المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : هدي النبي صلى الله عليه وسلم في تعليم العقيدة


عارف النهدي
02-01-2012, 03:28 PM
هدي النبي صلى الله عليه وسلم في تعليم العقيدة
*بقلم/ الشيخ د. عمر بن عبد الله المقبل
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ،وعلى آله وصحبه ومن والاه ، أما بعد :
فهذه ورقات متتابعات ـ بإذن الله ـ نقف فيها على شيء من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في إيضاح وغرس أسس العقيدة ـ بمعناها الشامل ـ في نفوس الناس: رجالاً ونساءً، صغاراً وكباراً، مسلمين وكفاراً؛ وستكون وقفات تجلي بعض المعاني، ومواضع القدوة في ذلك الموقف أو تلك القصة؛ خاصة ما يخدم ما نحن بصدده من الحديث عن جوانب العقيدة؛ لعل ذلك مما يعين على ترسّم هديه، واقتفاء أثره صلى الله عليه وسلم في غرس هذا الأصل العظيم الذي يقع التهاون به أحياناً من البعض، أو يخطئ آخرون في طريقة بيانه وتوضيحه.
ولستُ بحاجة إلى أن أبيّن أهمية هذا الموضوع، فما تحرك القلم، ولا سُوّدتْ هذه الأوراق، ولا رُصِفتْ هذه الأحرف إلا استشعاراً لشرف هذا الموضوع، وضرورة المساهمة ولو بالقليل في تجلية هذا الجانب المهم من هدي النبي صلى الله عليه وسلم فيه.
ولعلي أبدأ بهذا الموقف :
روى مسلم في صحيحه (ح 525) ـ وأصله في البخاري (ح 3336) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل عليه ( وأنذر عشيرتك الأقربين) « يا معشر قريش اشتروا أنفسكم من الله لا أغنى عنكم من الله شيئاً، يا بني عبد المطلب لا أغنى عنكم من الله شيئاً يا عباس بن عبد المطلب لا أغنى عنك من الله شيئاً، يا صفية عمة رسول الله لا أغنى عنكِ من الله شيئاً، يا فاطمة بنت رسول الله سليني بما شئت لا أغني عنك من الله شيئاً».
وفي حديث ابن عباس ـ في الصحيحين ـ قال : لما نزَلتْ: {وأنْذِرْ عشِيرتَكَ الأَقْرَبِينَ}[الشعراء:214] صَعِدَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم على الصَّفا، فجعل يُنادي: يا بني فِهْرٍ، يا بني عدِيّ - لِبُطونِ قُريشٍ - حتى اجتمعوا، فجعل الرجلُ إذا لم يستْطِعْ أَن يخرجَ أرسل رسولاً، ليَنْظرَ ما هو، فجاء أبو لهبٍ وقُريشٌ، فقال: أرأيْتَكُم لو أخبَرْتُكم أن خَيْلا بالوادي، تُريدُ أن تغير عليكم، أَكُنْتمْ مُصدِّقيَّ؟ قالوا: نعم، ما جرَّبنا عليكَ إلا صِدقاً، قال : فإِنِّي نذيرٌ لكم بين يديْ عذاب شديدٍ، فقال أبو لهب : تَبّا لك سائرَ اليومِ، أَلهذا جمَعْتنَا؟ فنزلت {تَبَّتْ يدَا أبي لهبٍ وتبَّ ، ما أغني عنه مالُه وما كَسَبَ }[المسد:2].
وفي رواية : أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم خرجَ إلى البَطْحاء ، فصَعِدَ الجبَلَ ، فنَادى : «يا صَبَاحاهُْ، يا صباحاهْ»، فاجتمعت إليه قُريشٌ .. الحديث. [ينظر في مجموع رواياته وألفاظه: جامع الأصول 2/286].
وفي هذا الموقف تتجلى لنا جملة من العبر، منها:
1 ـ سرعة الامتثال من النبي صلى الله عليه وسلم لتنفيذ أمر ربه تعالى، وهذا من أظهر معاني العبودية ،ألا وهو سرعة الاستجابة والتسليم لأمر الله تعالى، بدون تردد، أو تباطؤ، أو التماس للمعاذير، وهو بذلك - صلى الله عليه وسلم - يربي أمته بنفسه على التحقق بهذا المعنى العظيم، والذي دلت عليه نصوص كثيرة مشهورة، ليس هذا موضع ذكرها.
2 ـ لما كان المقام مقامَ نذارة، وبياناً لخطورة الشرك، وعدمِ أثرِ النسب في دفع العذاب ورفعه وقع منه هذا التفصيلُ الدقيق، والتدرجُ في التنصيص على أسماء أشخاص بأعيانهم من خاصة أقاربه، مع أنه لو اقتصر على الإنذار الذي يخص قريشاً لوقع الامتثال، ولكن هذا كلّه من أجل قطع الطريق على من يظن أن آصرة النسب قد تنفع من أعرض عن التوحيد!
وقد تأكد هذا المعنى بأجلى صوره في قصة أبي طالب ـ عم النبي صلى الله عليه وسلم ـ عند وفاته، وسيأتي حديث مفصل عنها في حلقة قادمة ـ إن شاء الله ـ .
وهكذا الداعية الموفق، يفصل في مقام التفصيل، ويجمل في مقام الإجمال، ويراعي موقع المسألة التي يتحدث فيها، ومنزلتها، فيعظم ما يستحق التعظيم، ولا يضخم ما لا يستحق ذلك.
3 ـ يلاحظ أن هذا النداء كان مبكراً، أي في أوائل العهد المكي، وقد شمل البضعة النبوية : فاطمة ـ رضي الله عنها ـ مع أنها كانت إذ ذاك صغيرة بلا شك، وفي هذا تأكيد على عناية النبي صلى الله عليه وسلم بمخاطبة الصغار بالتوحيد، والتحذير من الشرك.
فهل يعي هذا المربون؟ فيحرصون على مخاطبة الصغار بقضايا التوحيد بما يناسب سنهم وأفهامهم، وتحذيرهم من المناهي الفعلية واللفظية التي قد تقدح في التوحيد؛ ليرتضعوا هذه المعاني في وقت مبكر، الأمر الذي سيكون له الأثر الإيجابي على تنشئتهم وتربيتهم.
4 ـ هذا الحديث أصلٌ فيما يعرف اليوم بفقه الأولويات، فالله تعالى ـ وهو العليم الحكيم الخبير ـ أمرَ النبي صلى الله عليه وسلم بالبدء بدعوة أقاربه في وقت مبكر، إذ هم أحق الناس بذلك، وخاصة دعوتهم إلى التوحيد بمعناه الشامل.
وهذا كما أنه مقتضى الشرع ، فهو مقتضى العقل، فهل يعي هذا جيداً الدعاة إلى الله؟!
إن من المؤسف أن بعض المشتغلين بالدعوة، أغفل هذا الجانب إغفالاً نال أهل بيته الذين ولاّه الله أمرهم! وهذا لعمر الله من الخطأ، ومن الخلل في المنهج، وما هذا الخطاب الإلهي والتطبيق النبوي إلا أكبر دليل على ذلك.
5 ـ وقوف النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك المشعر المرتفع - الصفا - واستخدامُه أساليب النداء المفصّلة، ورفع صوته بندائه، كل ذلك إعلانٌ وإشارةٌ إلى أهمية ما سيلقيه من كلام، ولقد وصلت الرسالة سريعاً إلى مستمعي ذلك النداء النبوي، حيث كان من لم يستطع أن يذهب أرسل رسولاً.
وهكذا ينبغي على الداعية أن يوظف كل ما يقدر عليه من وسائل مكانية وبيانية في سبيل تبليغ دعوته للخلق، ولا يصح أن يتردد في استخدام أي وسيلة مباحة عنده، خصوصاً إذا كان لها تأثير واسع، كالكتب ،والإذاعات، والفضائيات، أو الإنترنت، فهذا هدي نبوي واضح، وجادة مطروقة للدعاة إلى الله في كل عصر ومصر.
6 ـ قد يبتلى الداعية بالصدود والإعراض، بل والأذى من قِبَلِ أقرب الناس إليه نسباً، كما وقع من الشقي أبي لهب، وهنا لا بد للداعية من التحلي بالصبر والحلم، وعدم الدخول في مهاترات كلامية لا قيمة لها، أو جدال يشغل الداعية عن المهمة الكبرى التي لأجلها رسم طريقه.
هاهو نبيك صلى الله عليه وسلم يسمع كلمة عمه أبي لهب، فلا يزيد على أن أعرض عن هذه الكلمة التي لو صدرت من رجل بعيدٍ لكانت قاسية، فكيف وهي من عمّه؟ الذي يُنْتَظرُ منه - وقد عرف صدق ابن أخيه - ما لا ينتظر من غيره من النصرة والإيواء!
ولقد تولى الله تعالى الدفاع عن نبيه صلى الله عليه وسلم، فأنزل في عمّه سورة تحكم بشقائه وخسرانه ـ عياذاً بالله ـ وهكذا كل من صدق مع الله، وأخلص له في دعوته، وتجرد من حظوظ نفسه دافع الله عنه بالكيفية التي يختارها سبحانه {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا} [الحج/38] ومن كان الله نصيره فلن يخذل أبداً.
فقد روى الشيخان من حديث عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم، ليس بيني وبينه إلا مؤخرة الرحل فقال: يا معاذ بن جبل! قلت: لبيك رسول الله وسعديك! ثم سار ساعة، ثم قال: يا معاذ بن جبل! قلت: لبيك رسول الله وسعديك! ثم سار ساعة، ثم قال: يا معاذ بن جبل! قلت: لبيك رسول الله وسعديك! ثم سار ساعة، ثم قال: "هل تدري ما حق الله على العباد؟" قال: قلت الله ورسوله أعلم، قال: "فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً"، ثم سار ساعةً، ثم قال: يا معاذ بن جبل! قلت: لبيك رسول الله وسعديك! قال: هل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم! قال: "أن لا يعذبهم".
وفي هذا الموقف، تتجلى لنا بعضالمعاني في هديه صلى الله عليه وسلم في تعليم العقيدة، منها:
1 ـ اغتنامه صلى الله عليه وسلم للفرص في إيصال معاني التوحيد لأصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم، حتى ولو كان ذلك في حال ركوب الدابة!
وهكذا شأن الداعية الموفق ،فلا ينفك عن الدعوة إلى التوحيد في جميع أحواله: حضراً وسفراً ، راكباً وماشياً، صحيحاً ومريضاً، وسيأتي وقفات مستقلة ـ إن شاء الله ـ مع بعض المواقف التي تجلي حرصه على الدعوة في هذه الأحوال من حياته صلى الله عليه وسلم.
إن من تأمل هذا الموقف مع معاذ ،وموقف نبي الله يوسف في دعوة السجناء، وقبلهم نوحٌ ـ عليهم جميعاً الصلاة والسلام ـ في دعوته لابنه حتى آخر لحظة من حياة ابنه ـ أدرك جيداً أن الدعوة هي وظيفة لا تقبل التوقف، وأنه لا يمنعهم منها مانع، فإن حيل بينه وبينها بقلم أو لسان، كان ثباته عليها، دعوةً بذاتها، خاصةً في الأزمان والأحوال التي يكثر فيها الجهل، والناكصون على أعقابهم، والمهونون من شأن الدعوة إلى التوحيد ، بأعذار كثيرة معروفة.
2 ـ التشويق لسماع واستيعاب ما يراد طرحه من مسائل مهمة، كمسائل الاعتقاد، وهذا ما يلاحظ من تكرير السؤال من النبي صلى الله عليه وسلم على معاذ، ثم ترك الجواب، وإعطائه فرصةً ليفكر فيه، وقع هذا ثلاث مرات ،وهذا الأسلوب في عرض المسائل ـ فيما وقفت عليه من أحاديث ـ من النوادر.
ويستفاد من هذا أن على داعية التوحيد أن ينوع في الأساليب في دعوته إلى هذه العقيدة، وأن يجتهد في التشويق بكل ما يقدر من أساليب ممكنة، ومحاولة الاستفادة من جميع الوسائل الممكنة لتقريب هذا العلم العظيم: اللغوية، والأدبية، والبيانية، والفنية، والتقنية، وغيرها.
3 ـ سياق الحديث يوحي بنوع اختصاص لمعاذ بهذا الحديث، بدليل قول معاذ: أفلا أبشر الناس؟ وجواب النبي صلى الله عليه وسلم له بقوله: "لا تبشرهم فيتكلوا".
وفي هذا فائدتان في بيان هديه صلى الله عليه وسلم في هذا الباب :
الأولى: أن من العلم ـ وخصوصاً في باب الاعتقاد ـ ما لا يشاع لعامة الناس، بل يؤخر نشره إلى أن يناسب الحال نشرَه وبثّه، وهذا يختلف باختلاف البلدان، والأحوال، والأشخاص، وهذا الهدي النبوي باقٍ إلى يوم القيامة.
وهذا كما هو هديه صلى الله عليه وسلم في الأقوال، فهو هديه ـ أيضاً ـ في الأفعال، كما في قصة ترك بناء الكعبة على قواعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
وسيراً على هذا الهدي كان بعض أئمة السنة ـ كالإمام أحمد ـ يكره التحديث بأحاديث الصفات عند العامة.
وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة.
الثانية: وهي وثيقة الصلة بما قبلها، أن للعالم أن يخص بعض نجباء طلابه ببعض العلم، إذا كان الطالب يفقه أبعاد الخطاب ومراميه.
وقد بوب البخاري ـ رحمه الله ـ على هذا في صحيحه بقوله: "باب من خص بالعلم قوماً دون قوم كراهية أن لا يفهموا"، ثم أورد تحت هذا الباب قولَ عليٍّ ـ رضي الله عنه ـ: "حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله ورسوله".
وفائدة ذلك أن يتصل العلم، ولا ينقطع بموت العالم، ويبقى في الطلاب من يتحمل مسؤولية البلاغ بعد ذلك، ناهيك عن الأثر النفسي الرائع الذي يتركه هذا الاختصاص.
4 ـ تأمل كيف قرن النبي صلى الله عليه وسلم بين العمل والترك في تحقيق التوحيد، فلا يكفي مجرد البراءة من الشرك بل لا بد من عمل، وهذا ظاهرٌ جليٌّ في جمعه صلى الله عليه وسلم بين العبادة وترك ما يضادها حين قال: "أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً".
والمراد بالعبادة: عمل الطاعات، واجتناب المعاصي، وعطف اجتناب الشرك دقيقه وجليله، لقوله: "شيئاً" في سياق النهي.
والحكمة في ذلك ـ كما ذكر بعض أهل العلم ـ: "أن بعض الكفرة كانوا يدعون أنهم يعبدون الله، ولكنهم كانوا يعبدون آلهة أخرى، فاشترط نفي ذلك".
وهذا معنى ما يقرره أئمة السنة، من أن الإيمان: قول وعمل، فلا بد من جنس العمل، إذ لا يتصور إيمان بلا عمل، أو أنه يكفي في الإيمان مجرد التصديق، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "هل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلو ذلك"؟ فنص على الفعل.
روى البخاري (5653) ومسلم (2754) في صحيحيهما من حديث عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قال: قدم على ـ النبي صلى الله عليه و سلم ـ سبي فإذا امرأة من السبي قد تحلب ثديها تسقي، إذا وجدت صبياً في السبي، أخذته فألصقته ببطنها، وأرضعته، فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: "أترون هذه طارحةً ولدها في النار؟" قلنا: لا وهي تقدر على أن لا تطرحه! فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "لله أرحم بعباده من هذه بولدها".
كم في هذا النص من المعاني والدلالات الإيمانية والتربوية! لعلنا نقف على شيء منها:
1 ـ التربية بالحدث!
فالنبي صلى الله عليه وسلم رغم انشغاله بهذا السبي الذي قدم، وتأملِه في كيفية تقسيمه، ومع انشغال الناس ـ أيضاً ـ بهذا، إلا أنه لم يغفل عن استثمار ما رآه من موقف؛ ليوصل من خلاله معنى من المعاني الشرعية، وحقيقة من الحقائق الإيمانية، بل وأصلاً من أصول العبادة.
ولقد كان هذا هدياً معروفاً عنه صلى الله عليه وسلم، لا يكاد يفوّت المواقف من غير تعليق يوصل من خلاله رسالةً واضحة لمعنىً من المعاني، ومن ذلك:
ما رواه مسلم في صحيحه (2957) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مر بالسوق داخلاً من بعض العالية، والناس كنفته([1] (http://www.alagidah.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=62#_ftn1)[1]) فمر بجَدْيٍ أَسَكٍّ([2] (http://www.alagidah.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=62#_ftn2)[2]) ميت، فتناوله فأخذ بأذنه، ثم قال: «أيكم يحب أن هذا له بدرهم؟» فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء! وما نصنع به؟! قال: «أتحبون أنه لكم؟» قالوا: والله لو كان حياً كان عيباً فيه؛ لأنه أسكّ، فكيف وهو ميت؟ فقال: «فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم»، ونظائر هذا ـ في السنة كثيرة ـ.
ولك أن تتصور أيهما أسرع وأقوى تأثيراً في النفس أن يلقي الإنسان خطبة عصماء في بيان حقيقة الدنيا، أم مثل هذا الموقف المعبر الذي اهْتَبَلَهُ النبي صلى الله عليه وسلم؟!
وهذا الكلام نفسه يقال عن تقرير عظمة صفة الرحمة لله جل وعلا ـ كما سيأتي ـ.
وهكذا شأن المربي الذي يحمل همّ تربية من حوله على الإيمان والمعاني الفاضلة، فإنه يحرص كل الحرص أن لا يفوّت أمثال هذه المواقف؛ ليربي من حوله بها، فهي ـ في الغالب ـ تغني عن عدة كلمات ينشئها المربي من حُرِّ لفظه.
2 ـ الرحمة صفة من أعظم صفات الباري جل جلاله وتقدستْ أسماؤه، بل هي من أظهر الصفات التي فطر الخلق على الإيمان بها، لما يرون من آثارها المُبصرة، كما قال سبحانه: { فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا [الروم : 50]}.
وهي ـ كغيرها من صفات الله تعالى ـ لا يمكن الإحاطة بها، كما قال تعالى: { وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا[طه : 110]}، لكن هذا لا يعني ترك بيان معانيها، وتقريب ذلك إلى أفهام الناس، كما وقع من النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف.
3 ـ كما كان هذا الحديث مقرباً لشيء من معاني وآثار هذه الصفة العظيمة من صفات الله تعالى (الرحمة) فهو ـ أيضاً ـ دالٌ على معنى عظيمٍ، وأصلٍ من أصول العبادة، ومحركٍ قوي من محركات القلوب، ألا وهو الرجاءُ والطمعُ في رحمة الله تعالى([3] (http://www.alagidah.com/vb/newthread.php?do=newthread&f=62#_ftn3)[3])، وفتحُ هذا الباب أمام القانطين من رحمة الله تعالى، وقطعُ الطريق على المقنّطين من رحمة الله وفضله، وأولهم عدو الله الأكبر إبليس، فهو يُبْرِزُ هذا المعنى (أعني القنوط) في وجه الراغبين في التوبة بعد حياة مليئة بالكفر، أو بالفسوق والفجور، والبعد عن الله تعالى، فيقال لهم: تأملوا هذا الحديث وما فيه من تعظيمٍ لهذا المعنى.
وليتأمل كل من ضخّم الشيطان ذنوبه ومعاصيه ـ في نفسه ـ قولَ النبي صلى الله عليه وسلم : "لله أرحم بعباده" فقد أضاف عبوديتهم له سبحانه، إيذاناً بالعفو والمغفرة والرحمة!
وإنك لتعجب كيف يقنط إنسان من رحمة الله وهو يقرأ هذا الحديث الصحيح! أو يقرأ قول الله تعالى: { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر : 53]} ! ولهذا كان من فقه النووي ـ رحمه الله ـ أن أورد حديث عمر هذا في باب الرجاء من كتابه المبارك "رياض الصالحين".
4 ـ أهل السنة حينما يتحدثون عن الرجاء، فإنهم يقرنونه بصنوه وهو الأصل الثاني من أصول العبادة، وهو: الخوف، لذا فإن من فقه هذا الباب أن يكون الإنسان متوازناً بين هذين الأصلين، فإن قَرُبَ الأجل استحب للمؤمن أن يغلب جانب الرجاء من حسن الظن بالله تعالى، لحديث جابر رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل موته بثلاثة أيام يقول : «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل».
وههنا ملحظ في هذه المسألة ـ وهي مسألة الخوف والرجاء ـ ينبغي التنبه له:
أننا إذا كنا نتحدّث مع مجتمع أو شخص مقبل على التوبة، وقد غلب الخوف عليه واشتد، فلا يحسن حيئنذٍ أن نتحدث عن الخوف، بل المناسب هنا الحديث عن الرجاء، وفتح أبواب التوبة أمام العصاة والمذنبين، لأننا في مقام كهذا لسنا في مقام تقرير الاعتقاد حتى يقال: لا بد من اكتمال الصورة، والحديث عن باقي الأصول (المحبة والرجاء) بل نحن في مقام معالجة لحالة مرضية، ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما حدثهم بهذا الحديث الذي يدل على سعة رحمة الله، لم يستدرك في حديثه ويحدثهم عن مقام الخوف!
وكما أنه لا يحسن توسيع باب الرجاء أمام أناس عتاة مجرمين، قد لجوا في طغيانهم، واستمرأوا الذنوب والمعاصي، فكذا الحال هنا.
وإنما نبهت على هذا لأننا نلحظ من بعض الوعاظ ـ وفقهم الله ـ من يغيب عنه هذا الهدي النبوي في تقرير هذه المعاني العظيمة، وينسى أو يخفى عليه أن لكل حالةٍ لبوسها، والله تعالى أعلم.


منقول

http://www.alagidah.com/vb/showthread.php?t=8009