المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : بداية الخلق ونهايته - الأعمال الصالحة مع الإيمان سبب للحياة الطيِّبة


ابو حمزة
10-31-2011, 07:03 AM
الشيخ محمد صالح العثيمين



السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله الذي خلقَ الخلق ليعبدوه، وجعل لهم أجلاً للقائه هم بالغوه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله الله تعالى بالهدى ودين الحق، الهدى هو: العلم النافع، ودين الحق هو: العمل الصالح، فبلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، جاهد بلسانه، وجاهد بسنانه، وجاهد بكل ما أوتي من قوة، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه، ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد:
عباد الله، أيها الناس، اتَّقوا الله تعالى واذكروا نعمته عليكم واشكروه، وتذكروا بدايتكم ونهايتكم تعرفوا آيات الله عزَّ وجل .
إن الله خلقَ آدم ولم يكن شيئًا مذكورًا، خلقه من طين وجعل ﴿نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ﴾ [السجدة: 8]، فسواهم في بطون أمهاتهم ونفخ فيهم الروح؛ فإن الجنين في بطن أمه يتنقّل إلى أربعة أطوار: «يكون أربعين يومًا نطفة، ثم يكون أربعين يومًا علَقة، ثم أربعين يومًا مضغة، فهذه مائة وعشرون يومًا - أربعة أشهر كاملة - ثم يبعث الله إليه الملَك الموكّل بالأرحام، فينفخ فيه الروح ويكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد»(1) ويبقى في ذلك - أي: بعد أربعة أشهر - ما شاء الله أن يبقى في بطن أمه، ثم يُخرجه الله - عزَّ وجل - إلى دار العمل والكسب، فيمكث فيها ما شاء الله أن يمكث، ثم ينتقل إلى دار الجزاء: «فإذا مات انقطع عمله إلا من صدقةٍ جارِية، أو عِلْمٍ ينتفَعُ بِهِ، أو ولدٍ صالح يدعو له»(2)، ثم يبقى في البرزخ إلى قيام الساعة يوم يقوم الناس لرب العالمين عاريةً أجسادهم، حافيةً أقدامهم، شاخصةً أبصارهم ﴿مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ﴾ [القمر: 8] .
أيها المسلمون، عباد الله، إنكم لم تكونوا شيئًا مذكورًا قبل وجودكم كما قال الله عزَّ وجل: ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا﴾ [الإنسان: 1]، و«هل» هنا بمعنى: التحقيق؛ أي: أنه قد أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئًا مذكورًا، ثم بعد ذلك تنتقلون إلى دار الآخرة وكأنْ لم تكونوا في الدنيا، تكونون خبرًا من الأخبار، واذكروا آباءكم، واذكروا إخوانكم، واذكروا أبناءكم، واذكروا مَن تشاهدون، كيف انتقلوا إلى دار الآخرة، وكأنهم لم يكونوا على هذه الأرض ! كأنهم ما أكلوا فيها وما شربوا ! كأنهم لم يتمتَّعوا بما أنعم الله به عليكم وعليهم !
اذكروا - أيها المسلمون - هذه الحال وأنتم لا تدرون متى تصيرون إلى ما صاروا إليه، لقد كان الموت يأخذ الشيب والشبان، ويأخذ الإناث والذكران، ويأخذ الصغير والكبير .
إن الإنسان لَيَخْرج من بيته يقول لأهله: هيِّئوا لي الطعام، هيِّئوا لي الغداء، هيِّئوا لي العشاء، أرجع فآكله ثم لا يرجع إليه، ثم يرجع إلى بيته ميِّتًا، هذا حقيقة واقعة أنتم تنظرونها أيها المسلمون، وإذا مات فإلى أي شيء يصير ؟ إنه يصير إلى برزخ إلى يوم القيامة .
إن لبني آدم حين انتقالهم من دار الدنيا إلى دار الآخرة أحوالاً ثلاثة بيَّنها الله تعالى في كتابه في آخر سورة الواقعة فقال جلَّ وعلا: ﴿فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ﴾ [الواقعة: 83]، أي: بلغت الروح الحلقوم خارجة من أسفل الجسد إلى أعلاه ﴿وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ﴾ [الواقعة: 84-85]، ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ﴾ أي: نحن أقرب بملائكتنا إلى هذا المحتضَر منكم مع أن أهله محيطون به ولكن لا تبصرون، ﴿فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾ [الواقعة: 88] .
اللهم اجعلنا من المقرَّبين، اللهم اجعلنا من المقرَّبين، اللهم اجعلنا من المقرَّبين .
﴿فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ﴾ [الواقعة: 88-92] .
اللهم أعِذْنا من هذا، اللهم أعِذْنا من هذا، اللهم أعِذْنا من هذا يا رب العالمين .
﴿وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ﴾ [الواقعة: 92-94] .
واسمعوا عباد الله، اسمعوا قول الله وهو حق، يقول: ﴿إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ﴾ [الواقعة: 95-96] .
ولقد بيَّن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، بيَّن ما يكون عند الموت بالتفصيل، فعن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال: «كنَّا في جنازة رجل من الأنصار في البقيع، فأتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقعد وقعدنا حوله كأن على رؤوسنا الطير وهو يُلحد له، فقال صلى الله عليه وسلم: «أعوذُ بالله من عذاب القبر، أعوذُ بالله من عذاب القبر، أعوذُ بالله من عذاب القبر» ثم قال صلى الله عليه وسلم: «إن العبد المؤمن إذا كان في إقبال من الآخرة وانقطاع من الدنيا نزلت إليه ملائكة كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من الجنة وحنوط من الجنة، فيجلسون منه مدَّ البصر ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الطيِّبة، اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان، فتخرج تسيلُ كما تسيلُ القطرة من فم السقاء، فيأخذها - يعني: ملك الموت - فإذا أخذها لم يَدَعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وذلك الحنوط، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجِدت على وجه الأرض، فيصعدون بها إلى السماء فتُفتح لها أبواب السماء ويشيّعه مقرّبوها إلى السماء الثانية، وهكذا بقيّة السموات، فلا يمرّون بها على ملإٍ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الطيِّبة ؟ فيقولون: فلان ابن فلان بأحسن أسمائه التي يُدعى بها في الدنيا، حتى تصل إلى السماء السابعة، فيقول الله عزَّ وجل: اكتبوا كتاب عبدي في علِّيِّين» - اللهم اجعلنا من هؤلاء، اللهم اجعلنا من هؤلاء، اللهم اجعلنا من هؤلاء - فيقول: «اكتبوا كتاب عبدي في علِّيِّين وأعيدوه إلى الأرض فإني منها خلقتهم وفيها أُعيدهم ومنها أخرجهم تارةً أخرى»قال: «فتُعادُ روحه في جسَده فَيَأتِيهِ مَلَكان فيُجلِسَانهِ فيقولانِ له: مَنْ ربُّك ؟ فيقولُ: ربِّي اللَّهُ، فيقولانِ له: ما دِينُك ؟ فيقول: دِيني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرَّجل الذي بُعث فيكم ؟ وفي رواية: مَنْ نبيّك ؟ فيقول: هو رسول اللَّه، فيُنادِي مُنادٍ من السَّمَاءِ أَنْ صَدَقَ عَبدِي فأَفرِشوه مِن الجنَّة وافتحوا له بابًا إلى الجنَّة، فيأتِيهِ من ريحِهَا وطِيبهَا ويُفسَحُ له في قبره مَدَّ بَصرِه، ويأتيه رَجُلٌ حَسَنُ الوجهِ حَسَنُ الثِّيابِ طَيِّبُ الرِّيحِ فيقول له: أَبْشِرْ بِالذِي يَسُرُّكَ، هذا يَومُكَ الذِي كُنتَ توعدُ، فيقول: مَنْ أنتَ فَوَجهُكَ الذي يأتي بالخيرِ ؟ فيقول: أنا عملُكَ الصالح، فيقول: رَبِّ أَقِمْ السَّاعَةَ حَتَّى أرجِع إِلَى أَهلِي ومالي»، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، نزلَ إليه من السماء ملائكة سود الوجوه معهم كفن من النار وحنوط من النار، فيجلسون منه مدَّ البصر، ثم يجيء ملَك الموت فيجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الخبيثة، اخرجي إلى سخط من الله وغضب، فتتفرّق في جسده، فينتزعها كما يُنْتَزَعُ السفّود من الصوف المبلول، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في ذلك الكفن وذلك الحنوط، ويخرج منها كأخبث ريح جيفة وجِدت على وجه الأرض، فيصعدون بها فلا يمرّون بها على ملإ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الريح الخبيث ؟ فيقولون: فلان ابن فلان بأقبح أسمائه التي يُدعى بها في الدنيا، حتى يُنتهى به إلى السماء الدنيا فيُستفتح له فلا يُفتح»، ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم: ﴿لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ﴾ [الأعراف: 40]، فيقول الله عزَّ وجل: «اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى، فتُطرح روحه؛ يعني: إلى الأرض طرحًا»، ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم: ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ﴾ [الحج: 31]، «فتُعاد روحه في جسده، ويأتيه ملَكان فيقولان له: مَن ربّك ؟ فيقول: هاه، هاه، لا أدري، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بُعث فيكم ؟ فيقول: هاه، هاه، لا أدري، فيُنادي منادٍ من السماء أن كذَبَ عبدي فأفرشوه من النار وافتحوا له بابًا إلى النار، فيأتيه من حرِّها وسمومها ويُضيّق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه، ويأتيه رجل قبيحُ الوجه قبيحُ الثياب مُنتن الريح فيقول له: أَبْشِرْ بالذي يسوؤك، هذا يومك الذي كُنت توعَد، فيقول: مَن أنت ؟ فوجهك الذي يجيء بالشرِّ، فيقول: أنا عملك الخبيث، فيقول: ربّ لا تُقم الساعة»(3) .
وفي الصحيحين عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الميت إذا وُضِعَ في قبره وتولّى عنه أصحابه حتى إنه لَيَسمع قرع نعالهم أتاه ملَكَان فأقعداه» وذكَرَ الحديث وفيه: «فيقال له: انظر إلى مقعدك من النار، أبْدَلك الله به مقعدًا من الجنة» قال النبي صلى الله عليه وسلم:«فيراهما جميعًا»(4) .
فاتَّقوا الله - أيها المسلمون - وأعِدّوا لهذا الأمر العظيم عدّته، وتعوّذوا بالله من عذاب القبر، واسألوا الله تعالى أن يجعل قبوركم روضةً من رياض الجنة .
اللهم إنَّا نعوذ بك من عذاب القبر، اللهم إنَّا نعوذ بك من عذاب القبر، اللهم إنَّا نعوذ بك من عذاب القبر، اللهم اجعل قبورنا لنا روضةً من رياض الجنة يا ذا الجلال والإكرام، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 10]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ [الحشر: 18-20] .
اللهم اجعلنا من أصحاب الجنة الفائزين برضوانك، الناجين من نيرانك يا رب العالمين، اللهم اجعلنا من عبادك الصالحين، وأوليائك المتَّقين، وحزبك المفلحين، ولا تُخْزنا يوم يُبعثون ﴿يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ [الشعراء: 87-89] .
أقول قولي هذا، وأسْتغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم .

الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيِّبًا مُباركًا فيه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد:
فيا عباد الله، سمعتم قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «إذا مات الإنسانُ انقطع عملُه إلا من ثلاثٍ: صدقةٍ جاريةٍ أو علْمٍ يُنْتَفَعُ به أو ولدٍ صالحٍ يدعو له»(5) .
إن الإنسان إذا انتقل إلى دار الآخرة كأنه لم يكن مشى على هذه الأرض انتهى انتهى انتهى، وإنه انتقل إلى دار الجزاء، فلا عمل ينفعه إلا ما كسبه قبل موته؛ لأن الله تعالى يقول: ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى﴾ [النجم: 39]، وسمعتم الحديث: «ينقطع عملُه إلا من ثلاث: صدقةٍ جاريةٍ أو علْمٍ يُنْتَفَعُ به أو ولدٍ صالحٍ يدعو له»(6) .
إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبرنا بذلك حثًّا لنا على العمل واغتنامًا للوقت قبل أن ينفرط من أيدينا ثم نتمنَّى أن يكون في كتاب حسناتنا حسنة واحدة؛ لذلك أحثُّ نفسي وإياكم على اغتنام الوقت بالأعمال الصالحة التي ننتفع بها في دنيانا وأخرانا؛ لأن الله يقول: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل: 97]، مَن كان يريد السعادة، مَن كان يريد الهناء، مَن كان يريد السرور، مَن كان يريد انشراح الصدر، مَن كان يريد طِيب النفس، مَن كان يريد طمأنينة القلب، فعليه بالإيمان والعمل الصالح؛ فإنه لا يُدرك إلا بذلك لقوله تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ [النحل: 97].
أيها الإخوة، إن الناس فيما سبق وإلى زمن قريب كانوا إذا رأوا الموتى ترتعد فرائصهم خوفًا أن تنفرط منهم الأوقات وهم لا يعملون شيئًا، ولقد قام النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - للجنازة إذا مرَّت وقال: «إن الموت فزع»(7) ولكن قست القلوب اليوم، وصارت الجنازة تُقدم بين أيدي الناس وكأنها رجل نائم على سريره، لا تجدُ أحدًا يفكّر في مآله، وأنه عن قريب أو بعيد سوف يكون مآله إلى هذا؛ كما قيل:
كلُّ ابنِ أنثى وإنْ طالتْ سلامتُهُ
يومًا على آلةٍ حدْباءَ محمولُ(م1)

إذنْ: علينا - أيها الإخوة - إذا رأينا الجنائز أن نفكِّر في أنفسنا وأن نفكِّر في أوقاتنا وحياتنا؛ ولهذا قال العلماء: يُكره للإنسان إذا كان تابعًا للجنازة، يُكره أن يتحدث بشيء من أمور الدنيا؛ لأن هذا ليس وقته، كل وقت له حال، ولكلّ حال مقال .
فيا عباد الله، أكْثروا من العمل الصالح، انتهزوا الفرصة قبل فوات الأوان .
أسأل الله تعالى أن يرزقني وإياكم اغتنام الأوقات بالأعمال الصالحات .
تنبيهٌ: في الجمعة الماضية تكلَّمنا عن الغش وبيَّنا أنه من كبائر الذنوب؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - تبرأ من الغاش فقال: «مَن غشَّ فليس منَّا»(8)، وذكرنا أن من الناس مَن يغش فيجعل الطيِّب من الطعام أو من الفواكه أو غيرها، يجعله في أعلى الإناء ويجعل الرديء في أسفله، وقلنا: إن هذا من كبائر الذنوب، وإن الإنسان إذا كسب على هذا الوجه شيئًا من المال فإنه يأكله سُحتًا «وكل جسد نبَتَ من سُحت فالنار أولى به»(9)، وإنه إذا أخذ شيئًا من أموال الناس بهذه الطريق فإنه يكون ظالِمًا لهم في أموالهم، وسيأخذون منه ذلك يوم القيامة؛ ليسوا يأخذونه دراهم ولا دنانير؛ لأنه لا درهم هناك ولا دينار ولكنَّهم يأخذونه من أعماله الصالحة، فإن بقيَ من أعماله الصالحة شيء وإلا أُخِذ من سيئاتهم وطُرِح عليه ثم طُرح في النار .
هكذا جاء الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيمَن ظلم الناس .
وبيَّنا أن الإنسان إذا كان عنده طيّب ورديء، فإما أن يجعل الطيّب فوق والرديء تحت فهذا غش، وإذا جعل الرديء فوق والطيّب تحت فليس بغش، لكنّه هضم لحق نفسه؛ لأنه سوف ينقص ثمن الشيء إذا رآه الناس رديئًا حسب ما كان في أعلاه، ثم إنه ربّما يُنسب هذا الرجل إلى الرياء؛ حيث جعل الرديء فوق والطيّب تحت، ولكن العدلُ كل العدل: أن يجعل الرديء في إناء واحد مستقلّ وأن يجعل الطيّب في إناء واحد مستقلّ؛ حتى يكون المشتري على بصيرة .
هناك قسم رابع وهو: أن يكون الطيّب والرديء مختلطًا: بحيث يكون طيِّبًا ورديئًا مختلطًا والناس يشاهدونه، فهذا أرجو ألا يكون به بأس .
إذنْ: الأحوال أربع:
الحال الأولى: أن يجعل الطيِّب فوق والرديء تحت .
الحال الثانية: أن يجعل الرديء هو الأعلى والطيِّب هو الأسفل .
الحال الثالثة: أن يجعل كل واحد في إناء .
والحال الرابعة: أن يخلطهما جميعًا ويُرى الطيِّب والرديء سواء، ولكل حال من هذه الأحوال حكمها المعروف، ولكن علينا أن نستعين الله - عزَّ وجل - باتِّقاء ما يكون ضررًا علينا في ديننا ودنيانا .
واعلموا أن مَن كسب كسبًا محرَّمًا بأي وسيلة كان فإنه كما جاء في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «إما أن يُنفقه فلا يُبارك له فيه، وإما أن يتصدق به فلا يُقبل منه، وإما أن يخلفه بعده فيكون زاده إلى النار»(10) .
إذنْ: فمَن كسبَ شيئًا محرَّمًا فإنه لن يسلم من غائلته، بل هو على كل حال خاسر .
جعل الله لنا ولكم رزقًا طيِّبًا مباركًا وعملاً صالِحًا مُتقبَّلاً، إنه على كل شيء قدير .
واعلموا - عباد الله - «أن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة في الدين بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار»، فأكْثروا من الصلاة والسلام على نبيّكم محمد صلى الله عليه وسلم، وترضّوا عن أصحابه وخلفائه الراشدين وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [الحشر: 10]، ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ [آل عمران: 147] .
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم .
-------------
(1)أخرجه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في صحيحه في كتاب [بدء الخلق] باب: ذكر الملائكة، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه، رقم [2969]، وأخرجه الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في صحيحه في كتاب [القدر] باب: كيفية خلق الآدمي في بطن أمه وكتابة رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته، من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه، رقم [4781]، ت ط ع .
(2)أخرجه أحمد، رقم [2/372]، ومسلم، رقم [1631]، وأبو داوود، رقم [2880]، والترمذي، رقم [1376]، وابن ماجة، رقم [242]، والنسائي، رقم [6/251]، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
(3)أخرجه أحمد، رقم [4/287]، والحاكم، رقم [1/39]، من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه .
(4)أخرجه البخاري، رقم [1374]، ومسلم، رقم [2870]، من حديث أنس رضي الله عنه .
(5)سبق تخريجه في الحديث رقم [1] .
(6)سبق تخريجه في الحديث رقم [1] .
(7)أخرجه مسلم، رقم [961]، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه .
(8)أخرجه مسلم، رقم [101]، ومسلم، رقم [2/242]، وأبو داوود، رقم [3452]، والترمذي، رقم [1315]، وابن ماجة، رقم [2224]، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
(9)أخرجه الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- في مسنده في باقي مسند المكثرين من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين، رقم [13919]، وأخرجه الترمذي -رحمه الله تعالى- في سننه في كتاب [الجمعة] باب: ذكر فضل الصلاة، رقم [558]، وأخرجه الدارمي -رحمه الله تعالى- في سننه في كتاب [الرقاق] باب: في أكل السحت، رقم [2657]، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما، ت ط ع .
(10) انظر إلى هذا الحديث في مسند الحارث «زوائد الهيثمي» الجزء [1] الصفحة [205]، من حديث أبي هريرة وابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ت م ش .
(م1) انظر إلى هذه المقولة التي قالها الشاعر كعب بن زهير رحمه الله تعالى، ذكرها صاحب كتاب [اتفاق المباني وافتراق المعاني] لمؤلفه: أبو الربيع سليمان بن بنين بن عوض تقي الدين الدقيقي النحوي المصري رحمه الله تعالى، الجزء [1] الصفحة [169]، وانظر إلى هذه المقولة في كتاب [مجمع الحكم والأمثال] الجزء [1]، شعر الشاعر كعب بن زهير رحمه الله تعالى .

أبو معاذ اليماني
11-11-2011, 12:37 AM
http://g.abunawaf.com/2010/5/16/hamed/qasralkhair-a01a3675a6.gif