المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : لماذا اخترت المنهج السلفي ( الحلقة الثانية )


أحمد المصري
04-15-2011, 11:43 PM
* الرَّابع - قالَ الله تعالى: وكذلكَ جعلناكم أُمةً وسطاً لتكونوا شهداءَ على الناسِ ويكونَ الرَّسولُ عليكم شهيداً ]البقرة: 143[.
لقد جعلَهم المولى عزَّ وجلَّ خياراً عدولاً، فهم أفضلُ الأممِ، وأعدلُها في أقوالهِم وأفعالهِم وإرادتهِم، ولذلكَ استحقّوا أن يَكونوا شهداءَ على النّاسِ، فلهذا نوّه بهم، ورفعَ ذِكرَهم، وأثنى عليهم، وتقبلهم بقَبولٍ حسنٍ.
والشاهدُ المقبولُ عندَ اللهِ هو الذي يشهدُ بعلمٍ وصدقٍ، فيخبرُ بالحقَّ مستنداً إلى علمِه؛ كما قالَ تعالى: إلا من شهدَ بالحقَّ وهم يَعلمونَ ]الزخرف: 86[.
فإذا كانت شهادتُهم مقبولةً عندَ اللهِ فَلا ريبَ أنّ فهمَهم للدينِ حُجّةٌ على من بعدهم،
لأنَّ هذه الآية أثبتت الدلالة مطلقاً.
والأمةُ لم تعدّل جيلاً مطلقاً إلاّ جيلَ الصّحابةِ، فإنَّ أهلَ السنةِ والجماعةِ عدَّلُوهم على الإطلاقِ والعمومِ، فأخذوا عنهم راويةً ودرايةً من غيِر استثناءٍ، ولا محاشاةٍ، بخلافِ غيِرهم فلم يعدَّلوا إلا من صحت إمامته، وثبتت عدالتُه، وهما لا يمنحانِ لإنسانٍ إلا إذا سارَ على قدمِ الصحابةِ رضي اللهُ عنهم.
فثبتَ بهذا أنَّ فهمَ الصحابةِ حجّةٌ على غيِرهم في توجيه نصوصِ الكتابِ والسنّةِ، ولذلكَ أمَرَ باتباعِ سبيلِهم، يوضحه :
* الخامس - قالَ تعالى: واتبع سبيلَ من أنابَ إليَّ ]لقمان: 15[.
وكلٌّ من الصحابةِ - رضي اللهُ عنهم - منيبٌ إلى اللهِ، فهداهم اللهُ إلى الطيّبِ من القولِ، والصالحِ من العملِ بدليلِ قولِه تعالى: والَّذينَ اجتَنَبوا الطاغوتَ أن يَعبدوها وأنابوا إلى اللهِ لهم البشرى فبشر عباد الَّذينَ يستمعونَ القولَ فيتبعونَ أحسنَه أُولئكَ الَّذينَ هداهم اللهُ وَأولئكَ هم أُوْلوا الألبابِ ]الزمر:17- 18[.
فوجبَ اتباعُ سبيلِهم في الفهمِ لدينِ اللهِ كتاباً وسنّةً، ولذلكَ هددَ اللهُ من اتبعَ غيرَ سبيلِهم بجهنَّمَ وبئسَ المصير، يوضحه :
* السادس - قالَ تعالى: ومن يُشاقق الرّسولَ من بعدِ ما تبيّنَ له الهُدى ويتبع غيرَ سبيلِ المؤمنينَ نولّه ما تولّى ونُصله جهنَّم وساءت مصيراً ]النساء: 115[.
ووجه الدلالةِ: أنَّ اللهَ توعدَ من اتبعَ غيرَ سبيلِ المؤمنينَ، فدلَّ على أنَّ اتباعَ سبيلِهم في فهمِ شرعِ اللهِ واجبٌ، ومخالفتَه ضلالٌ.
فإن قيلَ: هذا استدلالٌ بدليلِ الخطابِ، وليسَ حجّةً .
قلتُ: هو دليلُ، ودونَكَ الدليلُ:
أ – عن يَعلى بنِ أُميّة قالَ: قلتُ لعمر بن الخطاب: فليسَ علَيكم جُناحٌ أن تقصروا من الصلاةِ إن خِفتم أن يفتنَكم الَّذينَ كفروا ]النساء: 101[، فقد أمن النّاسُ؟
قالَ عمر : عَجبتُ ممّا عَجبت فسألتُ رسولَ اللهِ  عن ذلكَ فقالَ :  صدقة تصدَّقَ اللهُ بها عليكم فاقبلوا صدقتّه  ( 1 ).
لقد فهمَ الصحابيّانِ يعلى بنُ أُميةَ ( 2 ) ، وعمرُ بنُ الخطابِ رضي اللهُ عنهما من هذه الآيةِ أنَّ قَصْرَ الصلاةِ مقيدٌ بشرطِ الخوفِ؛ فإذا أمنَ النّاسُ فلا بدَّ من الإتمامِ، وهذا هو دليلُ الخطابِ المسمّى بـ "مفهوم المخالفة" .
وسألَ عمرُ رضي اللهُ عنه رسولَ اللهِ  ، فأقرّه على فهمِه، ولكنّه بيَّنَ له أنَّ ذلكَ غير معتبرٍ هنا؛ لأنَّ اللهَ تصدَّقَ عليكم فأقبلوا صدقتَه.
ولو كانَ فهمُ عمرَ لا يصحُّ لما أقرَّه الرسولُ  ابتداءً، ثمَّ وجهه هذا التوجيه، ولقد قيلَ: التوجيه فرع القَبولِ.
ب – عن جابر عن أُم مبشر رضي اللهُ عنهما أنَّها سمعتْ النبي يَقولُ عندَ حفصةَ :
 لا يَدخلَ أحدٌ النارَ إن شاءَ اللهُ من أصحابِ الشجرةِ الذينَ بايعوا تحتَها.
قالت: بلى يا رسولَ اللهِ، فانتهرها .
فقالت حفصةُ: وإن مِنكم إلا واردُها ] مريم: 71[.
فقال النبيُّ  :  قد قالَ عزَّ وجلَّ : ثمَّ ننجي الَّذينَ اتقوا ونذرُ الظالمينَ فيها جثيا
]مريم: 72[ ( 3 ).


(1) : أخرجه مسلمٌ (5/196- نووي) .
(2) : انظر "الإصابة في تمييزِ الصحابةِ" (3/168) .
(3) : أخرجه مسلمٌ (2496) .


لقد فهمت أمُّ المؤمنينَ حفصةُ رضي اللهُ عنها أنَّ الورودَ لجميعِ النّاسِ، وأنَّه بمعنى الدُّخولِ، فأزالَ رسولُ اللهِ  إشكالَها بتمامِ الآية ثمَّ نُنجي الَّذينَ اتقوا ]مريم: 72[.
فرسولُ اللهِ  أقرَّها على فهمِها ابتداءً، ثمَّ وضَّح لها أنَّ الدخولَ المنفيَّ غيرُ الورودِ المُثبتِ، وأنَّ الأوَّلَ خاصٌّ بالصالحينَ المُتقينَ، والمرادُ به نفيُ العذابِ فهم يَمرُّونَ منها إلى الجنّةِ دونَ أن يمسَّهم سوءٌ وعذابٌ، وباقي النّاسِ على خلافِ ذلكَ.
فثبتَ ولله الحمدُ والمِنّةُ أنَّ دليلَ الخطابِ حجّةٌ يُعتمدُ عليه، ويعوّلُ في الفهمِ إليه.
ناهيكَ أنَّ قولَه تعالى: ويتبعُ غيرَ سبيلِ المؤمنينَ ليسَ دليلَ خطابٍ، وإنَّما هو احتجاجٌ بتقسيمٍ عقلي؛ لأنَّه ليس بينَ اتباعِ سبيلِ المؤمنينَ واتباع غير سبيلِهم قسم ثالثٌ.
فإذا حرَّم اللهُ جلَّ جلاله اتباعَ غيِر سبيلِهم، وجبَ اتباعُ سبيلِهم، وهذا واضحٌ لا يشتبه.
فإن قيلَ: فإنَّ بينَ القسمينَ قسماً ثالثاً؛ وهو عدمُ الاتباعِ أصلاً.
قلتُ: هذا من أوهنِ ما نطقت به العقولُ؛ لأنَّ عدمَ الاتباعِ أصلاً هو اتباعٌ لسبيلِ غيِرهم قولاً واحداً؛ لقولِه تعالى: فماذا بعدَ الحقِ إلا الضلالُ فأنَّى تُصرفونَ ]يونس: 32[، فثبتَ أنَّهما قسمان لا ثالثَ لهما .
فإن قيلَ: لا نسلّمُ أنَّ اتباعَ غير سبيلِ المؤمنينَ موجبٌ لهذا الوعيدِ، بل هو مع مشاقّةِ الرَّسولِ  ، فلا يَلزمُ حرمةُ اتباع غير سبيلِ المؤمنينَ مطلقاً بل إذا كان مع المشاقّةِ.
قلتُ: معلومٌ أنَّ المشاقّةَ محرمةٌ بانفرادِها، مستقلّةٌ بنفسِها، لإيجابِ الوعيدِ عليها، كما قالَ تعالى: ومن يُشاققُ الله ورسولَه فإنَّ اللهَ شديدُ العقابِ ]الأنفال: 13[.
فدلَّ أنَّ الوعيدَ على كلًّ منهما بانفرادِه، وأنَّ هذا الوصفَ يُوجبُ الوعيدَ بمفردِه، ويدلٌ على ذلكَ أُمورٌ منها:
أ – أنَّ اتّباعَ غيرِ سبيلِ المؤمنينَ لو لم يَكن مُحرَّماً بانفراده، لم يُحرَّم مع المُشاقّةِ كسائرِ المناجاةِ.
ب – أنَّ اتباعَ غيرِ سبيلِ المؤمنينَ لو لم يدخلْ بانفرادهِ في الوعيدِ، لكانَ لغواً لا فائدةَ من ذكرِه، فثبتَ أنَّ عطفَه علّةٌ مستقلّةٌ كالأوّلِ.
فإن قيلَ: لا نسلّمُ أنَّ الوعيدَ لمن اتبعَ غيرَ سبيلِ المؤمنينَ مطلقاً بل بعدَ ما تبيَّنَ له الهدى، لأنّه ذَكَرَ مشاقّةَ الرسولِ  وشرطَ فيها تَبَيُّنَ الهدى، ثمَّ عطفَ عليها اتباعَ غيرِ سبيلِ المؤمنينَ، فيجبُ أن يَكونَ تبيُّنُ الهدى شرطاً في الوعيدِ على اتباعِ غيرِ سبيلِ المؤمنينَ.
قلتُ: قولُه تعالى: ويتبع غيرَ سبيلِ المؤمنينَ معطوفٌ على قولهِ: ومن يُشاققِ الرسولَ من بعدِ ما تبيّنَ له الهدى فَلا يَكونُ قيدُ الأوّلِ شرطَ الثاني، وإنَّما العطفُ لمطلقِ الجمعِ والمشاركةِ في الحكمِ، وهو قولُه تعالى: نولّه ما تولّى ونصله جهنّمَ وساءت مصيراً، فدلَّ على أنَّ كلا الوصفيِن يوجبُ الوعيدَ بانفرادِه.
ويدلُّ عليه ما يأتي:
أ – أنَّ تَبَيُّنَ الهدى شرطٌ في مشاقّةِ الرسولِ ، لأنَّ من جهلَ هدى رسولِ الله 
لا يُوصفُ بالمشاقّةِ، أما اتباعُ سبيلِ المؤمنينَ فهو هدى في نفسِه.
ب – أنَّ الآيةَ خرجت مخرجَ التعظيمِ والتبجيل للمؤمنينَ، فلو كانَ اتباعُ سبيلِهم مشروطاً بتبيَّنِ الهدى لم يَكن اتباعُ سبيلِهم لأجلِ أنَّه سبيلُهم بل لتبيُّن الهدى، وعندّئذٍ فإنَّ اتباعَ سبيلِهم لا فائدةَ منه .
وبهذا تبيَّنَ أنَّ اتباعَ سبيلِ المؤمنينَ منجاةٌ، فثبتَ أنَّ فهمَ الصحابةِ للدينِ حجّةٌ على غيِرهم، فمن حادَّ عنه فقد ابتغى عَوَجاً، وسلكَ مكاناً حرجاً، فحسبُه جهنَّمُ وساءت مستقرّاً ومُقاماً ومصيراً، هذا هو الحقُّ فاعتصم به، ودعني من بُنَيّاتِ الطريقِ، يوضحه: