إيذاءً كثيراً كذلك بعض النساء تتهاون بحقوق الأزواج فاتقوا الله فيما بينكم ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [الأنفال: 1] دخل رجل يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يخطب فقال: "يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل فادعُ الله يغيثنا فرفع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يديه ورفع الناس أيديهم معه وقال: اللهم أغثنا ثلاث مرات فأنشأ الله تعالى سحابة في الحال فتوسطت السماء فأمطرت ونزل النبي صلى الله عليه وسلم من منبره والمطر يتحادر من لحيته ثم بقي المطر أسبوعاً كاملاً لم يروا فيه الشمس"(29) فدخل رجل آخر أو الرجل الأول وقال: يا رسول تهدم البناء وغرق المال فادعُ الله أن يُمسِكه عنا فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه وقال: "اللهم حوالينا ولا علينا"(30) قال الراوي فما يشير إلى ناحية إلا انفرجت بإذن الله وخرج الناس يمشون في الشمس المدينة صحو وما حولها ممطر وذلك بتقدير العلي القدير جل وعلا اللهم أغثنا اللهم أغثنا اللهم أغثنا اللهم أغثنا غيثا مغيثا هنيئاً مريئاً غدقاً مجللاً عام طفقاً دائماً نافعاً غير ضار اللهم اسقنا غيثا تُحيي به البلاد وترحم به العباد وتجعله بلاغاً للحاضر والباد اللهم سقيا رحمة اللهم سقيا رحمة اللهم سقيا رحمة لا سقيا بلاء ولا عذاب ولا هدم ولا غرق إنك على كل شيء قدير اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
-----------------------------------
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده في باقي مسند المكثرين من الصحابة (9132)، والبخاري في كتاب الأذان (608)، ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة (1041)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) أخرجه الإمام أحمد في مسنده في مسند المكثرين من الصحابة (13035)، والبخاري في كتاب الأذان (667)، ومسلم في كتاب الصلاة (721)، وغيرهم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(3) أخرجه الإمام أحمد في مسنده في باقي مسند المكثرين من الصحابة (13582)، والبخاري في كتاب الأذان (681)، ومسلم في كتاب الصلاة (656)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(4) أخرجه الإمام أحمد في مسنده في باقي مسند المكثرين من الصحابة (12113)، وأبو داود في سننه في كتاب الصلاة (571)، والنسائي في سننه في كتاب الإمامة (806)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(5) أخرجه الإمام أحمد في مسنده في مسند المكثرين من الصحابة (5466)، وأبو داود في سننه في كتاب الصلاة (570)، والنسائي في سننه في كتاب الإمامة (810)، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
(6) أخرجه أبو داود في سننه في كتاب الصلاة (570)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
(7) أخرجه أبو داود في سننه في كتاب الصلاة (570)، والنسائي في سننه في كتاب الإمامة (810)، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
(8) أخرجه الإمام أحمد في مسنده في باقي مسند المكثرين من الصحابة (13279)، والبخاري في كتاب الأذان (678)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(9) أخرجه الإمام أحمد في مسنده في مسند المكثرين من الصحابة (17674)، والبخاري في كتاب الأذان (676)، ومسلم في كتاب الصلاة (660)، من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.
(10) وفي رواية أبي داود: يسوينا في الصفوف كما يقوم القدح، أخرجه في سننه في كتاب الصلاة (567)، من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.
(11) أخرجه النسائي في سننه في كتاب الإمامة (802)، وأبو داود في سننه في كتاب الصلاة (568)، من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه.
(12) أخرجه أبو داود في سننه في كتاب الصلاة (569)، من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.
(13) أخرجه الإمام مالك في الموطأ في كتاب النداء للصلاة (337)، من حديث نافع مولى عمر رضي الله عنهما.
(14) أخرجه الإمام مالك في الموطأ في كتاب النداء للصلاة (216)، عن عثمان بن عفان رضي الله عنه، من حديث مالك بن عامر رضي الله عنه.
(15) أخرجه الإمام أحمد في مسنده في باقي مسند المكثرين من الصحابة (10142)، والبخاري في كتاب الأذان (650)، ومسلم في كتاب الصلاة (647، 648)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(16) أخرجه الإمام أحمد في مسنده في باقي مسند المكثرين من الصحابة (7809)، والبخاري في كتاب الأذان (680)، ومسلم في كتاب الصلاة (625)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وغيرهم.
(17) أخرجه الإمام أحمد في مسند الكوفيين (17778، 17910، 17911)، والبخاري في كتاب الأذان (649)، ومسلم في كتاب الصلاة (728، 720، 721)، من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه.
(18) سبق تخريجه في حـ7.
(19) أخرجه الإمام أحمد في مسند المكثرين من الصحابة (6938)، والبخاري في كتاب الأذان (580)، ومسلم في كتاب الصلاة (661)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(20) أخرجه الإمام أحمد في مسند المكثرين من الصحابة (8130)، ومسلم في كتاب الصلاة (664)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(21) أخرجه أبو داود في سننه في كتاب الصلاة (574)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(22) أخرجه الإمام أحمد في مسند المكثرين من الصحابة (11087)، ومسلم في كتاب الصلاة (662)،وأبو داود في كتاب الصلاة (582)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(23) أخرجه الإمام أحمد في باقي مسند الأنصار (22987)،والبخاري في كتاب الصوم (1833)،ومسلم في كتاب الصيام (1956)، والإمام مالك في الموطأ في كتاب الصيام (601)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
(24) أخرجه الإمام أحمد في باقي مسند الأنصار (23850، 23781)، والبخاري في كتاب الصوم (1814)، ومسلم في كتاب الصيام (1933)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
(25) أخرجه الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى في مسنده، في مسند المكثرين من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين (14455)، ومسلم رحمه الله تعالى، في كتاب الجمعة (1435)، والنسائي، في كتاب صلاة العيدين (1560)،وأبو داود، في كتاب الخراج والإمارة والفيء (2565)، وابن ماجه، في كتاب المقدمة (44)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه.
(26) أخرجه الإمام أحمد في باقي مسند المكثرين من الصحابة (9621)، والبخاري في كتاب الحوالة (2125)، ومسلم في كتاب المساقاة (2924)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(27) أخرجه ابن ماجه في كتاب الأحكام (2434)، من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
(28) أخرجه الإمام أحمد في باقي مسند المكثرين من الصحابة (8338)، والبخاري في كتاب البيوع (2075)، وابن ماجه في كتاب الأحكام (2423)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(29) أخرجه الإمام أحمد في مسند المكثرين من الصحابة (13246)،والبخاري في كتاب الجمعة (957)، ومسلم في كتاب صلاة الاستسقاء (1493)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(30) سبق تخريجه في الحديث رقم 29.