أ/أحمد
06-16-2012, 05:12 PM
وقفات مع القائلين بأصل حمل المجمل على المفصل
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه.
أما بعد: فهذه وقفات مع القائلين بأصل حمل المجمل على المفصل وتأريخ نشأته وبيان بطلانه بالبراهين الإسلامية.
هذا وليعلم القارئ سلفاً أن دعاة حمل المجمل على المفصل لا يفرقون بين الأقوال المجملة وبين النصوص الواضحة أو الظاهرة مما ينتقده أهل السنة على أهل الباطل أو الأخطاء، وهذا التأصيل منهم من الباطل المصادم لمنهج القرآن والسنة ومنهج السلف الصالح القائم على الكتاب والسنة، وسترى في هذا البحث من النصوص القرآنية والنبوية ومن كلام السلف وواقعهم ما يبطل أصلهم الفاسد سواء أرادوا بالمجمل المجمل المعروف عند الأصوليين أو أرادوا به ما هو أعم من ذلك مما يشمل النص والظاهر عند الأصوليين أيضاً.
الوقفة الأولى: أن الذي يدرس كتب العقائد وكتب الجرح والتعديل وكتب الجرح الخاص مثل كتاب "الضعفاء" للبخاري، وكتاب "الضعفاء والمتروكين" للنسائي، وكتاب "المجروحين" لابن حبان، وكتاب أو كتب الضعفاء للدارقطني، وكتاب "الضعفاء" للحاكم وغيرها، لا يجد فيها ذكراً لحمل المجمل على المفصل، ولا يجد في كلامهم على الرجال أي تطبيق لهذا الأصل، ولو كان هذا أمراً مشروعاً على وجه الوجوب أو الاستحباب لوجدته قد امتلأت به كتبهم لعدلهم وإنصافهم وحرصهم على تطبيق شريعة الإسلام.
الوقفة الثانية: بيان منشأ هذا الأصل الباطل.
هو رد عبد الله عزام على تصريح العلامة الألباني –رحمه الله- بأن سيد قطب يقول بوحدة الوجود عند ذلك هبَّ عبد الله عزام يدافع عن سيد قطب، ويرد على الشيخ الألباني.
وخلال هذا الدفاع والرد اخترع وجوب حمل كلام الرجل المجمل على المفصل، وأن عامه يحمل على خاصه، ومطلقه يحمل على مقيده.
فهذا أول ظهور هذا الأصل الباطل بهذا اللفظ.
ولما تصديت أنا ربيع لنقد سيد قطب، رددتُ على هذه الأمور المخترعة ردوداً شافية لكل منصف.
ثم خلف عبد الله عزام أبو الحسن المصري المأربي يدافع عن سيد قطب، ويدعو إلى حمل مجملات سيد قطب على مفصلاته، ويطعن فيمن يقول: إن سيد قطب يقول بوحدة الوجود، أو ينتقد شيئاً من ضلالاته، وصبرتُ عليه سنوات أتلطف به رجاء أن يثوب إلى رشده، فما كان يزيد على مر الأيام إلا بلاء على بلاء.
هذا مع العلم أن ضلالات سيد قطب ليست من المجملات، بل هي من المفصلات الواضحات.
فلما ألجأني إلى الرد عليه قمتُ بواجب الرد، وبيّنتُ له بطلان هذا الأصل من وجوه، وانكشف أمره، وأنه يدافع بهذا الأصل الباطل عن أهل البدع غيّر أسلوبه وأنكر أنه يدافع عن أهل البدع وجاء بأسلوب جديد في المجمل والمفصل.
حيث قال في شريط رقم (4) القول الأمين، جهة (أ):
((هناك من يقول إن هذه القاعدة ([1]) لخدمة أهل البدع أبداً أنا أخالف في هذا([2])، حمل المجمل على المفصل سواءً من السني أو المبتدع؛ السني مفصله الخير والحسن، والبدعي مفصله القبيح والشر، مجمل السني الكلمة التي تحتمل خيراً وشراً تحمل على الخير، ومجمل البدعي يحمل على الشر لأن صريحه في هذا الموضع شر([3])، فأي خدمة لأهل البدع في هذا. حتى يقال إن هذه القاعدة تنافي جهاد الأئمة في الرد على أهل البدع لا منافاة أبداً".
وجاء بشبهات وشبهات، فرددتُ هذه الشبهات وبينتُ بطلانها من وجوه، ونقلتُ عن جمع من العلماء أنه لا يؤول إلا كلام المعصوم، ومن جملة ما نقلته كلام العلامة الشوكاني في كتابه "الصوارم الحداد" (ص96-97) حيث قال:
" وقد أجمع المسلمون أنه لا يؤول إلا كلام المعصوم".
فاستمر أبو الحسن في مكابرته وعناده، وأدرك كثير ممن كان مخدوعاً به أنه صاحب هوى، ويجادل بالباطل، فعادوا إلى جادة السلف.
أما هو فعاد إلى الدفاع عن سيد قطب وغيره من أهل الضلال، ويدَّعي عناداً ومشاقة لأهل السنة أن الإخوان المسلمين وجماعة التبليغ من أهل السنة، بل السواد الأعظم من الأمة سلفيون، وهذا تطبيق لأصوله التي أصلها، ومنها: "المنهج الواسع الأفيح الذي يسع أهل السنة ويسع الأمة كلها" إلا السلفيين.
وعلى قوله يجب حمل إجمالات جماعة التبليغ والإخوان المسلمين البدعية على مفصلاتهم فتصبح ضلالاتهم كلها حقاً، ومفصلهم عند أبي الحسن هو كونهم من أهل السنة في زعمه، فتصبح ضلالاتهم مفصلها ومجملها كلها حق.
الوقفة الثالثة:
قال بعض القائلين بحمل المجمل على المفصل: ((وإذا وُجد لأحد من أهل السنة كلام مجمل وكلام مفصَّل فالذي ينبغي إحسان الظن به وحمل مجمله على مفصله؛ لقول عمر رضي الله عنه: ((ولا تظننَّ بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلا خيراً وأنت تجد لها في الخير محملاً))".
أقول:
أ- قولك: "أهل السنة" ، يشمل العلماء وطلاب العلم وعوام أهل السنة.
وهذا الكلام يفيد أن أهل السنة لا يعاملون دائماً إلا بحسن الظن المطلق، فلا تنتقد أخطاؤهم ومخالفاتهم؛ لأن هذا الأصل يحميهم وينـزلهم منـزلة المعصومين.
وواقع الكتاب والسنة وعمل السلف بخلاف ذلك.
هذا وينبغي أن يعرف القارئ الكريم أن مفصل السني عند أبي الحسن ومن يقلده هو "الخير والحسن"، وليس هو الكلام المفصل.
ب- استدللتَ على هذا القول بكلام منسوب لأمير المؤمنين عمر -رضي الله عنه- لا يثبت عنه.
1- لأنه ليس له إسناد إلى عمر -رضي الله عنه-.
2- يكفي القارئ أن ابن كثير -رحمه الله- لم يسق إسناده.
3- وأنه أشار إلى ضعفه بصيغة التمريض "روينا"، فبطل الاحتجاج به.
والذي يثبت عن عمر -رضي الله عنه- إنما هو كلامه الموافق للشريعة الإسلامية، ألا وهو قوله: " إِنَّ أُنَاسًا كَانُوا يُؤْخَذُونَ بِالْوَحْيِ في عَهْدِ رسول اللَّهِ e وَإِنَّ الْوَحْيَ قد انْقَطَعَ وَإِنَّمَا نَأْخُذُكُمْ الْآنَ بِمَا ظَهَرَ لنا من أَعْمَالِكُمْ فَمَنْ أَظْهَرَ لنا خَيْرًا أَمِنَّاهُ وَقَرَّبْنَاهُ وَلَيْسَ إِلَيْنَا من سَرِيرَتِهِ شَيْءٌ الله يُحَاسِبُهُ في سَرِيرَتِهِ وَمَنْ أَظْهَرَ لنا سُوءًا لم نَأْمَنْهُ ولم نُصَدِّقْهُ وَإِنْ قال: إِنَّ سَرِيرَتَهُ حَسَنَةٌ"، أخرجه البخاري في "الشهادات" حديث (2641).
فهذا القول يتفق مع الأصل الإسلامي، وهو الأخذ بالظاهر من كلام الله وكلام رسوله وكلام الناس، فمن أظهر من الناس سوءاً أخذ بظاهر حاله ومقاله، سواء كان كلامه مجملاً أو مفصلاً.
فهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول:
"إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلي وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ من بَعْضٍ فَأَقْضِيَ له على نَحْوٍ مِمَّا أَسْمَعُ منه فَمَنْ قَطَعْتُ له من حَقِّ أَخِيهِ شيئا فلا يَأْخُذْهُ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ له بِهِ قِطْعَةً من النَّارِ". أخرجه البخاري في كتاب "المظالم" حديث (2458)، ومسلم في كتاب "الأقضية" حديث (1713).
فهذا الحديث من أقوى الأدلة على الأخذ بالظاهر.
والعلماء من كل المذاهب إذا كان للعالم في مسألة ما قولان أو أكثر لا يحملون مجملاته على مفصلاته، بل يرجحون أقوى القولين أو الأقوال والذي يدل عليه الدليل، فعملهم هذا يدل على أنهم يرون أن القول المرجوح خطأ، وأنهم لا يرون حمل المجمل على المفصل.
وهذه كتب الفقه بين أيدينا، فمثلاً كثير من المسائل للإمام أحمد فيها قولان، فيأتي العلماء مثل أبي يعلى وابن قدامة وشيخ الإسلام نفسه وغيرهم، فيقدمون ما ترجحه الأدلة من الأقوال على ما يقابلها، ولا يقولون: نحمل المجمل على المفصل، فيصير القولان كلاهما حقاً، كما هو مؤدى كلام من يقول بحمل المجمل على المفصل.
لقد تعلمنا من شيخ الإسلام ومَن قبله من الأئمة ومن بعده قولهم: "كل يؤخذ من قوله ويرد إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-".
وأن العلماء بما فيهم الصحابة ليسوا بمعصومين من الخطأ.
ومن كلام شيخ الإسلام –رحمه الله- : إن الرجال يحتج لهم ولا يحتج بهم.
وكم حث العلماء المعتبرون على ترك التقليد، ولا سيما الإمامان الشافعي وأحمد وابن تيمية وابن القيم وغيرهم -رحمهم الله- فمن أقوال الإمام أحمد: "لَا تُقَلِّدْنِي وَلَا تُقَلِّدْ مَالِكًا وَلَا الثَّوْرِيَّ وَلَا الْأَوْزَاعِيَّ وَخُذْ من حَيْثُ أَخَذُوا".
وحاشاه أن يقول: احملوا مجمل أقوالي على مفصلاتها، أو على حالي الحسن.
ومن أقواله –رحمه الله-: " عجبتُ لقوم عرفوا الإسناد وصحته ، ويذهبون إلى رأي سفيان ، والله تعالى يقول : ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )، [سورة النور : 63 ]، أتدري ما الفتنة ؟ الفتنة: الشرك . لعله إذا ردَّ بعضَ قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك" ، "فتح المجيد لشرح كتاب التوحيد" (ص363).
فأين حمل مجمل سفيان على مفصلاته أو على حاله الحسنة عند الإمام أحمد وغيره؟
ولقد تكلم الإمام ابن القيم –رحمه الله- على التقليد والمقلدين، وردَّ على شبهاتهم من واحد وثمانين وجهاً في كتابه "إعلام الموقعين".
ولو كان حمل المجمل على المفصل أصلاً من أصول الإسلام، فكيف ينكر ابن القيم وغيره تقليد الأئمة الكبار؟
ولا يسمح العلماء بالتقليد إلا للعاجزين عن فهم الكتاب والسنة.
وهذا شيخ الإسلام -رحمه الله- يطعن فيمن يتكلمون بالمجملات وينقل ذلك عن السلف.
قال –رحمه الله- في "درء تعارض العقل والنقل" (1/254):
" فطريقة السلف والأئمة أنهم يراعون المعاني الصحيحة المعلومة بالشرع والعقل، ويراعون أيضا الألفاظ الشرعية، فيُعبِّرون بها ما وجدوا إلى ذلك سبيلا، ومن تكلم بما فيه معنى باطل يخالف الكتاب والسنة ردّوا عليه.
ومن تكلم بلفظ مبتدع يحتمل حقا وباطلا؛ نسبوه إلى البدعة أيضا، وقالوا إنما قابل بدعة ببدعة وردَّ باطلا بباطل".
أقول:
في هذا النص بيان أمور عظيمة ومهمة يسلكها السلف الصالح للحفاظ على دينهم الحق، وحمايته من غوائل البدع والأخطاء منها:
أ- شدة حذرهم من البدع، ومراعاتهم للألفاظ والمعاني الصحيحة المعلومة بالشرع والعقل، فلا يُعبِّرون -قدر الإمكان- إلا بالألفاظ الشرعية، ولا يطلقونها إلا على المعاني الشرعية الصحيحة الثابتة بالشرع المحمدي.
ب- أنهم حراس الدين وحُماته، فمن تكلّم بكلام فيه معنى باطل يُخالف الكتاب والسنة ردّوا عليه، سواء كان كلامه مجملاً أو مفصلاً، وإذا كان مجملاً لا يحملون مجمله على مفصله.
ومن تكلّم بلفظ مبتدع يحتمل حقاً وباطلاً نسبوه إلى البدعة، ولو كان يرد على أهل الباطل، ولا يحملون مجمله على مفصله.
وقال الإمام ابن القيم –رحمه الله- في "الكافية الشافية" (ص82):
فعليك بالتفصيل والتمييز فالـ ... إطلاقُ والإجمالُ دون بيان
قد أفسدا هذا الوجود وخبّطا الـ ... أذهانَ والآراءَ كل زمان
فهذه نظرة الإمام ابن القيم إلى الإطلاق والإجمال، وما لهما من الآثار السيئة على الأذهان والآراء، وهذا منه مشيٌ على منهج السلف والأئمة، فأين حمل المجمل على المفصل عند هذا الإمام؟
وقال شيخ الإسلام –رحمه الله- في "مجموع الفتاوى" (10/362-363) حاثاً على التمسك بالكتاب والسنة وآثار الصحابة وبناء العلم في الأصول والفروع على ذلك:
" فالعلم المشروع والنسك المشروع مأخوذ عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما ما جاء عمن بعدهم فلا ينبغي أن يجعل أصلا ، وإن كان صاحبه معذورا، بل مأجورا لاجتهاد أو تقليد .
فمن بنى الكلام في العلم : الأصول والفروع على الكتاب والسنة والآثار المأثورة عن السابقين فقد أصاب طريق النبوة، وكذلك من بنى الإرادة والعبادة والعمل والسماع المتعلق بأصول الأعمال وفروعها من الأحوال القلبية والأعمال البدنية على الإيمان والسنة والهدى الذي كان عليه محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقد أصاب طريق النبوة، وهذه طريق أئمة الهدى .
تجد " الإمام أحمد " إذا ذكر أصول السنة قال : هي التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" .
تأمل هذا الكلام الرصين، وتأمل دعاوى حمل المجمل على المفصل الذي اخترعه رجل جاهل ضال، لا يحترم هذه الأصول، ولا هذا المنهج العظيم؛ منهج السلف الصالح.
سوق بعض الأدلة من الكتاب والسنة على بطلان حمل المجمل على المفصل:
1- قال تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)، [سورة النور : 4].
فالذي يرمي امرأة مؤمنة محصنة بالزنى مهما بلغ من العلم والفضل والمنـزلة والجهاد، ولو كان صادقاً في نفس الأمر، ثم لم يأت بأربعة شهداء على دعواه فحده ثمانون جلدة، وتسقط عدالته، ويصير من الفاسقين، لا تقبل له شهادة أبداً، إلا أن يتوب ويكذب نفسه، فأين حمل المجمل على المفصل عند الله وعند المؤمنين والحكام العادلين، وهذا في حماية الأعراض فكيف بحماية الدين؟
2- وقال تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً)، [سورة الأحزاب : 58].
إذا قالوا كلاماً يؤذي المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا، فهذا حكمه عند الله سواء كان كلامه مجملاً أو مفصلاً.
وقال أبو داود: حدثنا القعنبي، حدثنا عبد العزيز -يعني ابن محمد- عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة أنه قيل: يا رسول الله، ما الغيبة؟ قال: "ذكرك أخاك بما يكره"، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: "إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته".
وهكذا رواه الترمذي، عن قتيبة، عن الدراوردي، به. ثم: قال حسن صحيح"، "تفسير ابن كثير" (11/241).
فلو ذكر أخاه المسلم بما يكره، ولو كان فيه فإنه يعتبر من الغيبة المحرمة مثل الذي يأكل لحم أخيه ميتاً.
فأين حمل المجمل على المفصل؟
أقول: ويستثنى من الغيبة أمور معلومة، ومنها التحذير من أهل البدع والفسوق وجرح الضعفاء والكذابين، فإن ذلك حماية للدين، ولا يعد من الغيبة.
3- عن مُعَاذِ بن جَبَلٍ قال: كنت مع النبي –صلى الله عليه وسلم- في سَفَرٍ فَأَصْبَحْتُ يَوْمًا قَرِيبًا منه وَنَحْنُ نَسِيرُ فقلت: يا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ وَيُبَاعِدُنِي عن النَّارِ، قال: لقد سَأَلْتَنِي عن عَظِيمٍ وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ على من يَسَّرَهُ الله عليه، تَعْبُدُ اللَّهَ ولا تُشْرِكْ بِهِ شيئا وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ وَتَصُومُ رَمَضَانَ وَتَحُجُّ الْبَيْتَ، ثُمَّ قال: "ألا أَدُلُّكَ على أَبْوَابِ الْخَيْرِ: الصَّوْمُ جُنَّةٌ وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كما يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ، وَصَلَاةُ الرَّجُلِ من جَوْفِ اللَّيْلِ"، قال: ثُمَّ تَلَا: ( تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عن الْمَضَاجِعِ )، حتى بَلَغَ ( يَعْمَلُونَ) ثُمَّ قال: "ألا أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الْأَمْرِ كُلِّهِ وَعَمُودِهِ وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ"، قلت: بَلَى يا رَسُولَ اللَّهِ، قال: "رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ"، ثُمَّ قال: "ألا أُخْبِرُكَ بِمَلَاكِ ذلك كُلِّهِ"، قلت: بَلَى يا نَبِيَّ اللَّهِ، فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ قال: "كُفَّ عَلَيْكَ هذا"، فقلت: يا نَبِيَّ اللَّهِ وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ، فقال: "ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يا مُعَاذُ وَهَلْ يَكُبُّ الناس في النَّارِ على وُجُوهِهِمْ أو على مَنَاخِرِهِمْ إلا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ" ، أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" (5/231)، والترمذي في "الجامع الكبير" في "أبواب الإيمان" حديث (2616)، وابن ماجه في "سننه" حديث (3973)، وأورده العلامة الألباني في "الصحيحة" حديث (1122) وصححه هنا، و (3284).
فهذا الحديث فيه بيان خطورة اللسان، وأن حصائد الألسن تكب الناس على وجوههم في النار سواء أكان الكلام مجملاً أو مفصلاً.
فأين حمل المجمل على المفصل في هذا التحذير النبوي؟
ألا ترى أن حمل المجمل على المفصل في واد، والمنهج النبوي في واد آخر؟
4- تقدم لنا قول رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلي وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ من بَعْضٍ فَأَقْضِيَ له على نَحْوٍ مِمَّا أَسْمَعُ منه فَمَنْ قَطَعْتُ له من حَقِّ أَخِيهِ شيئا فلا يَأْخُذْهُ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ له بِهِ قِطْعَةً من النَّارِ". أخرجه البخاري في كتاب "المظالم" حديث (2458)، ومسلم في كتاب "الأقضية" حديث (1713).
فهذا الحديث من الأدلة على وجوب الأخذ بالظاهر وبطلان حمل المجمل على المفصل.
5- قال الإمام أحمد في "مسنده" (2/332): ثنا أبو عَامِرٍ ثنا عِكْرِمَةُ بن عَمَّارٍ عن ضَمْضَمِ بن جَوْسٍ اليمامي قال: قال لي أبو هُرَيْرَةَ: "يا يمامي لاَ تَقُولَنَّ لِرَجُلٍ والله لاَ يَغْفِرُ الله لك أو لاَ يُدْخِلُكَ الله الْجَنَّةَ أَبَداً، قلت: يا أَبَا هُرَيْرَةَ إن هذه لَكَلِمَةٌ يَقُولُهَا أَحَدُنَا لأَخِيهِ وَصَاحِبِهِ إذا غَضِبَ، قال: فَلاَ تُقُلْهَا فإني سمعت النبي e يقول كان في بني إِسْرَائِيلَ رَجُلاَنِ كان أَحَدُهُمَا مُجْتَهِداً في الْعِبَادَةِ وكان الآخَرُ مُسْرِفاً على نَفْسِهِ فَكَانَا مُتَآخِيَيْنِ فَكَانَ الْمُجْتَهِدُ لاَ يَزَالُ يَرَى الآخَرَ على ذَنْبٍ فيقول يا هذا أَقْصِرْ فيقول: خلني وربي أَبُعِثْتَ عَلَيَّ رَقِيباً؟ قال: إلى أَنْ رَآهُ يَوْماً على ذَنْبٍ اسْتَعْظَمَهُ فقال له: وَيْحَكَ اقصر، قال: خلني وَرَبِّى أَبُعِثْتَ عَليَّ رَقِيباً؟، قال: فقال: والله لاَ يَغْفِرُ الله لك أو لاَ يُدْخِلُكَ الله الْجَنَّةَ أَبَداً، قال أَحَدُهُمَا([4]) قال فَبَعَثَ الله إِلَيْهِمَا مَلَكاً فَقَبَضَ أَرْوَاحَهُمَا وَاجْتَمَعَا فقال لِلْمُذْنِبِ اذْهَبْ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ برحمتي وقال لِلآخَرِ أَكُنْتَ بي عَالِماً؟ أَكُنْتَ على ما في يدي خَازِناً؟ اذْهَبُوا بِهِ إلى النَّارِ قال: فوالذي نَفْسُ أبي الْقَاسِمِ بيده لَتَكَلَّمَ بِالْكَلِمَةِ أوبقت دُنْيَاهُ وآخرته"، وأخرجه أبو داود في "سننه" كتاب "الأدب"، باب في النهي عن البغي، حديث (4901)، وابن حبان في "الإحسان" حديث (5712).
انظر أخي هذا رجل عابد مجتهد في العبادة، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر-وهذه من أحسن السير والأحوال-، قال كلمة دافعها الغيرة على دين الله، لكنها لم ترض الله، فأوبقت دنياه وآخرته، فأين حمل المجمل على المفصل؟
ولعل الذين يطالبون بحمل مجمله على مفصله قد أوبق مجمله دنياه وآخرته.
6- وعن أبي هريرة –رضي الله عنه- سمع رَسُولَ اللَّهِ e يقول: "إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ ما يَتَبَيَّنُ فيها يَزِلُّ بها في النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بين الْمَشْرِقِ والمغرب"، أخرجه البخاري في "الرقاق" في "باب حفظ اللسان" حديث (6477)، ومسلم في "الزهد والرقاق" باب التكلم بالكلمة يهوي بها في النار، حديث (2988).
وعن أبي هريرة أيضاً –رضي الله عنه- عن النبي e قال: "إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ من رِضْوَانِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لها بَالًا يرفعه الله بها دَرَجَاتٍ وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ من سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لها بَالًا يهوي بها في جَهَنَّمَ" أخرجه البخاري في "الرقاق" في "باب حفظ اللسان" حديث (6478)، ومسلم في "الزهد والرقاق" باب التكلم بالكلمة يهوي بها في النار، حديث (2988).
7- وعن بلال بن الحارث المزني أن رَسُولَ الله e قال: إن الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ من رِضْوَانِ الله ما كان يَظُنُّ أن تَبْلُغَ ما بَلَغَتْ يَكْتُبُ الله له بها رِضْوَانَهُ إلى يَوْمِ يَلْقَاهُ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلَمِةِ من سَخَطِ الله ما كان يَظُنُّ أن تَبْلُغَ ما بَلَغَتْ يَكْتُبُ الله له بها سَخَطَهُ إلى يَوْمِ يَلْقَاهُ". أخرجه مالك في الموطأ في كتاب "الكلام، باب ما يُؤْمَرُ بِهِ مِنَ التَّحَفُّظِ في الْكَلاَمِ، حديث (5).
وفي لفظ لمسلم: " يهوي بها في النَّارِ أَبْعَدَ ما بين الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ".
فأين حمل المجمل على المفصل، فهذا في الكلام الذي لا يلقي له صاحبه بالاً، يهوي به في جهنم أبعد مما بين المشرق والمغرب، أو يكتب الله له بها سخطه إلى يوم القيامة، فكيف بمن يتعمد الكذب والباطل والبدع والتلبيس في كثير وكثير من كلامه.
8- وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ e قَضَى في امْرَأَتَيْنِ من هُذَيْلٍ اقْتَتَلَتَا فَرَمَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى بِحَجَرٍ فَأَصَابَ بَطْنَهَا وَهِيَ حَامِلٌ فَقَتَلَتْ وَلَدَهَا الذي في بَطْنِهَا فَاخْتَصَمُوا إلى النبي e فَقَضَى أَنَّ دِيَةَ ما في بَطْنِهَا غُرَّةٌ عَبْدٌ أو أَمَةٌ فقال وَلِيُّ الْمَرْأَةِ التي غَرِمَتْ كَيْفَ أَغْرَمُ يا رَسُولَ اللَّهِ من لَا شَرِبَ ولا أَكَلَ ولا نَطَقَ ولا اسْتَهَلَّ فَمِثْلُ ذلك يطل فقال النبي e إنما هذا من إِخْوَانِ الْكُهَّانِ". متفق عليه، أخرجه البخاري في "الطب"، باب الكهانة، حديث (5758)، وفي مواضع أخر، وأخرجه مسلم في "القسامة" حديث (1681).
أقول: وصف النبي –صلى الله عليه وسلم- هذا الرجل الذي تكلم بهذا الكلام بأنه من إخوان الكهان، مع حسن حاله وسيرته وصحبته.
فأين حمل المجمل على المفصل؟
وإذن فمقتضى دين الله أن يحكم على الكلام الباطل بأنه باطل، مهما بلغ قائله من الفضل والمكانة، سواء كان الكلام مجملاً أو مفصلاً، وهذا دين الله، وهذا هو المنهج الحق الذي يعارضه دعاة حمل المجمل على المفصل، والمفصل عندهم في الغالب حسب حال المتكلم.
9- عن عَمْرِو بن الْعَاصِ أَنَّهُ سمع رَسُولَ اللَّهِ e يقول: "إذا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وإذا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ".أخرجه البخاري في "الاعتصام" حديث (7352)، ومسلم في (الأقضية) حديث (1716).
في هذا الحديث بيان أن الحاكم قد يصيب فله أجران أجر اجتهاده وأجر إصابته الحق، وقد يخطئ في اجتهاده فلا يصيب الحق فله أجر اجتهاده، ويعفو الله عن خطئه، ولا يجوز لأحد أن يتبعه في خطئه، وهذا أصل عظيم عند أهل السنة.
وأن العالم المجتهد المخلص يصيب ويخطئ، فيقبل صوابه ويرد خطؤه مجملاً كان أو مفصلاً، ولو كان من كبار الصحابة أو كبار الأئمة، مع احترامه وحِفظ مكانته، ولا يعد رد خطئه تنقصاً له، والذي يقبل خطأه ويرى أن ردّ خطئه تنقصاً له إنما أُتيَ من جهله وهواه، فإن الحق أعظم وأكبر من الرجال مهما بلغوا من المنـزلة.
والشاهد أنه ليس في الحديث حمل المجمل على المفصل.
وإنما فيه الحكم على الصواب بأنه صواب، وعلى الخطأ بأنه خطأ.
وهذا منهج أهل العلم من السابقين واللاحقين.
وهو عكس قول من يقول بحمل المجمل على المفصل، حتى ينتفي الخطأ عن أهل الخطأ، والباطل عن أهل الباطل، ويصير مجمله ومفصله شيئاً واحداً يسمى حقاً.
فهذه تسعة أدلة صحيحة ثابتة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تبطل دعوى حمل المجمل على المفصل، وتدين دعاته بأنهم دعاة إلى الباطل، وأنهم مضادون لمنهج الإسلام.
سوق أقوال بعض الأئمة من الصحابة وغيرهم التي فيها الرد على من يقول بحمل المجمل على المفصل.
1- عن عُبَيْدِ اللَّهِ بن عبد اللَّهِ قال: حدثني ابن عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قال: كنت أُقْرِئُ عَبْدَ الرحمن بن عَوْفٍ فلما كان آخِرُ حَجَّةٍ حَجَّهَا عُمَرُ فقال عبد الرحمن بِمِنًى لو شَهِدْتَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَتَاهُ رَجُلٌ قال: إِنَّ فُلَانًا يقول لو مَاتَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ لَبَايَعْنَا فُلَانًا فقال عُمَرُ لَأَقُومَنَّ الْعَشِيَّةَ فَأُحَذِّرَ هَؤُلَاءِ الرَّهْطَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَغْصِبُوهُمْ قلت: لَا تَفْعَلْ فإن الْمَوْسِمَ يَجْمَعُ رَعَاعَ الناس يَغْلِبُونَ على مَجْلِسِكَ فَأَخَافُ أَنْ لَا يُنْزِلُوهَا على وَجْهِهَا فَيُطِيرُ بها كُلّ مطِيرٍ فَأَمْهِلْ حتى تَقْدَمَ الْمَدِينَةَ دَارَ الْهِجْرَةِ وَدَارَ السُّنَّةِ فَتَخْلُصَ بِأَصْحَابِ رسول اللَّهِ e من الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فَيَحْفَظُوا مَقَالَتَكَ وَيُنْزِلُوهَا على وَجْهِهَا فقال: والله لَأَقُومَنَّ بِهِ في أَوَّلِ مَقَامٍ أَقُومُهُ بِالْمَدِينَةِ قال ابن عَبَّاسٍ: فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فقال إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا e بِالْحَقِّ وَأَنْزَلَ عليه الْكِتَابَ فَكَانَ فِيمَا أُنْزِلَ آيَةُ الرَّجْمِ". أخرجه البخاري في "الاعتصام"، حديث (7323)، وفي "الحدود" حديث (6830) مطولاً، وفيه: "فَمُحَذِّرُهُم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم".
لقد غضب عمر من هذا القول وحكم على هذا الرجل والرهط الذين معه بأنهم يريدون أن يغصبوا المسلمين أمورهم، ثم أراد أن يخطب بهذا بمنىً محذراً منهم، ثم خطب في المدينة خطبة طويلة تعرض فيها لهذه المسألة، فلم يحمل عمر –رضي الله عنه- مجمل هؤلاء على مفصلهم، وهو حالهم الحسن، وأقرّه الصحابة على هذا الموقف الحازم، ومنهم عبد الرحمن بن عوف وابن عباس –رضي الله عنهم-.
2- قال يحيى بن يعمر لعبد الله بن عمر: "...يا أَبَا عبد الرحمن إنه قد ظَهَرَ قِبَلَنَا نَاسٌ يقرؤون الْقُرْآنَ وَيَتَقَفَّرُونَ الْعِلْمَ وَذَكَرَ من شَأْنِهِمْ وَأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنْ لَا قَدَرَ وَأَنَّ الْأَمْرَ أُنُفٌ قال فإذا لَقِيتَ أُولَئِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنِّي برئ منهم وَأَنَّهُمْ بُرَآءُ مِنِّي وَالَّذِي يَحْلِفُ بِهِ عبد اللَّهِ بن عُمَرَ لو أَنَّ لِأَحَدِهِمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا فَأَنْفَقَهُ ما قَبِلَ الله منه حتى يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ ثُمَّ قال حدثني أبي عُمَرُ بن الْخَطَّابِ قال بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رسول اللَّهِ e ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ لَا يُرَى عليه أَثَرُ السَّفَرِ ولا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ حتى جَلَسَ إلى النبي e فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إلى رُكْبَتَيْهِ وَوَضَعَ كَفَّيْهِ على فَخِذَيْهِ...الحديث، أخرجه مسلم في "الإيمان" حديث (8).
وفيه سؤال جبريل للنبي -صلى الله عليه وسلم- عن الإسلام والإيمان والإحسان وأشراط الساعة، وإجابة النبي -صلى الله عليه وسلم- على هذه الأسئلة.
فهذا عبد الله بن عمر –رضي الله عنهما- بمجرد ما بلّغه يحيى بن يعمر بحال هؤلاء القوم تبرأ منهم، وحكم عليهم هذا الحكم الشديد، وإن كانوا يقرؤون القرآن ويتقفرون العلم وإن كانت لهم مزايا، ولم يحمل مجملهم على مفصلهم.
3- قال أبو زرعة: " إذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله e فاعلم أنه زنديق، وذلك أن الرسول e عندنا حق والقرآن حق وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله e وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى، وهم زنادقة" "الكفاية" للخطيب (ص49).
يقول أبو زرعة هذا الكلام فيمن ينتقص أحداً من الصحابة، ولو كان من أهل السنة.
وأيدَّ أبا زرعة في هذا الحكم كل من بلغه هذا الكلام والحكم.
فأين حمل المجمل على المفصل؟
4- وبَلَغَ الْإِمَامَ أَحْمَدَ عَنْ " ابْنِ أَبِي قتيلة " أَنَّهُ ذُكِرَ عِنْدَهُ أَهْلُ الْحَدِيثِ بِمَكَّةَ فَقَالَ : قَوْمُ سَوْءٍ . فَقَامَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - وَهُوَ يَنْفُضُ ثَوْبَهُ وَيَقُولُ : زِنْدِيقٌ زِنْدِيقٌ زِنْدِيقٌ . وَدَخَلَ بَيْتَهُ" .
نقل شيخ الإسلام هذا الكلام وأقره، وقال: "فَإِنَّهُ عَرَفَ مَغْزَاهُ" ، "مجموع الفتاوى" (4/96).
فأين حمل المجمل على المفصل عند هؤلاء الأئمة الأخيار؟
5- ومعلوم لدى طلبة العلم تبديع من يقول لفظي بالقرآن مخلوق، وممن بدَّعهم الإمام أحمد بهذا القول: الحارث المحاسبي، وحسين بن علي الكرابيسي، وهما من كبار العلماء بالحديث والفقه، وأيد الإمامَ أحمد أهلُ السنة في ذلك، ولم يحملوا مجملهما على مفصلهما.
وعلى مذهب دعاة حمل المجمل على المفصل يكون الإمام أحمد ومن معه ممن بدّع هؤلاء يكونون ظالمين للمحاسبي والكرابيسي؛ لأنهما من أهل السنة والحديث، وكذلك الإمام أحمد ومن معه يكونون ظالمين لكل من حكموا عليه بالبدعة ممن يقول بأن القرآن كلام الله حقيقة لكن لفظي بالقرآن مخلوق، وأن كلامهم هذا مجمل، ألا قاتل الله الأهواء وأهلها.
6- وكذلك بدّع الإمام أحمد من يقول: القرآن كلام الله، ثم يقف فلا يقول مخلوق ولا غير مخلوق، ومن هؤلاء يعقوب بن شيبة، وهو من كبار المحدثين، وأيدَّ علماء الحديث الإمام أحمد في ذلك.
7- وكتب الجرح والتعديل وكتب الجرح الخاص مليئة بجرح من يستحق الجرح، وتبديع من يستحق التبديع، سواء كان كلامه مجملاً أو مفصلاً، ولا وجود ولا أثر لمنهج الموازنات ولا لمنهج حمل المجمل على المفصل.
8- هذا ولثلاثة من أئمة هذا العصر مواقف عظيمة تدل على احترامهم للحق ونصرتهم للحق والصدع بالحق ولو كان على النفس.
أولئك الثلاثة هم الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز والشيخ محمد بن صالح العثيمين والشيخ حمود التويجري رحمهم الله.
لقد انتقد الشيخ حمود التويجري الشيخ ابن عثيمين في عبارة مجملة تحتمل حقاً وباطلاً صدرت من ابن عثيمين ألا وهي قوله :" إن الله معنا بذاته" ثم بيّن ابن عثيمين ما قصده ونفى الاحتمال الباطل ومع ذلك انتقده التويجري وأيده الشيخ ابن باز وأثنى عليه خيراً فما كان من ابن عثيمين إلا أن ينصر التويجري وابن باز على نفسه بسماحة نفس وصدق وجد ولم يقل أحد منهم :" يحمل مجمل ابن عثيمين على مفصله"، ولا فكر هو في هذا.
ولم يقل أحد منهم ذلك مع إمامة ابن عثيمين وجلالة قدره ورسوخ قدمه في العلم وإمامته في السلفية.
1- قال الشيخ حمود التويجري ([5]) بعد حمد الله والثناء عليه والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
"أما بعد: فقد رأيت مقالاً سيئاً لبعض المعاصرين ([6]) زعم في أوله أن معية الله لخلقه معية ذاتية تليق بجلاله وعظمته وأنها لا تقتضي اختلاطا بالخلق ولا حلولا في أماكنهم .
وقال في آخر مقاله : وهكذا نقول في المعية نثبت لربنا معية ذاتية تليق بعظمته وجلاله، ولا تشبه معية المخلوق للمخلوق ونثبت مع ذلك علوه على خلقه واستواءه على عرشه على الوجه اللائق بجلاله ونرى أن من زعم أن الله بذاته في كل مكان فهو كافر أو ضال إن اعتقده وكاذب إن نسبه إلى غيره من سلف الأمة أو أئمتها ([7]).
فعقيدتنا أن لله تعالى معية ذاتية تليق به وتقتضي إحاطته بكل شيء علماً وقدرة وسمعاً وبصراً وسلطاناً وتدبيراً وأنه سبحانه منـزه أن يكون مختلطا ً بالخلق أو حالاً في أمكنتهم بل هو العلي بذاته وصفاته وعلوه من صفاته الذاتية التي لا ينفك عنها وأنه مستو على عرشه كما يليق بجلاله وأن ذلك لا ينافي معيته ثم صرح أنه قال ذلك مقرراً له ومعتقداً له منشرحاً له صدره .
هذا كلام الشيخ ابن عثيمين –رحمه الله-.
ثم قال الشيخ حمود:"وأقول : لا يخفى على من له علم وفهم ما في كلام الكاتب من التناقض والجمع بين النقيضين وموافقة من يقول من الحلولية : إن الله بذاته فوق العالم وهو بذاته في كل مكان وما فيه أيضاً من مخالفة الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها.
ثم أخذ رحمه الله يبين مآخذه على ابن عثيمين ([8]) .
2- قال الشيخ عبد العزيز بن باز مؤيداً للشيخ حمود التويجري رحم الله الجميع:
"الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد :
فقد اطلعت على ما كتبه أخونا العلامة الشيخ حمود بن عبد الله التويجري في بيان الأدلة الشرعية والعقلية على إثبات علو الله سبحانه فوق عرشه واستوائه عليه استواء يليق بجلاله لا يشابه فيه خلقه .
وفي إثبات معيته لعباده بعلمه وإطلاعه وحفظه وكلاءته لأوليائه والرد على من زعم أن معية الله لعباده ذاتية.
بل قد سمعته جميعه بقراءة مؤلفه حفظه الله فألفيته كتاباً عظيم الفائدة مؤيداً بالأدلة الشرعية والعقلية كما ألفيته رداً عظيماً على أهل البدع القائلين بالحلول والاتحاد ورداً كافياً شافياً على من قال : إن معية الله للخلق ذاتية .
فجزاه الله خيراً وزاده علماً وهدى وتوفيقاً ونفع به وبمؤلفاته المسلمين .
وبالجملة فهذا كتاب عظيم القدر كثير الفائدة مشتمل على أدلة كثيرة من الكتاب والسنة على إثبات أسماء الله وصفاته وعلوه سبحانه فوق خلقه والرد على جميع أهل البدع كما أنه مشتمل على نقول كثيرة مفيدة من كلام علماء السنة المتقدمين والمتأخرين ومن كلام الصحابة والتابعين رضي الله عن الجميع ورحمهم رحمة واسعة .
فنسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن ينفع به المسلمين وأن يقيم به الحجة ويقطع به المعذرة وأن يضاعف المثوبة لمؤلفه ويجعلنا وإياه وسائر إخواننا من أئمة الهدى وأنصار الحق وأن يثبتنا جميعاً على دينه حتى نلقاه سبحانه إنه ولي ذلك والقادر عليه .
قاله الفقير إلى عفو ربه : عبد العزيز بن عبد الله بن باز سامحه الله وعفا عنه .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه .
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد 27/ 7/ 1404 هـ
موقف الشيخ محمد بن صالح العثيمين –رحمه الله-.
3- لقد طلب رحمه الله كتاب أخيه الشيخ حمود التويجري ثم قرأه ثم كتب ما يؤيد أخاه التويجري منتصراً للحق ولأخيه على نفسه فقال:
"الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد :
"الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره،ونتوب إليه ونعوذ بالله، من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنـا، من يهده الله فلا مضل لـه، ومن يضلل فلا هـادي لـه.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.وأشهد أن محمداً عبده ورسوله r وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما.
وبعد : فقد قرأت الكتاب الذي ألفه أخونا الفاضل الشيخ حمود بن عبد الله التويجري في إثبات علو الله تعالى ومباينته لخلقه والرد على من زعم أن معية الله تعالى لخلقه معية ذاتية فوجدته كتاباً قيماً قرر فيه مؤلفه الحقائق التالية :
الأولى : إثبات علو الله تعالى بذاته وصفاته لدلالة الكتاب والسنة والإجماع والعقل والفطرة على ذلك .
الثانية : إثبات استوائه تعالى بذاته على عرشه استواء حقيقياً يليق بجلاله وعظمته من غير تكييف ولا تمثيل لدلالة الكتاب والسنة والإجماع على ذلك .
الثالثة : إثبات معية الله لخلقه بعلمه وإحاطته إن كانت عامة وبنصره وتأييده مع العلم والإحاطة إن كانت خاصة وتأييد ذلك بما نقله عن السلف والأئمة .
الرابعة : إبطال قول الحلولية القائلين بأن الله تعالى بذاته في الأرض أو في الأرض وعلى العرش لدلالة الكتاب والسنة والإجماع والعقل على إبطاله .
الخامسة : إنكاره القول بالمعية الذاتية .
وكل ما قرره فهو الحق فعلو الله تعالى على خلقه بذاته وصفاته دل عليه القرآن في آيات متعددة وعلى وجوه متنوعة معلومة لكل من قرأ كتاب الله تعالى موجبة للعلم القطعي ودلت عليه السنة بأنواعها القولية والفعلية والإقرارية في أحاديث كثيرة تبلغ حد التواتر وعلى وجوه متنوعة ودل عليه العقل من وجهين .
ثم أخذ في ذكرهما .
ثم قال : وبطلان القول بالحلول معلوم بدلالة الكتاب والسنة والعقل والفطرة والإجماع وذلك لأن القول به مناقض تمام المناقضة للقول بعلو الله تعالى بذاته وصفاته فإذا كان علو الله تعالى بذاته وصفاته ثابتاً بهذه الأدلة كان نقيضه باطلاً بها .
وإنكار القول بالمعية الذاتية واجب حيث تستلزم القول بالحلول لأن القول بالحلول باطل فكل ما استلزمه فهو باطل يجب إنكاره ورده على قائله كائنا من كان.
وأسأل الله تعالى أن يجعلنا جميعاً من المتعاونين على البر والتقوى وأن يهيئ لنا من أمرنا رشداً وأن ينصرنا بالحق ويجعلنا من أنصاره إنه ولي ذلك القادر عليه وهو القريب المجيب .
قاله كاتبه محمد الصالح العثيمين في 15/4/1404 هـ ([9]).
أقول:
هؤلاء هم الرجال الأقوياء وهم القمم العماليق، وإن في مواقفهم هذه لعبرة عظيمة للعقلاء النبلاء، وإن لها دلالات على تقوى وورع وصدق وإخلاص هؤلاء الرجال ولا سيما ابن عثيمين رحمه الله.
فلا مداهنة ولا مجاملة من ابن باز والتويجري، ولا حمل مجمل على مفصل ، ولا مراوغة ولا ضجيج، ولا مطالبة بحمل المجمل على المفصل، ولا صخب من ابن عثيمين لأن الجميع يريدون وجه الله تعالى ويحترمون الحق وينصرونه ولو على النفس.
ولقد حققوا قول الله تعالى: (( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين)).
وإن في هذا لشرفاً كبيراً للسلفية والسلفيين الصادقين.
وكم جالست هؤلاء الكبار الأفذاذ، ولا سيما ابن باز والعثيمين، فإذا حاورتهم في شيء أجد منهم تواضعاً وأخلاقاً عالية وصدوراً رحبة تقبل الأخذ والعطاء، وتحترم الحق، ولو كان مع من هو أصغر منهم.
اللهم اغفر لهم وارفع درجاتهم في عليين.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه
ربيع بن هادي عمير المدخلي
21/7/1433هـ
([1]) أي حمل المجمل والمفصل في تعريفه.
([2]) إن ما قالوه حق، وقد كنت تدافع بهذه القاعدة عن سيد قطب الذي انطوى على بدع الجهمية والمعتزلة والخوارج وصوفية وحدة الوجود والحلول والجبر وغير ذلك من الضلالات الكبرى، فكيف لا تكون هذه القاعدة خدمة لأهل البدع جميعاً.
([3]) ما هذا يا أبا الحسن؟! إن أصل النـزاع بينك وبين خصومك كان في سيد قطب، ومن تلبس ببدع وأنت تراهم من أهل السنة، وقد اعترفت أنك كنت تحمل كلام سيد قطب الذي تزعم باطلاً أنه مجمل على ما تزعم أنه مفصل والأمر على خلاف ما تقول؛ فإن كلامه في وحدة الوجود والحلول صريح واضح مفصل.
وأنا أسألك كم من السنين مرت عليك وأنت تدافع عنه بمجملك ومفصلك المزعومين، فلماذا الآن تطالع الناس في عام (1423هـ) بهذا القول الجديد.
[4] - كذا في مسند أحمد، ولا توجد هذه الجملة في "سنن أبي داود"، ولا في "الإحسان".
([5]) في كتاب سماه "إثبات علو الله ومباينته لخلقه والرد على من زعم أن معية الله للخلق ذاتية".
([6]) يقصد مقال ابن عثيمين ولم يأنف ابن عثيمين من هذا الوصف.
([7]) كل هذه البيانات والاحتياطات من ابن عثيمين لم تمنع الشيخ التويجري من نقده ولم تمنع ابن باز والعثيمين نفسه من تأييد التويجري.
([8]) ص( 7-8)
([9]) ص( 157- 161).
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه.
أما بعد: فهذه وقفات مع القائلين بأصل حمل المجمل على المفصل وتأريخ نشأته وبيان بطلانه بالبراهين الإسلامية.
هذا وليعلم القارئ سلفاً أن دعاة حمل المجمل على المفصل لا يفرقون بين الأقوال المجملة وبين النصوص الواضحة أو الظاهرة مما ينتقده أهل السنة على أهل الباطل أو الأخطاء، وهذا التأصيل منهم من الباطل المصادم لمنهج القرآن والسنة ومنهج السلف الصالح القائم على الكتاب والسنة، وسترى في هذا البحث من النصوص القرآنية والنبوية ومن كلام السلف وواقعهم ما يبطل أصلهم الفاسد سواء أرادوا بالمجمل المجمل المعروف عند الأصوليين أو أرادوا به ما هو أعم من ذلك مما يشمل النص والظاهر عند الأصوليين أيضاً.
الوقفة الأولى: أن الذي يدرس كتب العقائد وكتب الجرح والتعديل وكتب الجرح الخاص مثل كتاب "الضعفاء" للبخاري، وكتاب "الضعفاء والمتروكين" للنسائي، وكتاب "المجروحين" لابن حبان، وكتاب أو كتب الضعفاء للدارقطني، وكتاب "الضعفاء" للحاكم وغيرها، لا يجد فيها ذكراً لحمل المجمل على المفصل، ولا يجد في كلامهم على الرجال أي تطبيق لهذا الأصل، ولو كان هذا أمراً مشروعاً على وجه الوجوب أو الاستحباب لوجدته قد امتلأت به كتبهم لعدلهم وإنصافهم وحرصهم على تطبيق شريعة الإسلام.
الوقفة الثانية: بيان منشأ هذا الأصل الباطل.
هو رد عبد الله عزام على تصريح العلامة الألباني –رحمه الله- بأن سيد قطب يقول بوحدة الوجود عند ذلك هبَّ عبد الله عزام يدافع عن سيد قطب، ويرد على الشيخ الألباني.
وخلال هذا الدفاع والرد اخترع وجوب حمل كلام الرجل المجمل على المفصل، وأن عامه يحمل على خاصه، ومطلقه يحمل على مقيده.
فهذا أول ظهور هذا الأصل الباطل بهذا اللفظ.
ولما تصديت أنا ربيع لنقد سيد قطب، رددتُ على هذه الأمور المخترعة ردوداً شافية لكل منصف.
ثم خلف عبد الله عزام أبو الحسن المصري المأربي يدافع عن سيد قطب، ويدعو إلى حمل مجملات سيد قطب على مفصلاته، ويطعن فيمن يقول: إن سيد قطب يقول بوحدة الوجود، أو ينتقد شيئاً من ضلالاته، وصبرتُ عليه سنوات أتلطف به رجاء أن يثوب إلى رشده، فما كان يزيد على مر الأيام إلا بلاء على بلاء.
هذا مع العلم أن ضلالات سيد قطب ليست من المجملات، بل هي من المفصلات الواضحات.
فلما ألجأني إلى الرد عليه قمتُ بواجب الرد، وبيّنتُ له بطلان هذا الأصل من وجوه، وانكشف أمره، وأنه يدافع بهذا الأصل الباطل عن أهل البدع غيّر أسلوبه وأنكر أنه يدافع عن أهل البدع وجاء بأسلوب جديد في المجمل والمفصل.
حيث قال في شريط رقم (4) القول الأمين، جهة (أ):
((هناك من يقول إن هذه القاعدة ([1]) لخدمة أهل البدع أبداً أنا أخالف في هذا([2])، حمل المجمل على المفصل سواءً من السني أو المبتدع؛ السني مفصله الخير والحسن، والبدعي مفصله القبيح والشر، مجمل السني الكلمة التي تحتمل خيراً وشراً تحمل على الخير، ومجمل البدعي يحمل على الشر لأن صريحه في هذا الموضع شر([3])، فأي خدمة لأهل البدع في هذا. حتى يقال إن هذه القاعدة تنافي جهاد الأئمة في الرد على أهل البدع لا منافاة أبداً".
وجاء بشبهات وشبهات، فرددتُ هذه الشبهات وبينتُ بطلانها من وجوه، ونقلتُ عن جمع من العلماء أنه لا يؤول إلا كلام المعصوم، ومن جملة ما نقلته كلام العلامة الشوكاني في كتابه "الصوارم الحداد" (ص96-97) حيث قال:
" وقد أجمع المسلمون أنه لا يؤول إلا كلام المعصوم".
فاستمر أبو الحسن في مكابرته وعناده، وأدرك كثير ممن كان مخدوعاً به أنه صاحب هوى، ويجادل بالباطل، فعادوا إلى جادة السلف.
أما هو فعاد إلى الدفاع عن سيد قطب وغيره من أهل الضلال، ويدَّعي عناداً ومشاقة لأهل السنة أن الإخوان المسلمين وجماعة التبليغ من أهل السنة، بل السواد الأعظم من الأمة سلفيون، وهذا تطبيق لأصوله التي أصلها، ومنها: "المنهج الواسع الأفيح الذي يسع أهل السنة ويسع الأمة كلها" إلا السلفيين.
وعلى قوله يجب حمل إجمالات جماعة التبليغ والإخوان المسلمين البدعية على مفصلاتهم فتصبح ضلالاتهم كلها حقاً، ومفصلهم عند أبي الحسن هو كونهم من أهل السنة في زعمه، فتصبح ضلالاتهم مفصلها ومجملها كلها حق.
الوقفة الثالثة:
قال بعض القائلين بحمل المجمل على المفصل: ((وإذا وُجد لأحد من أهل السنة كلام مجمل وكلام مفصَّل فالذي ينبغي إحسان الظن به وحمل مجمله على مفصله؛ لقول عمر رضي الله عنه: ((ولا تظننَّ بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلا خيراً وأنت تجد لها في الخير محملاً))".
أقول:
أ- قولك: "أهل السنة" ، يشمل العلماء وطلاب العلم وعوام أهل السنة.
وهذا الكلام يفيد أن أهل السنة لا يعاملون دائماً إلا بحسن الظن المطلق، فلا تنتقد أخطاؤهم ومخالفاتهم؛ لأن هذا الأصل يحميهم وينـزلهم منـزلة المعصومين.
وواقع الكتاب والسنة وعمل السلف بخلاف ذلك.
هذا وينبغي أن يعرف القارئ الكريم أن مفصل السني عند أبي الحسن ومن يقلده هو "الخير والحسن"، وليس هو الكلام المفصل.
ب- استدللتَ على هذا القول بكلام منسوب لأمير المؤمنين عمر -رضي الله عنه- لا يثبت عنه.
1- لأنه ليس له إسناد إلى عمر -رضي الله عنه-.
2- يكفي القارئ أن ابن كثير -رحمه الله- لم يسق إسناده.
3- وأنه أشار إلى ضعفه بصيغة التمريض "روينا"، فبطل الاحتجاج به.
والذي يثبت عن عمر -رضي الله عنه- إنما هو كلامه الموافق للشريعة الإسلامية، ألا وهو قوله: " إِنَّ أُنَاسًا كَانُوا يُؤْخَذُونَ بِالْوَحْيِ في عَهْدِ رسول اللَّهِ e وَإِنَّ الْوَحْيَ قد انْقَطَعَ وَإِنَّمَا نَأْخُذُكُمْ الْآنَ بِمَا ظَهَرَ لنا من أَعْمَالِكُمْ فَمَنْ أَظْهَرَ لنا خَيْرًا أَمِنَّاهُ وَقَرَّبْنَاهُ وَلَيْسَ إِلَيْنَا من سَرِيرَتِهِ شَيْءٌ الله يُحَاسِبُهُ في سَرِيرَتِهِ وَمَنْ أَظْهَرَ لنا سُوءًا لم نَأْمَنْهُ ولم نُصَدِّقْهُ وَإِنْ قال: إِنَّ سَرِيرَتَهُ حَسَنَةٌ"، أخرجه البخاري في "الشهادات" حديث (2641).
فهذا القول يتفق مع الأصل الإسلامي، وهو الأخذ بالظاهر من كلام الله وكلام رسوله وكلام الناس، فمن أظهر من الناس سوءاً أخذ بظاهر حاله ومقاله، سواء كان كلامه مجملاً أو مفصلاً.
فهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول:
"إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلي وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ من بَعْضٍ فَأَقْضِيَ له على نَحْوٍ مِمَّا أَسْمَعُ منه فَمَنْ قَطَعْتُ له من حَقِّ أَخِيهِ شيئا فلا يَأْخُذْهُ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ له بِهِ قِطْعَةً من النَّارِ". أخرجه البخاري في كتاب "المظالم" حديث (2458)، ومسلم في كتاب "الأقضية" حديث (1713).
فهذا الحديث من أقوى الأدلة على الأخذ بالظاهر.
والعلماء من كل المذاهب إذا كان للعالم في مسألة ما قولان أو أكثر لا يحملون مجملاته على مفصلاته، بل يرجحون أقوى القولين أو الأقوال والذي يدل عليه الدليل، فعملهم هذا يدل على أنهم يرون أن القول المرجوح خطأ، وأنهم لا يرون حمل المجمل على المفصل.
وهذه كتب الفقه بين أيدينا، فمثلاً كثير من المسائل للإمام أحمد فيها قولان، فيأتي العلماء مثل أبي يعلى وابن قدامة وشيخ الإسلام نفسه وغيرهم، فيقدمون ما ترجحه الأدلة من الأقوال على ما يقابلها، ولا يقولون: نحمل المجمل على المفصل، فيصير القولان كلاهما حقاً، كما هو مؤدى كلام من يقول بحمل المجمل على المفصل.
لقد تعلمنا من شيخ الإسلام ومَن قبله من الأئمة ومن بعده قولهم: "كل يؤخذ من قوله ويرد إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-".
وأن العلماء بما فيهم الصحابة ليسوا بمعصومين من الخطأ.
ومن كلام شيخ الإسلام –رحمه الله- : إن الرجال يحتج لهم ولا يحتج بهم.
وكم حث العلماء المعتبرون على ترك التقليد، ولا سيما الإمامان الشافعي وأحمد وابن تيمية وابن القيم وغيرهم -رحمهم الله- فمن أقوال الإمام أحمد: "لَا تُقَلِّدْنِي وَلَا تُقَلِّدْ مَالِكًا وَلَا الثَّوْرِيَّ وَلَا الْأَوْزَاعِيَّ وَخُذْ من حَيْثُ أَخَذُوا".
وحاشاه أن يقول: احملوا مجمل أقوالي على مفصلاتها، أو على حالي الحسن.
ومن أقواله –رحمه الله-: " عجبتُ لقوم عرفوا الإسناد وصحته ، ويذهبون إلى رأي سفيان ، والله تعالى يقول : ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )، [سورة النور : 63 ]، أتدري ما الفتنة ؟ الفتنة: الشرك . لعله إذا ردَّ بعضَ قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك" ، "فتح المجيد لشرح كتاب التوحيد" (ص363).
فأين حمل مجمل سفيان على مفصلاته أو على حاله الحسنة عند الإمام أحمد وغيره؟
ولقد تكلم الإمام ابن القيم –رحمه الله- على التقليد والمقلدين، وردَّ على شبهاتهم من واحد وثمانين وجهاً في كتابه "إعلام الموقعين".
ولو كان حمل المجمل على المفصل أصلاً من أصول الإسلام، فكيف ينكر ابن القيم وغيره تقليد الأئمة الكبار؟
ولا يسمح العلماء بالتقليد إلا للعاجزين عن فهم الكتاب والسنة.
وهذا شيخ الإسلام -رحمه الله- يطعن فيمن يتكلمون بالمجملات وينقل ذلك عن السلف.
قال –رحمه الله- في "درء تعارض العقل والنقل" (1/254):
" فطريقة السلف والأئمة أنهم يراعون المعاني الصحيحة المعلومة بالشرع والعقل، ويراعون أيضا الألفاظ الشرعية، فيُعبِّرون بها ما وجدوا إلى ذلك سبيلا، ومن تكلم بما فيه معنى باطل يخالف الكتاب والسنة ردّوا عليه.
ومن تكلم بلفظ مبتدع يحتمل حقا وباطلا؛ نسبوه إلى البدعة أيضا، وقالوا إنما قابل بدعة ببدعة وردَّ باطلا بباطل".
أقول:
في هذا النص بيان أمور عظيمة ومهمة يسلكها السلف الصالح للحفاظ على دينهم الحق، وحمايته من غوائل البدع والأخطاء منها:
أ- شدة حذرهم من البدع، ومراعاتهم للألفاظ والمعاني الصحيحة المعلومة بالشرع والعقل، فلا يُعبِّرون -قدر الإمكان- إلا بالألفاظ الشرعية، ولا يطلقونها إلا على المعاني الشرعية الصحيحة الثابتة بالشرع المحمدي.
ب- أنهم حراس الدين وحُماته، فمن تكلّم بكلام فيه معنى باطل يُخالف الكتاب والسنة ردّوا عليه، سواء كان كلامه مجملاً أو مفصلاً، وإذا كان مجملاً لا يحملون مجمله على مفصله.
ومن تكلّم بلفظ مبتدع يحتمل حقاً وباطلاً نسبوه إلى البدعة، ولو كان يرد على أهل الباطل، ولا يحملون مجمله على مفصله.
وقال الإمام ابن القيم –رحمه الله- في "الكافية الشافية" (ص82):
فعليك بالتفصيل والتمييز فالـ ... إطلاقُ والإجمالُ دون بيان
قد أفسدا هذا الوجود وخبّطا الـ ... أذهانَ والآراءَ كل زمان
فهذه نظرة الإمام ابن القيم إلى الإطلاق والإجمال، وما لهما من الآثار السيئة على الأذهان والآراء، وهذا منه مشيٌ على منهج السلف والأئمة، فأين حمل المجمل على المفصل عند هذا الإمام؟
وقال شيخ الإسلام –رحمه الله- في "مجموع الفتاوى" (10/362-363) حاثاً على التمسك بالكتاب والسنة وآثار الصحابة وبناء العلم في الأصول والفروع على ذلك:
" فالعلم المشروع والنسك المشروع مأخوذ عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما ما جاء عمن بعدهم فلا ينبغي أن يجعل أصلا ، وإن كان صاحبه معذورا، بل مأجورا لاجتهاد أو تقليد .
فمن بنى الكلام في العلم : الأصول والفروع على الكتاب والسنة والآثار المأثورة عن السابقين فقد أصاب طريق النبوة، وكذلك من بنى الإرادة والعبادة والعمل والسماع المتعلق بأصول الأعمال وفروعها من الأحوال القلبية والأعمال البدنية على الإيمان والسنة والهدى الذي كان عليه محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقد أصاب طريق النبوة، وهذه طريق أئمة الهدى .
تجد " الإمام أحمد " إذا ذكر أصول السنة قال : هي التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" .
تأمل هذا الكلام الرصين، وتأمل دعاوى حمل المجمل على المفصل الذي اخترعه رجل جاهل ضال، لا يحترم هذه الأصول، ولا هذا المنهج العظيم؛ منهج السلف الصالح.
سوق بعض الأدلة من الكتاب والسنة على بطلان حمل المجمل على المفصل:
1- قال تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)، [سورة النور : 4].
فالذي يرمي امرأة مؤمنة محصنة بالزنى مهما بلغ من العلم والفضل والمنـزلة والجهاد، ولو كان صادقاً في نفس الأمر، ثم لم يأت بأربعة شهداء على دعواه فحده ثمانون جلدة، وتسقط عدالته، ويصير من الفاسقين، لا تقبل له شهادة أبداً، إلا أن يتوب ويكذب نفسه، فأين حمل المجمل على المفصل عند الله وعند المؤمنين والحكام العادلين، وهذا في حماية الأعراض فكيف بحماية الدين؟
2- وقال تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً)، [سورة الأحزاب : 58].
إذا قالوا كلاماً يؤذي المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا، فهذا حكمه عند الله سواء كان كلامه مجملاً أو مفصلاً.
وقال أبو داود: حدثنا القعنبي، حدثنا عبد العزيز -يعني ابن محمد- عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة أنه قيل: يا رسول الله، ما الغيبة؟ قال: "ذكرك أخاك بما يكره"، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: "إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته".
وهكذا رواه الترمذي، عن قتيبة، عن الدراوردي، به. ثم: قال حسن صحيح"، "تفسير ابن كثير" (11/241).
فلو ذكر أخاه المسلم بما يكره، ولو كان فيه فإنه يعتبر من الغيبة المحرمة مثل الذي يأكل لحم أخيه ميتاً.
فأين حمل المجمل على المفصل؟
أقول: ويستثنى من الغيبة أمور معلومة، ومنها التحذير من أهل البدع والفسوق وجرح الضعفاء والكذابين، فإن ذلك حماية للدين، ولا يعد من الغيبة.
3- عن مُعَاذِ بن جَبَلٍ قال: كنت مع النبي –صلى الله عليه وسلم- في سَفَرٍ فَأَصْبَحْتُ يَوْمًا قَرِيبًا منه وَنَحْنُ نَسِيرُ فقلت: يا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ وَيُبَاعِدُنِي عن النَّارِ، قال: لقد سَأَلْتَنِي عن عَظِيمٍ وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ على من يَسَّرَهُ الله عليه، تَعْبُدُ اللَّهَ ولا تُشْرِكْ بِهِ شيئا وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ وَتَصُومُ رَمَضَانَ وَتَحُجُّ الْبَيْتَ، ثُمَّ قال: "ألا أَدُلُّكَ على أَبْوَابِ الْخَيْرِ: الصَّوْمُ جُنَّةٌ وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كما يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ، وَصَلَاةُ الرَّجُلِ من جَوْفِ اللَّيْلِ"، قال: ثُمَّ تَلَا: ( تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عن الْمَضَاجِعِ )، حتى بَلَغَ ( يَعْمَلُونَ) ثُمَّ قال: "ألا أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الْأَمْرِ كُلِّهِ وَعَمُودِهِ وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ"، قلت: بَلَى يا رَسُولَ اللَّهِ، قال: "رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ"، ثُمَّ قال: "ألا أُخْبِرُكَ بِمَلَاكِ ذلك كُلِّهِ"، قلت: بَلَى يا نَبِيَّ اللَّهِ، فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ قال: "كُفَّ عَلَيْكَ هذا"، فقلت: يا نَبِيَّ اللَّهِ وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ، فقال: "ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يا مُعَاذُ وَهَلْ يَكُبُّ الناس في النَّارِ على وُجُوهِهِمْ أو على مَنَاخِرِهِمْ إلا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ" ، أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" (5/231)، والترمذي في "الجامع الكبير" في "أبواب الإيمان" حديث (2616)، وابن ماجه في "سننه" حديث (3973)، وأورده العلامة الألباني في "الصحيحة" حديث (1122) وصححه هنا، و (3284).
فهذا الحديث فيه بيان خطورة اللسان، وأن حصائد الألسن تكب الناس على وجوههم في النار سواء أكان الكلام مجملاً أو مفصلاً.
فأين حمل المجمل على المفصل في هذا التحذير النبوي؟
ألا ترى أن حمل المجمل على المفصل في واد، والمنهج النبوي في واد آخر؟
4- تقدم لنا قول رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلي وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ من بَعْضٍ فَأَقْضِيَ له على نَحْوٍ مِمَّا أَسْمَعُ منه فَمَنْ قَطَعْتُ له من حَقِّ أَخِيهِ شيئا فلا يَأْخُذْهُ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ له بِهِ قِطْعَةً من النَّارِ". أخرجه البخاري في كتاب "المظالم" حديث (2458)، ومسلم في كتاب "الأقضية" حديث (1713).
فهذا الحديث من الأدلة على وجوب الأخذ بالظاهر وبطلان حمل المجمل على المفصل.
5- قال الإمام أحمد في "مسنده" (2/332): ثنا أبو عَامِرٍ ثنا عِكْرِمَةُ بن عَمَّارٍ عن ضَمْضَمِ بن جَوْسٍ اليمامي قال: قال لي أبو هُرَيْرَةَ: "يا يمامي لاَ تَقُولَنَّ لِرَجُلٍ والله لاَ يَغْفِرُ الله لك أو لاَ يُدْخِلُكَ الله الْجَنَّةَ أَبَداً، قلت: يا أَبَا هُرَيْرَةَ إن هذه لَكَلِمَةٌ يَقُولُهَا أَحَدُنَا لأَخِيهِ وَصَاحِبِهِ إذا غَضِبَ، قال: فَلاَ تُقُلْهَا فإني سمعت النبي e يقول كان في بني إِسْرَائِيلَ رَجُلاَنِ كان أَحَدُهُمَا مُجْتَهِداً في الْعِبَادَةِ وكان الآخَرُ مُسْرِفاً على نَفْسِهِ فَكَانَا مُتَآخِيَيْنِ فَكَانَ الْمُجْتَهِدُ لاَ يَزَالُ يَرَى الآخَرَ على ذَنْبٍ فيقول يا هذا أَقْصِرْ فيقول: خلني وربي أَبُعِثْتَ عَلَيَّ رَقِيباً؟ قال: إلى أَنْ رَآهُ يَوْماً على ذَنْبٍ اسْتَعْظَمَهُ فقال له: وَيْحَكَ اقصر، قال: خلني وَرَبِّى أَبُعِثْتَ عَليَّ رَقِيباً؟، قال: فقال: والله لاَ يَغْفِرُ الله لك أو لاَ يُدْخِلُكَ الله الْجَنَّةَ أَبَداً، قال أَحَدُهُمَا([4]) قال فَبَعَثَ الله إِلَيْهِمَا مَلَكاً فَقَبَضَ أَرْوَاحَهُمَا وَاجْتَمَعَا فقال لِلْمُذْنِبِ اذْهَبْ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ برحمتي وقال لِلآخَرِ أَكُنْتَ بي عَالِماً؟ أَكُنْتَ على ما في يدي خَازِناً؟ اذْهَبُوا بِهِ إلى النَّارِ قال: فوالذي نَفْسُ أبي الْقَاسِمِ بيده لَتَكَلَّمَ بِالْكَلِمَةِ أوبقت دُنْيَاهُ وآخرته"، وأخرجه أبو داود في "سننه" كتاب "الأدب"، باب في النهي عن البغي، حديث (4901)، وابن حبان في "الإحسان" حديث (5712).
انظر أخي هذا رجل عابد مجتهد في العبادة، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر-وهذه من أحسن السير والأحوال-، قال كلمة دافعها الغيرة على دين الله، لكنها لم ترض الله، فأوبقت دنياه وآخرته، فأين حمل المجمل على المفصل؟
ولعل الذين يطالبون بحمل مجمله على مفصله قد أوبق مجمله دنياه وآخرته.
6- وعن أبي هريرة –رضي الله عنه- سمع رَسُولَ اللَّهِ e يقول: "إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ ما يَتَبَيَّنُ فيها يَزِلُّ بها في النَّارِ أَبْعَدَ مِمَّا بين الْمَشْرِقِ والمغرب"، أخرجه البخاري في "الرقاق" في "باب حفظ اللسان" حديث (6477)، ومسلم في "الزهد والرقاق" باب التكلم بالكلمة يهوي بها في النار، حديث (2988).
وعن أبي هريرة أيضاً –رضي الله عنه- عن النبي e قال: "إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ من رِضْوَانِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لها بَالًا يرفعه الله بها دَرَجَاتٍ وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ من سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لها بَالًا يهوي بها في جَهَنَّمَ" أخرجه البخاري في "الرقاق" في "باب حفظ اللسان" حديث (6478)، ومسلم في "الزهد والرقاق" باب التكلم بالكلمة يهوي بها في النار، حديث (2988).
7- وعن بلال بن الحارث المزني أن رَسُولَ الله e قال: إن الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ من رِضْوَانِ الله ما كان يَظُنُّ أن تَبْلُغَ ما بَلَغَتْ يَكْتُبُ الله له بها رِضْوَانَهُ إلى يَوْمِ يَلْقَاهُ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلَمِةِ من سَخَطِ الله ما كان يَظُنُّ أن تَبْلُغَ ما بَلَغَتْ يَكْتُبُ الله له بها سَخَطَهُ إلى يَوْمِ يَلْقَاهُ". أخرجه مالك في الموطأ في كتاب "الكلام، باب ما يُؤْمَرُ بِهِ مِنَ التَّحَفُّظِ في الْكَلاَمِ، حديث (5).
وفي لفظ لمسلم: " يهوي بها في النَّارِ أَبْعَدَ ما بين الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ".
فأين حمل المجمل على المفصل، فهذا في الكلام الذي لا يلقي له صاحبه بالاً، يهوي به في جهنم أبعد مما بين المشرق والمغرب، أو يكتب الله له بها سخطه إلى يوم القيامة، فكيف بمن يتعمد الكذب والباطل والبدع والتلبيس في كثير وكثير من كلامه.
8- وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ e قَضَى في امْرَأَتَيْنِ من هُذَيْلٍ اقْتَتَلَتَا فَرَمَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى بِحَجَرٍ فَأَصَابَ بَطْنَهَا وَهِيَ حَامِلٌ فَقَتَلَتْ وَلَدَهَا الذي في بَطْنِهَا فَاخْتَصَمُوا إلى النبي e فَقَضَى أَنَّ دِيَةَ ما في بَطْنِهَا غُرَّةٌ عَبْدٌ أو أَمَةٌ فقال وَلِيُّ الْمَرْأَةِ التي غَرِمَتْ كَيْفَ أَغْرَمُ يا رَسُولَ اللَّهِ من لَا شَرِبَ ولا أَكَلَ ولا نَطَقَ ولا اسْتَهَلَّ فَمِثْلُ ذلك يطل فقال النبي e إنما هذا من إِخْوَانِ الْكُهَّانِ". متفق عليه، أخرجه البخاري في "الطب"، باب الكهانة، حديث (5758)، وفي مواضع أخر، وأخرجه مسلم في "القسامة" حديث (1681).
أقول: وصف النبي –صلى الله عليه وسلم- هذا الرجل الذي تكلم بهذا الكلام بأنه من إخوان الكهان، مع حسن حاله وسيرته وصحبته.
فأين حمل المجمل على المفصل؟
وإذن فمقتضى دين الله أن يحكم على الكلام الباطل بأنه باطل، مهما بلغ قائله من الفضل والمكانة، سواء كان الكلام مجملاً أو مفصلاً، وهذا دين الله، وهذا هو المنهج الحق الذي يعارضه دعاة حمل المجمل على المفصل، والمفصل عندهم في الغالب حسب حال المتكلم.
9- عن عَمْرِو بن الْعَاصِ أَنَّهُ سمع رَسُولَ اللَّهِ e يقول: "إذا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ وإذا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ".أخرجه البخاري في "الاعتصام" حديث (7352)، ومسلم في (الأقضية) حديث (1716).
في هذا الحديث بيان أن الحاكم قد يصيب فله أجران أجر اجتهاده وأجر إصابته الحق، وقد يخطئ في اجتهاده فلا يصيب الحق فله أجر اجتهاده، ويعفو الله عن خطئه، ولا يجوز لأحد أن يتبعه في خطئه، وهذا أصل عظيم عند أهل السنة.
وأن العالم المجتهد المخلص يصيب ويخطئ، فيقبل صوابه ويرد خطؤه مجملاً كان أو مفصلاً، ولو كان من كبار الصحابة أو كبار الأئمة، مع احترامه وحِفظ مكانته، ولا يعد رد خطئه تنقصاً له، والذي يقبل خطأه ويرى أن ردّ خطئه تنقصاً له إنما أُتيَ من جهله وهواه، فإن الحق أعظم وأكبر من الرجال مهما بلغوا من المنـزلة.
والشاهد أنه ليس في الحديث حمل المجمل على المفصل.
وإنما فيه الحكم على الصواب بأنه صواب، وعلى الخطأ بأنه خطأ.
وهذا منهج أهل العلم من السابقين واللاحقين.
وهو عكس قول من يقول بحمل المجمل على المفصل، حتى ينتفي الخطأ عن أهل الخطأ، والباطل عن أهل الباطل، ويصير مجمله ومفصله شيئاً واحداً يسمى حقاً.
فهذه تسعة أدلة صحيحة ثابتة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تبطل دعوى حمل المجمل على المفصل، وتدين دعاته بأنهم دعاة إلى الباطل، وأنهم مضادون لمنهج الإسلام.
سوق أقوال بعض الأئمة من الصحابة وغيرهم التي فيها الرد على من يقول بحمل المجمل على المفصل.
1- عن عُبَيْدِ اللَّهِ بن عبد اللَّهِ قال: حدثني ابن عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قال: كنت أُقْرِئُ عَبْدَ الرحمن بن عَوْفٍ فلما كان آخِرُ حَجَّةٍ حَجَّهَا عُمَرُ فقال عبد الرحمن بِمِنًى لو شَهِدْتَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَتَاهُ رَجُلٌ قال: إِنَّ فُلَانًا يقول لو مَاتَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ لَبَايَعْنَا فُلَانًا فقال عُمَرُ لَأَقُومَنَّ الْعَشِيَّةَ فَأُحَذِّرَ هَؤُلَاءِ الرَّهْطَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَغْصِبُوهُمْ قلت: لَا تَفْعَلْ فإن الْمَوْسِمَ يَجْمَعُ رَعَاعَ الناس يَغْلِبُونَ على مَجْلِسِكَ فَأَخَافُ أَنْ لَا يُنْزِلُوهَا على وَجْهِهَا فَيُطِيرُ بها كُلّ مطِيرٍ فَأَمْهِلْ حتى تَقْدَمَ الْمَدِينَةَ دَارَ الْهِجْرَةِ وَدَارَ السُّنَّةِ فَتَخْلُصَ بِأَصْحَابِ رسول اللَّهِ e من الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فَيَحْفَظُوا مَقَالَتَكَ وَيُنْزِلُوهَا على وَجْهِهَا فقال: والله لَأَقُومَنَّ بِهِ في أَوَّلِ مَقَامٍ أَقُومُهُ بِالْمَدِينَةِ قال ابن عَبَّاسٍ: فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فقال إِنَّ اللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّدًا e بِالْحَقِّ وَأَنْزَلَ عليه الْكِتَابَ فَكَانَ فِيمَا أُنْزِلَ آيَةُ الرَّجْمِ". أخرجه البخاري في "الاعتصام"، حديث (7323)، وفي "الحدود" حديث (6830) مطولاً، وفيه: "فَمُحَذِّرُهُم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم".
لقد غضب عمر من هذا القول وحكم على هذا الرجل والرهط الذين معه بأنهم يريدون أن يغصبوا المسلمين أمورهم، ثم أراد أن يخطب بهذا بمنىً محذراً منهم، ثم خطب في المدينة خطبة طويلة تعرض فيها لهذه المسألة، فلم يحمل عمر –رضي الله عنه- مجمل هؤلاء على مفصلهم، وهو حالهم الحسن، وأقرّه الصحابة على هذا الموقف الحازم، ومنهم عبد الرحمن بن عوف وابن عباس –رضي الله عنهم-.
2- قال يحيى بن يعمر لعبد الله بن عمر: "...يا أَبَا عبد الرحمن إنه قد ظَهَرَ قِبَلَنَا نَاسٌ يقرؤون الْقُرْآنَ وَيَتَقَفَّرُونَ الْعِلْمَ وَذَكَرَ من شَأْنِهِمْ وَأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنْ لَا قَدَرَ وَأَنَّ الْأَمْرَ أُنُفٌ قال فإذا لَقِيتَ أُولَئِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنِّي برئ منهم وَأَنَّهُمْ بُرَآءُ مِنِّي وَالَّذِي يَحْلِفُ بِهِ عبد اللَّهِ بن عُمَرَ لو أَنَّ لِأَحَدِهِمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا فَأَنْفَقَهُ ما قَبِلَ الله منه حتى يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ ثُمَّ قال حدثني أبي عُمَرُ بن الْخَطَّابِ قال بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رسول اللَّهِ e ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ لَا يُرَى عليه أَثَرُ السَّفَرِ ولا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ حتى جَلَسَ إلى النبي e فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إلى رُكْبَتَيْهِ وَوَضَعَ كَفَّيْهِ على فَخِذَيْهِ...الحديث، أخرجه مسلم في "الإيمان" حديث (8).
وفيه سؤال جبريل للنبي -صلى الله عليه وسلم- عن الإسلام والإيمان والإحسان وأشراط الساعة، وإجابة النبي -صلى الله عليه وسلم- على هذه الأسئلة.
فهذا عبد الله بن عمر –رضي الله عنهما- بمجرد ما بلّغه يحيى بن يعمر بحال هؤلاء القوم تبرأ منهم، وحكم عليهم هذا الحكم الشديد، وإن كانوا يقرؤون القرآن ويتقفرون العلم وإن كانت لهم مزايا، ولم يحمل مجملهم على مفصلهم.
3- قال أبو زرعة: " إذا رأيت الرجل ينتقص أحدا من أصحاب رسول الله e فاعلم أنه زنديق، وذلك أن الرسول e عندنا حق والقرآن حق وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله e وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى، وهم زنادقة" "الكفاية" للخطيب (ص49).
يقول أبو زرعة هذا الكلام فيمن ينتقص أحداً من الصحابة، ولو كان من أهل السنة.
وأيدَّ أبا زرعة في هذا الحكم كل من بلغه هذا الكلام والحكم.
فأين حمل المجمل على المفصل؟
4- وبَلَغَ الْإِمَامَ أَحْمَدَ عَنْ " ابْنِ أَبِي قتيلة " أَنَّهُ ذُكِرَ عِنْدَهُ أَهْلُ الْحَدِيثِ بِمَكَّةَ فَقَالَ : قَوْمُ سَوْءٍ . فَقَامَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ - وَهُوَ يَنْفُضُ ثَوْبَهُ وَيَقُولُ : زِنْدِيقٌ زِنْدِيقٌ زِنْدِيقٌ . وَدَخَلَ بَيْتَهُ" .
نقل شيخ الإسلام هذا الكلام وأقره، وقال: "فَإِنَّهُ عَرَفَ مَغْزَاهُ" ، "مجموع الفتاوى" (4/96).
فأين حمل المجمل على المفصل عند هؤلاء الأئمة الأخيار؟
5- ومعلوم لدى طلبة العلم تبديع من يقول لفظي بالقرآن مخلوق، وممن بدَّعهم الإمام أحمد بهذا القول: الحارث المحاسبي، وحسين بن علي الكرابيسي، وهما من كبار العلماء بالحديث والفقه، وأيد الإمامَ أحمد أهلُ السنة في ذلك، ولم يحملوا مجملهما على مفصلهما.
وعلى مذهب دعاة حمل المجمل على المفصل يكون الإمام أحمد ومن معه ممن بدّع هؤلاء يكونون ظالمين للمحاسبي والكرابيسي؛ لأنهما من أهل السنة والحديث، وكذلك الإمام أحمد ومن معه يكونون ظالمين لكل من حكموا عليه بالبدعة ممن يقول بأن القرآن كلام الله حقيقة لكن لفظي بالقرآن مخلوق، وأن كلامهم هذا مجمل، ألا قاتل الله الأهواء وأهلها.
6- وكذلك بدّع الإمام أحمد من يقول: القرآن كلام الله، ثم يقف فلا يقول مخلوق ولا غير مخلوق، ومن هؤلاء يعقوب بن شيبة، وهو من كبار المحدثين، وأيدَّ علماء الحديث الإمام أحمد في ذلك.
7- وكتب الجرح والتعديل وكتب الجرح الخاص مليئة بجرح من يستحق الجرح، وتبديع من يستحق التبديع، سواء كان كلامه مجملاً أو مفصلاً، ولا وجود ولا أثر لمنهج الموازنات ولا لمنهج حمل المجمل على المفصل.
8- هذا ولثلاثة من أئمة هذا العصر مواقف عظيمة تدل على احترامهم للحق ونصرتهم للحق والصدع بالحق ولو كان على النفس.
أولئك الثلاثة هم الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز والشيخ محمد بن صالح العثيمين والشيخ حمود التويجري رحمهم الله.
لقد انتقد الشيخ حمود التويجري الشيخ ابن عثيمين في عبارة مجملة تحتمل حقاً وباطلاً صدرت من ابن عثيمين ألا وهي قوله :" إن الله معنا بذاته" ثم بيّن ابن عثيمين ما قصده ونفى الاحتمال الباطل ومع ذلك انتقده التويجري وأيده الشيخ ابن باز وأثنى عليه خيراً فما كان من ابن عثيمين إلا أن ينصر التويجري وابن باز على نفسه بسماحة نفس وصدق وجد ولم يقل أحد منهم :" يحمل مجمل ابن عثيمين على مفصله"، ولا فكر هو في هذا.
ولم يقل أحد منهم ذلك مع إمامة ابن عثيمين وجلالة قدره ورسوخ قدمه في العلم وإمامته في السلفية.
1- قال الشيخ حمود التويجري ([5]) بعد حمد الله والثناء عليه والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
"أما بعد: فقد رأيت مقالاً سيئاً لبعض المعاصرين ([6]) زعم في أوله أن معية الله لخلقه معية ذاتية تليق بجلاله وعظمته وأنها لا تقتضي اختلاطا بالخلق ولا حلولا في أماكنهم .
وقال في آخر مقاله : وهكذا نقول في المعية نثبت لربنا معية ذاتية تليق بعظمته وجلاله، ولا تشبه معية المخلوق للمخلوق ونثبت مع ذلك علوه على خلقه واستواءه على عرشه على الوجه اللائق بجلاله ونرى أن من زعم أن الله بذاته في كل مكان فهو كافر أو ضال إن اعتقده وكاذب إن نسبه إلى غيره من سلف الأمة أو أئمتها ([7]).
فعقيدتنا أن لله تعالى معية ذاتية تليق به وتقتضي إحاطته بكل شيء علماً وقدرة وسمعاً وبصراً وسلطاناً وتدبيراً وأنه سبحانه منـزه أن يكون مختلطا ً بالخلق أو حالاً في أمكنتهم بل هو العلي بذاته وصفاته وعلوه من صفاته الذاتية التي لا ينفك عنها وأنه مستو على عرشه كما يليق بجلاله وأن ذلك لا ينافي معيته ثم صرح أنه قال ذلك مقرراً له ومعتقداً له منشرحاً له صدره .
هذا كلام الشيخ ابن عثيمين –رحمه الله-.
ثم قال الشيخ حمود:"وأقول : لا يخفى على من له علم وفهم ما في كلام الكاتب من التناقض والجمع بين النقيضين وموافقة من يقول من الحلولية : إن الله بذاته فوق العالم وهو بذاته في كل مكان وما فيه أيضاً من مخالفة الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها.
ثم أخذ رحمه الله يبين مآخذه على ابن عثيمين ([8]) .
2- قال الشيخ عبد العزيز بن باز مؤيداً للشيخ حمود التويجري رحم الله الجميع:
"الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد :
فقد اطلعت على ما كتبه أخونا العلامة الشيخ حمود بن عبد الله التويجري في بيان الأدلة الشرعية والعقلية على إثبات علو الله سبحانه فوق عرشه واستوائه عليه استواء يليق بجلاله لا يشابه فيه خلقه .
وفي إثبات معيته لعباده بعلمه وإطلاعه وحفظه وكلاءته لأوليائه والرد على من زعم أن معية الله لعباده ذاتية.
بل قد سمعته جميعه بقراءة مؤلفه حفظه الله فألفيته كتاباً عظيم الفائدة مؤيداً بالأدلة الشرعية والعقلية كما ألفيته رداً عظيماً على أهل البدع القائلين بالحلول والاتحاد ورداً كافياً شافياً على من قال : إن معية الله للخلق ذاتية .
فجزاه الله خيراً وزاده علماً وهدى وتوفيقاً ونفع به وبمؤلفاته المسلمين .
وبالجملة فهذا كتاب عظيم القدر كثير الفائدة مشتمل على أدلة كثيرة من الكتاب والسنة على إثبات أسماء الله وصفاته وعلوه سبحانه فوق خلقه والرد على جميع أهل البدع كما أنه مشتمل على نقول كثيرة مفيدة من كلام علماء السنة المتقدمين والمتأخرين ومن كلام الصحابة والتابعين رضي الله عن الجميع ورحمهم رحمة واسعة .
فنسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن ينفع به المسلمين وأن يقيم به الحجة ويقطع به المعذرة وأن يضاعف المثوبة لمؤلفه ويجعلنا وإياه وسائر إخواننا من أئمة الهدى وأنصار الحق وأن يثبتنا جميعاً على دينه حتى نلقاه سبحانه إنه ولي ذلك والقادر عليه .
قاله الفقير إلى عفو ربه : عبد العزيز بن عبد الله بن باز سامحه الله وعفا عنه .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه .
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد 27/ 7/ 1404 هـ
موقف الشيخ محمد بن صالح العثيمين –رحمه الله-.
3- لقد طلب رحمه الله كتاب أخيه الشيخ حمود التويجري ثم قرأه ثم كتب ما يؤيد أخاه التويجري منتصراً للحق ولأخيه على نفسه فقال:
"الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد :
"الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره،ونتوب إليه ونعوذ بالله، من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنـا، من يهده الله فلا مضل لـه، ومن يضلل فلا هـادي لـه.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.وأشهد أن محمداً عبده ورسوله r وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما.
وبعد : فقد قرأت الكتاب الذي ألفه أخونا الفاضل الشيخ حمود بن عبد الله التويجري في إثبات علو الله تعالى ومباينته لخلقه والرد على من زعم أن معية الله تعالى لخلقه معية ذاتية فوجدته كتاباً قيماً قرر فيه مؤلفه الحقائق التالية :
الأولى : إثبات علو الله تعالى بذاته وصفاته لدلالة الكتاب والسنة والإجماع والعقل والفطرة على ذلك .
الثانية : إثبات استوائه تعالى بذاته على عرشه استواء حقيقياً يليق بجلاله وعظمته من غير تكييف ولا تمثيل لدلالة الكتاب والسنة والإجماع على ذلك .
الثالثة : إثبات معية الله لخلقه بعلمه وإحاطته إن كانت عامة وبنصره وتأييده مع العلم والإحاطة إن كانت خاصة وتأييد ذلك بما نقله عن السلف والأئمة .
الرابعة : إبطال قول الحلولية القائلين بأن الله تعالى بذاته في الأرض أو في الأرض وعلى العرش لدلالة الكتاب والسنة والإجماع والعقل على إبطاله .
الخامسة : إنكاره القول بالمعية الذاتية .
وكل ما قرره فهو الحق فعلو الله تعالى على خلقه بذاته وصفاته دل عليه القرآن في آيات متعددة وعلى وجوه متنوعة معلومة لكل من قرأ كتاب الله تعالى موجبة للعلم القطعي ودلت عليه السنة بأنواعها القولية والفعلية والإقرارية في أحاديث كثيرة تبلغ حد التواتر وعلى وجوه متنوعة ودل عليه العقل من وجهين .
ثم أخذ في ذكرهما .
ثم قال : وبطلان القول بالحلول معلوم بدلالة الكتاب والسنة والعقل والفطرة والإجماع وذلك لأن القول به مناقض تمام المناقضة للقول بعلو الله تعالى بذاته وصفاته فإذا كان علو الله تعالى بذاته وصفاته ثابتاً بهذه الأدلة كان نقيضه باطلاً بها .
وإنكار القول بالمعية الذاتية واجب حيث تستلزم القول بالحلول لأن القول بالحلول باطل فكل ما استلزمه فهو باطل يجب إنكاره ورده على قائله كائنا من كان.
وأسأل الله تعالى أن يجعلنا جميعاً من المتعاونين على البر والتقوى وأن يهيئ لنا من أمرنا رشداً وأن ينصرنا بالحق ويجعلنا من أنصاره إنه ولي ذلك القادر عليه وهو القريب المجيب .
قاله كاتبه محمد الصالح العثيمين في 15/4/1404 هـ ([9]).
أقول:
هؤلاء هم الرجال الأقوياء وهم القمم العماليق، وإن في مواقفهم هذه لعبرة عظيمة للعقلاء النبلاء، وإن لها دلالات على تقوى وورع وصدق وإخلاص هؤلاء الرجال ولا سيما ابن عثيمين رحمه الله.
فلا مداهنة ولا مجاملة من ابن باز والتويجري، ولا حمل مجمل على مفصل ، ولا مراوغة ولا ضجيج، ولا مطالبة بحمل المجمل على المفصل، ولا صخب من ابن عثيمين لأن الجميع يريدون وجه الله تعالى ويحترمون الحق وينصرونه ولو على النفس.
ولقد حققوا قول الله تعالى: (( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين)).
وإن في هذا لشرفاً كبيراً للسلفية والسلفيين الصادقين.
وكم جالست هؤلاء الكبار الأفذاذ، ولا سيما ابن باز والعثيمين، فإذا حاورتهم في شيء أجد منهم تواضعاً وأخلاقاً عالية وصدوراً رحبة تقبل الأخذ والعطاء، وتحترم الحق، ولو كان مع من هو أصغر منهم.
اللهم اغفر لهم وارفع درجاتهم في عليين.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه
ربيع بن هادي عمير المدخلي
21/7/1433هـ
([1]) أي حمل المجمل والمفصل في تعريفه.
([2]) إن ما قالوه حق، وقد كنت تدافع بهذه القاعدة عن سيد قطب الذي انطوى على بدع الجهمية والمعتزلة والخوارج وصوفية وحدة الوجود والحلول والجبر وغير ذلك من الضلالات الكبرى، فكيف لا تكون هذه القاعدة خدمة لأهل البدع جميعاً.
([3]) ما هذا يا أبا الحسن؟! إن أصل النـزاع بينك وبين خصومك كان في سيد قطب، ومن تلبس ببدع وأنت تراهم من أهل السنة، وقد اعترفت أنك كنت تحمل كلام سيد قطب الذي تزعم باطلاً أنه مجمل على ما تزعم أنه مفصل والأمر على خلاف ما تقول؛ فإن كلامه في وحدة الوجود والحلول صريح واضح مفصل.
وأنا أسألك كم من السنين مرت عليك وأنت تدافع عنه بمجملك ومفصلك المزعومين، فلماذا الآن تطالع الناس في عام (1423هـ) بهذا القول الجديد.
[4] - كذا في مسند أحمد، ولا توجد هذه الجملة في "سنن أبي داود"، ولا في "الإحسان".
([5]) في كتاب سماه "إثبات علو الله ومباينته لخلقه والرد على من زعم أن معية الله للخلق ذاتية".
([6]) يقصد مقال ابن عثيمين ولم يأنف ابن عثيمين من هذا الوصف.
([7]) كل هذه البيانات والاحتياطات من ابن عثيمين لم تمنع الشيخ التويجري من نقده ولم تمنع ابن باز والعثيمين نفسه من تأييد التويجري.
([8]) ص( 7-8)
([9]) ص( 157- 161).