المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : سلسلة كشف شبهات الصوفية 1


أ/أحمد
06-07-2011, 09:48 AM
في شبهة حصر القبوري النهي عن اتخاذ القبر مسجدًا
بالصلاة عليه أو إليه
للشيخ محمد علي فركوس حفظه الله

الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
ففي معرض فقه معنى «اتخاذ القبور مساجد» أراد القبوري ‑هداه الله‑ أن يحصره في الصلاة على القبور بمعنى السجود عليها، وكذا في استقبالها بالصلاة والدعاء، مستندًا إلى أنّ فهم العلماء لأحاديث النهي محصورة في هذين المعنيين، وأخرج بذلك المسجد الذي به ضريح، وقصد الصلاة فيه من معنى اتخاذ القبر مسجدًا، ثمّ ناقض كلامه في الأخير عند بيانه لحكم العلماء الفحول من أصحاب المذاهب الأربعة على الصلاة في مسجد فيه ضريح، حيث يقول ‑هداه الله‑ ما نصُّه:
[واتخاذ القبر مسجدًا الذي ورد فيه النهي عن النبيِّ صَلَّى الله عليه وآله وسلم؛ ليس هو ما ذكرنا من بناء المسجد بجوار ضريح مُتَّصل به أو منفصل عنه، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صَلَّى الله عليه وآله وسلم: «لَعَنَ اللهُ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ»(1- أخرجه البخاري في «صحيحه» (1/446)، ومسلم في «صحيحه»: (1/376))، وفي رواية لمسلم بلفظ: «قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ»(2- أخرجه مسلم في «صحيحه»: (1/377)). بزيادة: «وصالحيهم».
فعلماء الأُمَّة لم يفهموا من هذا الحديث أنَّ المقصود النهي عن اتصال المسجد بضريح نبي أو صالح، وإنما فسروا اتخاذ القبر مسجدًا التفسير الصحيح، وهو أن يُجعل القبر نفسه مكانًا للسجود، ويسجد عليه الساجد لمن في القبر عبادة له، كما فعل اليهود والنصارى؛ حيث قال تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [التوبة: 31]، فهذا هو معنى السجود الذي استوجب اللعن، أو جعل القبر قِبلَةً دون القبلة المشروعة، كما يفعل أهل الكتاب؛ حيث يتوجَّهون بالصلاة إلى قبور أحبارهم ورهبانهم، فتلك الصور هي التي فهمها علماء الأُمَّة من النهي عن اتخاذ القبور مساجد.
فكان ينبغي على المسلمين أن يعرفوا الصورة المنهي عنها، لا أن ينظروا إلى ما فعله المسلمون في مساجدهم، ثمَّ يقولون: إنَّ الحديث ورد في المسلمين، فهذا فعل الخوارج والعياذ بالله، كما قال ابن عمر رضي الله عنه ذهبوا إلى آيات نزلت في المشركين، فجعلوها في المسلمين. فليست هناك كنيسة للنصارىولا معبد لليهود على هيئة مساجد المسلمين التي بها أضرحة، والتي يصرُّ بعضهم أنَّ الحديث جاء في هذه الصورة.
ولكن العلماء فهموا المراد بنظر ثاقبٍ وهو ما اتضح في شروحهم لهذه الأحاديث، فها هو الشيخ السندي يقول بشأن هذا الحديث: «ومراده بذلك أن يحذِّر أُمَّته أن يصنعوا بقبره ما صنع اليهود والنصارى بقبور أنبيائهم من اتخاذهم تلك القبور مساجد، إمَّا بالسجود إليها تعظيمًا أو بجعلها قِبلةً، يتوجَّهون في الصلاة نحوها، قيل: ومجرَّد اتخاذ مسجد في جوار صالح تبرُّكًا غير ممنوع(3- «حاشية السندي»: (2/41))».
وقد نقل العلاَّمة ابن حجر العسقلاني وغيرُه من شُرَّاح السُّنن قول البيضاوي؛ حيث قال: «قال البيضاوي: لما كانت اليهود يسجدون لقبور الأنبياء؛ تعظيمًا لشأنهم، ويجعلونها قِبلة، ويتوجَّهون في الصلاة نحوها فاتخذوها أوثانًا، لَعَنَهم الله، ومنع المسلمين عن مثل ذلك، ونهاهم عنه، أمَّا من اتخذ مسجدًا بجوار صالح أو صلى في مقبرته وقصد به الاستظهار بروحه، ووصول أثر من آثار عبادته إليه، لا التعظيم له، والتوجُّه فلا حرج عليه، ألا ترى أنَّ مدفن إسماعيل في المسجد الحرام ثمَّ الحطيم؟ ثمَّ إنَّ ذلك المسجد أفضل مكان يتحرى المصلي بصلاته، والنهي عن الصلاة في المقابر مختص بالمنبوشة لما فيها من النجاسة. انتهى»(4- «فتح الباري»: (1/524)، و«شرح الزرقاني»: (4/290)، و«فيض القدير»: (4/466)).
وقد نقل كذلك المباركفوري في شرحه لجامع الإمام الترمذي قول التوربشتي فقال: «قال التوربشتي هو مخرج على الوجهين: أحدهما: كانوا يسجدون لقبور الأنبياء تعظيمًا لهم وقصد العبادة في ذلك. وثانيهما: أنهم كانوا يتحرَّون الصلاة في مدافن الأنبياء، والتوجُّه إلى قبورهم في حالة الصلاة والعبادة لله؛ نظرًا منهم أنَّ ذلك الصنيع أعظم موقعًا عند الله لاشتماله على الأمرين»(5- «تحفة الأحوذي» للمباركفوري: (2/226)).
وممَّا سبق يتبيَّن أنَّ حكم الصلاة بالمسجد الذي به ضريح يكون، إذا كان القبر في مكان مُنعزِل عن المسجد، أي: لا يصلى فيه، فالصلاة في المسجد الذي يجاوره صحيحة، ولا حرمة ولا كراهة فيها، أمَّا إذا كان القبر في داخل المسجد، فإنَّ الصلاة باطلة ومحرَّمة على مذهب أحمد بن حنبل، جائزة وصحيحة عند الأئمة الثلاثة، غاية الأمر أنهم قالوا: يكره أن يكون القبر أمام المصلى؛ لما فيه من التشبه بالصلاة إليه، والله تعالى أعلى وأعلم].
فالجواب على القبوري ‑هداه الله‑ بحصره النهي عن اتخاذ القبر مسجدًا بالصلاة عليه وإليه فقط ما يلي:
1‑ تفسير ورود الصورة المنهي عنها في حديث لعن اليهود والنصارى في اتخاذ قبور أنبيائهم مساجد على من يجعل القبر نفسه مكانًا للسجود، ويسجد عليه الساجد لمن في القبر عبادة له، أو جعل القبر قبلة دون القبلة المشروعة تفسير لا شك في صحته، وللمعنيين شواهد لأحاديث عدة ثابتة عن النبي صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم لم يُعرِّج عليها القبوري ‑هداه الله‑ وسأورد بعضًا منها على الوجه التالي:
‑ أمَّا المعنى الأول من معاني اتخاذ القبر مسجدًا والسجود لها فإنه يشهد لهذا المعنى:
• قوله صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «لاَ تُصَلُّوا إِلَى قَبْرِ، وَلاَ تُصَلُّوا عَلَى قَبْرِ»(6- أخرجه الطبراني في «المعجم الكبير»: (11/376)، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. والحديث صححه الألباني في «السلسلة الصحيحة»: (3/13)).
• «نَهْيُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُبْنَى عَلَى القُبُورِ، أَوْ يُقْعَدَ عَلَيْهَا، أَوْ يُصَلَّى عَلَيْهَا»(7- أخرجه أبو يعلى في «مسنده»: (2/297)، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (3/191): «رجاله ثقات»، وصححه الألباني في «تحذير الساجد»: (29)).
• «نَهْيُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عَنِ الصَّلاَةِ إِلَى القُبُورِ»(8- أخرجه ابن حبان في «صحيحه»: (6/93)، من حديث أنس رضي الله عنه. والحديث صححه الألباني في «صحيح الجامع»: (6893)).
- أمَّا المعنى الثاني من معاني الاتخاذ: وهو السجود إليها واستقبالها بالصلاة والدعاء فيشهد له النهي الصريح في قوله صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «لاَ تَجْلِسُوا عَلَى القُبُورِ، وَلاَ تُصَلُّوا إِلَيْهَا»(9- أخرجه مسلم كتاب «الجنائز»: (1/430)، رقم: (972)، والنسائي كتاب «القبلة»: (760)، وأحمد: (4/135)، من حديث أبي مرثد الغنوي رضي الله عنه)، ويؤيِّده فهم الصحابة رضي الله عنهم، فقد ثبت عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «كُنْتُ أُصَلِّي قَرِيبًا مِنْ قَبْرٍ فَرَآنِي عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَقَالَ: «القَبْر، القَبْر»، فَرَفَعْتُ بَصَرِي إِلَى السَّمَاءِ وَأَنَا أَحْسَبُهُ يَقُولُ: القَمَرَ»(10- أخرجه البخاري تعليقا: كتاب «الصلاة»، باب هل تنبش قبور مشركي الجاهلية ويتخذ مكانها مساجد: (1/111)، قال ابن حجر في «فتح الباري» (1/659): «رويناه موصولا في كتاب الصلاة لأبي نعيم شيخ البخاري...وله طرق أخرى بينتها في «تعليق التعليق»»)، وعند عبد الرزاق بزيادة: «إِنَّمَا أَقُول القَبْرَ، لاَ تُصَلِّ إِلَيْهِ»(11- «المصنف» لعبد الرزاق الصنعاني: (1/404)، والأثر صححه الألباني في: «تحذير الساجد»: (35)).
فهذا المعنى والذي قبله استدلّ لهما القبوري ‑هداه الله‑ بكلام السِّندي والبيضاوي وما نقله المباركفوري عن قول التوربتشي، فهما صحيحان بلا شكّ لدلالة النصوص الحديثية والآثار عليهما لكنهما لا يمثلان ‑في حقيقة الأمر‑ سوى مفهومين لمعنى اتخاذ القبور مساجد، ومفهومه أوسع من ذلك، قال الصنعاني ‑رحمه الله‑: «واتخاذ القبور مساجد أعمُّ من أن يكون بمعنى الصلاة إليها أو بمعنى الصلاة عليها»(12- «سبل السلام» للصنعاني: (1/317-318))، وقال ‑أيضًا‑: «والمراد من الاتخاذ أعمّ من أن يكون ابتداعًا أو اتباعًا فاليهود ابتدعت والنصارى اتبعت»(13- نفس المصدر السابق).
قلت: بل إنَّ الأحاديث الصحيحة المتقدِّمة المتضمِّنة للوعيد الشديد تشمل ‑باللزوم‑ معنى ثالثًا في النهي عن اتخاذ القبور مساجد وهو البناء عليها، ووجه اللزوم من السجود إليها بناء المساجد عليها على غرار ما يلزم من بناء المساجد عليها السجود إليها، ذلك لأنّ الشارع «إذا أمر ببناء المساجد فهو يأمر ‑ضمنًا‑ بالصلاة فيها؛ لأنها هي المقصودة بالبناء، وكذلك إذا نهى عن بناء المساجد على القبور، فهو ينهى ‑ضمنًا‑ عن الصلاة فيها؛ لأنها هي المقصودة بالبناء أيضًا، وهذا بيِّن لا يخفى على العاقل»(14- «تحذير الساجد» للألباني: (43))، وقد بيَّنه المناوي ‑رحمه الله‑ في معرض شرحه للحديث حيث قال: «أي: اتخذوها جهة قبلتهم مع اعتقادهم الباطل، وإن اتخاذها مساجد لازم، لاتخاذ المساجد عليها كعكسه، وهذا بين به سبب لعنهم لما فيه من المغالاة في التعظيم»(15- «فيض القدير» للمناوي: (4/466))، هذا، وقد ترجم الإمام البخاري ‑رحمه الله‑ لمعنى هذا الحديث بقوله: «باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور»(16- «صحيح البخاري» بشرح فتح الباري: (3/200))، قال ابن حجر ‑رحمه الله‑: «قال الكرماني: مفاد الحديث منع اتخاد القبر مسجدًا، ومدلول الترجمة اتخاذ المسجد على القبر، ومفهومهما متغاير، ويجاب بأنهما متلازمان وإن تغاير المفهوم»(17- «فتح الباري» لابن حجر: (3/201)).
وبناءً على تفسيره لمعنى اتخاذ القبر مسجدًا أن يجعل القبر مكانًا للسجود فإنه ‑فضلاً عن شموله لبناء المسجد عليه بطريق اللزوم كما تقدَّم من أقوال أهل العلم‑ فقد صحَّ ‑عن طريق النقل‑ ما يثبت النهي الصريح لبناء المساجد على القبور بالنصوص الحديثية التالية:
أولاً: قوله صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «إِنَّ أُولَئِكَ إِذَا كَانَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، ثُمَّ صَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ، أُولَئِكَ شِرَارُ الخَلْقِ عِنْدَ اللهِ»(18- أخرجه البخاري كتاب «المساجد»، باب الصلاة في البيعة: (1/112)، ومسلم كتاب «المساجد ومواضع الصلاة»: (1/239) رقم: (528)، من حديث عائشة رضي الله عنها)، والحديث صريح بأنَّ من أسباب كونهم شرار الخلق بناء المساجد على قبور الصالحين، قال ابن رجب ‑رحمه الله‑: «هذا الحديث يدلُّ على تحريم بناء المساجد على قبور الصالحين»(19- «فتح الباري» لابن رجب: (3/197))، وهذا المعنى الذي أشارت إليه عائشة رضي الله عنها بقولها: «فَلَوْلاَ ذَاكَ أُبْرِزَ قَبْرُهُ، غَيْرَ أَنَّهُ خَشِيَ أَنْ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا»(20- أخرجه البخاري كتاب «الجنائز»، باب ما جاء في قبر النبي وأبي بكر وعمر فأقبره: (1/333)، ومسلم كتاب «المساجد ومواضع الصلاة»: (1/239)، رقم: (529)، من حديث عائشة رضي الله عنها)، أي: لولا مخافة الوقوع في اللعن الذي استحقَّه اليهود والنصارى بسبب اتخاذهم القبور مساجد لجعل قبره صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم في أرضٍ بارزةٍ ظاهرةٍ مكشوفةٍ، فإنَّ الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجدًا، وكُلُّ موضع يُصلَّى فيه يُسمَّى مسجدًا كما قال صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «جُعِلَتْ لِي الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا»(21- أخرجه البخاري كتاب «التيمم»، باب التيمم: (1/87)، ومسلم كتاب «المساجد ومواضع الصلاة»: (1/236)، رقم: (521)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما).
ثانيًا: قوله صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «لَعَنَ اللهُ زَائِرَاتِ القُبُورِ، المُتَّخِذِينَ عَلَيْهَا المَسَاجِدَ وَالسُّرَجَ»(22- أخرجه أبو داود كتاب «الجنائز»، باب في زيارة النساء القبور: (3236)، والترمذي كتاب « الصلاة »، باب ما جاء في كراهية أن يتخذ على القبر مسجدا: (320)، وأحمد: (3108)، من حديث أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما، والحديث بهذا السياق ضعيف، قال ابن رجب الحنبلي في «فتح الباري» (3/201): «وقال مسلم في كتاب التفصيل: هذا الحديث ليس بثابت، وأبو صالح باذام قد اتقى الناس حديثه، ولا يثبت له سماع من ابن عباس». لكن ورد له شواهد تقويه في «لعن زائرات القبور»، مثل الحديث الذي أخرجه الترمذي (1056) وغيره: «لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ زَوَّارَاتِ القُبُورِ»، وأخرى في «اتخاذ المساجد على القبور» وقد تواتر ذلك عنه صلى الله عليه وآله وسلم. انظر: «الإرواء»: (3/212)، و«السلسلة الضعيفة»: (1/393) للألباني)، قال ابن تيمية ‑رحمه الله‑: «ويحرم الإسراج على القبور، واتخاذ المساجد عليها، وبنيها ويتعيَّن إزالتها، ولا أعلم فيه خلافًا بين العلماء المعروفين»(23- «اختيارات ابن تيمية» للبعلي: (81)).
ثالثًا: «نَهْيُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُجَصَّصَ القَبْرُ، وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ، وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ»(24- أخرجه مسلم كتاب «الجنائز»: (1/430)، رقم: (970)، وأبو داود كتاب «الجنائز»، باب في البناء على القبر: (3225)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما)، والحديث دلَّ على أنَّ البناء على القبر مُنهَى عنه مطلقًا يسيرًا كان أو كثيرًا، بل الكثير والكبير أحرى بالنهي من طريق فحوى الخطاب؛ لأنَّ البناء اليسير على القبر منهى عنه كالقبة مثلاً فيدخل في النهي عن بناء الكبير كالمسجد دخولاً أولويًّا.
ولهذا لا يجتمع في دين الإسلام قبر ومسجد مُطلقًا، ولا فرق ‑في المحذور‑ بين بناء المسجد على القبر أو إدخال القبر في المسجد، وضمن هذا المنظور السُّنِّي يقول ابن القيم ‑رحمه الله‑ «فلا يجتمع في دين الإسلام مسجد وقبر، بل أيُّهما طرأ على الآخر منع منه، وكان الحكم للسابق، فلو وضعَا معًا لم يجز، ولا يصح هذا الوقف ولا يجوز، ولا تصحُّ الصلاة في هذا المسجد لنهي رسول الله صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم عن ذلك، ولعنه من اتخذ القبر مسجدًا أو أوقد عليه سراجًا، فهذا دين الإسلام الذي بعث الله به رسوله ونبيه، وغربته بين الناس كما ترى»(25- «زاد المعاد» لابن القيم: (3/572))، ونقل المناوي عن الحافظ العراقي في هذا المعنى بقوله: «قال الزين العراقي: والظاهر أنه لا فرق، فلو بنى مسجدًا بقصد أن يدفن في بعضه دخل في اللعنة، بل يحرم الدفن في المسجد، وإن شرط أن يدفن فيه لم يَصِحَّ الشرطُ لمخالفته لمقتضى وقفه مسجدًا»(26- «فيض القدير» للمناوي: (5/274)).
هذا، وأمَّا ما استظهر به القبوري ‑هداه الله‑ من كلام البيضاوي بقوله: «أمَّا من اتخذ مسجدًا بجوار صالح أو صَلَّى في مقبرته وقصد به الاستظهار بروحه، ووصل أثر من آثار عبادته إليه، لا التعظيم له والتوجه فلا حرج عليه، ألا ترى أنَّ مدفن إسماعيل في المسجد الحرام ثمَّ الحطيم؟ ثمَّ إنَّ ذلك المسجد أفضل مكان يتحرَّى المصلي بصلاته، والنهي عن الصلاة في المقابر مختصٌّ بالمنبوشة لما فيها من النجاسة».
فجوابه من ثلاث جهات:
الأولى: أنَّ تقرير الجواز مخالف لعموم الأدلة الناهية عن الصلاة في المقبرة وما يلحق بها من المساجد المبنية على القبور، قال الألوسي: «هذا، واستدلَّ بالآية على جواز البناء على قبور الصلحاء واتخاذ مسجد عليها وجواز الصلاة فيها، وممَّن ذكر ذلك الشهاب الخفاجي في حواشيه على البيضاوي وهو قول باطل عاطل فاسد كاسد»(27- «تفسير الألوسي»: (11/196))، ثمَّ استدلَّ على ذلك بالأخبار الصحيحة والآثار الصريحة على فساد هذا المعتقد.
الثانية: أنَّ تعليل النهي عن الصلاة في المقابر بالنجاسة الحِسِّية غير ظاهر مع أنَّ المؤمن لا ينجس حيًّا أو ميّتًا، كما ثبت في الحديث(28- عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لقيه في بعض طريق المدينة وهو جنب فانخنس منه فذهب فاغتسل ثم جاء فقال: «أَيْنَ كُنْتَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟» قال: كنت جنبا فكرهت أن أجالسك وأنا على غير طهارة، فقال: «سُبْحَانَ اللهِ إِنَّ المسْلِمَ لاَ يَنْجُسُ». أخرجه البخاري: (1/75)، ومسلم: (1/175). وقال ابن عباس رضي الله عنهما: «المسْلِمُ لاَ يَنْجُسُ حَيًّا وَلاَ مَيِّتًا» أخرجه البخاري معلقا: (1/300)، ووصله ابن أبي شيبة: (2/469) انظر: «فتح الباري» لابن حجر: (1/33))، وإنما ورد النهي سدًّا للذريعة خشية أن يُعبَدَ فيها المقبور لقرينة خبر: «اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلْ قَبْرِي وَثَنًا يُعْبَدُ»(29- أخرجه أحمد في «مسنده»: (7352)، وأبو يعلى في « مسنده»: (1/312)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وصحح إسناده الألباني في «تحذير الساجد»: (22))، فكان النهيُ لأجل نجاسة الشِّرك اللاحقة بمن عصاه، وهي نجاسة معنوية، قال الصنعاني ‑رحمه الله‑ متعقِّبًا على البيضاوي «قوله: «لا لتعظيم له»، يقال: قصد التبرك به تعظيم له، ثمّ أحاديث النهي مطلقة ولا دليل على التعليل بما ذكر، والظاهر أنّ العلة سدّ الذريعة والبعد عن التشبُّه بعبدة الأوثان، الذين يعظِّمون الجمادات التي لا تنفع ولا تضرُّ، ولما في إنفاق المال في ذلك من العبث والتبذير الخالي عن النفع بالكلية؛ ولأنه سبب لإيقاد السرج عليها الملعون فاعله، ومفاسد ما يبنى على القبور من المشاهد والقباب لا تحصر»(30- «سبل السلام» للصنعاني: (1/318)).
وقال ابن القيم ‑رحمه الله‑: «وبالجملة: فمن له معرفة بالشرك وأسبابه وذرائعه، وفهم عن الرسول صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم مقاصده، جزم جزمًا لا يحتمل النقيض أنَّ هذه المبالغة منه باللعن والنهي بصيغتيه: صيغة: «لا تفعلوا»، وصيغة: «إني أنهاكم»، ليس لأجل النجاسة، بل هو لأجل نجاسة الشرك اللاحقة بمن عصاه، وارتكب ما عنه نهاه، واتبع هواه، ولم يخش ربه ومولاه، وقلَّ نصيبه أو عدم عن تحقيق شهادة أن لا إله إلاَّ الله، فإنَّ هذا وأمثاله من النبي صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم صيانة لحمى التوحيد أن يلحقه شرك ويغشاه، وتجريد له وغضب لربه أن يعدل به سواه»(31- «إغاثة اللهفان» لابن القيم: (1/189)).
- أمَّا قول البيضاوي: «ألا ترى أنَّ مدفن إسماعيل في المسجد الحرام ثمَّ الحطيم؟».
• فجوابه من جهة عدم التسليم بصحة الدعوى أولاً، ثمَّ من جهة التسليم ‑جدلاً‑ بصحَّتها ثانيًا على ما يأتي:
الجهة الأولى: إنَّ دعوى وجود قبر إسماعيل عليه السلام أو غيره من الأنبياء الكرام مدفونين في المسجد الحرام تحتاج إلى نقلٍ صحيحٍ مؤيّدٍ يصح الاستدلال به، وهو مفتقر إليه لعدم ثبوت أي خبر مرفوع في الدواوين المعروفة، قال الألباني ‑رحمه الله‑: «وذلك من أعظم علامات كون الحديث ضعيفًا بل موضوعًا عند بعض المحقِّقين، وغاية ما روي في ذلك آثار معضلات، بأسانيد واهيات موقوفات، أخرجها الأزرقي في «أخبار مكة»، فلا يلتفت إليها وإن ساقها بعض المبتدعة مساق المسلمات»(32- «تحذير الساجد» للألباني: (109-110)).
الجهة الثانية: وعلى فرض بصحة الآثار ووجود قبور الأنبياء الكرام فإن العبرة في هذه المسألة بالقبور المشرفة والمرتفعة بأن يبنى عليها أو تشرف بكبر الأعلام التي توضع عليها وهي «النصب» أو «النصائب» أو تشرف بالتلوين أو برفع تراب القبر عما حوله فيكون بيِّنًا ظاهرًا كما هو حال الأضرحة والقباب؛ لأنّ القبور المشرفة يزداد الغلو فيها وتقع مفاسد الشركيات والوثنيات عندها وقد جاء في صحيح مسلم عن أبي الهيَّاج قال: قال لي عليٌّ: «أَلاَ أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَنْ لاَ تَدَعَ صُورَةً إِلاَّ طَمَسْتَهَا، وَلاَ قَبْرًا مُشْرِفًا إِلاَّ سَوَّيْتَهُ»(33- أخرجه مسلم كتاب «الجنائز»: (1/429) رقم: (969)، وأحمد: (1/96)، من حديث علي رضي الله عنه).
وعليه فلا يصح الاستدلال بهذه الآثار على جواز اتخاذ المساجد على القبور –ولو كانت حقيقية‑ لاندراسها وخفائها وعدم ظهورها، إذ المعلوم ضرورة أن الأرض كلها مقبرة الأحياء كما قال تعالى: ﴿أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا، أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا﴾ [المرسلات: 25، 26]، وإذا افترقت الصورتان في معنى الظهور والبروز والإشراف فلا مجال للتسوية بينهما أو نفي الفارق عنهما.
وقد ورد هذا المعنى في جواب علي القاري ‑رحمه الله‑ على من ذكر أن صورة قبر إسماعيل عليه السلام في الحجر تحت الميزاب، وأن في الحطيم بين الحجر الأسود وزمزم قبر سبعين نبيًّا حيث قال: «وفيه أنّ صورة قبر إسماعيل عليه السلام وغيره مندرسة فلا يصلح الاستدلال»(34- «مرقاة المفاتيح» للقاري: (2/416)).
- وأمَّا قوله: «ثمَّ إنَّ ذلك المسجد أفضل مكان يتحرَّى المصلي لصلاته».
فجوابه أنه: من الخطإ البيِّن الاعتقاد أنَّ فضيلة المسجد الحرام عن سائر المساجد إنما طرأت بدفن إسماعيل عليه السلام، ولو مع فرض التسليم بصحة الآثار الواردة بدفنه فيه فلم يثبت أي دليل يُفصح عن حدوث فضيلته بالطروء، ولم ينقل ذلك أحد من السلف، بل فضيلة المسجد الحرام مرتبطة به وأصيلة فيه، ومؤكدة منذ أن رفع إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام القواعد من البيت كما في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [البقرة: 127]، وقوله تعالى: ﴿وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ [البقرة: 125]، فشأن المسجد الحرام في التصاق الفضيلة به كشأن فضيلة المسجد النبوي، فإن أجر الصلاة فيه بألف صلاة بإخبار النبي صلى الله عليه وسلم ولم يدفن فيه أحد.
هذا، وقد ساق القبوري ‑هداه الله‑ فهم العلماء لمعنى اتخاذ القبر مسجدا بالصلاة عليه أو إليه أي من غير أن يفهموا ‑في زعمه‑ من نص الحديث: «لَعَنَ اللهُ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ»(35- أخرجه البخاري كتاب «الجنائز»، باب ما جاء في قبر النبي وأبي بكر وعمر فأقبره: (1/333)، ومسلم كتاب «المساجد ومواضع الصلاة»: (1/239)، رقم: (529)، من حديث عائشة رضي الله عنها) النهي عن بناء المساجد وقصد الصلاة فيها ثمّ تناقض في آخر رده عند نقله عن أئمة المذاهب بتحريم الصلاة في المسجد الذي به قبر أو ضريح وبطلانها على مذهب أحمد بن حنبل وكراهتها عند الأئمة الثلاثة، فمن أين يأتي التحريم والكراهة إذا لم يفهموا من الحديث النهي عن بناء المساجد على القبور يا ترى؟!!
وقد نقلتُ ‑فيما مضى‑ تصريح عامة الطوائف والمذاهب بالنهي عن بناء المساجد عليها متابعة منهم للسنة الصحيحة الصريحة من غير اختلاف بين الأئمة المعروفين، وإن أطلقت طائفةٌ منهم لفظ «الكراهة» فإنه ينبغي حمله على الكراهة التحريمية إحسانًا بالظن بالعلماء، ولأنه هو المعنى الشرعي في الاستعمال القرآني فيحمل عليه لا على المعنى الاصطلاحي في الأصول عند المتأخرين، ومن الاستعمال القرآني للفظ «الكراهة» بمعنى «التحريم» قوله تعالى: ﴿وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ﴾ [الحجرات: 7]، كما ذكر الله تعالى -أيضًا- بعد النهي عن قتل الأولاد، وقربان الزنا، وقتل النفس، وغير ذلك، هذا المعنى بقوله تعالى: ﴿كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيٍّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا﴾ [الإسراء: 38]، أي: محرمًا؛ لأن هذه المذكورات والتي قبلها كلها محرمات، ويؤيد ذلك أن الأصل في النهي عند مالك والشافعي وأحمد وغيرهم يحمل على التحريم إلا إذا دل دليل يصرف النهي إلى التنزيه ولا صارف استظهروه في الأحاديث الناهية بتحريم بناء المساجد على القبور.
وفي هذا المعنى من حمل لفظ «الكراهة» عند الأئمة المتقدِّمين على «التحريم» عند الإطلاق ما ذكره ابن القيم ‑رحمه الله‑ عن الإمام الشافعي ‑رحمه الله‑ فيمن أراد نسبة القول إليه بإباحة تزوج الرجل من بنته من الزنا بدعوى تصريحه بكراهة ذلك، وأنَّ الكراهة لا تنافي الجواز إذا ما حملت على التَّنْزِيه فيقول ‑رحمه الله‑: «ومن هذا ‑أيضًا‑ أنه نصّ على كراهة تزوج الرجل ابنته من ماء الزنا، ولم يقل قط إنه مباح ولا جائز، والذي يليق بجلاله وإمامته ومنصبه الذي أجلَّه الله به من الدين أنَّ هذا للكراهة منه على وجه التحريم، وأطلق لفظ «الكراهة»؛ لأنَّ الحرام يكرهه الله ورسوله، وقد قال تعالى عقب ذكر ما حرمه من المحرمات من عند قوله: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ﴾ إلى قوله: ﴿فلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا﴾ إلى قوله: ﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ﴾ إلى قوله: ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى﴾ إلى قوله: ﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالحَقِّ﴾ إلى قوله: ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ﴾ إلى قوله: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ إلى آخر الآيات، ثمَّ قال: ﴿كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيٍّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوها﴾، وفي الصحيح: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ كَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ المَالِ»(36- أخرجه البخاري «الزكاة»، باب قول الله تعالى: «لا يسألون الناس إلحافا»، وكم الغنى: (1/357)، ومسلم كتاب «الأقضية»: (2/820)، رقم: (1715)، من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه).
فالسلف كانوا يستعملون «الكراهة» في معناها الذي استعملت فيه في كلام الله ورسوله، أمَّا المتأخِّرون فقد اصطلحوا على تخصيص «الكراهة» بما ليس بمحرم، وتركه أرجح من فعله، ثمَّ حمل من حمل منهم كلام الأئمة على الاصطلاح الحادث»(37- «إعلام الموقعين» لابن القيم (1/42-43)).
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسَلَّم تسليمًا.