أ/أحمد
06-16-2012, 05:43 PM
قال الله تعالى :(وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين) (الأنعام:55).
وقال: (ومن يشاقق الرسول من بعد ماتبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ماتولى) (النساء:115).
والله تعالى قد بين في كتابه سبيل المؤمنين مفصلة وسبيل المجرمين مفصلة، وعاقبة هؤلاء مفصلة وعاقبة هؤلاء مفصلة، وأعمال هؤلاء وأعمال هؤلاء، وأولياء هؤلاء وأولياء هؤلاء، وخذلانه لهؤلاء وتوفيقه لهؤلاء، والأسباب التي وفق بها هؤلاء، والاسباب التي خذل بها هؤلاء، وجلى سبحانه الأمرين في كتابه وكشفهما وأوضحهما وبينهما غاية البيان حتى شاهدتهما البصائر كمشاهدة الأبصار للضياء والضلال .
فالعاملون بالله وكتابه ودينه عرفوا سبيل المؤمنين معرفة تفصيلية وسبيل المجرمين معرفة تفصيلية، فاستبانت لهم السبيلان كما يستبين للسالك الطريق الموصل إلى مقصوده والطريق الموصل إلى الهلكة فهؤلاء أعلم الخلق، وأنفعهم للناس، وأنصحهم لهم، وهم الأدلاء الهداة.
وبذلك برز الصحابة على جميع من أتى بعدهم إلى يوم القيامة، فإنهم نشؤوا في سبيل الضلال والكفر والشرك، والسبل الموصلة للهلاك ،وعرفوها مفصلة، ثم جاءهم الرسول، وأخرجهم من تلك الظلمات إلى سبيل الهدى وصراط الله المستقيم، فخرجوا من الظلمة الشديدة إلى النور التام، ومن الشرك إلى التوحيد، ومن الجهل إلى العلم، ومن الغي إلى الرشاد، ومن الظلم إلى العدل، ومن الحيرة والعمى إلى الهدى والبصائر، فعرفوا مقدار مانالوه وظفروا به ومقدار ماكانوا فيه، فإن الضّدّ يظهر حسنه الضد، وإنما تتبين الأشياء بأضدادها، فازدادوا رغبة ومحبة فيما انتقلوا إليه، ونفرة وبغضا لما انتقلوا عنه، وكانوا أحب الناس في التوحيد والإيمان والإسلام، وأبغض الناس في ضدّه، عالمين بالسبيل على التفصيل.
وأما من جاء بعد الصحابة، فمنهم من نشأ في الإسلام غيرعالم تفصيل ضدّ ، فالتبس عليه بعض تفاصيل سبيل المؤمنين بسبيل المجرمين، فإن اللبس إنما يقع إذا ضعف العلم بالسبيلين أو أحدهما، كما قال عمر بن الخطاب : "إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية". وهذا من كمال علم عمر رضي الله عنه فإنه إذا لم يعرف الجاهلية وحكمها، وهو كلما خالف ماجاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه من الجاهلية، فإنها منسوبة إلى الجهل، وكلما خالف الرسول فهو من الجهل، فمن لم يعرف سبيل المجرمين ولم تستبن له، أو شك أن يظن في بعض سبيله أنها من سبيل المؤمنين، كما وقع في هذه الأمة من أمور كثيرة في باب الإعتقاد والعلم والعمل، هي من سبيل المجرمين والكفار وأعداء الرسل، أدخلها من لم يعرف أنها من سبيلهم في سبيل المؤمنين، ودعا إليها، وكفر من خالفها واستحل منهم ما حرمه الله ورسوله، كما وقع الأكثر أهل البدع من الجهمية والقدرية والخوارج والروافض وأشباههم، ممن ابتدع بدعة ودعا إليها وكفر من خالفها.
والناس في هذا الموضع أربع فرق :
الأولى: من استبان له سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين على التفصيل علما وعملا، وهؤلاء أعلم الخلق.
الفرقة الثانية: من عميت عنه السبيلان من أشباه الأنعام، وهؤلاء بسبيل المجرمين أخص ولها أسلك.
الفرقة الثالثة: من صرف عنايته إلى معرفة سبيل المؤمنين دون ضدها، فهو يعرف ضدها من حيث الجملة والمخالفة، وأن كل ما خالف سبيل المؤمنين فهو باطل، وإن لم يتصوره على التفصيل، بل إذا سمع شيئا مما خالف سبيل المؤمنين صرف سمعه عنه، ولم يشغل نفسه بفهمه ومعرفة وجه بطلانه. وهو بمنزلة من سلمت نفسه من إرادة الشهوات فلم تخطر بقلبه ولم تدعه إليها نفسه، بخلاف الفرقة الأولى، فإنهم يعرفونها وتميل إليها نفوسهم ويجاهدونها على تركها لله .
وقد كتبوا إلى عمر بن الخطاب يسألونه عن هذه المسألة : أيهما أفضل : رجل لم تخطر له الشهوات ولم تمر بباله، أو رجل نازعته إليها نفسه فتركها لله ؟
فكتب عمر : إن الذي تشتهي نفسه المعاصي ويتركها لله عز وجل من {اللذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم} (الحجرات:3).
وهكذا من عرف البدع والشرك والباطل وطرقه، فأبغضها لله، وحذرها، وحذر منها، ودفعها عن نفسه، ولم يدعها تخدش وجه إيمانه ولاتورثه شبهة و لا شكاّ، بل يزداد بمعرفتها بصيرة في الحق ومحبة له، وكراهة لها ونفرة عنها، أفضل ممن لاتخطر بباله ولاتمر بقلبه، فإنه كلما مرت بقلبه وتصورت له إزداد محبة للحق ومعرفة بقدره وسرورا به، فيقوي إيمانه به، كما أن صاحب خواطر الشهوات والمعاصي كلما مرت به فرغب عنها إلى ضدها، إزداد محبة لضدها ورغبة فيه وطلبا له وحرصا عليه، فمن ابتلى الله سبحانه عبده المؤمن بمحبة الشهوات والمعاصي وميل نفسه إليها، إلا ليسوقه بها إلى محبة ماهو أفضل منها وخير له وأنفع وأدوم، وليجاهد نفسه على تركها له سبحانه، فتورثه تلك المجاهدة الوصول إلى المحبوب الأعلى، فكلما نازعته نفسه إلى ترك الشهوات واشتدت إرادته لها وشوقه إليها، صرف ذلك الشوق والإرادة والمحبة إلى النوع العالي الدائم، فكان طلبه له أشد، وحرصه عليه أتم، بخلاف النفس الباردة الخالية من ذلك، فإنها وإن كانت طالبة للأعلى، لاكن بين الطلبين فرق عظيم ! ألا ترى أن من مشى إلى محبوبه على الجمر والشوك أعظم ممن مشى إليه راكبا على النجائب ؟ فليس من آثر محبوبه مع منازعة نفسه كمن آثره مع عدم منازعتها إلى غيرها، فهو سبحانه يبتلي عبده بالشهوات، إما حجابا له عنه، أو حجابا له يوصله إلى رضاه وقربه وكرامته.
الفرقة الرابعة : فرقة عرفت سبيل الشر والبدع والكفر مفصلة ، وسبيل المؤمنين مجملة.
وهذا حال كثير ممن اعتنى بمقالات الأمم ومقالات اهل البدع، فعرفها على التفصيل، ولم يعرف ماجاء به الرسول كذلك، بل عرفه معرفة مجملة، وإن تفصلت له في بعض الأشياء، ومن تأمل كتبهم رأى ذلك عيانا. وكذلك من كان عارفا بالطرق الشر والظلم والفساد على التفصيل سالكا لها، إذا تاب ورجع عنها إلى سبيل الأبرار، يكون علمه بها مجملا، غير عارف بها على التفصيل معرفة من أفنى عمره في تصرفها وسلوكها.
والمقصود أن الله سبحانه يحب أن تعرف سبيل أعدائه لتجتنب وتبغض، كما يحب أن تعرف سبيل أوليائه لتحب وتسلك. وفي هذه المعرفة من الفوائد والأسرار مالايعلمه إلا الله، من معرفة عموم ربوبيته سبحانه وحكمته، وكمال أسمائه وصفاته، وتعلقها بمتعلقاتها، وإقتضائها لاثارها ومو جباتها. وذلك من أعظم الدلالة على ربوبيته وملكه وإلاهيته، وحبه وبغضه، وثوابه وعقابه.
والله أعلم.
المصدر:
كتاب القوائد من ص157 إلى 162
وقال: (ومن يشاقق الرسول من بعد ماتبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ماتولى) (النساء:115).
والله تعالى قد بين في كتابه سبيل المؤمنين مفصلة وسبيل المجرمين مفصلة، وعاقبة هؤلاء مفصلة وعاقبة هؤلاء مفصلة، وأعمال هؤلاء وأعمال هؤلاء، وأولياء هؤلاء وأولياء هؤلاء، وخذلانه لهؤلاء وتوفيقه لهؤلاء، والأسباب التي وفق بها هؤلاء، والاسباب التي خذل بها هؤلاء، وجلى سبحانه الأمرين في كتابه وكشفهما وأوضحهما وبينهما غاية البيان حتى شاهدتهما البصائر كمشاهدة الأبصار للضياء والضلال .
فالعاملون بالله وكتابه ودينه عرفوا سبيل المؤمنين معرفة تفصيلية وسبيل المجرمين معرفة تفصيلية، فاستبانت لهم السبيلان كما يستبين للسالك الطريق الموصل إلى مقصوده والطريق الموصل إلى الهلكة فهؤلاء أعلم الخلق، وأنفعهم للناس، وأنصحهم لهم، وهم الأدلاء الهداة.
وبذلك برز الصحابة على جميع من أتى بعدهم إلى يوم القيامة، فإنهم نشؤوا في سبيل الضلال والكفر والشرك، والسبل الموصلة للهلاك ،وعرفوها مفصلة، ثم جاءهم الرسول، وأخرجهم من تلك الظلمات إلى سبيل الهدى وصراط الله المستقيم، فخرجوا من الظلمة الشديدة إلى النور التام، ومن الشرك إلى التوحيد، ومن الجهل إلى العلم، ومن الغي إلى الرشاد، ومن الظلم إلى العدل، ومن الحيرة والعمى إلى الهدى والبصائر، فعرفوا مقدار مانالوه وظفروا به ومقدار ماكانوا فيه، فإن الضّدّ يظهر حسنه الضد، وإنما تتبين الأشياء بأضدادها، فازدادوا رغبة ومحبة فيما انتقلوا إليه، ونفرة وبغضا لما انتقلوا عنه، وكانوا أحب الناس في التوحيد والإيمان والإسلام، وأبغض الناس في ضدّه، عالمين بالسبيل على التفصيل.
وأما من جاء بعد الصحابة، فمنهم من نشأ في الإسلام غيرعالم تفصيل ضدّ ، فالتبس عليه بعض تفاصيل سبيل المؤمنين بسبيل المجرمين، فإن اللبس إنما يقع إذا ضعف العلم بالسبيلين أو أحدهما، كما قال عمر بن الخطاب : "إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية". وهذا من كمال علم عمر رضي الله عنه فإنه إذا لم يعرف الجاهلية وحكمها، وهو كلما خالف ماجاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه من الجاهلية، فإنها منسوبة إلى الجهل، وكلما خالف الرسول فهو من الجهل، فمن لم يعرف سبيل المجرمين ولم تستبن له، أو شك أن يظن في بعض سبيله أنها من سبيل المؤمنين، كما وقع في هذه الأمة من أمور كثيرة في باب الإعتقاد والعلم والعمل، هي من سبيل المجرمين والكفار وأعداء الرسل، أدخلها من لم يعرف أنها من سبيلهم في سبيل المؤمنين، ودعا إليها، وكفر من خالفها واستحل منهم ما حرمه الله ورسوله، كما وقع الأكثر أهل البدع من الجهمية والقدرية والخوارج والروافض وأشباههم، ممن ابتدع بدعة ودعا إليها وكفر من خالفها.
والناس في هذا الموضع أربع فرق :
الأولى: من استبان له سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين على التفصيل علما وعملا، وهؤلاء أعلم الخلق.
الفرقة الثانية: من عميت عنه السبيلان من أشباه الأنعام، وهؤلاء بسبيل المجرمين أخص ولها أسلك.
الفرقة الثالثة: من صرف عنايته إلى معرفة سبيل المؤمنين دون ضدها، فهو يعرف ضدها من حيث الجملة والمخالفة، وأن كل ما خالف سبيل المؤمنين فهو باطل، وإن لم يتصوره على التفصيل، بل إذا سمع شيئا مما خالف سبيل المؤمنين صرف سمعه عنه، ولم يشغل نفسه بفهمه ومعرفة وجه بطلانه. وهو بمنزلة من سلمت نفسه من إرادة الشهوات فلم تخطر بقلبه ولم تدعه إليها نفسه، بخلاف الفرقة الأولى، فإنهم يعرفونها وتميل إليها نفوسهم ويجاهدونها على تركها لله .
وقد كتبوا إلى عمر بن الخطاب يسألونه عن هذه المسألة : أيهما أفضل : رجل لم تخطر له الشهوات ولم تمر بباله، أو رجل نازعته إليها نفسه فتركها لله ؟
فكتب عمر : إن الذي تشتهي نفسه المعاصي ويتركها لله عز وجل من {اللذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم} (الحجرات:3).
وهكذا من عرف البدع والشرك والباطل وطرقه، فأبغضها لله، وحذرها، وحذر منها، ودفعها عن نفسه، ولم يدعها تخدش وجه إيمانه ولاتورثه شبهة و لا شكاّ، بل يزداد بمعرفتها بصيرة في الحق ومحبة له، وكراهة لها ونفرة عنها، أفضل ممن لاتخطر بباله ولاتمر بقلبه، فإنه كلما مرت بقلبه وتصورت له إزداد محبة للحق ومعرفة بقدره وسرورا به، فيقوي إيمانه به، كما أن صاحب خواطر الشهوات والمعاصي كلما مرت به فرغب عنها إلى ضدها، إزداد محبة لضدها ورغبة فيه وطلبا له وحرصا عليه، فمن ابتلى الله سبحانه عبده المؤمن بمحبة الشهوات والمعاصي وميل نفسه إليها، إلا ليسوقه بها إلى محبة ماهو أفضل منها وخير له وأنفع وأدوم، وليجاهد نفسه على تركها له سبحانه، فتورثه تلك المجاهدة الوصول إلى المحبوب الأعلى، فكلما نازعته نفسه إلى ترك الشهوات واشتدت إرادته لها وشوقه إليها، صرف ذلك الشوق والإرادة والمحبة إلى النوع العالي الدائم، فكان طلبه له أشد، وحرصه عليه أتم، بخلاف النفس الباردة الخالية من ذلك، فإنها وإن كانت طالبة للأعلى، لاكن بين الطلبين فرق عظيم ! ألا ترى أن من مشى إلى محبوبه على الجمر والشوك أعظم ممن مشى إليه راكبا على النجائب ؟ فليس من آثر محبوبه مع منازعة نفسه كمن آثره مع عدم منازعتها إلى غيرها، فهو سبحانه يبتلي عبده بالشهوات، إما حجابا له عنه، أو حجابا له يوصله إلى رضاه وقربه وكرامته.
الفرقة الرابعة : فرقة عرفت سبيل الشر والبدع والكفر مفصلة ، وسبيل المؤمنين مجملة.
وهذا حال كثير ممن اعتنى بمقالات الأمم ومقالات اهل البدع، فعرفها على التفصيل، ولم يعرف ماجاء به الرسول كذلك، بل عرفه معرفة مجملة، وإن تفصلت له في بعض الأشياء، ومن تأمل كتبهم رأى ذلك عيانا. وكذلك من كان عارفا بالطرق الشر والظلم والفساد على التفصيل سالكا لها، إذا تاب ورجع عنها إلى سبيل الأبرار، يكون علمه بها مجملا، غير عارف بها على التفصيل معرفة من أفنى عمره في تصرفها وسلوكها.
والمقصود أن الله سبحانه يحب أن تعرف سبيل أعدائه لتجتنب وتبغض، كما يحب أن تعرف سبيل أوليائه لتحب وتسلك. وفي هذه المعرفة من الفوائد والأسرار مالايعلمه إلا الله، من معرفة عموم ربوبيته سبحانه وحكمته، وكمال أسمائه وصفاته، وتعلقها بمتعلقاتها، وإقتضائها لاثارها ومو جباتها. وذلك من أعظم الدلالة على ربوبيته وملكه وإلاهيته، وحبه وبغضه، وثوابه وعقابه.
والله أعلم.
المصدر:
كتاب القوائد من ص157 إلى 162