أ/أحمد
10-30-2011, 06:12 AM
العلم: فضله وشرفُ أهله
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمد لله ربِّ العالمين والصَّلاة والسَّلام على نبيِّنا محمَّدٍ و آله وصحبه وسلَّم، أمَّا بعد:
فإنَّ الله عزَّ في علاه قد بيَّن لنا في كتابهِ فضل (العلم) وشرف أهله، وجاءت النُّصوص النَّبوية على صاحبها أفضل صلاة وأزكى سلام تؤكِّدُ ذلك وترغب فيه؛ فانطلاقاً من الرغبة في المشاركة في نشر الخير و الدَّلالة عليه، حرصت على تذكير الإخوة بهذا الأمر المهم و شَحْذ هِمَمِهم؛ فيشمِّروا عن ساعد الجدِّ؛ لِيَنْتَفِعُوا و يَنْفَعُوا وَ يَرْتَفِعُوا بحول الله وتوفيقه.
ثم إِنَّنِي سَأُثَنِّي- بمشيئة الله تعالى- في كتابة أُخْرَىَ بِأَمْرٍ ثَانٍ لَهُ صِلة لا تَنْفكُ أبداً عن العِلْمِ! ألا وَهُو: العَمَلُ بِالعِلْمِ!؛ لِيَكْتَمِلَ نَظْمُ الْمَقْصُودِ وَ يَحْصل الْمُراد بحولِ الله وقُوَّتهِ.
فَأبدأُ فيما قَصَدُّته و من الله العون والتَّوفيق؛ فأقول:
قد وردت نصوص كثيرة في كتاب الله عزَّ وجلَّ تدلُّ على فضل العلم و شرف أهله؛ فَمن تلك النصوص:
1 / قوله تعالى {وأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الكِتَابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيْمَاً} (النساء: 113).
قال شيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله في (مفتاح دار السعادة) (1 / 52):" عدَّد سُبحانه نعمهُ وفضْلهُ على رسوله صلى الله عليه وسلم، وجعلَ مِنْ أجلِّها: أنْ آتاهُ الكتاب و الحكمةَ وعلَّمه ما لم يكنْ يعلم".
2 / قوله تعالى {إنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادهِ العُلَماءُ} (فاطر: 28).
قال الإمام ابن كثير رحمه الله في (تفسيره) (3 / 561): "أي إنَّما يخشاه حقَّ خشيتهِ العلماء العارفونَ به؛ لأنَّه كُلَّما كانت المعرفة للعظيم القديرِ العليم الموصوف بصفات الكمال المنعوت بالأسماء الحسنى: كُلَّما كانت المعرفة به أتمّ، والعلم به أكمل كانت الخشيةُ له أعظم و أكثر".
وقال العَلاَّمَةُ عَبْدالرَّحمن السعدي في (تيسر الكريم الرحمن) (ص751 - ط دار ابن حزم) عند تفسير هذه الآية: "فكلُّ مَن كان بالله أعلم، كان أكثر له خشية. وأوجبت له خشية الله الانكفاف عن المعاصي، و الاستعداد للقاء مَنْ يخشاهُ. وهذا دليلٌ على فضيلة العلم، فإنَّه داعٍ إلى خشية الله. وَ أَهْلُ خَشْيَتِهِ هم: أهل كرامتهِ كما قال تعالى{رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَ رَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ}".
3 / قوله تعالى {شَهِدَ اللهُ أنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُو وَ الْمَلائِكَةُ وَ أُوْلُوا العِلْمِ قَائِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُو العَزِيْزُ الْحَكِيْمُ} (آل عمران: 18).
قال العلاَّمة القرطبي رحمه الله في (الجامع لأحكام القرآن) (4 / 41) عند هذه الآية: "هذه الآيةُ دليلٌ على فضلِ العلم وشَرَفِ العلماء؛ فإنَّه لو كان أحدٌ أشرف من العلماء لقرنهم اللهُ باسمهِ و اسمِ الملائكة كما قرنَ العلماء".
4 / قوله تعالى {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ} (العَنكبوت:43).
قال الإمام ابن كثير رحمه الله في (تفسيره) (3 / 424): "أيْ ما يفْهَمها و يتدبرها إلاَّ الرَّاسخونَ في العلمِ المتضلِّعون منه، -ثم ذكر أن ابن أبي حاتم ساق بسنده- عن عمرو بن مرَّة قال: ما مررتُ بآيةٍ من كتاب الله لا أعرفها إلاَّ أحزنني؛ لأنَّني سمعت الله تعالى يقول {وتلك الأمثال نضربها للناس و ما يعقلها إلا العالمون}".
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله في (مفتاح دار السعادة) (1 / 51): "أخبر سبحانه عن أمثاله التي يضربها لعباده، يدلهم على صحَّة ما أخبرَ به: أنَّ أهل العلم هم المنتفعونَ بها المختصُّون بعلمها، فقال تعالى {وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعلقها إلا العالمون} وفي القرآن بضعة و أربعون مثلاً، وكان بعض السَّلف إذا مرَّ بِمَثَلٍ لا يفهمه يبكي ويقول: لست من العالمين".
5 / قوله تعالى {يَسْئَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ اْلطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِيْنَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَ اذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيْعُ الْحِسَابِ} (المائدة: 4).
قال الإمام ابن القيم في (مفتاح دار السعادة) (1 / 55): "إنَّ الله سبحانه جعل صيد الكلب الجاهل ميتة يحرمُ أكلُها! وأباحَ صيد الكلب المعَلَّم، وهذا مِنْ شَرَف العلم أنَّه لا يباحُ إلا صيد الكب العالم، وأمَّا الكلب الجاهل فلا يحلُّ أكل صيده؛ فدلَّ على شرف العلم وفضله، و لولا مزية العلم والتعليم وشرفه كان صيد الكلب المعلَّم والجاهل سواء".
والنصوص مِنْ آي الذكر الحكيم كثيرة كما تقدَّم، فأكتفي بما تقدَّم ذكره آنفاً.
وأمَّا النُّصوص النَّبوية عنه صلى الله عليه وسلم، فهي كثيرة أيضاً فأكتفي بذكر بعضها، وهي تدل على غيرها أيضاً؛ فمن تلك النصوص:
1 / ما أخرجه الشيخان في (صحيحيهما) عن معاوية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ يُردِ الله به خيراً يُفقِّه في الدِّين، وإنّما أَنَا قَاسمٌ واللهُ يُعْطِي، ولَن تَزال هَذهِ الأُمَّة قَائمة عَلى أمر الله لا يَضرُّهم مَنْ خَالفهم حتَّى يَأْتي أَمْرُ الله).
قال الإمام ابن القيم في (مفتاح دار السعادة) (1 / 60): "هذا يدل على أن مَن لم يفقه في دينه لم يرد به خيراً كما أنَّ من أراد به خيراً فقهه في دينه، ومَن فقه في دينه فقد أراد به خيراً؛ إذا أُريد بالفقه العلم المستلزم للعمل، وأمَّا إن أُريد به مجرد العلم فلا يدل على أنَّ من فقه في الدين فقد أُريد به خيراً؛ فإن الفقه حينئذٍ يكون شرطاً لإرادة الخير، وعلى الأول يكون موجباً، والله أعلم".
وقال الحافظ النووي رحمه الله في (شرح مسلم) (7 / 128): "فيه فضيلة العلم والتفقه في الدين والحثِّ عليه وسببهُ أنَّه قائد إلى تقوى الله تعالى".
2 / و أخرج الشيخان أيضاً عن سهل بن سعد رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي رضي الله عنه: (لأنْ يهديَ الله بكَ رجلاً واحداً خيرٌ لك من حُمر النَّعَم).
قال الإمام ابن القيم رحمه الله في (مفتاح دار السعادة) (1 / 62): "هذا يدلُّ على فضل العلم والتعليم، وشرف منزلة أهله، بحيث إذا اهتدى رجلٌ واحدٌ بالعالم كان ذلك خيراً له من حمر النعم؛ وهي خيارها و أشرفها عند أهلها، فما الظَّنُّ بمن يهتدي به كل يومٍ طوائف من الناس".
3 / ما أخرجه البخاري في (صحيحه) عن ابن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (بينا أنا نائمٌ أُوتيتُ بقدح لبنٍ فشربتُ حتى إني لأرى الري يخرجُ في أظفاري، ثم أَعطيتُ فضلي عمر بن الخطاب. قالوا: فما أولتهَ يا رسول الله؟ قال: العلم).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في (فتح الباري) (1 / 217): "قال ابن المنير: وجه الفضيلة للعلم في الحديث مِنْ جهةِ أنَّه عبَّرَ عن العلم بأنَّه فضلة النبي صلى الله عليه وسلم ونصيبٌ مما آتاهُ الله، وناهيكَ بذلكَ".
وقال أيضاً في (7 / 56): "ووجه التعبير بذلك من جهةِ اشتراك اللبن و العلم في كثرة النَّفعِ، وكونهما سبباً للصلاحِ؛ فاللبنُ للغذاء البدني والعلم للغذاء المعنوي".
4 / ما أخرجه مسلم في (صحيحه) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا ماتَ ابنُ آدمٍ انقطع عمله إلاَّ مِنْ ثلاثٍ: صدقةٍ جاريةٍ، أو علمٍ يُنتفعُ به، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له).
5 / ما خرَّجه ابن ماجه في (سننه) وصحَّحه المنذري في (الترغيب والترهيب) وكذا الألباني في (صحيح الترغيب) (1 / 143 / رقم79) عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( خير ما يُخلِّفُ الرجل مِنْ بعده ثلاثٌ: ولدٌ صالحٌ يدعو لَه، وصدقةٌ تجري يبلغهُ أجرها، وعلمٌ يُعملُ به من بعده).
قال الحافظ النووي رحمه الله في (شرح مسلم) (11 / 85): "قال العلماء: معنى الحديث: أنَّ عمل الميت ينقطع بموته، وينقطع تجدُّد الثواب له إلا في هذه الأشياء الثلاثة؛ لكونه كان سببها، فإن الولد من كسبهِ، وكذلك العلم الذي خلفه من تعليم أو تصنيفٍ، وكذلك الصدقة الجارية وهي الوقف. وفيه فضيلة الزواج لرجاء ولدٍ صالحٍ، وفيه دليل لصحة أصل التوقيف، وعظيم ثوابهِ. وبيان فضيلة العلم والحث على الاستكثار منه، والترغيب في توريثه بالتعليم والتصنيف والإيضاح، وأنَّه ينبغي أن يختارَ من العلومِ الأنفع فالأنفع، وفيه أنَّ الدعاء يصل ثوابهُ إلى الميت، وكذلك الصَّدقة وهما مجمعٌ عليهما".
ومما أُثر عن السَّلف رضي الله عنهم:
1 / ما ذكره النووي في (المجموع) (1 / 41) عن علي رضي الله عنه أنَّه قال: "كفى بالعلم شرفاً أن يدَّعيه مَنْ لا يُحسنهُ، ويفرح به إذا نسبَ إليه، وكفى بالجهلِ ذمَّاً أنْ يتبرأَ منهُ مَنْ هوَ فيه".
2 / وقال البُخاري في (صحيحه) (كتاب الفرائض / باب تعليم الفرائض) (12 / باب رقم 2 / 4-فتح) قال عقبة بن عامر رضي الله عنه: (تعلموا قبل الظَّانين). قال البخاري شارحاً قول عقبة: "يعني الذين يتكلمون بالظّنِّ"، قال النووي شارحاً قول البخاري: "معناه: تعلموا العلمَ مِنْ أهله المحقِّقين الورعينَ قبلَ ذهابهم ومجيء قومٍ يتكلمون في العلمِ بمثل نفوسهم و ظنونهم التي ليس لها مستندٌ شرعيٌّ" (المجموع) (1 / 42).
وذكر الحافظ ابن حجر عدَّة وجوه في معنى أثر عقبة رضي الله عنه، ومنها: "وقيل: مراده قبل اندراس العلم و حدوث مَنْ يتكلَّم بمقتضى ظنِّه غير مستندٍ إلى علمٍ".
3 / قال سهل بن عبدالله التستري رحمه الله: "ما أحدثَ أحدٌ في العلم شيئاً إلاَّ سئل عنه يوم القيامة؛ فإنْ وافقَ السُّنَّة سَلِمَ و إلا فهو العطب" (جامع بيان العلم) (2 / 1085).
4 / قال صالح بن مهران الشيباني رحمه الله: "كلُّ صاحب صناعةٍ لا يقدرُ أنْ يعملَ في صناعتهِ إلاَّ بآلةٍ، و آلةُ الإسلام: العلم" (طبقات المحدثين بأصبهان) (2 / 216).
5 / قال الشعبي رحمه الله: "لا تقومُ السَّاعةُ حتى يصير العلمُ جهلاً، والجهلُ علماً" أخرجه ابن أبي شيبة في (المصنف) (15 / 176).
6 / جاء في ترجمة أحمد بن علي بن مسلم الأبَّار الحافظ الفقيه (ت290هـ) من (سير أعلام النبلاء) (13 / 444): "قال جعفر الخُلدي: كان الأبَّارُ من أزهد الناس، استأذنَ أُّمَّهُ في الرِّحلة إلى قتيبة، فلم تأذن له، ثم ماتت، فخرجَ إلى خرسان ثم وصل إلى بلخ وقد مات قُتَيبةُ، فكانوا يُعزُّونهُ على هذا. فقال: هذا ثمرةُ العلم، إنِّي اخترتُ رضىَ الوالدة"!! وينظر (تذكره الحفاظ) للذهبي (2 / 639).
7 / أخرج ابن أبي شيبة في (المصنف) (14 / 55) وأبو نعيم في (حلية الأولياء) (5 / 12) بإسنادٍ صحيح عن أبي مسلم الخولاني رحمه الله قال: "العلماء ثلاثة: رجلٌ عاش بعلمه وعاش به الناسُ معه، ورجلٌ عاشَ بعلمه ولم يعش به أحدٌ غيره، ورجلٌ عاش الناس بعلمه وأهلك نفسه".
و مراده رحمه الله بهذا، أنَّ الأول عَلِمَ فعَملَ وعلَّمَ، وأمَّا الثاني فعلمَ وعملَ ولم يُعلِّم، وأمَّا الثالثُ فعلمَ وعلَّمَ ولم يعملْ! نسأل الله الثبات والعافية.
فتأمل أخي: هذه النصوص و الآثار بتمعنٍ ودقَّةٍ! واستعن بالله وأخلص في تحصيل العلم، وخذه عن أهله، وإيَّاك أنْ تحدثَ في العلم شيئاً خلاف السنَّة، فما أكثر مَنْ تكلَّم في العلم وهو مخالفٌ للسُّنَّةِ!! فاحذر أنْ تكون كذلك، فقد نصحتكَ،والله الموعد.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وآله وصحبه وسلَّم.
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
الحمد لله ربِّ العالمين والصَّلاة والسَّلام على نبيِّنا محمَّدٍ و آله وصحبه وسلَّم، أمَّا بعد:
فإنَّ الله عزَّ في علاه قد بيَّن لنا في كتابهِ فضل (العلم) وشرف أهله، وجاءت النُّصوص النَّبوية على صاحبها أفضل صلاة وأزكى سلام تؤكِّدُ ذلك وترغب فيه؛ فانطلاقاً من الرغبة في المشاركة في نشر الخير و الدَّلالة عليه، حرصت على تذكير الإخوة بهذا الأمر المهم و شَحْذ هِمَمِهم؛ فيشمِّروا عن ساعد الجدِّ؛ لِيَنْتَفِعُوا و يَنْفَعُوا وَ يَرْتَفِعُوا بحول الله وتوفيقه.
ثم إِنَّنِي سَأُثَنِّي- بمشيئة الله تعالى- في كتابة أُخْرَىَ بِأَمْرٍ ثَانٍ لَهُ صِلة لا تَنْفكُ أبداً عن العِلْمِ! ألا وَهُو: العَمَلُ بِالعِلْمِ!؛ لِيَكْتَمِلَ نَظْمُ الْمَقْصُودِ وَ يَحْصل الْمُراد بحولِ الله وقُوَّتهِ.
فَأبدأُ فيما قَصَدُّته و من الله العون والتَّوفيق؛ فأقول:
قد وردت نصوص كثيرة في كتاب الله عزَّ وجلَّ تدلُّ على فضل العلم و شرف أهله؛ فَمن تلك النصوص:
1 / قوله تعالى {وأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الكِتَابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيْمَاً} (النساء: 113).
قال شيخ الإسلام ابن القيم رحمه الله في (مفتاح دار السعادة) (1 / 52):" عدَّد سُبحانه نعمهُ وفضْلهُ على رسوله صلى الله عليه وسلم، وجعلَ مِنْ أجلِّها: أنْ آتاهُ الكتاب و الحكمةَ وعلَّمه ما لم يكنْ يعلم".
2 / قوله تعالى {إنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادهِ العُلَماءُ} (فاطر: 28).
قال الإمام ابن كثير رحمه الله في (تفسيره) (3 / 561): "أي إنَّما يخشاه حقَّ خشيتهِ العلماء العارفونَ به؛ لأنَّه كُلَّما كانت المعرفة للعظيم القديرِ العليم الموصوف بصفات الكمال المنعوت بالأسماء الحسنى: كُلَّما كانت المعرفة به أتمّ، والعلم به أكمل كانت الخشيةُ له أعظم و أكثر".
وقال العَلاَّمَةُ عَبْدالرَّحمن السعدي في (تيسر الكريم الرحمن) (ص751 - ط دار ابن حزم) عند تفسير هذه الآية: "فكلُّ مَن كان بالله أعلم، كان أكثر له خشية. وأوجبت له خشية الله الانكفاف عن المعاصي، و الاستعداد للقاء مَنْ يخشاهُ. وهذا دليلٌ على فضيلة العلم، فإنَّه داعٍ إلى خشية الله. وَ أَهْلُ خَشْيَتِهِ هم: أهل كرامتهِ كما قال تعالى{رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَ رَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ}".
3 / قوله تعالى {شَهِدَ اللهُ أنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُو وَ الْمَلائِكَةُ وَ أُوْلُوا العِلْمِ قَائِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُو العَزِيْزُ الْحَكِيْمُ} (آل عمران: 18).
قال العلاَّمة القرطبي رحمه الله في (الجامع لأحكام القرآن) (4 / 41) عند هذه الآية: "هذه الآيةُ دليلٌ على فضلِ العلم وشَرَفِ العلماء؛ فإنَّه لو كان أحدٌ أشرف من العلماء لقرنهم اللهُ باسمهِ و اسمِ الملائكة كما قرنَ العلماء".
4 / قوله تعالى {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ} (العَنكبوت:43).
قال الإمام ابن كثير رحمه الله في (تفسيره) (3 / 424): "أيْ ما يفْهَمها و يتدبرها إلاَّ الرَّاسخونَ في العلمِ المتضلِّعون منه، -ثم ذكر أن ابن أبي حاتم ساق بسنده- عن عمرو بن مرَّة قال: ما مررتُ بآيةٍ من كتاب الله لا أعرفها إلاَّ أحزنني؛ لأنَّني سمعت الله تعالى يقول {وتلك الأمثال نضربها للناس و ما يعقلها إلا العالمون}".
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله في (مفتاح دار السعادة) (1 / 51): "أخبر سبحانه عن أمثاله التي يضربها لعباده، يدلهم على صحَّة ما أخبرَ به: أنَّ أهل العلم هم المنتفعونَ بها المختصُّون بعلمها، فقال تعالى {وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعلقها إلا العالمون} وفي القرآن بضعة و أربعون مثلاً، وكان بعض السَّلف إذا مرَّ بِمَثَلٍ لا يفهمه يبكي ويقول: لست من العالمين".
5 / قوله تعالى {يَسْئَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ اْلطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِيْنَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَ اذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيْعُ الْحِسَابِ} (المائدة: 4).
قال الإمام ابن القيم في (مفتاح دار السعادة) (1 / 55): "إنَّ الله سبحانه جعل صيد الكلب الجاهل ميتة يحرمُ أكلُها! وأباحَ صيد الكلب المعَلَّم، وهذا مِنْ شَرَف العلم أنَّه لا يباحُ إلا صيد الكب العالم، وأمَّا الكلب الجاهل فلا يحلُّ أكل صيده؛ فدلَّ على شرف العلم وفضله، و لولا مزية العلم والتعليم وشرفه كان صيد الكلب المعلَّم والجاهل سواء".
والنصوص مِنْ آي الذكر الحكيم كثيرة كما تقدَّم، فأكتفي بما تقدَّم ذكره آنفاً.
وأمَّا النُّصوص النَّبوية عنه صلى الله عليه وسلم، فهي كثيرة أيضاً فأكتفي بذكر بعضها، وهي تدل على غيرها أيضاً؛ فمن تلك النصوص:
1 / ما أخرجه الشيخان في (صحيحيهما) عن معاوية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ يُردِ الله به خيراً يُفقِّه في الدِّين، وإنّما أَنَا قَاسمٌ واللهُ يُعْطِي، ولَن تَزال هَذهِ الأُمَّة قَائمة عَلى أمر الله لا يَضرُّهم مَنْ خَالفهم حتَّى يَأْتي أَمْرُ الله).
قال الإمام ابن القيم في (مفتاح دار السعادة) (1 / 60): "هذا يدل على أن مَن لم يفقه في دينه لم يرد به خيراً كما أنَّ من أراد به خيراً فقهه في دينه، ومَن فقه في دينه فقد أراد به خيراً؛ إذا أُريد بالفقه العلم المستلزم للعمل، وأمَّا إن أُريد به مجرد العلم فلا يدل على أنَّ من فقه في الدين فقد أُريد به خيراً؛ فإن الفقه حينئذٍ يكون شرطاً لإرادة الخير، وعلى الأول يكون موجباً، والله أعلم".
وقال الحافظ النووي رحمه الله في (شرح مسلم) (7 / 128): "فيه فضيلة العلم والتفقه في الدين والحثِّ عليه وسببهُ أنَّه قائد إلى تقوى الله تعالى".
2 / و أخرج الشيخان أيضاً عن سهل بن سعد رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي رضي الله عنه: (لأنْ يهديَ الله بكَ رجلاً واحداً خيرٌ لك من حُمر النَّعَم).
قال الإمام ابن القيم رحمه الله في (مفتاح دار السعادة) (1 / 62): "هذا يدلُّ على فضل العلم والتعليم، وشرف منزلة أهله، بحيث إذا اهتدى رجلٌ واحدٌ بالعالم كان ذلك خيراً له من حمر النعم؛ وهي خيارها و أشرفها عند أهلها، فما الظَّنُّ بمن يهتدي به كل يومٍ طوائف من الناس".
3 / ما أخرجه البخاري في (صحيحه) عن ابن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (بينا أنا نائمٌ أُوتيتُ بقدح لبنٍ فشربتُ حتى إني لأرى الري يخرجُ في أظفاري، ثم أَعطيتُ فضلي عمر بن الخطاب. قالوا: فما أولتهَ يا رسول الله؟ قال: العلم).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في (فتح الباري) (1 / 217): "قال ابن المنير: وجه الفضيلة للعلم في الحديث مِنْ جهةِ أنَّه عبَّرَ عن العلم بأنَّه فضلة النبي صلى الله عليه وسلم ونصيبٌ مما آتاهُ الله، وناهيكَ بذلكَ".
وقال أيضاً في (7 / 56): "ووجه التعبير بذلك من جهةِ اشتراك اللبن و العلم في كثرة النَّفعِ، وكونهما سبباً للصلاحِ؛ فاللبنُ للغذاء البدني والعلم للغذاء المعنوي".
4 / ما أخرجه مسلم في (صحيحه) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا ماتَ ابنُ آدمٍ انقطع عمله إلاَّ مِنْ ثلاثٍ: صدقةٍ جاريةٍ، أو علمٍ يُنتفعُ به، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له).
5 / ما خرَّجه ابن ماجه في (سننه) وصحَّحه المنذري في (الترغيب والترهيب) وكذا الألباني في (صحيح الترغيب) (1 / 143 / رقم79) عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( خير ما يُخلِّفُ الرجل مِنْ بعده ثلاثٌ: ولدٌ صالحٌ يدعو لَه، وصدقةٌ تجري يبلغهُ أجرها، وعلمٌ يُعملُ به من بعده).
قال الحافظ النووي رحمه الله في (شرح مسلم) (11 / 85): "قال العلماء: معنى الحديث: أنَّ عمل الميت ينقطع بموته، وينقطع تجدُّد الثواب له إلا في هذه الأشياء الثلاثة؛ لكونه كان سببها، فإن الولد من كسبهِ، وكذلك العلم الذي خلفه من تعليم أو تصنيفٍ، وكذلك الصدقة الجارية وهي الوقف. وفيه فضيلة الزواج لرجاء ولدٍ صالحٍ، وفيه دليل لصحة أصل التوقيف، وعظيم ثوابهِ. وبيان فضيلة العلم والحث على الاستكثار منه، والترغيب في توريثه بالتعليم والتصنيف والإيضاح، وأنَّه ينبغي أن يختارَ من العلومِ الأنفع فالأنفع، وفيه أنَّ الدعاء يصل ثوابهُ إلى الميت، وكذلك الصَّدقة وهما مجمعٌ عليهما".
ومما أُثر عن السَّلف رضي الله عنهم:
1 / ما ذكره النووي في (المجموع) (1 / 41) عن علي رضي الله عنه أنَّه قال: "كفى بالعلم شرفاً أن يدَّعيه مَنْ لا يُحسنهُ، ويفرح به إذا نسبَ إليه، وكفى بالجهلِ ذمَّاً أنْ يتبرأَ منهُ مَنْ هوَ فيه".
2 / وقال البُخاري في (صحيحه) (كتاب الفرائض / باب تعليم الفرائض) (12 / باب رقم 2 / 4-فتح) قال عقبة بن عامر رضي الله عنه: (تعلموا قبل الظَّانين). قال البخاري شارحاً قول عقبة: "يعني الذين يتكلمون بالظّنِّ"، قال النووي شارحاً قول البخاري: "معناه: تعلموا العلمَ مِنْ أهله المحقِّقين الورعينَ قبلَ ذهابهم ومجيء قومٍ يتكلمون في العلمِ بمثل نفوسهم و ظنونهم التي ليس لها مستندٌ شرعيٌّ" (المجموع) (1 / 42).
وذكر الحافظ ابن حجر عدَّة وجوه في معنى أثر عقبة رضي الله عنه، ومنها: "وقيل: مراده قبل اندراس العلم و حدوث مَنْ يتكلَّم بمقتضى ظنِّه غير مستندٍ إلى علمٍ".
3 / قال سهل بن عبدالله التستري رحمه الله: "ما أحدثَ أحدٌ في العلم شيئاً إلاَّ سئل عنه يوم القيامة؛ فإنْ وافقَ السُّنَّة سَلِمَ و إلا فهو العطب" (جامع بيان العلم) (2 / 1085).
4 / قال صالح بن مهران الشيباني رحمه الله: "كلُّ صاحب صناعةٍ لا يقدرُ أنْ يعملَ في صناعتهِ إلاَّ بآلةٍ، و آلةُ الإسلام: العلم" (طبقات المحدثين بأصبهان) (2 / 216).
5 / قال الشعبي رحمه الله: "لا تقومُ السَّاعةُ حتى يصير العلمُ جهلاً، والجهلُ علماً" أخرجه ابن أبي شيبة في (المصنف) (15 / 176).
6 / جاء في ترجمة أحمد بن علي بن مسلم الأبَّار الحافظ الفقيه (ت290هـ) من (سير أعلام النبلاء) (13 / 444): "قال جعفر الخُلدي: كان الأبَّارُ من أزهد الناس، استأذنَ أُّمَّهُ في الرِّحلة إلى قتيبة، فلم تأذن له، ثم ماتت، فخرجَ إلى خرسان ثم وصل إلى بلخ وقد مات قُتَيبةُ، فكانوا يُعزُّونهُ على هذا. فقال: هذا ثمرةُ العلم، إنِّي اخترتُ رضىَ الوالدة"!! وينظر (تذكره الحفاظ) للذهبي (2 / 639).
7 / أخرج ابن أبي شيبة في (المصنف) (14 / 55) وأبو نعيم في (حلية الأولياء) (5 / 12) بإسنادٍ صحيح عن أبي مسلم الخولاني رحمه الله قال: "العلماء ثلاثة: رجلٌ عاش بعلمه وعاش به الناسُ معه، ورجلٌ عاشَ بعلمه ولم يعش به أحدٌ غيره، ورجلٌ عاش الناس بعلمه وأهلك نفسه".
و مراده رحمه الله بهذا، أنَّ الأول عَلِمَ فعَملَ وعلَّمَ، وأمَّا الثاني فعلمَ وعملَ ولم يُعلِّم، وأمَّا الثالثُ فعلمَ وعلَّمَ ولم يعملْ! نسأل الله الثبات والعافية.
فتأمل أخي: هذه النصوص و الآثار بتمعنٍ ودقَّةٍ! واستعن بالله وأخلص في تحصيل العلم، وخذه عن أهله، وإيَّاك أنْ تحدثَ في العلم شيئاً خلاف السنَّة، فما أكثر مَنْ تكلَّم في العلم وهو مخالفٌ للسُّنَّةِ!! فاحذر أنْ تكون كذلك، فقد نصحتكَ،والله الموعد.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وآله وصحبه وسلَّم.