أ/أحمد
10-25-2011, 03:24 AM
ترغيب الإخوة في صيام أيام عشر ذي الحجة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد:
فهذا جزء لطيف في سنية صوم الأيام العشر من شهر ذي الحجة، نفع الله به الكاتب والقارئ، إنه سميع مجيب.
وسيكون الكلام في مسائل:
المسألة الأولى / وهي عن المراد بالأيام العشر من ذي الحجة التي يستحب صيامها.
قال النووي ـ رحمه الله ـ في "شرح صحيح مسلم"(8/71رقم:1176):
والمراد بالعشر هنا الأيام التسعة من أول ذي الحجة.اهـ
وقال ابن رجب ـ رحمه الله ـ في "لطائف المعارف"(ص368):
الصيام إذا أضيف إلى العشر فالمراد صيام ما يجوز صومه منه.اهـ
وإطلاق العشر عليها محمول على الغالب، وذلك لثبوت النهي عن صوم يوم العيد، وهو اليوم العاشر منها، وقد أشار إلى ذلك ابن حجر العسقلاني ـ رحمه الله ـ في كتابه "فتح الباري"(3/390).
المسألة الثانية / وهي عن مستند هذا السنية.
يدل على الترغيب في صيام هذه الأيام، وأنه سنة محمودة ما يأتي:
أولاً: ما أخرجه البخاري في "صحيحه"(969) عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(( ما العمل في أيام أفضل منها في هذه، قالوا: ولا الجهاد، قال: ولا الجهاد، إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء )).
وفي لفظ عند الترمذي في "سننه"(757):
(( ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر، فقالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء)).
ووجه الاستدلال من هذا الحديث:
أن العمل الصالح عام، فيدخل فيه الصيام، لأنه من الأعمال الصالحة، بل من أفضلها.
ثانياً: ما أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(4/257رقم:7715) عن الثوري عن عثمان بن موهب قال سمعت أبا هريرة وسأله رجل قال:
(( إن علي أياماً من رمضان أفأصوم العشر تطوعاً؟ قال: لا، قال: ولم؟ قال: ابدأ بحق الله، ثم تطوع بعد ما شئت )).
وإسناده صحيح.
ووجه الاستدلال من هذا الأثر:
أن أبا هريرة رضي الله عنه لم ينكر على الرجل التطوع بصيام العشر، بل أقره على ذلك إذا قضى ما بقي عليه من شهر رمضان.
وهذا يدل على أن صيامها معروف في عهد السلف الصالح، وعلى رأسهم الصحابة.
المسألة الثالثة / وهي عن أقوال أهل العلم عند حديث ابن عباس رضي الله عنه (( ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر )).
أولاً:بوب الإمام أبو داود ـ رحمه الله ـ على هذا الحديث، وحديث آخر في "سننه"(2438):
باب في صوم العشر.
ثانياً: بوب عليه الإمام ابن ماجه ـ رحمه الله ـ في "سننه"(1727) مع حديث عائشة:
باب صيام العشر.
ثالثاً: قال الطحاوي ـ رحمه الله ـ في كتابه "مشكل الآثار"(7/419):
وإن كان الصوم فيها له من الفضل ما له، مما قد ذكر في هذه الآثار التي قد ذكرناها فيه، وليس ذلك بمانع أحداً من الميل إلى الصوم فيها، لا سيما من قدر على جمع الصوم مع غيره من الأعمال التي يتقرب بها إلى الله عز وجل سواه.اهـ
رابعاً:قال ابن حزم ـ رحمه الله ـ في كتابه "المحلى"7/19مسألة رقم:794):
ونستحب صيام أيام العشر من ذي الحجة قبل النحر، لما حدثناه ناه حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن الأعمش عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (( ما من أيام أحب إلى الله فيهم العمل أو أفضل فيهن العمل من أيام العشر، قيل: يا رسول الله ولا الجهاد قال: ولا الجهاد إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء )).
قال أبو محمد: هو عشر ذي الحجة, والصوم عمل بر، فصوم عرفة يدخل في هذا أيضاً.اهـ
خامساً: قال أبو العباس القرطبي ـ رحمه الله ـ في كتابه "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم"(5/32):
وقول عائشة : (( ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائمًا في العشر قط )) تعني به: عشر ذي الحجة، ولا يفهم منه: أن صيامه مكروه، بل أعمال الطاعات فيه أفضل منها في غيره، بدليل ما رواه الترمذي من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( ما من أيَّام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر، قالوا : يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله ؟ قال: (( ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله، فلم يرجع من ذلك بشيء )) قال: هذا حديث حسن صحيح.اهـ
سادساً: قال النووي ـ رحمه الله ـ في "شرح صحيح مسلم"(8/71رقم:1176):
فليس في صوم هذه التسعة كراهة، بل هي مستحبة استحباباً شديداً لاسيما التاسع منها، وهو يوم عرفة، وقد سبقت الأحاديث في فضله، وثبت في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( ما من أيام العمل الصالح فيها أفضل منه في هذه )) يعنى العشر الأوائل من ذي الحجة.اهـ
وبوب على هذا الحديث في كتابه "رياض الصالحين"(رقم:1249) فقال:
باب فضل الصوم وغيره في العشر الأول من ذي الحجة.اهـ
سابعاً: قال الحافظ ابن رجب ـ رحمه الله ـ في كتابه "فتح الباري"(6/114-119):
وهذا الحديث حديث عظيم جليل..
وهذا الحديث نص في أن العمل في عشر ذي الحجة أفضل من جميع الأعمال الفاضلة في غيره،ولا يستثنى من ذلك سوى أفضل أنواع الجهاد، وهو أن يخرج الرجل بنفسهوماله، ثم لا يرجع منهما بشيء،فهذا الجهاد بخصوص يفضل على العمل في العشر، وأما سائر أنواع الجهاد مع سائر الأعمال، فإن العمل في عشر ذي الحجة أفضل منها.اهـ
وقال في كتابه "لطائف المعارف"0ص365-366):
وقد دل هذا الحديث على أن العمل في أيامه أحب إلى الله من العمل في أيام الدنيا من غير استثناء شيء منها، وإذا كان أحب إلى الله فهو أفضل عنده.اهـ
وقال أيضاً (ص367):
وقد دل حديث ابن عباس على مضاعفة جميع الأعمال الصالحة في العشر من غير استثناء شيء منها.اهـ
ثامناً: قال الحافظ ابن حجر العسقلاني ـ رحمه الله ـ في كتابه "فتح الباري"03/390):
واستدل به على فضل صيام عشر ذي الحجة، لاندراج الصوم في العمل، ..والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتى ذلك في غيره.اهـ
تاسعاً: قال الشوكاني ـ رحمه الله ـ في كتابه "نيل الأوطار"(4/323):
وقد تقدم في كتاب العيدين أحاديث تدل على فضيلة العمل في عشر ذي الحجة على العموم، والصوم مندرج تحتها.اهـ
وقال أيضاً:
على أنه قد ثبت من قوله ما يدل على مشروعية صومها كما في حديث الباب.اهـ
عاشراً: قال ابن باز ـ رحمه الله ـ كما في "مجموع فتاويه"(15/418أو25/216-217):
وقد دل على فضل العمل الصالح في أيام العشر حديث ابن عباس المخرج في صحيح البخاري، وصومها من العمل الصالح، فيتضح من ذلك استحباب صومها في حديث ابن عباس.اهـ
وقال أيضاً كما في "الدرر البهية من الفوائد البازية"(1/137رقم:754):
ولكن حديث ابن عباس في الباب الذي بعده يدل على مشروعية صيام هذه الأيام.اهـ
وقال أيضاً (1/91رقم:2438):
وهذا الحديث يعم الصيام والقراءة والتكبير.اهـ
حادي عشر: قال ابن عثيمين ـ رحمه الله ـ كما في اللقاء الشهري"(26/1):
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: (( ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر- أي: عشر ذي الحجة- قالوا: يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء))وهذا الحديث يدل على أنه ينبغي لنا أن نكثر من الأعمال الصالحة في عشر ذي الحجة، فمنها: أن نكثر من التسبيح والتهليل والتكبير، فنقول: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد، نكثر من الصدقة،لأنها من الأعمال الصالحة، نكثر من الصلاة، لأنها أفضل الأعمال البدنية، نكثر من قراءة القرآن، لأن القرآن أفضل الذكر، نكثر من كل عمل صالح، ونصوم أيام العشر، لأن الصيام من الأعمال الصالحة، وحتى لو لم يرد فيه حديث بخصوصه فهو داخل في العموم، لأنه عمل صالح، فنصوم هذه الأيام التسعة، لأن العاشر هو يوم العيد ولا يصام، ويتأكد الصوم يوم عرفة إلا للحجاج، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في يوم عرفة: (( أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده )).اهـ
وقال أيضاً كما في "شرح رياض الصالحين"(5/303):
وقوله: (( العمل الصالح )) يشمل الصلاة والصدقة والصيام والذكر والتكبير وقراءة القرآن وبر الوالدين وصلة الأرحام والإحسان إلى الخلق وحسن الجوار وغير ذلك..
ففي هذا دليل على فضيلة العمل الصالح في أيام العشر الأول من شهر ذي الحجة، من صيام وغيره.اهـ
المسألة الرابعة / وهي عن أقوال المذاهب الفقهية المشهورة وغيرهم في استحباب صيام هذه الأيام.
أولاً: المذهب الحنفي.
قال علاء الدين الكاساني ـ رحمه الله ـ في كتابه "بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع"(2/108):
ولا بأس بقضاء رمضان في عشر ذي الحجة، وهو مذهب عمر وعامة الصحابة رضي الله عنهم إلا شيئاً حكي عن علي رضي الله عنه أنه قال: يكره فيها، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن قضاء رمضان في العشر، والصحيح قول العامة لقوله تعالى: { فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر } مطلقا من غير فصل، ولأنها وقت يستحب فيها الصوم، فكان القضاء فيها أولى من القضاء في غيرها، وما روي من الحديث غريب في حد الأحاديث، فلا يجوز تقييد مطلق الكتاب، وتخصيصه بمثله، أو نحمله على الندب في حق من اعتاد التنفل بالصوم في هذه الأيام، فالأفضل في حقه أن يقضي في غيرها لئلا تفوته فضيلة صوم هذه الأيام، ويقضي صوم رمضان في وقت آخر، والله أعلم بالصواب.اهـ
وجاء في "الفتاوى الهندية"(1/201):
ويستحب صوم تسعة أيام من أول ذي الحجة كذا في السراج الوهاج.اهـ
ثانياً: المذهب المالكي.
جاء في "حاشية الصاوي على الشرح الصغير"(3/251):
(و) ندب (صوم) يوم (عرفة لغير حاج) وكره لحاج، أي لأن الفطر يقويه على الوقوف بها.
(و) ندب صوم (الثمانية) الأيام (قبله) أي عرفة.اهـ
وجاء في "شرح مختصر خليل" للخرشي (6/488):
(ص) وصوم يوم عرفة إن لم يحج وعشر ذي الحجة.
(ش): يريد أن صوم يوم عرفة مستحب في حق غير الحاج، وأما هو فيستحب فطره ليتقوى على الدعاء وقد أفطر النبي صلى الله عليه وسلم في الحج وأن صيام عشر ذي الحجة مستحب.اهـ
وجاء في "منح الجليل شرح مختصر خليل"(4/12):
(و) ندب صوم باقي غالب (عشر ذي الحجة).اهـ
ثالثاً: المذهب الشافعي.
قال النووي ـ رحمه الله ـ في كتابه "روضة الطالبين"(2/254أو2/388):
ومن المسنون، صوم عشر ذي الحجة، غير العيد.اهـ
وجاء في "غاية البيان شرح زبد ابن رسلان"(1/158):
يسن صوم عشر ذي الحجة غير العيد (وست شوال) بعد يوم العيد.اهـ
رابعاً: المذهب الحنبلي.
قال المرداوي ـ رحمه الله ـ في كتابه "الإنصاف"(3/345):
قوله: "ويستحب صوم عشر ذي الحجة".
بلا نزاع، وأفضله يوم التاسع وهو يوم عرفة ثم يوم الثامن، وهو يوم التروية، وهذا المذهب وعليه الأصحاب.اهـ
وقال مجد الدين أبو البركات ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في كتابه "المحرر في الفقه"(1/231):
ومن السنة إتباع رمضان بست من شوال وإن أفردت، وصوم عشر ذي الحجة، وآكده يوم التروية وعرفة.اهـ
وقال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في "شرح العمدة"(2/553قسم الصيام):
قال أصحابنا: " ويستحب صوم عشر ذي الحجة".
وفي الحقيقة المعني صوم تسع ذي الحجة، وآكدها يوم التروية وعرفة.اهـ
خامساً: المذهب الظاهري.
قال ابن حزم ـ رحمه الله ـ في كتابه "المحلى"7/19مسألة رقم:794):
ونستحب صيام أيام العشر من ذي الحجة قبل النحر، لما حدثناه ناه حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن الأعمش عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (( ما من أيام أحب إلى الله فيهم العمل أو أفضل فيهن العمل من أيام العشر، قيل: يا رسول الله ولا الجهاد قال: ولا الجهاد إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء )).
قال أبو محمد: هو عشر ذي الحجة, والصوم عمل بر، فصوم عرفة يدخل في هذا أيضاً.اهـ
سادساً: قال ابن رجب الحنبلي ـ رحمه الله ـ في كتابه "لطائف المعارف"(ص386):
وممن كان يصوم العشر عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وقد تقدم عن الحسن وابن سيرين وقتادة ذكر فضل صيامها، وهو قول أكثر العلماء أو كثير منهم.اهـ
وقال في كتابه "فتح الباري"(6/119):
وقد كان عمر يستحب قضاء رمضان في عشر ذي الحجة، لفضل أيامه، وخالفه في ذَلِكَ علي، وعلل قوله باستحباب تفريغ أيامه للتطوع، وبذلك علله أحمد وإسحاق، وعن أحمد في ذَلِكَ روايتان.اهـ
سابعاً: المنقول من الآثار عن التابعين.
ومن هذه الآثار:
أولاً: ما نقل عن إبراهيم النخعي وسعيد بن جبير.
حيث أخرج عبد الرزاق في "مصنفه"(2/256رقم:7713)عن الثوري عن حماد قال:
(( سألت إبراهيم وسعيد بن جبير عن رجل عليه أيام من رمضان أيتطوع في العشر؟ قالا: يبدأ بالفريضة )).
وسنده صحيح.
ثانيا: ما نقل عن عطاء بن أبي رباح.
حيث أخرج عبد الرزاق في "مصنفه"(2/256رقم:7713)عن ابن جريج عن عطاء:
(( كره أن يتطوع الرجل بصيام في العشر وعليه صيام واجب؟ قال: لا، ولكن صم العشر، واجعلها قضاء )).
ثم قال المحقق في الحاشية:
أخشى أن يكون سقط من هنا: " قلت: لعطاء " بدليل قوله" (( قال: لا )) ثم وجدت الساقط في "ز" فأثبته.اهـ
وعلى كلامه هذا يكون الإسناد صحيحاً، ولا يعل بعنعنة ابن جريج.
وهذان الأثران ظاهران في أن التطوع بصيام العشر كان معروفاً في عصر التابعين.
المسألة الخامسة / عن الإجابة على حديث عائشة رضي الله عنه:
(( ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائماً في العشر قط )).
وسيكون الكلام على هذا الحديث من جهتين:
الأولى: عن تخريجه ودرجته.
وقد أخرجه مسلم في "صحيحه"(1176).
إلا أنه اختلف على إبراهيم النخعي في وصله وإرساله، فوصله عنه الأعمش، وأرسله منصور.
وقد اختلف العلماء في أيهما أثبت في إبراهيم، ودونكم ما ذكره ابن رجب الحنبلي ـ رحمه الله ـ في كتابه "شرح علل الترمذي"(1/271) حيث قال:
ذكر علي بن المديني عن يحيى بن سعيد قال: " ما أحد أثبت عن مجاهد وإبراهيم من منصور، قلت ليحيى: منصور أحسن حديثاً عن مجاهد من أبي نجيح؟ قال: نعم، وأثبت، وقال: منصور أثبت الناس".
وقال أحمد حدثني يحيى قال: قال سفيان: " كنت إذا حدثت الأعمش عن بعض أصحاب إبراهيم قال، فإذا قلت: منصور سكت".
وقال ابن المديني عن يحيى عن سفيان قال: " كنت لا أحدث الأعمش عن أحد إلا رده، فإذا قلت: منصوري سكت".
وذكر ابن أبي خيثمة عن يحيى بن معين قال: " لم يكن أحد أعلم بحديث منصور من سفيان الثوري"
ورجحت طائفة الأعمش على منصور في حفظ إسناد حديث النخعي.
قال وكيع : "الأعمش أحفظ لإسناد إبراهيم من منصور".
وقد ذكره الترمذي في باب التشديد في البول من " كتاب الطهارة " واستدل به على ترجيح قول الأعمش في حديث ابن عباس في القبرين: " سمعت مجاهداً يحدث عن طاووس عن ابن عباس ".
وأما منصور فرواه عن مجاهد عن ابن عباس.
وكذلك ذكره أيضاً في " كتاب الصيام " في باب صيام العشر، واستدل به على ترجيح رواية الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة: (( ما رأيت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم صائماً في العشر قط )) على قول منصور، فإنه أرسله.
ورجحت طائفة الحكم، قال عبد الله بن أحمد: سألت أبي: " من أثبت الناس في إبراهيم؟ قال: الحكم ثم منصور".
وقال أيضاً: قلت لأبي: أي أصحاب إبراهيم أحب إليك؟ قال: الحكم ثم منصور، ما أقربهما، ثم قال: كانوا يرون أن عامة حديث أبي معشر إنما هو عن حماد - يعني ابن أبي سليمان ".
وقال حرب عن أحمد: " كان يحيى بن سعيد يقدم منصوراً والحكم على الأعمش ".
وقال ابن المديني: قلت ليحيى بن سعيد: "أي أصحاب إبراهيم أحب إليك؟ قال : الحكم ومنصور، قلت: أيهما أحب إليك؟ قال: ما أقربهما".اهـ
وقد ذكر الدارقطني ـ رحمه الله ـ هذا الحديث في "التتبع"(ص529) وقال عقب سوقه عن لأعمش موصولاً:
وخالفه منصور، رواه عن إبراهيم مرسلاً.اهـ
وقال في"العلل"(15/74-75رقم:3847):
يرويه إبراهيم النخعي، واختلف عنه، فرواه الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة.
ولم يختلف عن الأعمش فيهحدث به عنه، أبو معاوية وحفص بن غياث ويعلى بن عبيد وزائدة بن قدامة و... بن سليمان والقاسم بن معن وأبو عوانة.
واختلف عن الثوري، فرواه ابن مهدي عن الثوري عن الأعمش كذلك.
وتابعه يزيد بن زريع، واختلف عنه، فرواه حميد المروزي عن يزيد بن زريع عن الثوري عن الأعمش، مثل قول عبد الرحمن بن مهدي.
وحدث به شيخ من أهل أصبهان، يعرف بعبد الله بن محمد بن النعمان عن محمد بن منهال الضرير عن يزيد بن زريع عن الثوري عن منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة.
وتابعه معمر بن سهل الأهوازي عن أبي أحمد الزبيري عن الثوري.
والصحيح عن الثوري عن منصور عن إبراهيم قال: حدثت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكذلك رواه أصحاب منصور عن منصور مرسلاً، منهم فضيل بن عياض وجرير.اهـ
وقال ابن رجب ـ رحمه الله ـ في كتابه "لطائف المعارف"(ص368):
وقد اختلف جواب الإمام أحمد عن هذا الحديث فأجاب مرة بأنه قد روي خلافه، وذكر حديث حفصة، وأشار إلى أنه اختلف في إسناد حديث عائشة، فأسنده الأعمش، ورواه منصور عن إبراهيم مرسلاً.اهـ
وصحح الموصول:
الترمذي والبغوي والألباني والوادعي وربيع بن هادي.
وقال الترمذي ـ رحمه الله ـ في "سننه"(756):
هكذا روى غير واحد عن الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة وروى الثوري وغيره هذا الحديث عن منصور عن إبراهيم:
(( أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير صائما في العشر )) وروى أبو الأحوص عن منصور عن إبراهيم عن عائشة ولم يذكر فيه عن الأسود، وقد اختلفوا على منصور في هذا الحديث، ورواية الأعمش أصح وأوصل إسناداً.
قال وسمعت محمد بن أبان يقول سمعت وكيعاً يقول: الأعمش أحفظ لإسناد إبراهيم من منصور.اهـ
الثانية: عن الجواب عنه.
لم أجد خلال بحثي في هذا المسألة عن أحد ممن تقدم من السلف الصالح أو من بعدهم من الفقهاء المشهورين وأصحابهم أنه قال: بعدم استحباب صيام هذه الأيام، أو كراهتها، أو أنها بدعة، وإنما وجدت إشارة من بعض من أجاب عن هذا الحديث كالطحاوي وابن قيم الجوزية وابن رجب الحنبلي توحي بوجود اختلاف، لكن من دون ذكر لأحد بعينه، وأخشى أن يكون مرادهم من ذلك هو الاختلاف في صيام النبي صلى الله عليه وسلم لا الاختلاف بين العلماء في مشروعية صيام العشر، وقد جاءت إشارتهم هذه عند الجمع بين الأحاديث الواردة في صيامه وعدمه.
وقد أجيب عن هذا الحديث بأجوبة:
الأول: أن ترك النبي صلى الله عليه وسلم لصيامه قد يكون لعارض من مرض أو سفر أو غيرهما.
وقد ذكر هذا الجواب أبو العباس القرطبي والنووي وغيرهما.
الثاني:أنه يحتمل أن تكون عائشة لم تعلم بصيامه صلى الله عليه وسلم فإنه كان يقسم لتسع نسوة فلعله لم يتفق صيامه في نوبتها.
وقد ذكر هذا الجواب النووي وغيره.
الثالث: أن تركه صلى الله عليه وسلم قد يكون خشية أن يفرض على أمته كما نقل عنه في مواضع أخرى.
وقد ذكر هذا الجواب أبو العباس القرطبي وابن حجر العسقلاني وغيرهما.
الرابع: أن تركه صلى الله عليه وسلم قد يكون لأجل أنه إذا صام ضعف عن أن يعمل فيها بما هو أعظم منزلة من الصوم.
وقد أجاب بهذا الجواب الطحاوي.
الخامس: أن عائشة قد تكون أرادت أنه لم يصم العشر كاملاً.
وقد أجاب بهذا الجواب الإمام أحمد.
وما جاء في الحديث الصحيح عن عاشئة - رضي الله عنها - أنها قالت : ( ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم صام العشر قط ) ؛ وفي لفظ : ( ما صام النبي صلى الله عليه وسلم العشر قط ) . أخرجه الإمام مسلم في ( صحيحه ) ،سبب خفاء المسألة لاشتهاره عند طلاب العلم
وإليك الأحاديث الواردة في صوم العشر من ذي الحجة :
1 - أخرج النسائي في ( الكبرى ) ( 2/135 ) وفي ( الصغرى ) ( 2418 ) :
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي صَفْوَانَ الثَّقَفِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ الْحُرِّ بْنِ الصَّيَّاحِ عَنْ هُنَيْدَةَ بْنِ خَالِدٍ عَنْ امْرَأَتِهِ عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ :
( كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ الْعَشْرَ وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسَ ) .
قلت : هذا إسناد صحيح ؛ رجاله كلهم ثقات أثبات .
وأخرجه أيضا من طريق :
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي النَّضْرِ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو النَّضْرِ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَقَ الْأَشْجَعِيُّ كُوفِيٌّ عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ الْمُلَائِيِّ عَنْ الْحُرِّ بْنِ الصَّيَّاحِ عَنْ هُنَيْدَةَ بْنِ خَالِدٍ الْخُزَاعِيِّ عَنْ حَفْصَةَ قَالَتْ :(
أَرْبَعٌ لَمْ يَكُنْ يَدَعُهُنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صِيَامَ عَاشُورَاءَ وَالْعَشْرَ وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْغَدَاةِ ) .
وأخرجه أيضا أبو يعلى في ( مسنده ) ( 12/477 ) .
قلت : هذا إسناد ضعيف ؛ من أجل أبي إسحاق الأشجعي ، قال الحافظ في ( التقريب ) :
( مقبول ) ؛ يعني إذا لم ينفرد ؛ وقد توبع كما رأيت .
قلت : وللحديث لفظ آخر يزيل الإشكال عن صوم يوم العيد :
أخرجه النسائي في ( الكبرى ) ( 2/135 ) ، وفي ( الصغرى ) ( 2417 ) :
أَخْبَرَنِي أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ الْحُرِّ بْنِ الصَّيَّاحِ عَنْ هُنَيْدَةَ بْنِ خَالِدٍ عَنْ امْرَأَتِهِ عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَصُومُ تِسْعًا مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَيَوْمَ عَاشُورَاءَ وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ أَوَّلَ اثْنَيْنِ مِنْ الشَّهْرِ وَخَمِيسَيْنِ " .
قلت : هذا إسناد صحيح رجاله كلهم ثقات .
وللحديث لفظ آخر ؛ أخرجه الإمام أحمد في ( مسنده ) ( 22334 ) ط / الرسالة ، وأبو داود في ( سننه ) ( 2437 ) :
حَدَّثَنَا سُرَيْجٌ وَعَفَّانُ قَالَا حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ حَدَّثَنَا الْحُرُّ بْنُ الصَّيَّاحِ قَالَ سُرَيْجٌ عَنِ الْحُرِّ عَنْ هُنَيْدَةَ بْنِ خَالِدٍ عَنِ امْرَأَتِهِ عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ : " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ تِسْعَ ذِي الْحِجَّةِ وَيَوْمَ عَاشُورَاءَ وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ قَالَ عَفَّانُ أَوَّلَ اثْنَيْنِ مِنْ الشَّهْرِ وَخَمِيسَيْنِ " .
قال العلامة المحدث الألباني - رحمه الله - في ( صحيح أبي داود - الأم ) ( 7/196 ) :
( وهذا إسناد صحيح، ورجاله ثقات معروفون؛ غير هنيدة بن خالد، وقد
روى عنه جمع آخر من الثقات، وأورده ابن حبان في الطبقة الأولى من "ثقات
التابعين " (3/284) . قال الحافظ:
" قلت: وذكره أيضاً في الصحابة، وقال: وله صحبة. وكذا ذكره ابن عبد البر
في "الاستيعاب "... ". وقال في " الإصابة ":
" وقال ابن منده: عداده في صحابة الكوفة. وقال أبو إسحاق: كانت أمه
تحت عمر بن الخطاب ".
وأما امرأته؛ فلم أجد لها ترجمة! غير أن الحافظ رحمه الله ذكر في فصل
"المبهمات من النسوة"- من "التقريب "-: أنها صحابية. والله أعلم.
لكن قد اختلفوا على الحُرِّ بن الصباح في إسناده ومتنه:
1- أما الإسناد فعلى وجوه أربعة:
الأول: رواية أبي عوانة هذه عنه عن هنيدة عن امرأته... وأخرجها النسائي
أيضاً (1/328) ، وأحمد (6/288) ، والطحاوي (1/337) .
الثاني: رواه زهير- وهو ابن معاوية- عن الحر قال: سمعت هنيدة الخزاعي
قال: دخلت على أم المؤمنين سمعتها تقول...
أخرجه النسائي؛ فأسقط من الإسناد امرأة هُنَيْدَةَ.
الثالث: قال أبو إسحاق الأشجعي: عن عمرو بن قيس المُلائِي عنه عن
هنيدة عن حفصة قالت... فذكره نحوه: أخرجه النسائي.
وهذا الوجه كالذي قبله؛ إلا أنه سمى أم المؤمنين: حفصة.
الرابع: قال شريك: عنه عن ابن عمر... نحوه: أخرجه النسائي وابن أبي
حاتم في "العلل " (1/231) كما يأتي.
قلت: وأصح هذه الوجوه عندي: الأول والثاني؛ لثقة رجالهما، والتوفيق
بينهما سهل بإذن الله تعالى، وذلك بحمل الأول على أنه من (المزيد فيما اتصل
من الأسانيد) ؛ فإن الثاني إسناده صحيح متصل بالسماع من هنيدة لأم المؤمنين،
فالظاهر أنه سمعه أولاً من امرأته، ثم دخل بنفسه على أم المؤمنين، فسمعه منها
مباشرة. وهذا بَينٌ إن شاء الله تعالى.
وأما الوجه الثالث؛ ففيه أبو إسحاق الأشجعي؛ قال الذهبي:
" ما علمت أحداً روى عنه غير أبي النضر هاشم ". يعني: أنه مجهول. وقال
الحافظ: " هو مقبول ".
قلت: على أنه مطابق للوجه الثاني كما هو ظاهر؛ إلا أنه سمى أم المؤمنين:
حفصة، والخطب في هذا سهل.
وأما الوجه الرابع؛ فهو ظاهر الضعف؛ لسوء حفظ شريك- وهو ابن عبد الله
القاضي-، وقد شذ في إسناده عن الوجوه الثلاثة، فهو منكر.
وإلى ذلك يشير أبو حاتم وأبو زرعة الرازيان فيما نقله عنه ابن أبي حاتم في
"العلل "- قال:
" سألت أبي وأبا زرعة عن حديث رواه شريك عن الحُر بن الصباح عن ابن
عمر..؟ فقال: هذا خطأ؛ إنما هو: الحر بن الصباح عن هنيدة بن خالد عن امرأته
عن أم سلمة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"!
قلت: لم أر في شيء من الوجوه المذكورة ذِكْرَ أم سلمة ! وإنما هو أم المؤمنين،
وأما أم سلمة فهو في طريق أخرى عن هنيدة عن أمه (وليس عن امرأته) عن أم
سلمة: أخرجه المصنف، كما سيأتي ذكره في آخر الكلام على هذا الحديث.
وأما الاختلاف في المتن؛ فهو على وجوه أربعة أيضاً:
الأول: رواية أبي عوانة: أول اثنين من الشهر والخميسين.
وهي في الكتاب كما تقدم.
الثاني: رواية زهير بن معاوية مثله؛ لكنه قال: ثم الخميس، ثم الخميس
الذي يليه.
الثالث: رواية الأشجعي عن عمرو بن قيس بلفظ: ثلاثة أيام من كل
شهر... ولم يزد.
الرابع: قول شريك... مثل رواية زهير تماماً.
قلت: والعمدة من هذه الوجوه إنما هو الوجه الثاني، لأنه- مع صحة سنده-
فيه زيادة بيان على الوجه الأول؛ فضلاً عن الوجه الثالث.
والوجه الرابع شاهد له لا بأس به.
وقد وجدت للحُرِّ بن الصباح متابعاً، يرويه الحسن بن عبيد الله عن هُنَيْدَةَ
الخُزَاعي عن أمِّه عن أم سلمة رضي الله عنها قالت:
كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأمرني أن أصوم ثلاثة أيام من الشهر: الاثنين والخميس
والخميس.
أخرجه البيهقي (4/295) .
وهذه متابعة لا بأس بها؛ لكن الحسن هذا فيه ضعف؛ وقد اختلف عليه في
متنه. فقيل عنه هكذا. وقيل: عنه بلفظ:
الاثنين، والجمعة، والخميس.
أخرجه المصنف وغيره.
وقيل غير ذلك، مما سأبينه إن شاء الله تعالى في الكتاب الآخر برقم (422/2) ).
قلت : هذه الأحاديث تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم تسع ذي الحجة كلها ؛ وهو فهم بعض أئمة الحديث إذ عنونوا له باب صوم العشر .
وأما حديث عائشة - رضي الله عنها - فالجواب عنه هو :
قال الحافظ البيهقي في ( الكبرى ) ( 4/284 ) جوابا عن حديث عائشة :
والمثبث أولى من النافى ؛ مع ما مضى من حديث ابن عباس.
قلت : يشير إلى حديث : " كان يصوم العشر " .
وحديث ابن عباس المعروف " ما من أيام العمل الصالح أحب .... " الخ .
قال الإمام النووي في ( شرح مسلم ) :
( قول عائشة ( ما رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم صائما في العشر قط ) وفي رواية : لم يصم العشر .
قال العلماء : هذا الحديث مما يوهم كراهة صوم العشر .
والمراد بالعشر هنا الأيام التسعة من أول ذى الحجة ؛ قالوا : وهذا مما يتأول فليس في صوم هذه التسعة كراهة بل هي مستحبة استحبابا شديدا لاسيما التاسع منها وهو يوم عرفة وقد سبقت الأحاديث في فضله وثبت في صحيح البخارى أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : " ما من أيام العمل الصالح فيها أفضل منه في هذه " ، يعنى العشر الأوائل من ذى الحجة ؛ فيتأول قولها : لم يصم العشر . أنه لم يصمه لعارض مرض أو سفر أو غيرهما أو أنها لم تره صائما فيه ولا يلزم من ذلك عدم صيامه في نفس الأمر ويدل على هذا التأويل حديث هنيدة بن خالد عن امرأته عن بعض أزواج النبى صلى الله عليه و سلم قالت : " كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصوم تسع ذى الحجة ويوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر الاثنين من الشهر والخميس " . ورواه أبو داود وهذا لفظه وأحمد والنسائى وفي روايتهما وخميسين . والله أعلم ) .
قال شيخنا العلامة المحدث عبدالمحسن العباد - حفظه الله - في ( شرح سنن أبي داود ) :
( قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب في صوم العشر. حدثنا مسدد حدثنا أبو عوانة عن الحر بن الصياح عن هنيدة بن خالد عن امرأته عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصوم تسع ذي الحجة، ويوم عاشوراء، وثلاثة أيام من كل شهر أول اثنين من الشهر والخميس) ]. أورد أبو داود صيام العشر، أي: عشر ذي الحجة، ولكن المقصود التسع، وقد اشتهرت بهذا الاسم تغليباً، وإلا فإن اليوم العاشر يوم العيد، ولا يجوز صيامه بحال من الأحوال؛ لأنه يحرم صوم العيدين وأيام التشريق، وأيام التشريق لم يرخص في أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي، أما العيدان فلا يجوز صيامهما بحال من الأحوال، بل يجب إفطارهما. وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على صيام العشر، وجاء حديث عام يشمل الصيام وغير الصيام، وجاء حديث في ترجمة أخرى بخلاف ذلك يعني: في الإفطار في أيام العشر، ولكن صيام العشر قربة من أفضل القربات، وداخل تحت عموم حديث : (ما من أيامٍ العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام العشر). قوله: [ (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجة) ]. يعني: العشر من ذي الحجة ما عدا يوم العيد. .... ) .
قلت : قال بعضهم : إن المراد من الحديث هو صوم اليوم التاسع فقط .
هذا غير صحيح لأن لفظ : ( كان يصوم العشر ) ، لا يحتمله ؛ وكلك لفظ : ( كات يصوم تسعا من ذي الحجة ) ؛ ولو أراد اليوم التاسع فقط ، لقال : " كان يصوم التاسع من ذي الحجة " ؛ فإني لم أجده بهذا اللفظ
منقول بتصرف
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد:
فهذا جزء لطيف في سنية صوم الأيام العشر من شهر ذي الحجة، نفع الله به الكاتب والقارئ، إنه سميع مجيب.
وسيكون الكلام في مسائل:
المسألة الأولى / وهي عن المراد بالأيام العشر من ذي الحجة التي يستحب صيامها.
قال النووي ـ رحمه الله ـ في "شرح صحيح مسلم"(8/71رقم:1176):
والمراد بالعشر هنا الأيام التسعة من أول ذي الحجة.اهـ
وقال ابن رجب ـ رحمه الله ـ في "لطائف المعارف"(ص368):
الصيام إذا أضيف إلى العشر فالمراد صيام ما يجوز صومه منه.اهـ
وإطلاق العشر عليها محمول على الغالب، وذلك لثبوت النهي عن صوم يوم العيد، وهو اليوم العاشر منها، وقد أشار إلى ذلك ابن حجر العسقلاني ـ رحمه الله ـ في كتابه "فتح الباري"(3/390).
المسألة الثانية / وهي عن مستند هذا السنية.
يدل على الترغيب في صيام هذه الأيام، وأنه سنة محمودة ما يأتي:
أولاً: ما أخرجه البخاري في "صحيحه"(969) عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
(( ما العمل في أيام أفضل منها في هذه، قالوا: ولا الجهاد، قال: ولا الجهاد، إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء )).
وفي لفظ عند الترمذي في "سننه"(757):
(( ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر، فقالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء)).
ووجه الاستدلال من هذا الحديث:
أن العمل الصالح عام، فيدخل فيه الصيام، لأنه من الأعمال الصالحة، بل من أفضلها.
ثانياً: ما أخرجه عبد الرزاق في "مصنفه"(4/257رقم:7715) عن الثوري عن عثمان بن موهب قال سمعت أبا هريرة وسأله رجل قال:
(( إن علي أياماً من رمضان أفأصوم العشر تطوعاً؟ قال: لا، قال: ولم؟ قال: ابدأ بحق الله، ثم تطوع بعد ما شئت )).
وإسناده صحيح.
ووجه الاستدلال من هذا الأثر:
أن أبا هريرة رضي الله عنه لم ينكر على الرجل التطوع بصيام العشر، بل أقره على ذلك إذا قضى ما بقي عليه من شهر رمضان.
وهذا يدل على أن صيامها معروف في عهد السلف الصالح، وعلى رأسهم الصحابة.
المسألة الثالثة / وهي عن أقوال أهل العلم عند حديث ابن عباس رضي الله عنه (( ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر )).
أولاً:بوب الإمام أبو داود ـ رحمه الله ـ على هذا الحديث، وحديث آخر في "سننه"(2438):
باب في صوم العشر.
ثانياً: بوب عليه الإمام ابن ماجه ـ رحمه الله ـ في "سننه"(1727) مع حديث عائشة:
باب صيام العشر.
ثالثاً: قال الطحاوي ـ رحمه الله ـ في كتابه "مشكل الآثار"(7/419):
وإن كان الصوم فيها له من الفضل ما له، مما قد ذكر في هذه الآثار التي قد ذكرناها فيه، وليس ذلك بمانع أحداً من الميل إلى الصوم فيها، لا سيما من قدر على جمع الصوم مع غيره من الأعمال التي يتقرب بها إلى الله عز وجل سواه.اهـ
رابعاً:قال ابن حزم ـ رحمه الله ـ في كتابه "المحلى"7/19مسألة رقم:794):
ونستحب صيام أيام العشر من ذي الحجة قبل النحر، لما حدثناه ناه حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن الأعمش عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (( ما من أيام أحب إلى الله فيهم العمل أو أفضل فيهن العمل من أيام العشر، قيل: يا رسول الله ولا الجهاد قال: ولا الجهاد إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء )).
قال أبو محمد: هو عشر ذي الحجة, والصوم عمل بر، فصوم عرفة يدخل في هذا أيضاً.اهـ
خامساً: قال أبو العباس القرطبي ـ رحمه الله ـ في كتابه "المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم"(5/32):
وقول عائشة : (( ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائمًا في العشر قط )) تعني به: عشر ذي الحجة، ولا يفهم منه: أن صيامه مكروه، بل أعمال الطاعات فيه أفضل منها في غيره، بدليل ما رواه الترمذي من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( ما من أيَّام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر، قالوا : يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله ؟ قال: (( ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله، فلم يرجع من ذلك بشيء )) قال: هذا حديث حسن صحيح.اهـ
سادساً: قال النووي ـ رحمه الله ـ في "شرح صحيح مسلم"(8/71رقم:1176):
فليس في صوم هذه التسعة كراهة، بل هي مستحبة استحباباً شديداً لاسيما التاسع منها، وهو يوم عرفة، وقد سبقت الأحاديث في فضله، وثبت في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( ما من أيام العمل الصالح فيها أفضل منه في هذه )) يعنى العشر الأوائل من ذي الحجة.اهـ
وبوب على هذا الحديث في كتابه "رياض الصالحين"(رقم:1249) فقال:
باب فضل الصوم وغيره في العشر الأول من ذي الحجة.اهـ
سابعاً: قال الحافظ ابن رجب ـ رحمه الله ـ في كتابه "فتح الباري"(6/114-119):
وهذا الحديث حديث عظيم جليل..
وهذا الحديث نص في أن العمل في عشر ذي الحجة أفضل من جميع الأعمال الفاضلة في غيره،ولا يستثنى من ذلك سوى أفضل أنواع الجهاد، وهو أن يخرج الرجل بنفسهوماله، ثم لا يرجع منهما بشيء،فهذا الجهاد بخصوص يفضل على العمل في العشر، وأما سائر أنواع الجهاد مع سائر الأعمال، فإن العمل في عشر ذي الحجة أفضل منها.اهـ
وقال في كتابه "لطائف المعارف"0ص365-366):
وقد دل هذا الحديث على أن العمل في أيامه أحب إلى الله من العمل في أيام الدنيا من غير استثناء شيء منها، وإذا كان أحب إلى الله فهو أفضل عنده.اهـ
وقال أيضاً (ص367):
وقد دل حديث ابن عباس على مضاعفة جميع الأعمال الصالحة في العشر من غير استثناء شيء منها.اهـ
ثامناً: قال الحافظ ابن حجر العسقلاني ـ رحمه الله ـ في كتابه "فتح الباري"03/390):
واستدل به على فضل صيام عشر ذي الحجة، لاندراج الصوم في العمل، ..والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتى ذلك في غيره.اهـ
تاسعاً: قال الشوكاني ـ رحمه الله ـ في كتابه "نيل الأوطار"(4/323):
وقد تقدم في كتاب العيدين أحاديث تدل على فضيلة العمل في عشر ذي الحجة على العموم، والصوم مندرج تحتها.اهـ
وقال أيضاً:
على أنه قد ثبت من قوله ما يدل على مشروعية صومها كما في حديث الباب.اهـ
عاشراً: قال ابن باز ـ رحمه الله ـ كما في "مجموع فتاويه"(15/418أو25/216-217):
وقد دل على فضل العمل الصالح في أيام العشر حديث ابن عباس المخرج في صحيح البخاري، وصومها من العمل الصالح، فيتضح من ذلك استحباب صومها في حديث ابن عباس.اهـ
وقال أيضاً كما في "الدرر البهية من الفوائد البازية"(1/137رقم:754):
ولكن حديث ابن عباس في الباب الذي بعده يدل على مشروعية صيام هذه الأيام.اهـ
وقال أيضاً (1/91رقم:2438):
وهذا الحديث يعم الصيام والقراءة والتكبير.اهـ
حادي عشر: قال ابن عثيمين ـ رحمه الله ـ كما في اللقاء الشهري"(26/1):
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: (( ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر- أي: عشر ذي الحجة- قالوا: يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء))وهذا الحديث يدل على أنه ينبغي لنا أن نكثر من الأعمال الصالحة في عشر ذي الحجة، فمنها: أن نكثر من التسبيح والتهليل والتكبير، فنقول: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد، نكثر من الصدقة،لأنها من الأعمال الصالحة، نكثر من الصلاة، لأنها أفضل الأعمال البدنية، نكثر من قراءة القرآن، لأن القرآن أفضل الذكر، نكثر من كل عمل صالح، ونصوم أيام العشر، لأن الصيام من الأعمال الصالحة، وحتى لو لم يرد فيه حديث بخصوصه فهو داخل في العموم، لأنه عمل صالح، فنصوم هذه الأيام التسعة، لأن العاشر هو يوم العيد ولا يصام، ويتأكد الصوم يوم عرفة إلا للحجاج، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في يوم عرفة: (( أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده )).اهـ
وقال أيضاً كما في "شرح رياض الصالحين"(5/303):
وقوله: (( العمل الصالح )) يشمل الصلاة والصدقة والصيام والذكر والتكبير وقراءة القرآن وبر الوالدين وصلة الأرحام والإحسان إلى الخلق وحسن الجوار وغير ذلك..
ففي هذا دليل على فضيلة العمل الصالح في أيام العشر الأول من شهر ذي الحجة، من صيام وغيره.اهـ
المسألة الرابعة / وهي عن أقوال المذاهب الفقهية المشهورة وغيرهم في استحباب صيام هذه الأيام.
أولاً: المذهب الحنفي.
قال علاء الدين الكاساني ـ رحمه الله ـ في كتابه "بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع"(2/108):
ولا بأس بقضاء رمضان في عشر ذي الحجة، وهو مذهب عمر وعامة الصحابة رضي الله عنهم إلا شيئاً حكي عن علي رضي الله عنه أنه قال: يكره فيها، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن قضاء رمضان في العشر، والصحيح قول العامة لقوله تعالى: { فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر } مطلقا من غير فصل، ولأنها وقت يستحب فيها الصوم، فكان القضاء فيها أولى من القضاء في غيرها، وما روي من الحديث غريب في حد الأحاديث، فلا يجوز تقييد مطلق الكتاب، وتخصيصه بمثله، أو نحمله على الندب في حق من اعتاد التنفل بالصوم في هذه الأيام، فالأفضل في حقه أن يقضي في غيرها لئلا تفوته فضيلة صوم هذه الأيام، ويقضي صوم رمضان في وقت آخر، والله أعلم بالصواب.اهـ
وجاء في "الفتاوى الهندية"(1/201):
ويستحب صوم تسعة أيام من أول ذي الحجة كذا في السراج الوهاج.اهـ
ثانياً: المذهب المالكي.
جاء في "حاشية الصاوي على الشرح الصغير"(3/251):
(و) ندب (صوم) يوم (عرفة لغير حاج) وكره لحاج، أي لأن الفطر يقويه على الوقوف بها.
(و) ندب صوم (الثمانية) الأيام (قبله) أي عرفة.اهـ
وجاء في "شرح مختصر خليل" للخرشي (6/488):
(ص) وصوم يوم عرفة إن لم يحج وعشر ذي الحجة.
(ش): يريد أن صوم يوم عرفة مستحب في حق غير الحاج، وأما هو فيستحب فطره ليتقوى على الدعاء وقد أفطر النبي صلى الله عليه وسلم في الحج وأن صيام عشر ذي الحجة مستحب.اهـ
وجاء في "منح الجليل شرح مختصر خليل"(4/12):
(و) ندب صوم باقي غالب (عشر ذي الحجة).اهـ
ثالثاً: المذهب الشافعي.
قال النووي ـ رحمه الله ـ في كتابه "روضة الطالبين"(2/254أو2/388):
ومن المسنون، صوم عشر ذي الحجة، غير العيد.اهـ
وجاء في "غاية البيان شرح زبد ابن رسلان"(1/158):
يسن صوم عشر ذي الحجة غير العيد (وست شوال) بعد يوم العيد.اهـ
رابعاً: المذهب الحنبلي.
قال المرداوي ـ رحمه الله ـ في كتابه "الإنصاف"(3/345):
قوله: "ويستحب صوم عشر ذي الحجة".
بلا نزاع، وأفضله يوم التاسع وهو يوم عرفة ثم يوم الثامن، وهو يوم التروية، وهذا المذهب وعليه الأصحاب.اهـ
وقال مجد الدين أبو البركات ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في كتابه "المحرر في الفقه"(1/231):
ومن السنة إتباع رمضان بست من شوال وإن أفردت، وصوم عشر ذي الحجة، وآكده يوم التروية وعرفة.اهـ
وقال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ في "شرح العمدة"(2/553قسم الصيام):
قال أصحابنا: " ويستحب صوم عشر ذي الحجة".
وفي الحقيقة المعني صوم تسع ذي الحجة، وآكدها يوم التروية وعرفة.اهـ
خامساً: المذهب الظاهري.
قال ابن حزم ـ رحمه الله ـ في كتابه "المحلى"7/19مسألة رقم:794):
ونستحب صيام أيام العشر من ذي الحجة قبل النحر، لما حدثناه ناه حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي نا الدبري نا عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن الأعمش عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (( ما من أيام أحب إلى الله فيهم العمل أو أفضل فيهن العمل من أيام العشر، قيل: يا رسول الله ولا الجهاد قال: ولا الجهاد إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء )).
قال أبو محمد: هو عشر ذي الحجة, والصوم عمل بر، فصوم عرفة يدخل في هذا أيضاً.اهـ
سادساً: قال ابن رجب الحنبلي ـ رحمه الله ـ في كتابه "لطائف المعارف"(ص386):
وممن كان يصوم العشر عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وقد تقدم عن الحسن وابن سيرين وقتادة ذكر فضل صيامها، وهو قول أكثر العلماء أو كثير منهم.اهـ
وقال في كتابه "فتح الباري"(6/119):
وقد كان عمر يستحب قضاء رمضان في عشر ذي الحجة، لفضل أيامه، وخالفه في ذَلِكَ علي، وعلل قوله باستحباب تفريغ أيامه للتطوع، وبذلك علله أحمد وإسحاق، وعن أحمد في ذَلِكَ روايتان.اهـ
سابعاً: المنقول من الآثار عن التابعين.
ومن هذه الآثار:
أولاً: ما نقل عن إبراهيم النخعي وسعيد بن جبير.
حيث أخرج عبد الرزاق في "مصنفه"(2/256رقم:7713)عن الثوري عن حماد قال:
(( سألت إبراهيم وسعيد بن جبير عن رجل عليه أيام من رمضان أيتطوع في العشر؟ قالا: يبدأ بالفريضة )).
وسنده صحيح.
ثانيا: ما نقل عن عطاء بن أبي رباح.
حيث أخرج عبد الرزاق في "مصنفه"(2/256رقم:7713)عن ابن جريج عن عطاء:
(( كره أن يتطوع الرجل بصيام في العشر وعليه صيام واجب؟ قال: لا، ولكن صم العشر، واجعلها قضاء )).
ثم قال المحقق في الحاشية:
أخشى أن يكون سقط من هنا: " قلت: لعطاء " بدليل قوله" (( قال: لا )) ثم وجدت الساقط في "ز" فأثبته.اهـ
وعلى كلامه هذا يكون الإسناد صحيحاً، ولا يعل بعنعنة ابن جريج.
وهذان الأثران ظاهران في أن التطوع بصيام العشر كان معروفاً في عصر التابعين.
المسألة الخامسة / عن الإجابة على حديث عائشة رضي الله عنه:
(( ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائماً في العشر قط )).
وسيكون الكلام على هذا الحديث من جهتين:
الأولى: عن تخريجه ودرجته.
وقد أخرجه مسلم في "صحيحه"(1176).
إلا أنه اختلف على إبراهيم النخعي في وصله وإرساله، فوصله عنه الأعمش، وأرسله منصور.
وقد اختلف العلماء في أيهما أثبت في إبراهيم، ودونكم ما ذكره ابن رجب الحنبلي ـ رحمه الله ـ في كتابه "شرح علل الترمذي"(1/271) حيث قال:
ذكر علي بن المديني عن يحيى بن سعيد قال: " ما أحد أثبت عن مجاهد وإبراهيم من منصور، قلت ليحيى: منصور أحسن حديثاً عن مجاهد من أبي نجيح؟ قال: نعم، وأثبت، وقال: منصور أثبت الناس".
وقال أحمد حدثني يحيى قال: قال سفيان: " كنت إذا حدثت الأعمش عن بعض أصحاب إبراهيم قال، فإذا قلت: منصور سكت".
وقال ابن المديني عن يحيى عن سفيان قال: " كنت لا أحدث الأعمش عن أحد إلا رده، فإذا قلت: منصوري سكت".
وذكر ابن أبي خيثمة عن يحيى بن معين قال: " لم يكن أحد أعلم بحديث منصور من سفيان الثوري"
ورجحت طائفة الأعمش على منصور في حفظ إسناد حديث النخعي.
قال وكيع : "الأعمش أحفظ لإسناد إبراهيم من منصور".
وقد ذكره الترمذي في باب التشديد في البول من " كتاب الطهارة " واستدل به على ترجيح قول الأعمش في حديث ابن عباس في القبرين: " سمعت مجاهداً يحدث عن طاووس عن ابن عباس ".
وأما منصور فرواه عن مجاهد عن ابن عباس.
وكذلك ذكره أيضاً في " كتاب الصيام " في باب صيام العشر، واستدل به على ترجيح رواية الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة: (( ما رأيت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم صائماً في العشر قط )) على قول منصور، فإنه أرسله.
ورجحت طائفة الحكم، قال عبد الله بن أحمد: سألت أبي: " من أثبت الناس في إبراهيم؟ قال: الحكم ثم منصور".
وقال أيضاً: قلت لأبي: أي أصحاب إبراهيم أحب إليك؟ قال: الحكم ثم منصور، ما أقربهما، ثم قال: كانوا يرون أن عامة حديث أبي معشر إنما هو عن حماد - يعني ابن أبي سليمان ".
وقال حرب عن أحمد: " كان يحيى بن سعيد يقدم منصوراً والحكم على الأعمش ".
وقال ابن المديني: قلت ليحيى بن سعيد: "أي أصحاب إبراهيم أحب إليك؟ قال : الحكم ومنصور، قلت: أيهما أحب إليك؟ قال: ما أقربهما".اهـ
وقد ذكر الدارقطني ـ رحمه الله ـ هذا الحديث في "التتبع"(ص529) وقال عقب سوقه عن لأعمش موصولاً:
وخالفه منصور، رواه عن إبراهيم مرسلاً.اهـ
وقال في"العلل"(15/74-75رقم:3847):
يرويه إبراهيم النخعي، واختلف عنه، فرواه الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة.
ولم يختلف عن الأعمش فيهحدث به عنه، أبو معاوية وحفص بن غياث ويعلى بن عبيد وزائدة بن قدامة و... بن سليمان والقاسم بن معن وأبو عوانة.
واختلف عن الثوري، فرواه ابن مهدي عن الثوري عن الأعمش كذلك.
وتابعه يزيد بن زريع، واختلف عنه، فرواه حميد المروزي عن يزيد بن زريع عن الثوري عن الأعمش، مثل قول عبد الرحمن بن مهدي.
وحدث به شيخ من أهل أصبهان، يعرف بعبد الله بن محمد بن النعمان عن محمد بن منهال الضرير عن يزيد بن زريع عن الثوري عن منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة.
وتابعه معمر بن سهل الأهوازي عن أبي أحمد الزبيري عن الثوري.
والصحيح عن الثوري عن منصور عن إبراهيم قال: حدثت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكذلك رواه أصحاب منصور عن منصور مرسلاً، منهم فضيل بن عياض وجرير.اهـ
وقال ابن رجب ـ رحمه الله ـ في كتابه "لطائف المعارف"(ص368):
وقد اختلف جواب الإمام أحمد عن هذا الحديث فأجاب مرة بأنه قد روي خلافه، وذكر حديث حفصة، وأشار إلى أنه اختلف في إسناد حديث عائشة، فأسنده الأعمش، ورواه منصور عن إبراهيم مرسلاً.اهـ
وصحح الموصول:
الترمذي والبغوي والألباني والوادعي وربيع بن هادي.
وقال الترمذي ـ رحمه الله ـ في "سننه"(756):
هكذا روى غير واحد عن الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة وروى الثوري وغيره هذا الحديث عن منصور عن إبراهيم:
(( أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير صائما في العشر )) وروى أبو الأحوص عن منصور عن إبراهيم عن عائشة ولم يذكر فيه عن الأسود، وقد اختلفوا على منصور في هذا الحديث، ورواية الأعمش أصح وأوصل إسناداً.
قال وسمعت محمد بن أبان يقول سمعت وكيعاً يقول: الأعمش أحفظ لإسناد إبراهيم من منصور.اهـ
الثانية: عن الجواب عنه.
لم أجد خلال بحثي في هذا المسألة عن أحد ممن تقدم من السلف الصالح أو من بعدهم من الفقهاء المشهورين وأصحابهم أنه قال: بعدم استحباب صيام هذه الأيام، أو كراهتها، أو أنها بدعة، وإنما وجدت إشارة من بعض من أجاب عن هذا الحديث كالطحاوي وابن قيم الجوزية وابن رجب الحنبلي توحي بوجود اختلاف، لكن من دون ذكر لأحد بعينه، وأخشى أن يكون مرادهم من ذلك هو الاختلاف في صيام النبي صلى الله عليه وسلم لا الاختلاف بين العلماء في مشروعية صيام العشر، وقد جاءت إشارتهم هذه عند الجمع بين الأحاديث الواردة في صيامه وعدمه.
وقد أجيب عن هذا الحديث بأجوبة:
الأول: أن ترك النبي صلى الله عليه وسلم لصيامه قد يكون لعارض من مرض أو سفر أو غيرهما.
وقد ذكر هذا الجواب أبو العباس القرطبي والنووي وغيرهما.
الثاني:أنه يحتمل أن تكون عائشة لم تعلم بصيامه صلى الله عليه وسلم فإنه كان يقسم لتسع نسوة فلعله لم يتفق صيامه في نوبتها.
وقد ذكر هذا الجواب النووي وغيره.
الثالث: أن تركه صلى الله عليه وسلم قد يكون خشية أن يفرض على أمته كما نقل عنه في مواضع أخرى.
وقد ذكر هذا الجواب أبو العباس القرطبي وابن حجر العسقلاني وغيرهما.
الرابع: أن تركه صلى الله عليه وسلم قد يكون لأجل أنه إذا صام ضعف عن أن يعمل فيها بما هو أعظم منزلة من الصوم.
وقد أجاب بهذا الجواب الطحاوي.
الخامس: أن عائشة قد تكون أرادت أنه لم يصم العشر كاملاً.
وقد أجاب بهذا الجواب الإمام أحمد.
وما جاء في الحديث الصحيح عن عاشئة - رضي الله عنها - أنها قالت : ( ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم صام العشر قط ) ؛ وفي لفظ : ( ما صام النبي صلى الله عليه وسلم العشر قط ) . أخرجه الإمام مسلم في ( صحيحه ) ،سبب خفاء المسألة لاشتهاره عند طلاب العلم
وإليك الأحاديث الواردة في صوم العشر من ذي الحجة :
1 - أخرج النسائي في ( الكبرى ) ( 2/135 ) وفي ( الصغرى ) ( 2418 ) :
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي صَفْوَانَ الثَّقَفِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ الْحُرِّ بْنِ الصَّيَّاحِ عَنْ هُنَيْدَةَ بْنِ خَالِدٍ عَنْ امْرَأَتِهِ عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ :
( كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ الْعَشْرَ وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسَ ) .
قلت : هذا إسناد صحيح ؛ رجاله كلهم ثقات أثبات .
وأخرجه أيضا من طريق :
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي النَّضْرِ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو النَّضْرِ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَقَ الْأَشْجَعِيُّ كُوفِيٌّ عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ الْمُلَائِيِّ عَنْ الْحُرِّ بْنِ الصَّيَّاحِ عَنْ هُنَيْدَةَ بْنِ خَالِدٍ الْخُزَاعِيِّ عَنْ حَفْصَةَ قَالَتْ :(
أَرْبَعٌ لَمْ يَكُنْ يَدَعُهُنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صِيَامَ عَاشُورَاءَ وَالْعَشْرَ وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْغَدَاةِ ) .
وأخرجه أيضا أبو يعلى في ( مسنده ) ( 12/477 ) .
قلت : هذا إسناد ضعيف ؛ من أجل أبي إسحاق الأشجعي ، قال الحافظ في ( التقريب ) :
( مقبول ) ؛ يعني إذا لم ينفرد ؛ وقد توبع كما رأيت .
قلت : وللحديث لفظ آخر يزيل الإشكال عن صوم يوم العيد :
أخرجه النسائي في ( الكبرى ) ( 2/135 ) ، وفي ( الصغرى ) ( 2417 ) :
أَخْبَرَنِي أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ الْحُرِّ بْنِ الصَّيَّاحِ عَنْ هُنَيْدَةَ بْنِ خَالِدٍ عَنْ امْرَأَتِهِ عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَصُومُ تِسْعًا مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَيَوْمَ عَاشُورَاءَ وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ أَوَّلَ اثْنَيْنِ مِنْ الشَّهْرِ وَخَمِيسَيْنِ " .
قلت : هذا إسناد صحيح رجاله كلهم ثقات .
وللحديث لفظ آخر ؛ أخرجه الإمام أحمد في ( مسنده ) ( 22334 ) ط / الرسالة ، وأبو داود في ( سننه ) ( 2437 ) :
حَدَّثَنَا سُرَيْجٌ وَعَفَّانُ قَالَا حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ حَدَّثَنَا الْحُرُّ بْنُ الصَّيَّاحِ قَالَ سُرَيْجٌ عَنِ الْحُرِّ عَنْ هُنَيْدَةَ بْنِ خَالِدٍ عَنِ امْرَأَتِهِ عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ : " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصُومُ تِسْعَ ذِي الْحِجَّةِ وَيَوْمَ عَاشُورَاءَ وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ قَالَ عَفَّانُ أَوَّلَ اثْنَيْنِ مِنْ الشَّهْرِ وَخَمِيسَيْنِ " .
قال العلامة المحدث الألباني - رحمه الله - في ( صحيح أبي داود - الأم ) ( 7/196 ) :
( وهذا إسناد صحيح، ورجاله ثقات معروفون؛ غير هنيدة بن خالد، وقد
روى عنه جمع آخر من الثقات، وأورده ابن حبان في الطبقة الأولى من "ثقات
التابعين " (3/284) . قال الحافظ:
" قلت: وذكره أيضاً في الصحابة، وقال: وله صحبة. وكذا ذكره ابن عبد البر
في "الاستيعاب "... ". وقال في " الإصابة ":
" وقال ابن منده: عداده في صحابة الكوفة. وقال أبو إسحاق: كانت أمه
تحت عمر بن الخطاب ".
وأما امرأته؛ فلم أجد لها ترجمة! غير أن الحافظ رحمه الله ذكر في فصل
"المبهمات من النسوة"- من "التقريب "-: أنها صحابية. والله أعلم.
لكن قد اختلفوا على الحُرِّ بن الصباح في إسناده ومتنه:
1- أما الإسناد فعلى وجوه أربعة:
الأول: رواية أبي عوانة هذه عنه عن هنيدة عن امرأته... وأخرجها النسائي
أيضاً (1/328) ، وأحمد (6/288) ، والطحاوي (1/337) .
الثاني: رواه زهير- وهو ابن معاوية- عن الحر قال: سمعت هنيدة الخزاعي
قال: دخلت على أم المؤمنين سمعتها تقول...
أخرجه النسائي؛ فأسقط من الإسناد امرأة هُنَيْدَةَ.
الثالث: قال أبو إسحاق الأشجعي: عن عمرو بن قيس المُلائِي عنه عن
هنيدة عن حفصة قالت... فذكره نحوه: أخرجه النسائي.
وهذا الوجه كالذي قبله؛ إلا أنه سمى أم المؤمنين: حفصة.
الرابع: قال شريك: عنه عن ابن عمر... نحوه: أخرجه النسائي وابن أبي
حاتم في "العلل " (1/231) كما يأتي.
قلت: وأصح هذه الوجوه عندي: الأول والثاني؛ لثقة رجالهما، والتوفيق
بينهما سهل بإذن الله تعالى، وذلك بحمل الأول على أنه من (المزيد فيما اتصل
من الأسانيد) ؛ فإن الثاني إسناده صحيح متصل بالسماع من هنيدة لأم المؤمنين،
فالظاهر أنه سمعه أولاً من امرأته، ثم دخل بنفسه على أم المؤمنين، فسمعه منها
مباشرة. وهذا بَينٌ إن شاء الله تعالى.
وأما الوجه الثالث؛ ففيه أبو إسحاق الأشجعي؛ قال الذهبي:
" ما علمت أحداً روى عنه غير أبي النضر هاشم ". يعني: أنه مجهول. وقال
الحافظ: " هو مقبول ".
قلت: على أنه مطابق للوجه الثاني كما هو ظاهر؛ إلا أنه سمى أم المؤمنين:
حفصة، والخطب في هذا سهل.
وأما الوجه الرابع؛ فهو ظاهر الضعف؛ لسوء حفظ شريك- وهو ابن عبد الله
القاضي-، وقد شذ في إسناده عن الوجوه الثلاثة، فهو منكر.
وإلى ذلك يشير أبو حاتم وأبو زرعة الرازيان فيما نقله عنه ابن أبي حاتم في
"العلل "- قال:
" سألت أبي وأبا زرعة عن حديث رواه شريك عن الحُر بن الصباح عن ابن
عمر..؟ فقال: هذا خطأ؛ إنما هو: الحر بن الصباح عن هنيدة بن خالد عن امرأته
عن أم سلمة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"!
قلت: لم أر في شيء من الوجوه المذكورة ذِكْرَ أم سلمة ! وإنما هو أم المؤمنين،
وأما أم سلمة فهو في طريق أخرى عن هنيدة عن أمه (وليس عن امرأته) عن أم
سلمة: أخرجه المصنف، كما سيأتي ذكره في آخر الكلام على هذا الحديث.
وأما الاختلاف في المتن؛ فهو على وجوه أربعة أيضاً:
الأول: رواية أبي عوانة: أول اثنين من الشهر والخميسين.
وهي في الكتاب كما تقدم.
الثاني: رواية زهير بن معاوية مثله؛ لكنه قال: ثم الخميس، ثم الخميس
الذي يليه.
الثالث: رواية الأشجعي عن عمرو بن قيس بلفظ: ثلاثة أيام من كل
شهر... ولم يزد.
الرابع: قول شريك... مثل رواية زهير تماماً.
قلت: والعمدة من هذه الوجوه إنما هو الوجه الثاني، لأنه- مع صحة سنده-
فيه زيادة بيان على الوجه الأول؛ فضلاً عن الوجه الثالث.
والوجه الرابع شاهد له لا بأس به.
وقد وجدت للحُرِّ بن الصباح متابعاً، يرويه الحسن بن عبيد الله عن هُنَيْدَةَ
الخُزَاعي عن أمِّه عن أم سلمة رضي الله عنها قالت:
كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأمرني أن أصوم ثلاثة أيام من الشهر: الاثنين والخميس
والخميس.
أخرجه البيهقي (4/295) .
وهذه متابعة لا بأس بها؛ لكن الحسن هذا فيه ضعف؛ وقد اختلف عليه في
متنه. فقيل عنه هكذا. وقيل: عنه بلفظ:
الاثنين، والجمعة، والخميس.
أخرجه المصنف وغيره.
وقيل غير ذلك، مما سأبينه إن شاء الله تعالى في الكتاب الآخر برقم (422/2) ).
قلت : هذه الأحاديث تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم تسع ذي الحجة كلها ؛ وهو فهم بعض أئمة الحديث إذ عنونوا له باب صوم العشر .
وأما حديث عائشة - رضي الله عنها - فالجواب عنه هو :
قال الحافظ البيهقي في ( الكبرى ) ( 4/284 ) جوابا عن حديث عائشة :
والمثبث أولى من النافى ؛ مع ما مضى من حديث ابن عباس.
قلت : يشير إلى حديث : " كان يصوم العشر " .
وحديث ابن عباس المعروف " ما من أيام العمل الصالح أحب .... " الخ .
قال الإمام النووي في ( شرح مسلم ) :
( قول عائشة ( ما رأيت رسول الله صلى الله عليه و سلم صائما في العشر قط ) وفي رواية : لم يصم العشر .
قال العلماء : هذا الحديث مما يوهم كراهة صوم العشر .
والمراد بالعشر هنا الأيام التسعة من أول ذى الحجة ؛ قالوا : وهذا مما يتأول فليس في صوم هذه التسعة كراهة بل هي مستحبة استحبابا شديدا لاسيما التاسع منها وهو يوم عرفة وقد سبقت الأحاديث في فضله وثبت في صحيح البخارى أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : " ما من أيام العمل الصالح فيها أفضل منه في هذه " ، يعنى العشر الأوائل من ذى الحجة ؛ فيتأول قولها : لم يصم العشر . أنه لم يصمه لعارض مرض أو سفر أو غيرهما أو أنها لم تره صائما فيه ولا يلزم من ذلك عدم صيامه في نفس الأمر ويدل على هذا التأويل حديث هنيدة بن خالد عن امرأته عن بعض أزواج النبى صلى الله عليه و سلم قالت : " كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصوم تسع ذى الحجة ويوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر الاثنين من الشهر والخميس " . ورواه أبو داود وهذا لفظه وأحمد والنسائى وفي روايتهما وخميسين . والله أعلم ) .
قال شيخنا العلامة المحدث عبدالمحسن العباد - حفظه الله - في ( شرح سنن أبي داود ) :
( قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب في صوم العشر. حدثنا مسدد حدثنا أبو عوانة عن الحر بن الصياح عن هنيدة بن خالد عن امرأته عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصوم تسع ذي الحجة، ويوم عاشوراء، وثلاثة أيام من كل شهر أول اثنين من الشهر والخميس) ]. أورد أبو داود صيام العشر، أي: عشر ذي الحجة، ولكن المقصود التسع، وقد اشتهرت بهذا الاسم تغليباً، وإلا فإن اليوم العاشر يوم العيد، ولا يجوز صيامه بحال من الأحوال؛ لأنه يحرم صوم العيدين وأيام التشريق، وأيام التشريق لم يرخص في أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي، أما العيدان فلا يجوز صيامهما بحال من الأحوال، بل يجب إفطارهما. وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على صيام العشر، وجاء حديث عام يشمل الصيام وغير الصيام، وجاء حديث في ترجمة أخرى بخلاف ذلك يعني: في الإفطار في أيام العشر، ولكن صيام العشر قربة من أفضل القربات، وداخل تحت عموم حديث : (ما من أيامٍ العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام العشر). قوله: [ (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجة) ]. يعني: العشر من ذي الحجة ما عدا يوم العيد. .... ) .
قلت : قال بعضهم : إن المراد من الحديث هو صوم اليوم التاسع فقط .
هذا غير صحيح لأن لفظ : ( كان يصوم العشر ) ، لا يحتمله ؛ وكلك لفظ : ( كات يصوم تسعا من ذي الحجة ) ؛ ولو أراد اليوم التاسع فقط ، لقال : " كان يصوم التاسع من ذي الحجة " ؛ فإني لم أجده بهذا اللفظ
منقول بتصرف