المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : حقوق الإنسان .. الحرية .. المساواة


أ/أحمد
10-02-2011, 10:10 PM
إن أصل الحقوق يرجع إلى فهم معنى قول الله -جل وعلا- ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ ﴾ [ الإسراء : 70 ] .

وتكريم الله -جل وعلا- لبني آدم -كما قال العلماء- يرجع إلى شيئين :
الأول : تكريم الله -جل وعلا- لبني آدم في خلقه إياهم ، وفيما سخر لهم مما في السماء ، ومما في الأرض ، والله -جل وعلا- بين ذلك في الآية .
والثاني : أن الله -جل وعلا- رفع ابن آدم عن الحيوان ، وعن غيره من المخلوقات ، وفضله على كثير ممن خلق تفضيلًا .

ومن أجل ذلك جاءت الشرائع في تبيين حق الله -جل وعلا- وحق العباد ، فقول الله -جل وعلا- ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ ﴾ [ الإسراء : 70 ] ، وفي آخر الآية ﴿ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا ﴾ [ الإسراء : 70 ] ، هذا يرجع إلى الخلق ، ويرجع أيضًا إلى التشريع والتنظيم ، وما أمروا به من عبادة الله وحده ، ومن اتباع المرسلين والأنبياء .

والحقوق التي تدخل تحت هذه كلمة "حقوق الإنسان" ترجع عند الغربيين إلى الحرية ، وإلى المساواة ، وكلمة "الحرية" هذه التي نادوا بها لا توجد بهذه الصورة التي تكلموا عنها ، حتى في بلادهم .

الحرية

فالحرية المطلقة في أن يفعل الإنسان ما يشاء دون أن يحاسَب على ما فعل ، لا وجود لها في أي مكان من الأرض ، بل هذه الحريات تنتهي عند حد معين ، وبعده يقال للشخص : هذا ممنوع ، لست حرًّا في ذلك .

وهذا يبين لنا أن كلمة "الحرية" لا توجد على الأرض إلا بصورة نسبية ، أما الحرية المطلقة في كل شيء ، في المال ، وفي السياسة ، وفي القضاء ، وفي التصرف في النفس ، وفي الدماء ، ومع الأولاد ، إلى غير ذلك ، لا توجد كاملة بلا قيد في أي مكان من الأرض ، وإنما توجد حرية تختلف البلاد فيها من حيث التوسع والتضييق بحسب الأعراف والتقاليد .

فإذًا كلمة "الحرية" التي هي جزء من حقوق الإنسان ، لا توجد بشكل مطلق عند من يتشدقون بها ، فإذا وضع هؤلاء لها القيود البشرية بمحض آرائهم ، فإنا نقول : إن هذه القيود تمحو كلمة "الحرية" ، وتجعلها كأن لم تكن موجودة ، فإذا كنتم تنادون بالحرية ، فأعطوا الإنسان حريته ليفعل ما يشاء ، أما إذا قيدته في حرية دون حرية ، بوضع قانون مثلا فقد قيدت حريته ، إذ ألزمته بهذا القيد .

إذًا فأساس الحرية التي نودي بها في مجال حقوق الإنسان ، يجب أن تنظر إليها من جهة أن الحرية لا توجد مطلقة ، بل لا بد أن تكون مقيدة ، يعني أن الإنسان ليس حرًّا في أي مكان من الأرض ، تام الحرية في تصرفاته يفعل ما يشاء ، وإنما له حدود يجب عليه ألا يتخطاها .

من أجل ذلك جاء ما يسمى بـ "البروتوكولات" ، وجاء ما يسمى بـ "الإيتيكيت" ، وهي عبارة عن أشياء يجب الالتزام بها ، كالتزام الشخص بلباس معين ، عند الحضور في بعض الأماكن ، ونحو ذلك .

فهناك نوع من عدم الحرية موجود في كل مكان ، وهذا يرجع إلى ما رأوه من أنه لا يناسب أن يعطى الإنسان حريته لمنافاته للذوق تارة ، أو لمنافاته للعلاقات تارة أخرى ، أو لمنافاته لحقوق أخرى .

المساواة

والمساواة التي نادوا بها ، تعني مساواة الرجل بالمرأة في كل شيء ، وتعني مساواة جميع الناس ، في أخذ الحقوق ، وفي إعطاء حقوقهم في كل شيء ، في التعليم ، وفي الصحة ، وفي الاستشفاء ، وفي السفر ، وفي تحديد المكان الذي يرغب أن يقيم فيه في حدود دولته ، كما نصت عليه موادهم ، وفي إلغاء الرق ، إلى آخر ذلك .

وهذه المساواة منها ما هو مقبول ، ومنها ما ليس بمقبول ، كما سيأتي بيانه إن شاء الله –تعالى- ونحن لسنا بصدد نقد ذلك الإعلان الوثائقي ، وما تبعه من تصحيحات وإضافات ، لكننا بصدد بيان أن حقوق الإنسان الكاملة ، قد أعطاها رب الإنسان للإنسان .

والبشر إذا أرادوا أن يعطوا الحق لغيرهم ، فإن الأمر لن يسلم من الهوى ، فالذي يضع القانون أيًّا كان ، فإنه سيدخل فيه هواه ، ولهذا تجد أن القوانين الغربية ، سواء منها القانون الفرنسي ، أو الأمريكي ، أو غيرهما من القوانين ، تجد أنها تخضع للتغيير بين فترة وأخرى ، إما لأن أول ما نشأ القانون كان لأجل مصلحة ما ، إما للدولة في إنشائه ، أو لنفوذ من الكبراء في تلك الدولة في بعض المسائل ، أو لتغير الزمان ، فتغير تبعًا للأحوال ، ولهذا بين الله -جل وعلا- أن حكم الجاهلية هو حكم عن الهوى ، فقال –سبحانه- ﴿ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ﴾ [ المائدة : 49 ] ، لأن كل حكم يخالف حكم الشريعة ، فلا بد أن يكون قد تسلط عليه الهوى ، فمُنع من الصواب .

إذًا فتلك المبادئ قامت على أساس نظرٍ بشري يدخله الهوى ، وتدخله مصالح الدول ، ويدخله الرغبة في السيطرة على الدول الضعيفة ، أو الدول التي فيها خيرات .

بعد هذا العرض ، إذا رأيت ما كان الناس عليه قبل مبعث محمد -عليه الصلاة والسلام- سواء عرب مكة وما حولها ، أو من في الجزيرة ، أو من في الشام ، أو العراق ، أو مصر ، أو فارس ، أو الروم ، وجدت أن سلب الحريات مفتوح على مصراعيه ، وأن المساواة منفية ، والذي يحكم هو شريعة الغاب ، لأن القوي يأكل الضعيف ، يتسلط الناس بعضهم على بعض ، ولهذا قال ربعي بن عامر -رضي الله عنه- لقائد الفرس حينما سأله مَا جَاءَ بِكُمْ؟ فَقَالَ : اللَّهُ ابْتَعَثْنَا لِنُخْرِجَ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادَةِ الْعِبَادِ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ ، وَمِنْ ضيق الدنيا إلى سِعَتِهَا ، وَمِنْ جَوْرِ الْأَدْيَانِ إِلَى عَدْلِ الْإِسْلَامِ(1) .

لقد جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- وأوحي إليه بشريعة الإسلام ، وأمره الله -جل وعلا- بأن ينذر عشيرته الأقربين ، ثم ينذر الناس جميعًا ، وجعل رسالته رحمة للعالمين ، فقال ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [ الأنبياء : 107 ] .

لما جاء النبي -عليه الصلاة والسلام- في ذلك المجتمع كانت السمة الغالبة لهذا المجتمع ، أنه مجتمع فيه صراع طبقي ، وتميز طبقي على أشده ، فهذه القبيلة أفضل من هذه القبيلة ، وهؤلاء أرفع من هؤلاء ، وهؤلاء متسلطون على غيرهم ، ونحو ذلك من الأعراف القبلية التي فيها تبايُن ، وفيها تفضيل بعض الناس على بعض .

فجاءهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بالأصل العظيم ، وهو قول الله -جل وعلا- ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [ الحجرات : 13 ] ، فجعل الكرم والفضل والتميز لمن كان أتقى ، فلا عبرة بالجنس ولا باللون ولا بالقبيلة ولا بالبلد ، فالتفاضل بين الناس فقط بحسب التقوى .

وفي هذا المعنى قال نبينا -عليه الصلاة والسلام- :« يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ ، وَلَا أَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ ، إِلَّا بِالتَّقْوَى » (2) .

وهذا -كما هو معروف- في التكليف ، جعل الله -جل وعلا- الناس سواسية ، يعني في الخطاب ، الذكر والأنثى ، والحر والعبد ، والغني والفقير ، على اختلاف طبقاتهم .

فالناس جميعًا مأمورون بتوحيد الله -جل وعلا- ومأمورون بامتثال أوامره وتقواه بحسب الاستطاعة ، وهذا نوع من المساواة بين الناس في التكليف .

وكذلك لما جاء الإسلام ألغى التفرقة بين الناس ، بل آل الأمر إلى المؤاخاة ، فآخى النبي -صلى الله عليه وسلم- بين المهاجرين والأنصار ، بل قد أوخِيَ بين حر وغيره في المدينة ، بل جاء عن علي -رضي الله عنه- أنه جعل سلمان الفارسي من أهل البيت ، فقد صح عن علي -رضي الله عنه- أنه قال : سلمان منا أهل البيت(3) .

ويروى مرفوعًا عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا يصح مرفوعًا ، وإنما يصح موقوفًا على علي -رضي الله عنه- .

وقد أمّر النبي -صلى الله عليه وسلم- زيد بن حارثة – وهو مولى – على جمع كبير من المسلمين ، وأمّر بعده أسامة بن زيد ، وأمضى ذلك اللواءَ أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- .
ولما فتح المسلمون الأمصار ، وشاع الإسلام وانتشر ، آل الأمر إلى أن يكون الأعاجم –الذين هم من غير العرب- من أكابر العلماء ، فكانوا من أئمة المسلمين ، يستقي الناس منهم العلم ، بل قد رأينا في تاريخ الإسلام كثيرًا من الأعاجم الذين قادوا المسلمين في العلم ، وقادوهم في الفتوى ، وقادوهم في في أمور كثيرة .

ومن هذه الأمثلة في العلم : الإمام أبو حنيفة -رحمه الله تعالى- وهو ليس بعربي ، وكذا الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- كيف صار كتابه مصدرا رئيسا من مصادر السنة ، فليس هناك عالم ، أو طالب علم من المسلمين إلا ويعرف الإمام أبا عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري .

فالإسلام قد ألغى الفوارق ، وصار هؤلاء الأعاجم قادة وأئمة للعرب ، وصاروا مقدَّمين ، لأنهم حملوا الدين ، ورفعوا راية التوحيد ، وراية "لا إله إلا الله محمدًا رسول الله" ، فلا فرق بين أعجمي وعربي إلا بالتقوى .

والمسلمون لما كانوا متأدبين بأدب الإسلام ، لم يكن بينهم ذلك النزاع الطبقي ، وتلك الفروق الجاهلية ، فقبلوا إمامة هؤلاء ، وسلموا لهم ، لأن الناس في هذا المقام سواء .

ثم آل الأمر بعد ذلك إلى أن ذهبت الدولة الأموية ، والدولة العباسية ، ونشأت دولة المماليك ، ثم نشأت دولة بني عثمان –يعني في أولها حين كانت صالحة- ودان المسلمون لهم ، وصاروا هم القادة ، وهم الأمراء ، لأنهم رأوا أن في ذلك المصلحة الشرعية للبلاد والعباد .

إذًا فأول من ألغى التفريق الطبقي ، ومارسه فعلًا ، وأرشد الناس إليه ، وصار جميع الناس لا حرج في صدورهم من تطبيقه ، هو الإسلام ، وتاريخ الإسلام غني بهذا ، فتطبيق الإسلام لهذا الأصل العظيم -أصل المساواة- خير شاهد على هذا .

وفي جانب المساواة في الحقوق ، جاءت الشريعة بالمساواة في الحقوق ، وهنا أمران مهمان في الشريعة : الأول : المساواة ، والثاني : العدل .

والعدل واجب مطلقًا ، والمساواة تكون في أبوابها ، وليست مطلقة ، وتوضيح ذلك : أن العدل هو أداء الواجب ، بإعطاء كل ذي حقٍّ حقه ، بلا تَعَدٍّ في ذلك ، فهذا هو العدل ، والله -جل وعلا- أمر بالعدل أمرًا مطلقًا ، قال –تعالى- ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى ﴾ [ النحل : 90 ] .

فما يحرم أحد من حقه لأجل أنه ضعيف ، أو فقير ، أو غير ذلك ، بل يُعطَى حقه بما يناسب مقامه ، ولهذا جاءت الشريعة بعدم تساوي الناس في ارتكاب المخالفات التي هي دون الحدود ، فقد صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال :« أَقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ إِلَّا الْحُدُودَ » (4) . وهذا فيه ترك المساواة في هذا الأمر ، وذلك مراعاة للمصالح الشرعية العظيمة المترتبة على ذلك .

فعُمَر -رضي الله عنه- لم يساوِ في العطاء من بيت المال بين أهل بدر وبين غيرهم ، لم يساوِ بين السابقين إلى الإسلام ، وبين المتأخرين ، بل أعطى كل ذي حق حقه ، وأعطى كل أحد بحسب سابقته ، وهذا هو العدل ، لأن التسوية بين الناس مع اختلافهم في نصرة الإسلام ، واختلافهم في قدراتهم ، ليست مشروعة ، بل المشروع هو العدل .

إن المساواة في الشرع مأمور بها ، في الحقوق وغيرها ، ويدخل في ذلك الحقوق القضائية ، وما يجب على الدولة ، وما يجب على ولاة الأمور ، وما يجب على القاضي ، من أنه يجب أن يكون الناس عنده سواسية ، لا يفضل أحدا على أحد ، حتى إذا كان حكمه بين المسلم ، وغير المسلم ، فإنه لا يجوز له أن يميز المسلم على غير المسلم في مجلس القضاء ، لأن هذا مجلس عدل وحكم ، وفي مثل هذا يجب أن يكون الناس سواسية ، وهذا حق مطلق للإنسان في أن يُحكَم بشريعة الإسلام ، فيأخذ حقه بقوة القضاء ، وقد قال الله -جل وعلا- ﴿ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا ﴾ [ المائدة : 42 ] ، يعني في أهل الكتاب ﴿ وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [ المائدة : 42 ] .

وهذا الحق قد أعلنه نبينا -عليه الصلاة والسلام- أعظم إعلان ، في مسائل كثيرة ، أولها في بيان سبب هلاك اليهود ، وهو أنهم هلكوا لما فرَّقوا في الأحكام الشرعية والحدود والقضاء ، ما بين الشريف والوضيع ، وبين علية القوم ، وبين غيرهم ، فقال -عليه الصلاة والسلام- :« وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا » (5) .

فدماء المسلمين متكافئة ، وكذلك أموالهم وأعراضهم ، فليس ثَم تفريق بين عِرض وعرض ، أو دم ودم ، وليس ثَم تفريق في القضاء بين حق ماليٍّ وآخر ، بل جميع المسلمين مستوون أمام شرع الله -جل وعلا- كلهم سواسية في هذا الحق ، ولعلنا نلحظ هذا المعنى في قصة أُسيد بن حُضَير ، حيث قال : بَيْنَمَا هُوَ يُحَدِّثُ الْقَوْمَ -وَكَانَ فِيهِ مِزَاحٌ- بَيْنَا يُضْحِكُهُمْ ، فَطَعَنَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي خَاصِرَتِهِ(6) بِعُودٍ ، فَقَالَ : أَصْبِرْنِي( 7 ) فَقَالَ : « اصْطَبِرْ » قَالَ : إِنَّ عَلَيْكَ قَمِيصًا وَلَيْسَ عَلَيَّ قَمِيصٌ ، « فَرَفَعَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ قَمِيصِهِ ، فَاحْتَضَنَهُ ، وَجَعَلَ يُقَبِّلُ كَشْحَهُ(8) » ، قَالَ إِنَّمَا أَرَدْتُ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ(9) .

فالنبي -صلى الله عليه وسلم- قد مكنه من نفسه ، ليقتص منه ، بل قال -عليه الصلاة والسلام- رحمة بأمته :« اللَّهُمَّ فَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ سَبَبْتُهُ ، فَاجْعَلْ ذَلِكَ لَهُ قُرْبَةً إِلَيْكَ يَوْمَ القِيَامَةِ » (10) .

إذًا ففي الحقوق القضائية ، حق الإنسان -سواء أكان مسلما ، أو غير مسلم- واحد ، لا يختلف الناس في ذلك ، فلا نأخذ الحق للمسلم على حساب النصراني ، أو اليهودي ، بل هذه الحقوق مبناها على البينات ، وقد قال النبي –صلى الله عليه وسلم- :« أَدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ ، وَلاَ تَخُنْ مَنْ خَانَكَ » ( 11 ) .

وقال الله –تعالى- ﴿ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ﴾ [ المائدة : 49 ] ، كما أمرنا ربنا -جل وعلا- أن نكون قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسنا ، قال –تعالى- ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ ﴾ [ النساء : 135 ] ، وقال -جل وعلا- ﴿ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ﴾ [ المائدة : 8 ].

ولهذا وجدنا في عهد الصحابة -رضوان الله عليهم- أن اليهودي كان يأتي مع المسلم –في الخصومة- فلا يُميز المسلم على اليهودي في المجلس ، بل هم من جهة الحكم الشرعي ، ومن جهة القضاء ، هذا خصم ، وهذا خصم ، يجب أن يكونوا سواء ، وأن لا يكون هناك حَيْف ، لأنه إذا وجد التمييز في هذه المسائل ، دب الفساد إلى الأرض ، والله -جل وعلا- أمرنا بإصلاحها ، ونهانا عن إفسادها ، فقال -سبحانه وتعالى- ﴿ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا ﴾ [ الأعراف : 56 ] ، وإصلاح الأرض إنما يكون برسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- وبأداء الحقوق الشرعية ، التي جاء بها نبينا -عليه الصلاة والسلام- وأعظم ما جاء به هو التوحيد ، وترك الشرك ، والفساد إنما يكون بالتفريط في حق الله -جل وعلا- أو بالتفريط في حقوق الخلق .

فبهذا يدبّ الفساد شيئًا فشيًا ، حتى يحِلّ غضب الله -جل وعلا- ويدل لهذا قوله –جل وعلا- ﴿ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى * وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى ﴾ [ طه : 81-82 ] .

فالناس في شريعة الإسلام ينقسمون إلى أقسام :

القسم الأول : المسلمون .

والقسم الثاني : الكافرون الذميون ، يعني اليهود والنصارى ، أو أهل الكتاب الذين لهم ذمة .

القسم الثالث : المعاهدون .

القسم الرابع : المستأمنون .

القسم الخامس : الحربيون .

والنبي -صلى الله عليه وسلم- قد أمر بأداء الحقوق لغير المسلمين إذا لم يكونوا حربيين ، أو مظهرين العداوة للإسلام والمسلمين ، وذلك عملا بقوله -جل وعلا- ﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [ الممتحنة : 8-9 ] .

أصل المادة محاضرة ألقاها معالي الشيخ صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ بعنوان : حقوق الإنسان في الإسلام .

***************
(1) انظر القصة بتمامها في البداية والنهاية ، لابن كثير 7 / 46 .
(2) أخرجه أحمد ( 5 / 411 ، رقم 23536 ) . وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب 2963 .
(3) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف ( 12 / 148 ، رقم 12380 ) ، وابن سعد ( 2 / 346 و 4 / 85 ) ، وأبو نعيم في الحلية ( 1 / 187 ) ، وابن عساكر ( 7 / 411 و 415 ) . وصحح الألباني الموقوف ، وضعف المرفوع جدا ، انظر الضعيفة 3704 .
(4) أخرجه أحمد ( 6 / 181 ، رقم 25513 ) ، والبخاري في الأدب المفرد ( 1 / 165 ، رقم 465 ) ، وأبو داود ( 4 / 133 ، رقم 4375 ) . وصححه الألباني في الصحيحة 638 .
(5) أخرجه أحمد ( 6 / 162 ، رقم 25336 ) ، والبخاري ( 6 / 2491 ، رقم 6406 ) ، ومسلم ( 3 / 1315 ، رقم 1688 ) .
(6) الخَصْرُ وَسَطُ الإِنْسَانِ ، وَقيل : هُوَ المُسْتَدِقُّ فَوق الوَرِكَيْن ، كَمَا فِي المِصْباح . تاج العروس : خصر .
(7) أَيْ أَقِدني مِنْ نَفْسِك . النهاية : صبر .
(8) الكَشْح : الخَصْر . النهاية : كشح .
(9) أخرجه أبو داود ( 4 / 356 ، رقم 5224 ) . وصححه الألباني في المشكاة 4685 .
(10) أخرجه أحمد ( 2 / 496 ، رقم 10439 ) ، والبخاري ( 5 / 2339 ، رقم 6361 ) ومسلم ( 4 / 2007 ، رقم 2601 ) .
(11) أخرجه أبو داود ( 3 / 290 ، رقم 3535 ) ، والترمذي ( 3 / 564 ، رقم 1264 ) وقال : حسن غريب . وصححه الألباني في الصحيحة 423 .

الواثقة بالله
10-03-2011, 02:26 AM
ديننا دين العدالة و المساواة اسأل الله ان يثبتنا على هذا الدين
بارك الله فيك