الواثقة بالله
10-17-2018, 10:08 PM
سلسلة من هدي النبي صلى الله عليه وسلم (3)
سبل الوقاية من فتنة النساء
إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، مَن يهده الله فهو المهتدي، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.
أمَّا بعد:
فلا يخفى على أولي العقول والألباب أنَّ المرأة هي أخطر الفِتن الدنيوية على الإطلاق؛ ولهذا جعلها الله تعالى أولَ الشهوات، فقال عز وجل: ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ﴾ [آل عمران: 14].
• قال القرطبي رحمه الله في تفسيرها ما مختصره: قوله تعالى: ﴿ مِنَ النِّسَاءِ ﴾ بدأ بهنَّ لكثرة تشوُّف النفوس إليهنَّ؛ لأنهنَّ حبائل الشيطان وفتنة الرجال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما تركتُ بعدي فتنة أشدَّ على الرِّجال من النساء))[1]، ففتنة النساء أشد من جميع الأشياء؛ اهـ.
قلت: وليس في هذا الكلام وغيره ممَّا نذكره هنا قَدح للمرأة وتحقير من شأنها؛ بل المقصد أنها القضيَّة الأساسية للشعوب المتحضِّرة، وهم يقولون: إنَّ المرأة نصف المجتمع، وهي عندي العمود الفقري للمجتمع كله؛ فهي قادرة على أن تكون عامل بناء لمجتمع قائم على العفَّة والفضيلة، والتقدُّم والرقي؛ كما أنَّها قادرة على أن تكون سِلاحًا للهدم ونشر الإباحية والفجور!
لذا اهتمَّ الإسلام بتكريمها أمًّا وزوجة، وأختًا وابنة؛ كما لا يخفى، وربما نبيِّن ذلك من هَدْيِ نبيِّنا للنساء في المقالات القادمة من هذه السلسلة إن شاء الله تعالى.
ولقد شدَّد الإسلام لحفظ كرامتها وحيائها بفرض الحجاب والنِّقاب عليها عند الخروج والاختلاط بالرجال لسببٍ من الأسباب الدنيوية؛ ليقطع دابرَ الشيطان وتلبيسه ووسوسته للرجال ليغريَهم في الوقوع في فتنتها، وجعَل في المقابل عشرات من الوسائل والوصايا للرِّجال؛ للوقاية من تلبيسه، ووأدِ فتنتها في مهدها، والتي تنشأ من تبرُّجها وسفورها، وتحرُّرها عند خروجها عن حدود الله تعالى.
ولقد شاء الله تعالى - ولا رادَّ لحكمه ومشيئته - أن تكون المرأة فتنةً للرجُلِ بحُكم خلقتِها وتكوينها وطبيعتها وما خصَّها الله تعالى به من خصائص؛ كالإغراء والأنوثة والجمال، وما بثَّه في قلوب الرجال من الميل الفِطري إليها والرغبةِ فيها، وجعلها سكنًا ورحمة له، وموطن قضاء شهوته وإرواء غريزته الفطرية، وإثبات رجولته وبقاء نسله، ممَّا تنجبه له من ذرية صالحة إن أحسن اختيارها، فهي - أي: المرأة - قد تكون سلاحًا للهدم ونشر الإباحية والفجور، كما أنَّها قد تكون سلاحًا للبناء والسموِّ بالأخلاق والفضائل؛ كما ذكرنا آنفًا.
والمسلمة المؤمنة بالله حقًّا التي تَعرف ما لها وما عليها هي التي تَسعى لمرضاة الله بكلِّ السُّبل، مضحية بشهواتها الدنيوية وميلها للتزين والتجمل إلَّا لمن أحلَّه الله لها من الرجال، في سبيل الوصول للسموِّ الروحي الذي يَجعلها تَخرج بعبادتها لله إلى آفاق عالية ورحاب واسعة؛ من اليقين به والتوكُّل عليه، والرضا بقضائه وحكمه، إلى أن يقضي أمرًا كان مفعولًا.
ولقد حذرنا نبيُّنا صلى الله عليه وسلم من هذه الفتنة في عدَّة أحاديث، أذكر منهم حديثين هنا على سبيل المثال:
1- حديث أسامة بن زيدٍ رضي الله عنهما عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما تركتُ بعدي فتنةً أضر على الرجال من النِّساء))[2].
• يقول العلامة ابن عثيمين رحمه الله في شرح الحديث ومقصوده ما نصه: والمعنى أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم يخبر بأنَّه ما ترك فتنةً أضر على الرجال من النساء؛ وذلك أن الناس كما قال تعالى: ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ﴾ [آل عمران: 14].
كل هذه مما زيِّن للناس في دنياهم، وصار سببًا لفتنتهم فيها، لكن أشدها فتنة النساء؛ ولهذا بدأ الله بها فقال: ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ ﴾ [آل عمران: 14].
وإخبار النبي صلى الله عليه وسلم بذلك يريد به الحذر من فِتنة النِّساء، وأن يكون الناس منها على حذَر؛ لأن الإنسان بشر، إذا عُرضت عليه الفتن فإنه يُخشى عليه منها.
ويستفاد منه سدُّ كل طريق يوجب الفتنةَ بالمرأة؛ فكل طريق يوجب الفتنة بالمرأة فإنَّ الواجب على المسلمين سدُّه؛ ولذلك وجب على المرأة أن تحتجب عن الرجال الأجانب، فتغطي وجهها، وكذلك تغطي يديها ورجليها عند كثير من أهل العلم، ويجب عليها كذلك أن تبتعد عن الاختلاط بالرجال؛ لأنَّ الاختلاط بالرجال فتنة وسبب للشرِّ من الجانبين؛ من جانب الرجال، ومن جانب النساء.
ولهذا قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: ((خير صفوف الرِّجال أولها، وشرُّها آخرها، وخير صفوف النِّساء آخرها، وشرها أوَّلها))[3]؛ وما ذلك إلَّا من أجل بُعد المرأة عن الرجال، فكلَّما بعدت فهو خير وأفضل.
وقد كان النَّبي صلى الله عليه وسلم يأمر النساءَ أن يخرجن إلى صلاة العيد، ولكنهنَّ لا يختلطن مع الرجال؛ بل يكون لهن موضع خاص، حتى إن النَّبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب الرِّجال وانتهى من خطبتهم، نزل فذهب إلى النِّساء فوعظهنَّ وذكَّرهن؛ وهذا يدلُّ على أن النساء كنَّ في مكان منعزل عن الرجال.
وكان هذا والعصرُ عصرُ قوَّة في الدين وبُعد عن الفواحش، فكيف بعصرنا هذا؟
فإن الواجب توقِّي فتنة النِّساء بكلِّ ما يستطاع، ولا ينبغي أن يغرنا ما يدعو إليه أهلُ الشرِّ والفساد من المقلِّدين للكفار من الدعوة إلى اختلاط المرأة بالرجال؛ فإن ذلك من وَحي الشيطان والعياذ بالله، هو الذي يزيِّن ذلك في قلوبهم، وإلا فلا شك أن الأمم التي كانت تقدِّم النساء وتجعلهن مع الرجال مختلطات، لا شك أنها اليوم في ويلات عظيمة من هذا الأمر، يتمنَّون الخلاص منه فلا يستطيعون؛ اهـ[4].
2- حديث أبي سعيدٍ الخُدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الدُّنيا حُلوةٌ خضرةٌ، وإن الله مُستخلفُكم فيها فينظُرُ كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء؛ فإنَّ أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء))[5].
قال النووي رحمه الله في شرح الحديث ما مختصره: ومعناه تجنَّبوا الافتتان بها وبالنساء، وتدخُل في النساء الزوجاتُ وغيرهنَّ، وأكثرهنَّ فتنة الزوجات، ودوام فتنتهن وابتلاء أكثر الناس بهنَّ، ومعنى ((الدنيا خضرة حلوة)) يحتمل أنَّ المراد به شيئان؛ أحدهما: حُسنها للنفوس ونضارتها ولذَّتها؛ كالفاكهة الخضراء الحلوة، فإنَّ النفوس تطلبها طلبًا حثيثًا؛ فكذا الدنيا، والثاني: سرعة فنائها؛ كالشيء الأخضر في هذين الوصفين، ومعنى ((مستخلفكم فيها)): جاعلكم خلفاء من القرون الذين قبلكم، فينظر هل تعملون بطاعته أم بمعصيته وشهواتكم؟ اهـ[6].
قلت: والحاصل ممَّا ذكرنا أن فتنة النساء أمرٌ واقع وملموس في زماننا هذا، الذي ضعُف فيه الإيمان والخوف من ربِّ الأرض والسموات، وتفشَّت فيه المنكرات، وسقط شبابٌ ورجال محصنون وغير محصنين في فتنة النساء، واختلفت معايير الناس للحلال والحرام بسبب هذه الفتنة، فصارت فتنة الرجل وخَلْوته بامرأة أجنبية حبًّا ورومانسية، والاختلاطُ الفاحش بها صداقةً وزمالة، وما خفي كان أعظم.
ولا فلاح لرجال الأمَّة وشبابها وصدق طاعتهم لربهم جلَّ وعلا إلَّا في الوقاية من هذه الفتنة وتجنُّبها ابتغاء مرضاته، وفي هدي النبي صلى الله عليه وسلم وصايا جليلة، فيها النَّجاة من فتنة النساء إن أحسنَّا العملَ بها - الرجال والنساء معًا - بصدق وإخلاص، أذكر منها ثلاثة سبل للوقاية من هذه الفتنة على سبيل المثال لعدم الإطالة:
1 - الزواج الحلال الذي أحله الله تعالى:
ولا ريب أنَّ الزواج الشرعي الكامل الأركان والشروط من أعظم طُرق وسبل الوقاية من فتنة النساء؛ وذلك لأنه يقلِّل إلى حدٍّ كبير من هيجان النفس، ويساهم في ترويضها وإشباع شهواتها بالحلال الطيب المباح، وهذا العلاج النبوي جاء ذكره في حديث: ((يا مَعشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغضُّ للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنَّه له وِجاء))[7].
وهناك فائدة جليلة من الزواج للوقاية من فتنة النساء ينبغي التنبيه إليها؛ وهي تفاني الزوجة في إسعاد زوجها وإرضائه كلَّما شعر بالرغبة في النساء؛ فهذا علاج فعَّال لقطع دابر الفتنة؛ ولهذا حذَّر النبي الزوجات من عدم طاعة رغبة الزوج في المعاشرة، فقال: ((إذا دعا الرجل امرأتَه إلى فراشه فأبَت فبات غضبان عليها، لعنَتْها الملائكةُ حتى تصبح))[8]، وهذه وصيَّة عظيمة وجليلة وربِّ الكعبة؛ فالزوج وهو رجل من الرجال لو وجد أنَّه قد قضى وطره ووجد السَّكن والمودَّة في علاقته الزوجية تكون الزَّوجة قد حصنته من الفتنة بغيرها من النِّساء، وهنَّ أخطر الفتن على الرجال، والزوج رجل كالرجال تقع عيناه بقصد وتعمد أو بدونه على نساء متبرِّجات كاسيات عاريات، يختلط بهن في الشارع والعمل وما أشبه ذلك، وربما تتعمَّد بعضهنَّ إثارته وإغراءه، وإهمالُ الزَّوجة التزينَ لزوجها وإرضاءه يَجعله يفتتن بهنَّ، وقد يقع فيما حرَّم الله تعالى ولو بالنظر والإعجاب.
ويجب أن تدرك الزوجة أنَّ زوجها ليس ملاكًا؛ بل هو بشر ضعيف، وإن أظهر غير ذلك؛ فإن لم يستمتع بالحلال ويقطع شرَّ شهوته معها، فمع من؟!
ولنتأمَّل بعمق قولَ النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه مسلم من حديث جابر بن عبدالله لندرك أهميَّة الزواج وتفاهم الزوجين في الوقاية من هذه الفتنة، قال رضي الله عنه: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى امرأة، فأتى امرأتَه زينب، وهي تَمْعَسُ مَنِيئَةً لها، فقضى حاجته، ثمَّ خرج إلى أصحابه، فقال: ((إن المرأة تُقبل في صورة شيطان، وتدبِر في صورة شيطان، فإذا أبصر أحدكم امرأةً فليأت أهلَه؛ فإنَّ ذلك يرُدُّ ما في نفسه))[9].
قال النووي رحمه الله ما مختصره في شرح هذا الحديث: قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن المرأة تقبل في صورة شيطان، وتدبِر في صورة شيطان، فإذا أبصر أحدكم امرأة فليأت أهله؛ فإنَّ ذلك يرد ما في نفسه)).
وفي الرواية الأخرى: ((إذا أحدكم أعجبته المرأة فوقعت في قلبه، فليعمد إلى امرأته فليواقعها؛ فإنَّ ذلك يردُّ ما في نفسه))؛ هذه الرواية الثانية مبيِّنة للأولى، ومعنى الحديث أنَّه يستحبُّ لمن رأى امرأةً فتحرَّكت شهوته أن يأتي امرأتَه أو جاريته إن كانت له، فليواقِعها ليدفع شهوتَه وتسكن نفسه ويجمع قلبه على ما هو بصدده.
قوله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ المرأة تُقبِل في صورة شيطان، وتدبر في صورة شيطان))، قال العلماء: معناه الإشارة إلى الهوى، والدُّعاء إلى الفتنة بها؛ لِما جعله الله تعالى في نفوس الرجال من الميل إلى النِّساء والالتذاذ بنظرهنَّ وما يتعلق بهنَّ، فهي شبيهة بالشيطان في دعائه إلى الشرِّ بوسوسته وتزيينه له، ويُستنبط من هذا أنَّه ينبغي لها ألَّا تخرج بين الرجال إلا لضرورة، وأنَّه ينبغي للرجل الغض عن ثيابها والإعراض عنها مطلقًا؛ اهـ[10].
قلت: قال الإمام السيوطي في كتابه (الإيضاح في علم النكاح):
"إنَّ الفقهاء أكثروا من نُصح النِّساء باستكمال زينتهن داخل المنازل؛ وذلك بتسريح الشعر وتزيينه، والتطيُّب بالطيب أمام الزوج حتى يطيب قلبه"؛ اهـ.
2 - غض البصر والصوم:
ويدلُّ على ذلك الحديث الذي ذكرناه آنفًا: ((يا معشر الشباب))... إلى قوله: ((ومَن لم يستطع فعليه بالصَّوم؛ فإنَّه له وجاء))؛ الحديث.
فالصيام وقاية من هياج الشَّهوة الجنسية - وهي أخطر غرائز الإنسان - ويؤدي إلى كبحها، وهو علاج نبوي فعَّال وقوي، ولا يغيب عنَّا أن هذا عند عدم الاستطاعة، وإلا فالعلاج الأصلي لهذه الفتنة هو الزواج.
• يقول ابن القيم رحمه الله تعليقًا على الحديث: فدلَّ المحبَّ على علاجين: أصلي، وبدلي، وأمَرَه بالأصلي؛ وهو العلاج الذي وُضع لهذا الداء، فلا ينبغي العدول عنه إلى غيره ما وجد إليه سبيلًا؛ اهـ[11].
قلت: والمقصود: أن الصَّوم قامع لشهوة النكاح، وفوائده عظيمة، شرعه الله لعباده رحمة بهم، وليتقرَّبوا به إليه، وجُنَّة لهم من الشهوات المهلكات.
وأما غضُّ البصر، فقد قال تعالى: ﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ﴾ [النور: 30، 31].
وفيما أخرجه أبو داود وغيره في النكاح عن جرير رضي الله عنه قال: سألتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجأة، فقال: ((اصرف بصرك))[12].
ومن ثمَّ فمقولة: إنَّ الصوم وغض البصر لا يَنفعان في هذا الزمان، مقولةٌ غير صائبة بالمرَّة؛ بل هي حجَّة ضعفاء الإيمان والإرادة، الذين أسلَموا قِيادهم للشيطان وأوليائه، ولو تمهَّلوا وتدبروا لوجدوا في "غض البصر والصوم" الملاذ من فتنة النساء.
3 - تجنُّب الخَلوة بالمرأة بغير مَحرَم:
الخلوة بالمرأة الأجنبية من غير مَحرم من أعظم الأسباب في الوقوع فيما حرَّم الله، وهياج الغريزة، وضياع الشرف والعفَّة، وكم من الجرائم تأتي من هذا الباب! وقد حذَّر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك في كثير من الأحاديث، مثل:
• حديث ((لا يخلونَّ رجل بامرأة، ولا تسافرنَّ امرأة إلا ومعها مَحرم))، فقام رجل فقال: يا رسول الله، إني اكتُتبتُ في غزوة كذا وكذا، وخرجتِ امرأتي حاجَّة، قال: ((اذهب فحجَّ مع امرأتك))[13].
• وحديث ((لا يخلونَّ رجل بامرأة إلَّا كان ثالثهما الشيطان))[14].
ولا يخفى أنَّ من العادات المنتشرة في بعض المجتمعات خلوةَ المرأة بالرجل الأجنبي عنها؛ وهو الذي يحلُّ له أن يتزوَّجها وإن كان من أقاربها؛ كابن عمِّها وابنِ خالتها، هذا ناهيك عن البعيد؛ كصديق الزوج وجاره وما أشبه ذلك، وحتى لو كان التحريم مؤقتًا؛ كأخ الزوج، فلا يجوز للمرأة الخلوة به دون مَحرم، وهو "الحَمْو" الذي جعله النبي صلى الله عليه وسلم بمنزلة الموت؛ ففي حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إيَّاكم والدخولَ على النساء))، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله، أفرأيتَ الحَمْو؟ قال: ((الحمو الموت))[15]، وهذه مشكلة يعاني منها كثيرٌ من الناس؛ بل يتساهلون فيها تحت عناوين، مثل: "أنا أثِق في أخي وأخلاقه"، أو "أنا أثِق في زوجتي"؛ وهذا وغيره من تَلبيس إبليس، والحق أحقُّ أن يُتَّبع، وينبغي الحذر من تلبيس إبليس وخطورته، وقد قال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ﴾ [الأحزاب: 36].
أحزاب
أوليتدبَّر العاصي لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم الغافل المفتون عن هذا الخطر قولَ الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [النور: 21].
ولا يخفى على العقلاء أنَّ الخلوة بكل أشكالها ووسائلها الحديثة؛ كالتحدُّث في الهاتف، وعلى الشابكة ومواقع التواصل، وغير ذلك ممَّا لا يطلع عليه أحد من المحارم - هو خلوة محرَّمة يَنطبق عليها ما ذكرنا من ترهيب.
ونكتفي في هذه المقالة بما ذكرنا من هَدي نبينا صلى الله عليه وسلم في "سُبل الوقاية من فتنة النساء"، ونواصل السلسلة إن شاء الله تعالى في بيان هَديه في الدِّين والدنيا، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي الأمين، وآله وصحبه أجمعين.
[1] أخرجاه في الصحيحين: البخاري برقم (5096) - باب ما يتقى من شؤم المرأة، ومسلم برقم (2740) - باب أكثر أهل الجنة الفقراء، وأكثر أهل النار النساء، وبيان الفتنة بالنساء.
[2] سبق تخريجه؛ انظر هامش رقم (1).
[3] أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، برقم (440) - باب خير الصفوف.
[4] انظر: شرح رياض الصالحين (3/ 151)؛ لمحمد بن صالح بن محمد العثيمين - الناشر: دار الوطن للنشر، الرياض - الطبعة: 1426 هـ.
[5] أخرجه مسلم برقم (2742) - باب أكثر أهل الجنة الفقراء، وأكثر أهل النار النساء، وبيان الفتنة بالنساء.
[6] انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (17/ 55) - الناشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت الطبعة: الثانية، 1392.
[7] أخرجاه في الصحيحين: البخاري برقم (5065) - باب من لم يستطع الباءة فليصم، ومسلم برقم (1400) - باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه.
[8] أخرجاه في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: البخاري برقم (3237) - باب إذا قال أحدكم: آمين والملائكة في السماء: آمين فوافقت إحداهما الأخرى، غفر له ما تقدم من ذنبه، ومسلم برقم (1436) - باب تحريم امتناعها من فراش زوجها.
[9] أخرجه مسلم برقم (1403) - باب ندب من رأى امرأة فوقعت في نفسه، إلى أن يأتي امرأته أو جاريته فيواقعها.
[10] انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (9/ 177) - الناشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت الطبعة: الثانية، 1392.
[11] انظر: الطب النبوي؛ لابن القيم (ص/ 205) الناشر: دار الهلال - بيروت.
[12] أخرجه مسلم برقم (2159) - باب نظر الفجاءة.
[13] أخرجه البخاري برقم (3006) - باب من اكتتب في جيش فخرجت امرأته حاجة، أو كان له عذر، هل يؤذن له؟
[14] انظر: صحيح الجامع للألباني برقم (2546).
[15] أخرجه مسلم برقم (2172) - باب تحريم الخلوة بالأجنبية والدخول عليها.
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/sharia/0/107128/#ixzz5UDVhf1rs
سبل الوقاية من فتنة النساء
إنَّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، مَن يهده الله فهو المهتدي، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.
أمَّا بعد:
فلا يخفى على أولي العقول والألباب أنَّ المرأة هي أخطر الفِتن الدنيوية على الإطلاق؛ ولهذا جعلها الله تعالى أولَ الشهوات، فقال عز وجل: ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ﴾ [آل عمران: 14].
• قال القرطبي رحمه الله في تفسيرها ما مختصره: قوله تعالى: ﴿ مِنَ النِّسَاءِ ﴾ بدأ بهنَّ لكثرة تشوُّف النفوس إليهنَّ؛ لأنهنَّ حبائل الشيطان وفتنة الرجال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما تركتُ بعدي فتنة أشدَّ على الرِّجال من النساء))[1]، ففتنة النساء أشد من جميع الأشياء؛ اهـ.
قلت: وليس في هذا الكلام وغيره ممَّا نذكره هنا قَدح للمرأة وتحقير من شأنها؛ بل المقصد أنها القضيَّة الأساسية للشعوب المتحضِّرة، وهم يقولون: إنَّ المرأة نصف المجتمع، وهي عندي العمود الفقري للمجتمع كله؛ فهي قادرة على أن تكون عامل بناء لمجتمع قائم على العفَّة والفضيلة، والتقدُّم والرقي؛ كما أنَّها قادرة على أن تكون سِلاحًا للهدم ونشر الإباحية والفجور!
لذا اهتمَّ الإسلام بتكريمها أمًّا وزوجة، وأختًا وابنة؛ كما لا يخفى، وربما نبيِّن ذلك من هَدْيِ نبيِّنا للنساء في المقالات القادمة من هذه السلسلة إن شاء الله تعالى.
ولقد شدَّد الإسلام لحفظ كرامتها وحيائها بفرض الحجاب والنِّقاب عليها عند الخروج والاختلاط بالرجال لسببٍ من الأسباب الدنيوية؛ ليقطع دابرَ الشيطان وتلبيسه ووسوسته للرجال ليغريَهم في الوقوع في فتنتها، وجعَل في المقابل عشرات من الوسائل والوصايا للرِّجال؛ للوقاية من تلبيسه، ووأدِ فتنتها في مهدها، والتي تنشأ من تبرُّجها وسفورها، وتحرُّرها عند خروجها عن حدود الله تعالى.
ولقد شاء الله تعالى - ولا رادَّ لحكمه ومشيئته - أن تكون المرأة فتنةً للرجُلِ بحُكم خلقتِها وتكوينها وطبيعتها وما خصَّها الله تعالى به من خصائص؛ كالإغراء والأنوثة والجمال، وما بثَّه في قلوب الرجال من الميل الفِطري إليها والرغبةِ فيها، وجعلها سكنًا ورحمة له، وموطن قضاء شهوته وإرواء غريزته الفطرية، وإثبات رجولته وبقاء نسله، ممَّا تنجبه له من ذرية صالحة إن أحسن اختيارها، فهي - أي: المرأة - قد تكون سلاحًا للهدم ونشر الإباحية والفجور، كما أنَّها قد تكون سلاحًا للبناء والسموِّ بالأخلاق والفضائل؛ كما ذكرنا آنفًا.
والمسلمة المؤمنة بالله حقًّا التي تَعرف ما لها وما عليها هي التي تَسعى لمرضاة الله بكلِّ السُّبل، مضحية بشهواتها الدنيوية وميلها للتزين والتجمل إلَّا لمن أحلَّه الله لها من الرجال، في سبيل الوصول للسموِّ الروحي الذي يَجعلها تَخرج بعبادتها لله إلى آفاق عالية ورحاب واسعة؛ من اليقين به والتوكُّل عليه، والرضا بقضائه وحكمه، إلى أن يقضي أمرًا كان مفعولًا.
ولقد حذرنا نبيُّنا صلى الله عليه وسلم من هذه الفتنة في عدَّة أحاديث، أذكر منهم حديثين هنا على سبيل المثال:
1- حديث أسامة بن زيدٍ رضي الله عنهما عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما تركتُ بعدي فتنةً أضر على الرجال من النِّساء))[2].
• يقول العلامة ابن عثيمين رحمه الله في شرح الحديث ومقصوده ما نصه: والمعنى أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم يخبر بأنَّه ما ترك فتنةً أضر على الرجال من النساء؛ وذلك أن الناس كما قال تعالى: ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ﴾ [آل عمران: 14].
كل هذه مما زيِّن للناس في دنياهم، وصار سببًا لفتنتهم فيها، لكن أشدها فتنة النساء؛ ولهذا بدأ الله بها فقال: ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ ﴾ [آل عمران: 14].
وإخبار النبي صلى الله عليه وسلم بذلك يريد به الحذر من فِتنة النِّساء، وأن يكون الناس منها على حذَر؛ لأن الإنسان بشر، إذا عُرضت عليه الفتن فإنه يُخشى عليه منها.
ويستفاد منه سدُّ كل طريق يوجب الفتنةَ بالمرأة؛ فكل طريق يوجب الفتنة بالمرأة فإنَّ الواجب على المسلمين سدُّه؛ ولذلك وجب على المرأة أن تحتجب عن الرجال الأجانب، فتغطي وجهها، وكذلك تغطي يديها ورجليها عند كثير من أهل العلم، ويجب عليها كذلك أن تبتعد عن الاختلاط بالرجال؛ لأنَّ الاختلاط بالرجال فتنة وسبب للشرِّ من الجانبين؛ من جانب الرجال، ومن جانب النساء.
ولهذا قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: ((خير صفوف الرِّجال أولها، وشرُّها آخرها، وخير صفوف النِّساء آخرها، وشرها أوَّلها))[3]؛ وما ذلك إلَّا من أجل بُعد المرأة عن الرجال، فكلَّما بعدت فهو خير وأفضل.
وقد كان النَّبي صلى الله عليه وسلم يأمر النساءَ أن يخرجن إلى صلاة العيد، ولكنهنَّ لا يختلطن مع الرجال؛ بل يكون لهن موضع خاص، حتى إن النَّبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب الرِّجال وانتهى من خطبتهم، نزل فذهب إلى النِّساء فوعظهنَّ وذكَّرهن؛ وهذا يدلُّ على أن النساء كنَّ في مكان منعزل عن الرجال.
وكان هذا والعصرُ عصرُ قوَّة في الدين وبُعد عن الفواحش، فكيف بعصرنا هذا؟
فإن الواجب توقِّي فتنة النِّساء بكلِّ ما يستطاع، ولا ينبغي أن يغرنا ما يدعو إليه أهلُ الشرِّ والفساد من المقلِّدين للكفار من الدعوة إلى اختلاط المرأة بالرجال؛ فإن ذلك من وَحي الشيطان والعياذ بالله، هو الذي يزيِّن ذلك في قلوبهم، وإلا فلا شك أن الأمم التي كانت تقدِّم النساء وتجعلهن مع الرجال مختلطات، لا شك أنها اليوم في ويلات عظيمة من هذا الأمر، يتمنَّون الخلاص منه فلا يستطيعون؛ اهـ[4].
2- حديث أبي سعيدٍ الخُدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الدُّنيا حُلوةٌ خضرةٌ، وإن الله مُستخلفُكم فيها فينظُرُ كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء؛ فإنَّ أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء))[5].
قال النووي رحمه الله في شرح الحديث ما مختصره: ومعناه تجنَّبوا الافتتان بها وبالنساء، وتدخُل في النساء الزوجاتُ وغيرهنَّ، وأكثرهنَّ فتنة الزوجات، ودوام فتنتهن وابتلاء أكثر الناس بهنَّ، ومعنى ((الدنيا خضرة حلوة)) يحتمل أنَّ المراد به شيئان؛ أحدهما: حُسنها للنفوس ونضارتها ولذَّتها؛ كالفاكهة الخضراء الحلوة، فإنَّ النفوس تطلبها طلبًا حثيثًا؛ فكذا الدنيا، والثاني: سرعة فنائها؛ كالشيء الأخضر في هذين الوصفين، ومعنى ((مستخلفكم فيها)): جاعلكم خلفاء من القرون الذين قبلكم، فينظر هل تعملون بطاعته أم بمعصيته وشهواتكم؟ اهـ[6].
قلت: والحاصل ممَّا ذكرنا أن فتنة النساء أمرٌ واقع وملموس في زماننا هذا، الذي ضعُف فيه الإيمان والخوف من ربِّ الأرض والسموات، وتفشَّت فيه المنكرات، وسقط شبابٌ ورجال محصنون وغير محصنين في فتنة النساء، واختلفت معايير الناس للحلال والحرام بسبب هذه الفتنة، فصارت فتنة الرجل وخَلْوته بامرأة أجنبية حبًّا ورومانسية، والاختلاطُ الفاحش بها صداقةً وزمالة، وما خفي كان أعظم.
ولا فلاح لرجال الأمَّة وشبابها وصدق طاعتهم لربهم جلَّ وعلا إلَّا في الوقاية من هذه الفتنة وتجنُّبها ابتغاء مرضاته، وفي هدي النبي صلى الله عليه وسلم وصايا جليلة، فيها النَّجاة من فتنة النساء إن أحسنَّا العملَ بها - الرجال والنساء معًا - بصدق وإخلاص، أذكر منها ثلاثة سبل للوقاية من هذه الفتنة على سبيل المثال لعدم الإطالة:
1 - الزواج الحلال الذي أحله الله تعالى:
ولا ريب أنَّ الزواج الشرعي الكامل الأركان والشروط من أعظم طُرق وسبل الوقاية من فتنة النساء؛ وذلك لأنه يقلِّل إلى حدٍّ كبير من هيجان النفس، ويساهم في ترويضها وإشباع شهواتها بالحلال الطيب المباح، وهذا العلاج النبوي جاء ذكره في حديث: ((يا مَعشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغضُّ للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنَّه له وِجاء))[7].
وهناك فائدة جليلة من الزواج للوقاية من فتنة النساء ينبغي التنبيه إليها؛ وهي تفاني الزوجة في إسعاد زوجها وإرضائه كلَّما شعر بالرغبة في النساء؛ فهذا علاج فعَّال لقطع دابر الفتنة؛ ولهذا حذَّر النبي الزوجات من عدم طاعة رغبة الزوج في المعاشرة، فقال: ((إذا دعا الرجل امرأتَه إلى فراشه فأبَت فبات غضبان عليها، لعنَتْها الملائكةُ حتى تصبح))[8]، وهذه وصيَّة عظيمة وجليلة وربِّ الكعبة؛ فالزوج وهو رجل من الرجال لو وجد أنَّه قد قضى وطره ووجد السَّكن والمودَّة في علاقته الزوجية تكون الزَّوجة قد حصنته من الفتنة بغيرها من النِّساء، وهنَّ أخطر الفتن على الرجال، والزوج رجل كالرجال تقع عيناه بقصد وتعمد أو بدونه على نساء متبرِّجات كاسيات عاريات، يختلط بهن في الشارع والعمل وما أشبه ذلك، وربما تتعمَّد بعضهنَّ إثارته وإغراءه، وإهمالُ الزَّوجة التزينَ لزوجها وإرضاءه يَجعله يفتتن بهنَّ، وقد يقع فيما حرَّم الله تعالى ولو بالنظر والإعجاب.
ويجب أن تدرك الزوجة أنَّ زوجها ليس ملاكًا؛ بل هو بشر ضعيف، وإن أظهر غير ذلك؛ فإن لم يستمتع بالحلال ويقطع شرَّ شهوته معها، فمع من؟!
ولنتأمَّل بعمق قولَ النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه مسلم من حديث جابر بن عبدالله لندرك أهميَّة الزواج وتفاهم الزوجين في الوقاية من هذه الفتنة، قال رضي الله عنه: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى امرأة، فأتى امرأتَه زينب، وهي تَمْعَسُ مَنِيئَةً لها، فقضى حاجته، ثمَّ خرج إلى أصحابه، فقال: ((إن المرأة تُقبل في صورة شيطان، وتدبِر في صورة شيطان، فإذا أبصر أحدكم امرأةً فليأت أهلَه؛ فإنَّ ذلك يرُدُّ ما في نفسه))[9].
قال النووي رحمه الله ما مختصره في شرح هذا الحديث: قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن المرأة تقبل في صورة شيطان، وتدبِر في صورة شيطان، فإذا أبصر أحدكم امرأة فليأت أهله؛ فإنَّ ذلك يرد ما في نفسه)).
وفي الرواية الأخرى: ((إذا أحدكم أعجبته المرأة فوقعت في قلبه، فليعمد إلى امرأته فليواقعها؛ فإنَّ ذلك يردُّ ما في نفسه))؛ هذه الرواية الثانية مبيِّنة للأولى، ومعنى الحديث أنَّه يستحبُّ لمن رأى امرأةً فتحرَّكت شهوته أن يأتي امرأتَه أو جاريته إن كانت له، فليواقِعها ليدفع شهوتَه وتسكن نفسه ويجمع قلبه على ما هو بصدده.
قوله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ المرأة تُقبِل في صورة شيطان، وتدبر في صورة شيطان))، قال العلماء: معناه الإشارة إلى الهوى، والدُّعاء إلى الفتنة بها؛ لِما جعله الله تعالى في نفوس الرجال من الميل إلى النِّساء والالتذاذ بنظرهنَّ وما يتعلق بهنَّ، فهي شبيهة بالشيطان في دعائه إلى الشرِّ بوسوسته وتزيينه له، ويُستنبط من هذا أنَّه ينبغي لها ألَّا تخرج بين الرجال إلا لضرورة، وأنَّه ينبغي للرجل الغض عن ثيابها والإعراض عنها مطلقًا؛ اهـ[10].
قلت: قال الإمام السيوطي في كتابه (الإيضاح في علم النكاح):
"إنَّ الفقهاء أكثروا من نُصح النِّساء باستكمال زينتهن داخل المنازل؛ وذلك بتسريح الشعر وتزيينه، والتطيُّب بالطيب أمام الزوج حتى يطيب قلبه"؛ اهـ.
2 - غض البصر والصوم:
ويدلُّ على ذلك الحديث الذي ذكرناه آنفًا: ((يا معشر الشباب))... إلى قوله: ((ومَن لم يستطع فعليه بالصَّوم؛ فإنَّه له وجاء))؛ الحديث.
فالصيام وقاية من هياج الشَّهوة الجنسية - وهي أخطر غرائز الإنسان - ويؤدي إلى كبحها، وهو علاج نبوي فعَّال وقوي، ولا يغيب عنَّا أن هذا عند عدم الاستطاعة، وإلا فالعلاج الأصلي لهذه الفتنة هو الزواج.
• يقول ابن القيم رحمه الله تعليقًا على الحديث: فدلَّ المحبَّ على علاجين: أصلي، وبدلي، وأمَرَه بالأصلي؛ وهو العلاج الذي وُضع لهذا الداء، فلا ينبغي العدول عنه إلى غيره ما وجد إليه سبيلًا؛ اهـ[11].
قلت: والمقصود: أن الصَّوم قامع لشهوة النكاح، وفوائده عظيمة، شرعه الله لعباده رحمة بهم، وليتقرَّبوا به إليه، وجُنَّة لهم من الشهوات المهلكات.
وأما غضُّ البصر، فقد قال تعالى: ﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ﴾ [النور: 30، 31].
وفيما أخرجه أبو داود وغيره في النكاح عن جرير رضي الله عنه قال: سألتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجأة، فقال: ((اصرف بصرك))[12].
ومن ثمَّ فمقولة: إنَّ الصوم وغض البصر لا يَنفعان في هذا الزمان، مقولةٌ غير صائبة بالمرَّة؛ بل هي حجَّة ضعفاء الإيمان والإرادة، الذين أسلَموا قِيادهم للشيطان وأوليائه، ولو تمهَّلوا وتدبروا لوجدوا في "غض البصر والصوم" الملاذ من فتنة النساء.
3 - تجنُّب الخَلوة بالمرأة بغير مَحرَم:
الخلوة بالمرأة الأجنبية من غير مَحرم من أعظم الأسباب في الوقوع فيما حرَّم الله، وهياج الغريزة، وضياع الشرف والعفَّة، وكم من الجرائم تأتي من هذا الباب! وقد حذَّر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك في كثير من الأحاديث، مثل:
• حديث ((لا يخلونَّ رجل بامرأة، ولا تسافرنَّ امرأة إلا ومعها مَحرم))، فقام رجل فقال: يا رسول الله، إني اكتُتبتُ في غزوة كذا وكذا، وخرجتِ امرأتي حاجَّة، قال: ((اذهب فحجَّ مع امرأتك))[13].
• وحديث ((لا يخلونَّ رجل بامرأة إلَّا كان ثالثهما الشيطان))[14].
ولا يخفى أنَّ من العادات المنتشرة في بعض المجتمعات خلوةَ المرأة بالرجل الأجنبي عنها؛ وهو الذي يحلُّ له أن يتزوَّجها وإن كان من أقاربها؛ كابن عمِّها وابنِ خالتها، هذا ناهيك عن البعيد؛ كصديق الزوج وجاره وما أشبه ذلك، وحتى لو كان التحريم مؤقتًا؛ كأخ الزوج، فلا يجوز للمرأة الخلوة به دون مَحرم، وهو "الحَمْو" الذي جعله النبي صلى الله عليه وسلم بمنزلة الموت؛ ففي حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إيَّاكم والدخولَ على النساء))، فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله، أفرأيتَ الحَمْو؟ قال: ((الحمو الموت))[15]، وهذه مشكلة يعاني منها كثيرٌ من الناس؛ بل يتساهلون فيها تحت عناوين، مثل: "أنا أثِق في أخي وأخلاقه"، أو "أنا أثِق في زوجتي"؛ وهذا وغيره من تَلبيس إبليس، والحق أحقُّ أن يُتَّبع، وينبغي الحذر من تلبيس إبليس وخطورته، وقد قال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ﴾ [الأحزاب: 36].
أحزاب
أوليتدبَّر العاصي لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم الغافل المفتون عن هذا الخطر قولَ الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [النور: 21].
ولا يخفى على العقلاء أنَّ الخلوة بكل أشكالها ووسائلها الحديثة؛ كالتحدُّث في الهاتف، وعلى الشابكة ومواقع التواصل، وغير ذلك ممَّا لا يطلع عليه أحد من المحارم - هو خلوة محرَّمة يَنطبق عليها ما ذكرنا من ترهيب.
ونكتفي في هذه المقالة بما ذكرنا من هَدي نبينا صلى الله عليه وسلم في "سُبل الوقاية من فتنة النساء"، ونواصل السلسلة إن شاء الله تعالى في بيان هَديه في الدِّين والدنيا، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على النبي الأمين، وآله وصحبه أجمعين.
[1] أخرجاه في الصحيحين: البخاري برقم (5096) - باب ما يتقى من شؤم المرأة، ومسلم برقم (2740) - باب أكثر أهل الجنة الفقراء، وأكثر أهل النار النساء، وبيان الفتنة بالنساء.
[2] سبق تخريجه؛ انظر هامش رقم (1).
[3] أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، برقم (440) - باب خير الصفوف.
[4] انظر: شرح رياض الصالحين (3/ 151)؛ لمحمد بن صالح بن محمد العثيمين - الناشر: دار الوطن للنشر، الرياض - الطبعة: 1426 هـ.
[5] أخرجه مسلم برقم (2742) - باب أكثر أهل الجنة الفقراء، وأكثر أهل النار النساء، وبيان الفتنة بالنساء.
[6] انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (17/ 55) - الناشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت الطبعة: الثانية، 1392.
[7] أخرجاه في الصحيحين: البخاري برقم (5065) - باب من لم يستطع الباءة فليصم، ومسلم برقم (1400) - باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه.
[8] أخرجاه في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: البخاري برقم (3237) - باب إذا قال أحدكم: آمين والملائكة في السماء: آمين فوافقت إحداهما الأخرى، غفر له ما تقدم من ذنبه، ومسلم برقم (1436) - باب تحريم امتناعها من فراش زوجها.
[9] أخرجه مسلم برقم (1403) - باب ندب من رأى امرأة فوقعت في نفسه، إلى أن يأتي امرأته أو جاريته فيواقعها.
[10] انظر: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج (9/ 177) - الناشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت الطبعة: الثانية، 1392.
[11] انظر: الطب النبوي؛ لابن القيم (ص/ 205) الناشر: دار الهلال - بيروت.
[12] أخرجه مسلم برقم (2159) - باب نظر الفجاءة.
[13] أخرجه البخاري برقم (3006) - باب من اكتتب في جيش فخرجت امرأته حاجة، أو كان له عذر، هل يؤذن له؟
[14] انظر: صحيح الجامع للألباني برقم (2546).
[15] أخرجه مسلم برقم (2172) - باب تحريم الخلوة بالأجنبية والدخول عليها.
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/sharia/0/107128/#ixzz5UDVhf1rs