الرد على مقال الغامدي "تعامل أهل السنة مع أحاديث الشفاعة بخلاف تعامل المرجئة الضالة"
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدِّين؛ أما بعد:
فقد كتب عبد الله بن صوان الغامدي مقالاً بعنوان [تعامل أهل السنة مع أحاديث الشفاعة بخلاف تعامل المرجئة الضالة]، ذكر فيه بعض النقول عن أهل العلم المتقدمين ظناً منه أنها تؤيِّد ما يفهمه من حديث الشفاعة، ومن تأمل فيها وجدها مبتورة عن سياقها أو محرَّفة عن معناها، وأما ما ذكره من نقول عن بعض العلماء المعاصرين فليس بحجة إذا خالفهم علماء معاصرون مثلهم أو أكبر منهم؛ لأنَّ كلام العلماء يحتج له لا يحتج به، والدليل بفهم السلف الصالح هو المرجع عند اختلاف العلماء، فكيف إذا كان فهم العلماء المتقدمين يوافق ظاهر حديث الشفاعة ولا يخالفه؟ بل كيف إذا كان فهم هؤلاء العلماء المعاصرين الذين يستدل بهم هؤلاء الغلاة لا يخالف المعنى المتبادر من لفظة "لم يعملوا خيراً قط" في حديث الشفاعة؟ نعم قد يجتهدون في حمل حديث الشفاعة على ما يخالف ظاهره، أو يمنعون الاستدلال به على ما يدل عليه ظاهره لمعارضته لأحاديث أخرى يرون أنها مقيدة لإطلاقه أو مخصصة لعمومه أو محكمه لما فيه من تشابه، فهذه كله من قبيل الاجتهاد الذي لا يمكن أن يبطل العمل بالنص لأجله، فكيف إذا كانت النصوص متوافقة لا متعارضة؟! وقد فصَّلتُ ذلك كله في رسالتي "نصب الراية"، لكن لا بأس أن نقتبس منها في الرد على ما ذكره الغامدي في مقاله المشار إليه آنفاً.
1) قال الغامدي في مقدمة مقاله: ((مسألة في بيان تعامل أهل السنة مع حديث الشفاعة يعرفه صبيان المكتب في بلاد التوحيد بحمد الله؛ لأنهم تربوا على عقيدة أهل السنة، فهم راسخون ثابتون عليها بحمد الله، لم تنتكس فطرهم، ولم تدخل الشبهات إلى عقولهم وقلوبهم، نسأل الله السلامة)).
لا زال الغامدي المتعالم المغرور يصوِّر مخالفيه - ومنهم الشيخ ربيع حفظه الله - بأنهم لم يفهموا حديث الشفاعة الفهم الصحيح، وهذه المرة يزعم الغامدي هذا - من باب الانتقاص - أنَّ صبيان المكتب في بلاد الحرمين يفهمون حديث الشفاعة بخلاف ما فهمه منه الشيخ الألباني رحمه الله والشيخ ربيع حفظه الله وغيرهم من مشايخ السنة وطلبة العلم المعاصرين، ومن قبلهم أئمة السلف الذين استسلموا لظاهر أحاديث الشفاعة وقبلوها من غير تردد.
ويظهر أنَّ غلو الغامدي وصل إلى حد الهوس فأصبح يسلب صفة "الرسوخ" من هؤلاء الأئمة والعلماء والمشايخ ثم يصف به الصبيان في بلاد الحرمين!!، بل سيُثْني قريباً على عقيدة عجائز بلاد الحرمين في مسائل الإيمان في مقابل ذمه لعقيدة أهل العلم المخالفين له!، فالحمد لله على سلامة العقل.
وسيظهر لهذا الغامدي ومن على شاكلته من الذي انتكست فطرته واختلطت الشبهات في عقله وقلبه؟ فلا يستعجلوا علينا.
2) قال الغامدي: ((قلتُ: واستسلام أهل السنة لحديث الشفاعة يختلف عن استسلام أهل الإرجاء والجهمية لها، فأهل السنة يقولون بأحاديث الشفاعة ولكن طريقتهم في ذلك هي جمع النصوص بعضها إلى بعض في مكان واحد على سبيل الاستقراء، ويرجعون في هذا كله للعلماء المتقدمين الذين جمعوا النصوص، لأنهم حفَّاظ، وليسوا باحثين يدرسون العقيدة من جديد؛ فما ظهر أخذوا به ولو كان دين المرجئة والجهمية عياذاً بالله، ووالله وبالله لأن يكون الإنسان على عقيدة عجائز نيسابور -كما كان يقال سابقاً - أو على عقيدة العجائز في بلادنا فهو أفضل له مما عليه كثيرون اليوم ممن يدعون الدراسات الجديدة المحدثة؛ التي لم تعرفها بلادنا هذه ولكن وفدت علينا من خارجها؛ كما قاله شيخنا بقية السلف الفوزان حفظه الله شوكة في حلوق أهل البدع، وأخيراً فإنا نسأل الله السلامة والعافية، ونعوذ بالله من الحور بعد الكور، واللهم غفراً اللهم غفراً)).
أما جمع النصوص بما يدل على خلود تارك عمل الجوارح في النار؛ فهذا لا يمكن أن يعدُّ جمعاً اصطلاحاً!، لأنَّ الجمع فيه إعمال الأدلة وعدم إهمال أحدها، وحديث الشفاعة وحديث البطاقة وباقي الأحاديث التي تبين فضل التوحيد وعدم خلود الموحدين ولو عملوا ما عملوا في النار؛ لا يمكن أن يفهم منها إلا نجاة من لم يعمل خيراً قط بجوارحه إن دخل النار؛ فهو تحت المشيئة، إن شاء غفر الله له وأدخله الجنة كما في حديث البطاقة، وإن شاء عذَّبه في النار ثم لا يخلد فيها كما في حديث الشفاعة.
ورد في هذا الحديث عدة أفواج يخرجون من النار، الفوج الأول يعرفهم إخوانهم بالأعمال الظاهرة من صلاة وصيام وحج وصدقة وجهاد وغير ذلك، والفوج الثاني لا يعرفون بعمل ظاهر، ولهذا يُعلِمُ اللهُ إخوانَهم بما في قلوبهم من عمل زائد عن أصل الإيمان، فيذهبون ويخرجون من كان في قلبه مثقال دينار، ثم نصف دينار، ثم ذرة، ثم أدنى ذرة، ثم أدنى أدنى أدنى ذرة، ثم يبقى أقوامٌ لا يعلمهم إلا اللهُ عزَّ وجلَّ وليس عندهم عمل زائد عن أصل الإيمان وهم الذين لم يعملوا خيراً قط فيخرجهم الله بمحض رحمته.
فهذا الحديث لا يمكن أن يُدَّعى فيه أنَّ أهل الصلاة - فضلاً عن غيرهم من أهل الأعمال الصالحة التي هي دونها – يكونون في الدفعات أو الأفواج كلها؛ لسببين ظاهرين:
الأول: إنَّ المقياس في إخراج الأفواج انتقل من العمل الظاهر (في الدفعة الأولى) إلى العمل الباطن (في الدفعات التي بعده)، ثم إلى أصل الإيمان دون أي عمل زائد عنه (لم يعملوا خيراً قط)، فهؤلاء الشفعاء يعرفون إخوانهم بالعمل الظاهر، فلو كانوا في الدفعات التي بعد الأولى فيهم من كان من أهل الصلاة لعرفوهم بآثار السجود ولا يكون المقياس هو الإيمان أو الخير أو العمل الذي في القلب، فلما كان مقياس الإخراج فيها بما في القلوب من خير أو عمل عرفنا أنْ لا عمل ظاهر على الجوارح.
الثاني: إنَّ الصلاة هي من أعظم أعمال الجوارح، وفيها من الخصائص والأدلة ما تتميز به عن غيرها من الأركان فضلاً عن الأعمال الصالحة، وهذا أمرٌ متفقٌ عليه، فإذا كانت بهذه المنزلة فكيف يوصف فاعلها بأنه لم يعمل خيراً قط أو بأنَّ الإيمان الذي في قلبه هو أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة؟! فنحن نقطع بأنَّ هذه الصلاة مهما يكن صاحبها ومهما تكن صفتها لا يمكن أن تصل إلى هذا المستوى؛ بحيث لا تذكر أصلاً، أو تذكر بهذه المرتبة السفلى!، فأهل الصلاة الذي يقصِّرون فيها من جهة الوقت أو الشروط أو الأركان أو الواجبات كلهم يُعرفون بآثار السجود، وهذا عمل ظاهر، فكيف لم يعرفهم إخوانهم بذلك في الدفعات التي بعد الأولى، وهذا يؤكِّد بلا ريب أنَّ أهل الصلاة بجميع أصنافهم يخرجون في الدفعة الأولى من الشفاعة.
فظاهره أنَّ رجلاً تمكَّن من فعل تسعة وتسعين سجلاً من السيئات، كل سجل مد البصر، وليس له إلا حسنة واحدة وهي بطاقة الشهادتين، فتوضع في كفة والسجلات في الكفة الأخرى، فتثقل البطاقة وتطيش السجلات.
فأين ذكر الصلاة في هذا الحديث؛ فضلاً عن دونها من الأعمال الصالحة؟!
هل يُمكن أن يكون هذا الرجل من أهل الصلاة ثم لا يكون له عذر ولا تكون له حسنة إلا حسنة الشهادتين؟!
أهذه هي منزلة الصلاة في الشريعة؛ أي لا تذكر أصلاً في حسنات العبد يوم القيامة؟!
فكيف يقال أنَّ هذا الرجل من أهل الصلاة؟!
وأما أحاديث فضل التوحيد ونجاة الموحدين من الخلود في النار؛ فكثيرة:
منها حديث شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم: ((ثم أعود الرابعة: فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجداً، فيقال: يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول: يا رب ائذن لي فيمن قال لا إله إلا الله))، فيقول الله عزَّ وجلَّ: ((ليس ذلك لك أو ليس ذلك إليك؛ وعزتي وكبريائي وعظمتي لأخرجنَّ منها مَنْ قال لا إله إلا الله)).
فهذه الخروج الأخير هو من خصائص الله عزَّ وجلَّ، لأنهم أناسٌ ليس لهم عمل أو خير قط، فلا يعلمهم إلا الله سبحانه.
وفي حديث جابر: ((يُعذَّب ناسٌ من أهل التوحيد في النار حتى يكونوا حمماً، ثم تدركهم الرحمة، فيخرجون، ويطرحون على أبواب الجنة، قال: فيرش عليهم أهل الجنة الماء فينبتوا كما ينبت الغثاء في حميل السيل، ثم يدخلون الجنة)).
فأين الصلاة فضلاً عن غيرها من الأعمال؟!
فهذه الأحاديث لا يمكن أن يكون أهلها من المصلين، وسيأتي مزيد بيان.
3) قال الغامدي: ((على كل حال فقد جاءت ألفاظ تبين لنا أنَّ أحاديث الشفاعة ليست لمن ترك العمل بالكلية، بل لابد من عمل، ولكن ليس على الكمال والتمام؛ كما حكاه علماء الإسلام لا المرجئة اللئام، وسأذكر لفظين مهمين يدلان على ما قلت:
1- يقولون: ربَّنا إخواننا، كانوا يصلُّون معنا ويصومون معنا، فيقول الله تعالى: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من إيمانٍ، فأخرجوه ويحرم الله صورهم على النار، فيأتونهم...
قلتُ: فيفهم منه أنهم كانوا يصلون إذا كان يوجد عن هؤلاء عمل.
2- "فيعرفونهم في النَّار، يعرفونهم بأثر السُّجود؛ تأكل النَّار من ابن آدم إلا أثر السَّجُود، حرَّم الله على النَّار أن تأكل أثر السُّجود، فيخرجون من النَّار وقد امتحشوا، فيصبُّ عليهم ماء الحياة، فينبتون منه كما تنبت الحبَّة في حميل السَّيل، ثم يفرغ الله تعالى من القضاء بين العباد .."
قلت أبو عاصم: وهنا أيضا لفظ يؤكد أنهم عملوا لكن كما قال ابن خزيمة لم يكن على سبيل الكمال والتمام، فافهم هذا وعض عليه بالنواجذ)).
أما الأحاديث فصريحة في عدم خلود الموحدين الذين من لم يعملوا خيراً قط بجوارحهم، وأئمة السف آمنوا بهذه الأحاديث وقبلوها، ولم يعترضوا عليها ولا تحرجوا منها، ولا حرَّفوها عن معناها الظاهر إلى معنى غير ممكن ولا بتروا منها ما يوافق أهواءهم وتركوا الآخر كما يفعل الحدادية الغلاة اليوم والخوارج والمعتزلة من قبلهم.
وأما الاكتفاء باللفظ الأول الذي ذكره الغامدي فيدل على ضلاله المبين حقاً؛ كيف يستدل هذا الضال بالدفعة الأولى التي فيها المصلون ويعرض عن الدفعات الثلاثة التي بعدها، فضلاً عن الذين يخرجون برحمة أرحم الراحمين؛ والتي لم يُذكر فيها أهل الصلاة، حقاً ينطبق عليه قوله تعالى: ((أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ))، بل لعله ينطبق عليه ما فعله ذاك الكتابي لما ((وضع يده على آية الرجم، فقرأ ما قبلها وما بعدها)) وزعم أنَّ الزاني المحص لا يرجم في التوراة وإنما يفضح ويُجلد!.
وأما اللفظ الثاني؛ فقد سبب هذه اللفظ إشكالاً في أذهان الكثيرين، وبخاصة عندما يُقطع من سياقه بهذه الصورة التي ذكرها الغامدي هنا!، وجوابه من وجهين:
الوجه الأول: أنَّ هذا اللفظ هو قطعة من حديث أبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما في ذكر رؤية الله عزَّ وجلَّ يوم القيامة، والمرور على الصراط، ثم جاء فيه: ((... حَتَّى إِذَا فَرَغَ اللَّهُ مِنَ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْعِبَادِ، وَأَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ بِرَحْمَتِهِ مَنْ أَرَادَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، أَمَرَ الْمَلاَئِكَةَ أَنْ يُخْرِجُوا مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا؛ مِمَّنْ أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَرْحَمَهُ؛ مِمَّنْ يَقُولُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، فَيَعْرِفُونَهُمْ فِي النَّارِ، يَعْرِفُونَهُمْ بِأَثَرِ السُّجُودِ، تَأْكُلُ النَّارُ مِنِ ابْنِ آدَمَ إِلاَّ أَثَرَ السُّجُودِ، حَرَّمَ اللَّهُ عَلَى النَّارِ أَنْ تَأْكُلَ أَثَرَ السُّجُودِ، فَيُخْرَجُونَ مِنَ النَّارِ وَقَدِ امْتَحَشُوا، فَيُصَبُّ عَلَيْهِمْ مَاءُ الْحَيَاةِ فَيَنْبُتُونَ مِنْهُ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ...))، وهذا لفظ حديث أبي هريرة.
وأما لفظ حديث أبي سعيد الخدري: ((... فَإِذَا فَرَغَ اللَّهُ مِنَ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْعِبَادِ، تَفْقَّد الْمُؤْمِنُونَ رِجَالاً كَانُوا فِي الدُّنْيَا؛ كَانُوا يُصَلُّونَ صَلاَتَهُمْ، وَيُزَكُّونَ زَكَاتَهُمْ، وَيَصُومُونَ صِيَامَهُمْ، وَيَحُجُّونَ حَجَّهُمْ، وَيَغْزُونَ غَزْوَهُمْ، فَيَقُولُونَ: أَيْ رَبَّنَا، عِبَادٌ مِنْ عِبَادِكَ، كَانُوا مَعَنَا فِي الدُّنْيَا، يُصَلُّونَ صَلاَتَنَا، وَيُزَكُّونَ زَكَاتَنَا، وَيَصُومُونَ صِيَامَنَا، وَيَغْزُونَ غَزْوَنَا، لاَ نَرَاهُمْ؟ قَالَ: فَيَقُولُ: اذْهَبُوا إِلَى النَّارِ، فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِيهَا فَأَخْرِجُوهُ مِنْهَا، فَيَجِدُونَ قَدْ أَخَذَتْهُمَ النَّارُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ إِلَى قَدَمَيْهِ، ومِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ إِلَى نِصْفِ سَاقَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ إِلَى رُكْبَتَيْه، وَمِنْهُمْ مَنْ أَزَّرتهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ إِلَى ثَدْيَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ إِلَى عُنُقِهِ، وَلَمْ تُغْشَ الْوَجْهُ، فَيَطْرَحُونَهُمْ فِي مَاءِ الْحَيَاةِ)).
فالناظر إلى هذا الحديث يلاحظ أنه لم يُذكر فيه الدفعات الذين يخرجون من النار على وجه التفصيل، وإنما جاء فيه ذكر دفعة واحدة؛ وهم أهل الصلاة الذين يُعرفون بأثر السجود، ومعلوم أنَّ هذه هي الدفعة الأولى في حديث الشفاعة الطويل في رواية أبي سعيد الخدري الآخر، وقد ذكر فيه رؤية الله عزَّ وجلَّ والمرور على الصراط أيضاً، ثم قال كما في رواية الإمام مسلم: ((حتى إذا خلص المؤمنون من النار فو الذي نفسي بيده ما منكم من أحد بأشد مناشدة لله في استقصاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار:
يقولون: ربنا كانوا يصومون معنا ويصلون ويحجون، فيقال لهم: أخرجوا مَنْ عرفتم فتحرم صورهم على النار، فيخرجون خلقاً كثيراً قد أخذت النار إلى نصف ساقيه وإلى ركبتيه.
ثم يقولون: ربنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به؛ فيقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقاً كثيراً.
ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها أحداً ممن أمرتنا؛ ثم يقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقاً كثيراً.
ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها ممن أمرتنا أحداً؛ ثم يقول: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقاً كثيراً.
ثم يقولون: ربنا لم نذر فيها خيراً.
وكان أبو سعيد الخدري يقول: إنْ لم تصدقوني بهذا الحديث فاقرؤوا إن شئتم "إنَّ الله لا يظلم مثقال ذرة وإنْ تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً"
فيقول الله عز وجل: شفعت الملائكة، وشفع النبيون، وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين.
فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قط؛ قد عادوا حمماً، فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة يقال له: نهر الحياة، فيخرجون كما تخرج الحبة في حميل السيل؛ ألا ترونها تكون إلى الحجر أو إلى الشجر ما يكون إلى الشمس أصيفر وأخيضر وما يكون منها إلى الظل يكون أبيض.
فقالوا: يا رسول الله كأنك كنت ترعى بالبادية.
قال: فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتم، يعرفهم أهل الجنة، هؤلاء عتقاء الله، الذين أدخلهم الله الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه.
ثم يقول: ادخلوا الجنة فما رأيتموه فهو لكم، فيقولون: ربنا أعطيتنا ما لم تعط أحداً من العالمين، فيقول: لكم عندي أفضل من هذا، فيقولون: يا ربنا أي شيء أفضل من هذا؟ فيقول: رضاي فلا أسخط عليكم بعده أبداً)).
وعند الإمام أحمد وعبد الرزاق وابن ماجه وغيرهم بلفظ: ((فَيَأْتُونَهُمْ، فَيَعْرِفُونَهُمْ بِصُوَرِهِمْ، لا تَأْكُلُ النَّارُ صُوُرَهُمْ)).
فإذن الذين يُعرفون بأثر السجود هم أهل الدفعة الأولى بحسب هذا التفصيل، وأما من وراءهم فليسوا من أهل الصلاة قطعاً، لأنَّ إخوانهم الشفعاء قالوا لربهم سبحانه: ((ربنا ما بقي فيها أحدٌ ممن أمرتنا به))، وأمر الله تعالى جاء في قوله: ((أخرجوا مَنْ عرفتم؛ فتحرم صورهم على النار)).
فهل يُمكن أن نتصوَّر بعد هذا: أن يبقى أحدٌ من أهل الشفاعة الأولى ممن يُعرف بأثر السجود ثم لا يخرج؟! لا يمكن أن نتصور ذلك.
إذن كيف يقال: إنَّ الذين يخرجون في الشفاعات كلِّها هم ممن يعرفون بأثر السجود (أي: أهل الصلاة)؟!
قد جاء في مسند الإمام أحمد - وكذا صحيح ابن حبان - من حديث جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا مُيِّزَ أهلُ الجنة وأهلُ النار؛ فدخل أهلُ الجنة الجنةَ، وأهلُ النار النارَ، قامت الرسلُ فشفعوا، فيقول: انطلقوا أو اذهبوا فمن عرفتم فأخرجوه، فيخرجونهم قد امتحشوا فيلقونهم في نهر أو على نهر يقال له الحياة، قال: فتسقط محاشهم على حافة النهر، ويخرجون بيضاً مثل الثعارير، ثم يشفعون فيقول: اذهبوا أو انطلقوا فمن وجدتم في قلبه مثقال قيراط من إيمان فأخرجوهم، قال فيخرجون بشراً، ثم يشفعون فيقول: اذهبوا أو انطلقوا فمن وجدتم في قلبه مثقال حبة من خردلة من إيمان فأخرجوه، ثم يقول الله عز وجل: أنا الآن أُخرِجُ بعلمي ورحمتي، قال فيخرج أضعاف ما أخرجوا وأضعافه، فيكتب في رقابهم عتقاء الله عز وجل، ثم يدخلون الجنة فيسمون فيها الجهنميين)).
فالذي يظهر من هذه الرواية أنَّ اسم الجهنميين يُطلق على أهل الدفعات جميعاً، ولا يختص بمن يخرجهم الله سبحانه برحمته من غير شفاعة أحد، وهؤلاء الجهنميون كلهم بعد إخراجهم من النار يلقون في نهر الحياة المشار إليه أو يُصَبُّ عليهم ماءُ الحياة، فينبتون منه كما تنبت الحبَّة في حميل السَّيل.
إذن فاللفظ الثاني الذي استدل به الغامدي وغيره لا يلزم منه أن يكون الخارجون من النار هم الدفعة الأخيرة من أجل قيد ((فيخرجون من النَّار وقد امتحشوا، فيصبُّ عليهم ماء الحياة، فينبتون منه كما تنبت الحبَّة في حميل السَّيل))، فهذه الصفة يشترك فيها أهل الدفعات كلهم كما تقدَّم.
وبهذا التحقيق العلمي يتبين للقارئ المنصف غير المتعصِّب أنَّ اللفظين المذكورين في استدلال الغامدي على تأويل كلمة (لم يعملوا خيراً قط) على نفي كمال العمل وتمامه باطل لا عبرة فيه، وأما استدلاله بالإمام ابن خزيمة رحمه الله فسيظهر قريباً بجلاء بُعده عن فهم كلامه ووضعه في غير موضعه!.
4) قال الغامدي: ((وكذلك من طريقة أهل السنة أنهم يجمعون إلى أحاديث الشفاعة بطرقها ما جاء في إكفار تارك الصلاة متهاوناً، وعندها يخرجون بفهم سليم لها، والحمد لله)).
يظهر أنَّ الغامدي من خلال كلامه هذا لا يرى العلماء الذين لا يكفِّرون تارك الصلاة تهاوناً من أهل السنة!!، وهذا دليل على غلو حداديته، ودليل على مخالفته للعلامة الشيخ صالح الفوزان حفظه الله؛ الذي يرى أنَّ تكفير تارك الصلاة تهاوناً مسألة خلافية بين أهل السنة، بينما كلام الغامدي يشعر باتهام غير المكفِّرين بالإرجاء والجهمية؛ لأنهم لم يجمعوا الجمع الذي يوافق رأيه، وقد قال هو في أول مقاله هذا: ((واستسلام أهل السنة لحديث الشفاعة يختلف عن استسلام أهل الإرجاء والجهمية لها، فأهل السنة يقولون بأحاديث الشفاعة؛ ولكن طريقتهم في ذلك هي جمع النصوص بعضها إلى بعض في مكان واحد على سبيل الاستقراء)).
ومعلوم أنَّ مسألة تكفير تارك الصلاة تهاوناً قد نقل الخلاف فيها كبار الأئمة والعلماء، ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وهذا ما يرفضه غلاة الحدادية اليوم بكل جرأة، ثم يزعمون أنهم على طريقة أهل السنة!.
وأما الأحاديث التي ورد فيها أنَّ ترك الصلاة كفر؛ فأرجح ما قيل فيها هو حملها على الامتناع، أي إذا ترك الصلاة تهاوناً فيُعرض على السيف فإن آثر القتل على فعل الصلاة فهذا هو الممتنع ويقتل كفراً، وقد كتبتُ قديماً مقالاً بعنوان [موضع الإجماع في كفر تارك الصلاة]، نقلتُ فيه عن شيخ الإسلام رحمه الله قوله [المجموع 22/ 48 - 49]: ((ومتى امتنع الرجل من الصلاة حتى يُقتل لم يكن في الباطن مقراً بوجوبها ولا ملتزماً بفعلها: وهذا كافر باتفاق المسلمين؛ كما استفاضت الآثار عن الصحابة بكفر هذا، ودلَّت عليه النصوص الصحيحة؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس بين العبد وبين الكفر إلا ترك الصلاة" رواه مسلم، وقوله: "العهد الذى بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر"، وقول عبدالله بن شقيق: "كان أصحاب محمد لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة")).
وقال العلامة ابن القيم رحمه الله في نهاية بحثه عن حكم تارك الصلاة [الصلاة وحكم تاركها ص82]: ((ومن العجب: أن يقع الشك في كفر من أصرَّ على تركها، ودُعيَ إلى فعلها على رؤوس الملأ، وهو يرى بارقة السيف على رأسه، ويشد للقتل، وعصبت عيناه، وقيل له: تصلي وإلا قتلناك؟ فيقول: اقتلوني ولا أُصلي ابداً.
ومن لا يُكفِّر تارك الصلاة يقول: هذا مؤمن مسلم!، يُغسَّل ويصلي عليه ويدفن في مقابر المسلمين، وبعضهم يقول: إنه مؤمن كامل الإيمان!!، إيمانه كإيمانه جبريل وميكائيل؛ فلا يستحي مَنْ هذا قوله؛ من إنكاره تكفير مَنْ شهد بكفره الكتاب والسنة واتفاق الصحابة، والله الموفِّق)).
وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله تعالى في [الشرح الممتع 2/ 24 - 26]: ((قوله: «وكذا تاركُها تهاوناً، ودَعَاهُ إمامٌ أو نائبُه فأَصرَّ وضَاقَ وَقْتُ الثَّانية عنها»، فَصَلَ هذه المسألة عن الأولى بقوله: «وكذا»، لأنَّ هذه لها شروط، فإذا تركها تهاوناً وكسلاً مع إقراره بفرضيتها، فإنَّه كافرٌ كفراً أكبرَ مخرجاً عن المِلَّة ولكن بشرطين:
الأول: ذكره بقوله: «ودَعَاهُ إمامٌ أو نائبُه»، أي: إلى فعلها، والمراد بالإمام هنا: مَنْ له السُّلطة العُليا في البلد.
والثاني: ذكره بقوله: «وضاقَ وقتُ الثَّانية عنها» فإنَّه يكفرُ، وعليه فإذا ترك صلاة واحدة حتى خرج وقتها فإنَّه لا يكفر، وظاهره أنَّه سواءٌ كانت تُجمع إلى الثانية أو لا تُجمع.
وعلى هذا فمذهب الإمام أحمد المشهور عند أصحابه: أنَّه لا يمكن أن يُحْكَمَ بكفر أحد تركَ الصَّلاةَ إذا لم يَدْعُهُ الإمامُ؛ لأننا لم نتحقَّق أنه تركها كسلاً؛ إذ قد يكون معذوراً، بما يعتقده عذراً وليس بعذرٍ، لكن إذا دعاه الإمام وأصرَّ علمنا أنه ليس معذوراً.
وأما اشتراطُ ضِيْقِ وقت الثانية؛ فلأنَّه قد يظنُّ جوازَ الجمع من غير عذرٍ، فلاحتمال هذا الظَّنِّ لا نحكم بكفره.
ولكن القول الصَّحيح بلا شكٍّ ما ذهب إليه بعض الأصحاب: من أنه لا تُشترط دعوةُ الإمام؛ لظاهر الأدلَّة، وعدم الدَّليل على اشتراطها.
وأيضاً: هل نقول في المسائل التي يُكفَّر بها: إنَّه لا يُكفَّر إلاَّ إذا دعاه الإمام؟! لأنَّ احتمالَ العُذر فيها كاحتمال العُذر في تارك الصَّلاة تهاوناً وكسلاً، فإما أن نقول بذلك في الجميع؛ أو نترك هذا الشرط في الجميع؛ لعدم الدَّليل على الفرق)).
والتعليل الذي ذكره العلامة الشيخ ابن عثيمين رحمه الله معقباً فيه على مذهب الحنابلة مردود، وذلك لأنَّ ترك الأعمال يختلف عن فعلها، فالترك عدم والفعل وجود، والشارع لم يصف عملاً تركه كفر إلا الصلاة، ولا حكم بترك عمل بالقتل في غير الصلاة، فالصلاة فعل تختص بما لا يختص بها غيرها، وأما نواقض الإسلام أو مكفِّرات الإيمان فهي أفعال فلا يشترط فيها إلا الاستتابة قبل القتل، أما الحكم بكفر فاعلها فلا يُشترط فيه ما يُشترط في كفر تارك الصلاة.
وأيضاً مما يدلُّ على أنَّ الترك المجرد سواء كان كلياً أو جزئياً ليس بمكفِّر في ترك الصلاة، وإنما الامتناع المشار إليه هو المكفِّر، ما قاله شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في [الاختيارات الفقهية ص32]: ((مَنْ كفر بترك الصلاة؛ الأصوب: أن يصير مسلماً بفعلها، مِن غير إعادة الشهادتين؛ لأنَّه: كفره بالامتناع، كإبليس)).
وقد نقل عنه أيضاً الشيخ ابن عثيمين في [الأخبار العلمية من الاختيارات الفقهية ص50 - 51] قوله: ((وقوله عليه السلام: "مَنْ تركها فقد كفر" خصصناه: بالامتناع؛ لأنَّ الحديث مقيَّد بمن ليس له عذر بالإجماع؛ وعند ذلك: لا ندري هل له عذر أم لا؟! ومعنا يقين الإسلام فلا يزال بالشك ولا بالظاهر، بل بيقين الترك المذنب على الكفر)).
وقال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى [الصلاة وحكم تاركها ص38]: ((المسألة الثانية: أنه لا يُقتل حتى يُدعى إلى فعلها فيمتنع؛ فالدعاء إليها لا يستمر، ولذلك أذن النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم في الصلاة نافلة خلف الأمراء الذين يؤخرون الصلاة حتى يخرج الوقت، ولم يأمر بقتالهم، ولم يأذن في قتلهم؛ لأنهم لم يصروا على الترك، فإذا دُعيَ فامتنع لا من عذر حتى يخرج الوقت: تحقق تركه وإصراره)).
وأما إذا لم يُدع ولم يَمتنع؛ فقد قال فيه شيخ الإسلام رحمه الله تعالى بصريح العبارة كما في [شرح العمدة 4/ 92]: ((فأما إذا لم يُدع ولم يَمتنع: فهذا لا يجري عليه شيء من أحكام المرتدين في شيء من الأشياء، ولهذا لم يعلم أنَّ أحداً من تاركي الصلاة تُرك غسله والصلاة عليه ودفنه مع المسلمين ولا منع ورثته ميراثه ولا إهدار دمه بسبب ذلك، مع كثرة تاركي الصلاة في كل عصر، والأمة لا تجتمع على ضلالة؛ وقد حمل بعض أصحابنا أحاديث الرجاء على هذا الضرب)).
فهذه أقوال شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم رحمهما الله تبين أنَّ الأحاديث والآثار الواردة في كفر تارك الصلاة محمولة على صورة الامتناع لا على الترك المجرد.
5) قال الغامدي: ((والخلاصة: أنَّ أهل السنة حقاً وصدقاً يتعاملون مع أحاديث الشفاعة كما تعامل معها ابن خزيمة رحمه الله وابن عبد البر ومحمد بن نصر وغيرهم؛ فيما سأقوم بتلخيصه هنا بمشيئة الله))
سيعلم القارئ قريباً أنَّ الغامدي هذا لا يفهم كلام أهل العلم الذين يستدل بهم؛ والسبب: إما أنه لا ينظر إلى مرادهم من خلال سياق كلامهم، فيكتفي بكلمة تقال من غير النظر إلى موضعها وسياقها، فيحمِّل كلامهم ما لا يحتمل أو يضعه في غير موضعه، وإما أنه لا يبالي بكلام العالم الذي يستدل به ولو كان مناقضاً تماماً للنص (حديث الشفاعة)، ولا يمكن حمل النص عليه بحال من الأحوال، وسنقف معه مع كل نقل استدل به وقفة.
6) قال الغامدي: ((فأقول وبالله التوفيق: قال ابن خزيمة رحمه الله: "حَدَّثَنَا أَبُو مُوسَى، قَالَ: ثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلِمَةً وَأَنَا أَقُولُ أُخْرَى قَالَ: «مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَجْعَلُ لِلَّهِ نِدًّا دَخَلَ النَّارَ» ، قَالَ: وَأَنَا أَقُولُ: وَهُوَ لَا يَجْعَلُ لِلَّهِ نِدًّا دَخَلَ الْجَنَّةَ " قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَدْ كُنْتُ أَمْلَيْتُ أَكْثَرَ هَذَا الْبَابِ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ وَبَيَّنْتُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مَعْنَى هَذِهِ الْأَخْبَارِ، وَأَنَّ مَعْنَاهَا لَيْسَ كَمَا يَتَوَهَّمُهُ الْمُرْجِئَةُ وَبِيَقِينٍ يَعْلَمُ كُلُّ عَالِمٍ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُرِدْ بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ أَنَّ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَوْ زَادَ مَعَ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ شَهَادَةَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِأَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، غَيْرَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا آمَنَ بِشَيْءٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَلَا بِجَنَّةٍ وَلَا نَارٍ، وَلَا بَعْثٍ وَلَا حِسَابٍ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، لَا يُعَذَّبُ بِالنَّارِ، وَلَئِنْ جَازَ لِلْمُرْجِئَةِ الِاحْتِجَاجُ بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ، وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَخْبَارُ ظَاهِرُهَا خِلَافُ أَصْلِهِمْ، وَخِلَافُ كِتَابِ اللَّهِ وَخِلَافُ سُنَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، جَازَ لِلْجَهْمِيَّةِ الِاحْتِجَاجُ بِأَخْبَارٍ رُوِيَتْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا تُؤُوِّلَتْ عَلَى ظَاهِرِهَا، اسْتَحَقَّ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ رَبُّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا نَبِيُّهُ الْجَنَّةَ، وَإِنْ لَمْ يَنْطِقْ بِذَلِكَ لِسَانُهُ، وَلَا يَزَالُ يَسْمَعُ أَهْلُ الْجَهْلِ وَالْعِنَادِ، وَيَحْتَجُّونَ بِأَخْبَارٍ مُخْتَصَرَةٍ غَيْرِ مُتَقَصَّاةٍ، وَبِأَخْبَارٍ مُجْمَلَةٍ غَيْرِ مُفَسَّرَةٍ، لَا يَفْهَمُونَ أُصُولَ الْعِلْمِ، يَسْتَدِلُّونَ بِالْمُتَقَصَّى مِنَ الْأَخْبَارِ عَلَى مُخْتَصَرِهَا، وَبِالْمُفَسَّرِ مِنْهَا عَلَى مُجْمَلِهَا، قَدْ ثَبَتَتِ الْأَخْبَارُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَفْظَةٍ لَوْ حَمَلَتْ عَلَى ظَاهِرِهَا كَمَا حَمَلَتِ الْمُرْجِئَةُ الْأَخْبَارَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ عَلَى ظَاهِرِهَا لَكَانَ الْعَالِمُ بِقَلْبِهِ: أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُسْتَحِقًّا لِلْجَنَّةَ،وَإِنْ لَمْ يُقِرَّ بِذَلِكَ بِلِسَانِهِ، وَلَا أُقِرُّ بِشَيْءٍ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْإِقْرَارِ بِهِ، وَلَا آمَنَ بِقَلْبِهِ بِشَيْءٍ أَمَرَ اللَّهُ بِالْإِيمَانِ بِهِ، وَلَا عَمِلَ بِجَوَارِحِهِ شَيْئًا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَلَا انْزَجَرَ عَنْ شَيْءٍ حَرَّمَهُ اللَّهُ مِنْ سَفْكِ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَسَبْيِ ذَرَارِيِّهِمْ وَأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ، وَاسْتِحْلَالِ حَرَمِهِمْ، فَاسْمَعِ الْخَبَرَ الَّذِي ذَكَرْتُ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى ظَاهِرِهِ، كَمَا حَمَلَتِ الْمُرْجِئَةُ الْأَخْبَارَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَلَى ظَاهِرِهَا...".
وقال أيضاً: "لَئِنْ جَازَ لِلْجَهْمِيِّ الِاحْتِجَاجُ بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ، أَنَّ الْمَرْءَ يَسْتَحِقُّ الْجَنَّةَ، بِتَصْدِيقِ الْقَلْبِ بِأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَبِأَنَّ اللَّهَ حَقٌّ، وَأَنَّ السَّاعَةَ قَائِمَةٌ، وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ وَيَتْرُكُ الِاسْتِدْلَالَ بِمَا سَنُبَيِّنُهُ بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ مَعْنَى هَذِهِ الْأَخْبَارِ، لَمْ يُؤْمَنْ أَنْ يَحْتَجَّ جَاهِلٌ لَا يَعْرِفُ دَيْنَ اللَّهِ، وَلَا أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ، بِخَبَرِ عُثْمَانَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، «مَنْ عَلِمَ أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ حَقٌّ وَاجِبٌ، دَخَلَ الْجَنَّةَ» فَيَدَّعِي أَنَّ جَمِيعَ الْإِيمَانِ هُوَ الْعِلْمُ بِأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ حَقٌّ وَاجِبٌ، وَإِنْ لَمْ يُقِرَّ بِلِسَانِهِ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِالْإِقْرَارِ بِهِ، وَلَا صَدَّقَ بِقَلْبِهِ بِشَيْءٍ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِالتَّصْدِيقِ بِهِ، وَلَا أَطَاعَ فِي شَيْءٍ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَلَا انْزَجَرَ عَنْ شَيْءٍ حَرَّمَهُ اللَّهُ، إِذِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّ مَنْ عَلِمَ أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ حَقٌّ وَاجِبٌ دَخَلَ الْجَنَّةَ، كَمَا أَخْبَرَ أَنَّ مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ..."
وقال أيضا: "وقد أورد هذا الحديث تحت باب: "ذكر الدليل أنَّ جميع الأخبار التي تقدم ذكري لها إلى هذا الموضع في شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في إخراج أهل التوحيد من النار إنما هي ألفاظ عامة مرادها خاص، هذه اللفظة: "لم يعملوا خيرا قط" من الجنس الذي يقول العرب ينفي الاسم عن الشيء لنقصه عن الكمال والتمام، فمعنى هذه اللفظة على هذا الأصل: لم يعملوا خيرا قط على التمام والكمال، لا على ما أوجب عليه وأمر به، وقد بينتُ هذا المعنى في مواضع من كتبي" انتهى. التوحيد (2/732))).
هذه النقول التي ذكرها الغامدي عن الإمام ابن خزيمة رحمه الله في كتابه "التوحيد" ليست في بيان تارك عمل الجوارح كما يلاحظه القارئ في سياق كلامه من أوله إلى الموضع الذي ذكر فيه لفظة "لم يعملوا خيراً قط"، وإنما موضوعه من أوله إلى آخره في الرد على المرجئة الذين يثبتون الإيمان بتصديق القلب فقط من غير عمل القلب وإقرار اللسان وعمل الجوارح بدعوى أنَّ حديث الشفاعة قد ورد الإخراج فيه على ما في القلب "أخرجوا من كان في قلبه مثقال دينار من خير" و "مثقال نصف دينار من خير" و"مثقال ذرة من خير"، ثم جاء بعدها كلمة "لم يعملوا خيراً قط"، فقالوا: أي لا يوجد في قلوبهم خيرٌ قط إلا التصديق فقط، ولهذا أثبتوا إيمان من لم يقر بكلمة التوحيد ومن لم يقر بأصول الإيمان بلسانه، فالإيمان عندهم مجرد تصديق القلب، وهذا هو معتقد طائفة من أهل الإرجاء، وهم الذين ردَّ عليهم الإمام ابن خزيمة بما تقدَّم.
فكيف بالغامدي وأمثاله يستدلون بكلام الإمام ابن خزيمة هذا على أهل السنة الذين يعتقدون أنَّ الإيمان اعتقاد وقول وعمل، وأنَّ اعتقاد القلب هو قول القلب وعمله، ويدخل فيه: تصديقه وانقياده وتعظيمه ومحبته، فليس هو قول القلب فقط أو التصديق فقط كما تزعم المرجئة، ويعتقدون أنَّ تارك عمل القلب بالكلية أو تارك الإقرار باللسان كافرٌ باتفاق أهل السنة، وأما تارك عمل الجوارح من المباني الأربعة فما دونها من الأعمال الصالحة فيعتقدون أنها موضع خلاف بين أهل السنة.
فهل هؤلاء هم أهل الإرجاء الذين ردَّ عليهم ابن خزيمة؟!
وقد قلتُ في رسالتي "نصب الراية":
[فالإمام ابن خزيمة رحمه الله تعالى قد بيَّن المعنى الذي يريده في مواضع من كتابه؛ وذكر أبواباً لهذا المعنى: فبوَّب باباً فقال [التوحيد 2/ 693]: ((باب: ذكر خبر روي عن النبي في إخراج شاهد أن لا إله إلا الله من النار؛ أفْرَقُ أن يسمع به بعض الجهال فيتوهم: أنَّ قائله بلسانه من غير تصديق قلب يخرج من النار جهلاً وقلة معرفة بدين الله وأحكامه، ولجهله بأخبار النبي مختصرها ومتقصاها، وإنا لتوهم بعض الجهال أنَّ شاهد لا إله إلا الله من غير أن يشهد أنَّ لله رسلاً وكتباً وجنة وناراً وبعثاً وحساباً يدخل الجنة أشد فرقاً؛ إذ أكثر أهل زماننا لا يفهمون هذه الصناعة ولا يميزون بين الخبر المتقصي وغيره، وربما خفي عليهم الخبر المتقصي، فيحتجون بالخبر المختصر، يترأسون قبل التعلم، قد حرموا الصبر على طلب العلم، ولا يصبروا حتى يستحقوا الرئاسة فيبلغوا منازل العلماء)). وبوب باباً آخر [التوحيد 2/ 696] فقال: ((باب: "ذكر البيان أنَّ النبي يشفع للشاهد لله بالتوحيد؛ الموحِّد لله بلسانه إذا كان مخلصاً ومصدقاً بذلك بقلبه، لا لمن تكون شهادته بذلك منفردة عن تصديق القلب")).
قلتُ: وهو بهذا أراد أن يردَّ على من ادَّعى أنَّ من شهد بالتوحيد بلسانه دخل الجنَّة وإنْ لم يوجد في قلبه إيمان!!؛ وهم غلاة المرجئة، قال رحمه الله تعالى: ((باب: ذكر خبر دال على صحة ما تأولتُ: إنما يخرج من النار شاهد أن لا إله إلا الله إذا كان مصدقاً بقلبه بما شهد به لسانه؛ إلا أنه كنَّى عن التصديق بالقلب بالخير، فعاند بعض أهل الجهل والعناد وادَّعى أنَّ ذكر "الخير" في هذا الخبر ليس بإيمان، قلة علم بدين الله وجرأة على الله في تسمية المنافقين مؤمنين)).
ثم ذكر حديث: ((أخرجوا من النار مَنْ قال لا إله إلا الله وفي قلبه من الخير ما يزن ذرَّة)) [المصدر نفسه 2/ 699].
وقال: ((باب: ذكر الأخبار المصرحة عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه قال إنما يخرج من النار مَنْ كان في قلبه في الدنيا إيمان، دون مَنْ لم يكن في قلبه في الدنيا إيمان ممن كان يقر بلسانه بالتوحيد خالياً قلبه من الإيمان، مع البيان الواضح: أنَّ الناس يتفاضلون في إيمان القلب ضد قول من زعم من غالية المرجئة أنَّ الإيمان لا يكون في القلب، وخلاف قول من زعم من غير المرجئة أنَّ الناس إنما يتفاضلون في إيمان الجوارح الذي هو كسب الأبدان؛ فإنهم زعموا: أنهم متساوون في إيمان القلب: الذي هو التصديق، وإيمان اللسان: الذي هو الإقرار، مع البيان أنَّ للنبي شفاعات يوم القيامة على ما قد بينتُ قبل، لا أنَّ له شفاعة واحدة فقط)) [المصدر نفسه 2/ 702 - 703].
ثم قال [المصدر السابق 2/ 714]: ((ومَنْ زعم من الغالية المرجئة: أنَّ ذكر "الخير" في هذا الخبر ليس بإيمان كان مكذباً لهذه الأخبار التي فيها أخرجوا من النار من كان في قلبه من الإيمان كذا، فيلزمهم أن يقولوا: هذه الأخبار كلها غير ثابتة، أو يقولوا: إنَّ الإيمان ليس بإيمان، أو يقولوا: إنَّ الإيمان ليس بخير؛ وما ليس بخير فهو شر، ولا يقول مسلم: إنَّ الإيمان ليس بخير؛ فافهمه لا تغالط)).
ثم بعد هذه الأبواب كلها وما فيها من أخبار؛ قال [التوحيد 2/ 724]: ((باب ذكر البيان أنَّ المقام الذي يشفع فيه النبي صلى الله عليه وسلم لأمته هو المقام المحمود الذى وعده الله عز وجل في قوله: "عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً")).
ثم قال رحمه الله تعالى [التوحيد 2/ 727]: ((باب: ذكر الدليل أنَّ جميع الأخبار التي تقدم ذكري لها إلى هذا الموضع في شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في إخراج أهل التوحيد من النار؛ إنما هي ألفاظ عامة مرادها خاص)).
قلتُ: ويقصد رحمه الله تعالى أنَّ الإخراج وإنْ كان يدخل فيه عموم الداخلين في جهنم؛ ممن عندهم تلك المقادير من الإيمان؛ إلا أنه يراد به إخراج خاص؛ وهو إخراجه صلى الله عليه وسلم بشفاعته بعض أولئك لا كلهم، لأنَّ هناك شفاعات غير شفاعات النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم ذكر في هذا الباب حديث أبي سعيد رضي الله عنه في الشفاعة وفيه زيادة "لم يعملوا خيراً قط" من طريقين.
ثم قال: ((هذه اللفظة: "لم يعملوا خيراً قط" من الجنس الذي تقوله العرب بنفي الاسم عن الشيء لنقصه عن الكمال والتمام، فمعنى هذه اللفظة على هذا الأصل: لم يعملوا خيراً قط على التمام والكمال، لا على ما أُوجب عليه وأُمر به، وقد بينتُ هذا المعنى في مواضع من كتبي)).
فالإمام ابن خزيمة رحمه الله تعالى بقوله: ((لم يعملوا خيراً قط على التمام والكمال)) أراد أن يدفع ما يتوهمه أو يدَّعيه البعض: أنَّ نفي الخير يدخل فيه إيمان القلب أو الحد الأدنى من الخير الموجود في القلب!؛ وأنَّه يكفي في الشفاعة إقرار اللسان فقط!!، وهذا هو قول المرجئة الغالية، وهذا واضح من الأبواب التي بوَّبها ابن خزيمة في كتابه قبل حديث أبي سعيد.
ثم كيف يشترط ابن خزيمة يسير العمل للنجاة من الخلود في النار؛ وهو الذي صرَّح بتوحيد مَنْ لم يعمل من الأعمال الصالحة شيئاً؛ حيث قال [التوحيد 2/ 765]: ((باب: ذكر البيان أنَّ النار إنما تأخذ من أجساد الموحدين وتصيب منهم على قدر ذنوبهم وخطاياهم وحوباتهم التي كانوا ارتكبوها في الدنيا، مع الدليل على ضد قول من زعم ممن لم يتحر العلم ولا فهم أخبار النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ النار لا تصيب أهل التوحيد ولا تمسهم وإنما يصيبهم حرها وأذاها وغمها وشدتها، مع الدليل على أنه قد يدخل النار بارتكاب المعاصي في الدنيا إذا لم يتفضل الله ولم يتكرم بغفرانها من كان في الدنيا يعمل الأعمال الصالحة من الصيام والزكاة والحج والغزو؛وكيف يأمن - يا ذوي الحجا - النار من يوحِّد الله ولا يعمل من الأعمال الصالحة شيئاً؟!)).
بل وكيف يكون مراد ابن خزيمة ذلك؛ وهو يصرح أنَّ الإخراج في الشفاعة من النار يكون: بتصديق القلب وإقرار اللسان بالتوحيد كما تقدَّم عنه في مواضع كثيرة من كتابه التوحيد؟!!
وحتى على احتمال أنَّ مذهب الإمام ابن خزيمة رحمه الله تعالى تأويل لفظة (لم يعملوا خيراً قط) من عمومها وظاهرها إلى معنى لم يعملوا إلا يسيراً من عمل الجوارح؛ فهذا خلاف ما قاله أولاً في كتابه التوحيد في الأبواب المشار إليها آنفاً.
وقد علَّق الشيخ محمد خليل الهراس رحمه الله تعالى في حاشيته على كتاب التوحيد لابن خزيمة على كلمته "لم يعملوا خيراً قط على التمام والكمال" فقال "كتاب التوحيد لابن خزيمة ص309 طبعة مكتبة الكليات الأزهرية/الأولى": ((لا؛ بل ظاهرها أنهم لم يعملوا خيراً قط كما صرح به في بعض الروايات، أنهم جاؤوا بإيمان مجرد لم يضموا إليه شيئاً من العمل))] انتهى النقل من "نصب الراية".
فأين الغامدي من هذا التحقيق العلمي لمذهب ابن خزيمة رحمه الله؟!
7) قال الغامدي: ((وقال ابن عبد البر رحمه الله مجيباً عن حديث الشفاعة في كتابه الاستذكار (3/95): "هذا شائع في لسان العرب أن يؤتى بلفظ الكل والمراد البعض، وقد يقول العرب: لم يفعل كذا قط؛ يريد الأكثر من فعله")).
إنَّ الحافظ ابن عبد البر رحمه الله يُبيِّن أنَّ الذي لم يعمل خيراً قط لا يلزم منه عدم التوحيد والوقوع في الشرك، ولم يقصد ألبتة أنَّ النفي فيها لا يلزم نفي عمل الجوارح بالكلية، وأنه لا بد من يسير العمل كما يزعم هؤلاء الحدادية.
وقد قلتُ في ردِّ هذه الشبهة وبيان ما فيها من سوء فهم وتحريف في رسالتي "نصب الراية":
[ويظهر لي بجلاء أنَّ الكتَّاب المعاصرين ينقل بعضهم من بعض دون الرجوع إلى مصادر النقل!، ولهذا نراهم جميعاً ينقلون ما يريدونه من مواضع ويتوقفون عند حد معين لا يتجاوزونه!، من دون النظر إلى سياق الكلام وإلى محل الاستدلال!.
وإليكم ما أراده الحافظ ابن عبد البر رحمه الله تعالى من كلامه نفسه في نفس الموضع!:
قال رحمه الله تعالى في الاستذكار [3/ 94 - 95]: ((مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "قال رجل لم يعمل حسنة قط لأهله: إذا مات فحرقوه ثم ذروا نصفه في البر ونصفه في البحر؛ فوالله لئن قدر الله عليه ليعذبنه عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، فلما مات الرجل فعلوا ما أمرهم به، فأمر الله البر فجمع ما فيه، ثم قال: لم فعلت هذا؟ قال: من خشيتك يا رب وأنت أعلم، قال: فغفر له".
قد ذكرنا اختلاف الرواية عن مالك في رفع هذا الحديث وتوقيفه في التمهيد، والصواب رفعه؛ لأنَّ مثله لا يكون رأياً، وقد ذكرنا في التمهيد طرقاً كثيرة لحديث أبي هريرة هذا، وذكرنا من رواه معه من الصحابة رضي الله عنهم.
وفي رواية أبي رافع عن أبي هريرة في هذا الحديث أنه قال: قال "رجل لم يعمل خيرا قط إلا التوحيد" وهذه اللفظة ترفع الإشكال في إيمان هذا الرجل، والأصول كلها تعضدها، والنظر يوجبها، لأنه محال أن يغفر الله للذين يموتون وهم كفار؛ لأنَّ الله عز وجل قد أخبر أنه لا يغفر أن يشرك به وقال: "قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف"، فمن لم ينته عن شركه ومات على كفر لم يك مغفوراً له، قال الله عز وجل: "وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار".
وأما قوله: "لم يعمل حسنة قط" وقد روي: "لم يعمل خيراً قط" أنه لم يعذبه إلا ما عدا التوحيد من الحسنات والخير بدليل حديث أبي رافع المذكور، وهذا شائع في لسان العرب أن يؤتى بلفظ الكل والمراد البعض، وقد يقول العرب: لم يفعل كذا قط يريد الأكثر من فعله، ألا ترى إلى قوله عليه الصلاة والسلام: "لا يضع عصاه عن عاتقه" يريد أن الضرب للنساء كان منه كثيراً؛ لا أنَّ عصاه كانت ليلاً ونهاراً على عاتقه، وقد فسرنا هذا المعنى في غير موضع من كتابنا هذا، والدليل على أنَّ الرجل كان مؤمناً؛ قوله حين قال له: لم فعلت هذا؟ قال: من خشيتك يا رب، والخشية لا تكون إلا لمؤمن يصدق، بل ما تكاد تكون إلا من مؤمن عالم قال الله تعالى: "إنما يخشى الله من عباده العلماء"، قالوا: كل من خاف الله فقد آمن به وعرفه، ويستحيل أن يخاف من لا يؤمن به، وقد ذكرنا من الآثار في التمهيد ما يوضح ما قلنا، وبالله توفيقنا)).
أقول: فكلام ابن عبد البر كله في إثبات الإيمان في قلب هذا الرجل مع وصفه بـ "لم يعمل خيراً قط"، وأنَّ الشفاعة لا ينالها كافر، وإنما هي في حق أهل التوحيد، فنفي الخير لا يشمل نفي الإيمان الذي في قلبه.
فأين هذا الاستدلال من استدل بعض المعاصرين بكلام ابن عبد البر على أنَّ المراد بـ"لم يعملوا خيراً قط" -في حديث الشفاعة- نفي أكثر عمل الجوارح لا كله؟!!
وابن عبد البر رحمه الله تعالى هو القائل في كتابه [التمهيد 23/ 290]: ((مَنْ لم يصل من المسلمين في مشيئة الله إذا كان موحِّداً مؤمناً بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم مصدقاً مقراً وإنْ لم يعمل؛ وهذا يرد قول المعتزلة والخوارج بأسرها))] انتهى النقل من "نصب الراية".
8) قال الغامدي: ((وقال المروزي رحمه الله: "قال أبو عبد اللـه: أفلا ترى أنَّ تارك الصلاة ليس من أهل ملة الإسلام الذين يرجى لـهم الخروج من النار ودخول الجنة بشفاعة الشافعين؛ كما قال صلى اللـه عليه وسلم في حديث الشفاعة الذي رواه أبو هريرة وأبو سعيد جميعاً رضي اللـه عنهما أنهم يخرجون من النار يعرفون بآثار السجود فقد بين لك: أنَّ المستحقين للخروج من النار بالشفاعة هم المصلون.
أو لا ترى أنَّ اللـه تعالى ميز بين أهل الإيمان وأهل النفاق بالسجود فقال تعالى: "يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ"، وقد ذكرنا الأخبار المروية في تفسير الآية في صدر كتابنا، فقال اللـه تعالى: "وَإذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُواْ لاَ يَرْكَعُونَ"، "وَإِذَا قُرِىءَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لاَ يَسْجُدُونَ"، أفلا تراه جعل علامة ما بين ملة الكفر والإسلام وبين أهل النفاق والإيمان في الدنيا والآخرة الصلاة". تعظيم قدر الصلاة ( 2/1010))).
أبو عبد الله هو الإمام المروزي نفسه رحمه الله؛ فانتبه لهذا!.
وأما استدلال الإمام المروزي رحمه الله الأول أي بحديث "أثر السجود"، فقد تقدم الجواب عنه، ولا حاجة للإعادة.
وأما الاستدلال الثاني؛ فالشفاعة وإخراج أهل الكبائر من النار يكون بعد كشف الساق وعدم قدرة المنافقين على السجود والمرور على الصراط، فلا يلزم من عدم السجود عند كشف الساق (في غير المنافق) لو ثبت: الخلود في جهنم وعدم نيل الشفاعة، بل إنَّ بعض المصلين يسجدون عند كشف الساق ثم يدخلون جهنم بفعل بعض الكبائر ثم يخرجون بالشفاعة، فهذا الاستدلال في غير محل النزاع.
وعدم السجود يوم القيامة علامة تميز المنافقين عن المؤمنين، لأنَّ المنافق كان يتظاهر بالسجود، وهو يسجد لغير الله، والمؤمن يسجد لله، وهذا الأمر لا يكون ظاهراً في الدنيا، فكانت هذه المحنة، كما جاء في الحديث: ((فَيَقُولُ: هَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ مِنْ آيَةٍ تَعْرِفُونَهَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ، فَيَخِرُّونَ سُجَّدًا أَجْمَعُونَ، فَلا يَبْقَى أَحَدٌ كَانَ يَسْجُدُ فِي الدُّنْيَا سُمْعَةً وَلا رِيَاءً وَلا نِفَاقًا إِلا عَلَى ظَهْرِهِ طَبَقٌ وَاحِدٌ، كُلَّمَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ خَرَّ عَلَى قَفَاهُ))، أما تارك الصلاة (تارك السجود بالكلية) فلا يحتاج إلى امتحان ليظهر أمره، فأثر السجود لا يظهر عليه أصلاً.
وبهذا يتبين أنَّ هذه النصوص التي استدل بها الإمام المروزي على كفر تارك الصلاة وخلوده في النار ليست ظاهرة فضلاً عن تقديمها على أحاديث الشفاعة وغيرها.
والإمام المروزي رحمه الله ذكر في كتابه "تعظيم قدر الصلاة" طوائف أهل السنة الثلاثة الذين اختلفوا في مسمى الإسلام والإيمان، ثم قال: ((قالوا: ومما يدلك على تحقيق قولنا؛ أنَّ مَنْ فرَّق بين الإيمان والإسلام قد جامعنا أنَّ من أتى الكبائر التي استوجب النار بركوبها لن يزول عنه اسم الإسلام، وشر من الكبائر وأعظمهم ركوباً لها من أدخله الله النار، فهم يروون الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ويثبتونه أنَّ الله يقول: "أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال خردلة من إيمان، ومثقال برة، ومثقال شعيرة"، فقد أخبر الله تبارك وتعالى أنَّ في قلوبهم إيماناً أخرجوا به من النار، وهم أشر أهل التوحيد الذين لا يزول في قولنا وفي قول من خالفنا عنهم اسم الإسلام، ولا جائز أن يكون من في قلبه إيمان يستوجب به الخروج من النار ودخول الجنة ليس بمؤمن بالله، إذ لا جائز أن يفعل الإيمان الذي يثاب عليه بقلبه من ليس بمؤمن، كما لا جائز أن يفعل الكفر بقلبه من ليس بكافر؛ عن ابن عباس أنه قال: ينزع منه نور الإيمان، ونور الإيمان ليس هو كل الإيمان، فإنما أراد بقوله: ينزع منه الإيمان بعض الإيمان لا كل الإيمان حتى لا يبقى فيه شيء من الإيمان، فلو كان كذلك لكان كافراً إذ زال عنه اسم الإيمان بأسره، فلما قال النبي صلى الله عليه و سلم عن الله عز و جل: "أخرجوا من النار من كان في قلبه مثال خردلة من إيمان" لأنَّ من دخل النار فقد لقي الله بالكبائر، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ في قلوبهم أجزاء من الإيمان استحقوا بذلك اسم الإيمان، ووجب لهم عليه الثواب؛ لولا ذلك ما دخلوا الجنة، لأنه لا يدخل الجنة من البالغين العاقلين من ليس بمؤمن، لأنَّ الله عز وجل قال في كتابه: "وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله"، وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة"، وفي بعض الحديث: "لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة"، وليس ذلك بمتناقض ولا مختلف؛ لأنَّ معناهما واحد. ولما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: أنَّ الله يخرج من النار من كان في قلبه مثال خردلة من إيمان فيدخله الجنة؛ علمنا أنه لم يدخله الجنة الا وهو مسلم مؤمن)).
أقول: فهذه الطوائف الثلاثة السنية كلهم يروون أحاديث الشفاعة ويثبتونها على ظاهرها من غير تأويل، وأنَّ الذين يخرجون من النار من أهل الدفعات (مثقال خردلة .. مثقال برة .. مثقال شعيرة) يخرجون بالتوحيد وبما في قلوبهم من الإيمان؛ فكيف بأهل الدفعة الأخيرة الذين يخرجون من النار برحمة أرحم الراحمين ممن لم يعملوا خيراً قط؟!
فما قولك أيها الغامدي بهذا؟!
9) قال الغامدي: ((وقالت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: وأما ما جاء في الحديث حديث أبي سعيد: أنَّ قوماً يدخلون الجنة "لم يعملوا خيراً قط" فليس هو عامَّاً لكل من ترك العمل وهو يقدر عليه, إنما هو خاص بأولئك لعذر منعهم من العلم أو لغير ذلك من المعاني التي تلائم النصوص المحكمة وما أجمع عليه السلف الصالح في هذا الباب. انتهى رقم الفتوى (21436) وتاريخ (8/1/1421هـ) رئاسة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن محمد آل الشيخ وعضويه كل من الشيخ / صالح بن فوزان الفوزان والشيخ / بكر بن عبدالله أبوزيد .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: معنى قوله: "لم يعملوا خيراً قط" أنهم ما عملوا أعمالاً صالحة، لكن الإيمان قد وقر في قلوبهم، فإما أن يكون هؤلاء قد ماتوا قبل التمكن من العمل؛ آمنوا ثم ماتوا قبل أن يتمكنوا من العمل، وحينئذ يصدق عليهم أنهم لم يعملوا خيراً قط، وإما أن يكون هذا الحديث مقيداً بمثل الأحاديث الدالة على أنَّ بعض الأعمال الصالحة تركها كفر كالصلاة مثلاً، فإن من لم يصلِّ فهو كافر ولو زعم أنه مؤمن بالله ورسوله، والكافر لا تنفعه شفاعة الشافعين يوم القيامة وهو خالد مخلد في النار أبد الآبدين والعياذ بالله.
فالمهم أنَّ هذا الحديث إما أن يكون في قوم آمنوا ولم يتمكنوا من العمل فماتوا فور إيمانهم فما عملوا خيراً قط، وإما أن يكون هذا عاماً ولكنه يستثنى منه ما دلت النصوص الشرعية على أنه لا بد أن يعمل كالصلاة فمن لم يصل فهو كافر لا تنفعه الشفاعة ولا يخرج من النار. المصدر: مجموع فتاوى و رسائل الشيخ محمد صالح العثيمين المجلد الثاني - باب اليوم الآخر .
وقال الشيخ الفوزان إجابة عن هذا الحديث وغيره: هذا من الاستدلال بالمتشابه، هذه طريقة أهل الزيغ الذين قال الله سبحانه وتعالى عنهم: "فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ"، فيأخذون الأدلة المتشابهة ويتركون الأدلة المحكمة التي تفسرها وتبينها ..، فلا بد من رد المتشابهة إلى المحكم، فيقال: من ترك العمل لعذر شرعي ولم يتمكن منه حتى مات فهذا معذور، وعليه تحمل هذه الأحاديث ..، لأن هذا رجل نطق بالشهادتين معتقداً لهما مخلصاً لله عز وجل ثم مات في الحال، أو لم يتمكن من العمل، لكنه نطق بالشهادتين مع الإخلاص لله والتوحيد كما قال صلى الله عليه وسلم: "من قال لا إله إلا الله وكفر بما يعبد من دون الله فقد حرم دمه وماله" .. وقال: "فإنَّ الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله"، هذا لم يتمكن من العمل مع أنه نطق بالشهادتين واعتقد معناهما وأخلص لله عز وجل، لكنه لم يبق أمامه فرصة للعمل حتى مات، فهذا هو الذي يدخل الجنة بالشهادتين، وعليه يحمل حديث البطاقة وغيره مما جاء بمعناه، والذين يُخرجون من النار وهم لم يعملوا خيراً قط؛ لأنهم لم يتمكنوا من العمل مع أنهم نطقوا بالشهادتين ودخلوا في الإسلام، هذا هو الجمع بين الأحاديث. (مصدر الفتوى: مسائل في الإيمان - ص 28، 29 [ رقم الفتوى في مصدرها: 12]
وسئل الشيخ عبد المحسن العباد: هل يخرج من النار من ترك العمل بالكلية مع قدرته على العمل، فهل تنطبق عليه أحاديث الشفاعة؟ فأجاب حفظه الله بقوله: لا؛ الإنسان الذي يدخل في الإسلام ويقول أنا مسلم ثم لا يصلي لله ركعة ولا يتقرب إلى الله بطاعة فهذا لا يفيده إلا إذا كان حصل منه ومات في الحال ولم يتمكن من العمل، أما إنسان يقول أنه مسلم ثم لا يصلي لله ركعة ولا تمس جبهته الأرض ولا يحصل منه عمل صالح فهذا كيف يقال أنه من أهل التوحيد وأهل الإيمان؟!!! لأن الصلاة نفسها من تركها فقد كفر، ثم أيضاً الذي يحصل له السلامة هو الذي لم يتمكن من العمل، أما إنسان عاش ولا يصلي ولا يحصل منه أي عمل صالح فهذا ليس له إلا النار. [بتاريخ: 12/11/1434هـ] . منقول من موقع الآفاق السلفية)).
استدلال الغامدي بكلام العلماء المعاصرين هؤلاء وفيه أمران:
الأول: أنَّ هؤلاء العلماء حملوا كلمة "لم يعملوا خيراً قط" على ظاهرها؛ أي لم يعملوا شيئاً من الأعمال الصالحة، ثم تأولوا ذلك في حق من لم يتمكن من العمل، وحملهم لهذه الكلمة على ظاهرها يخالف ما عليه الحدادية اليوم من دعوى أنَّ هذه الكلمة هي من نفي الكمال والتمام، أي أنَّ معناها: لم يعملوا من الأعمال الصالحة إلا شيئاً يسيراً.
الثاني: أنَّ التأويل الذي ذكره هؤلاء العلماء بعيدٌ جداً عن ظاهر الحديث وسياقه، ومعلوم أنه لا اجتهاد في مقابل النص، فالحديث بيِّنَ أنَّ الذين لم يعملوا خيراً قط هم من أهل النار، ثم يخرجون برحمة أرحم الراحمين، وأهل العلم هؤلاء بيِّنوا أنَّ هذا الحديث في حق أهل الأعذار الذين لم يتمكنوا من العمل؛ كمن نطق بالشهادتين ثم مات بعدها مباشرة ولم يعمل شيئاً، ومعلوم أنَّ هذا من أعظم الناس منزلة، لأنَّ الإسلام يجب ما قبله والتوبة تجب ما قبلها، فحسنة التوحيد لا يقابلها شيء من الذنوب ولا من التقصير في الواجبات؛ لأنه لم يعمل شيئاً، فكيف يكون من أهل النار أصلاً؟!
فعَنِ الْبَرَاءِ رضي الله عنه قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ مُقَنَّعٌ فِي الْحَدِيدِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُقَاتِلُ أَوْ أُسْلِمُ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَسْلِمْ ثُمَّ قَاتِلْ، فَأَسْلَمَ ثُمَّ قَاتَلَ فَقُتِلَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((هَذَا عَمِلَ قَلِيلًا وَأُجِرَ كَثِيرًا)).
وقد جرى نقاش بين الشيخ الألباني رحمه الله تعالى مع بعض طلبة العلم في مسألة كفر تارك الصلاة [شريط رقم (297) من سلسلة الهدى والنور] جاء فيه:
((قال الشيخ الألباني: شو ورد في السنة؟
الشيخ الألباني: وشو الاحتمال الذي يرد عليه؟
السائل: مثل حديث البطاقة يا شيخ.
الشيخ الألباني: طيب ما باله؟
السائل: إنه لم يفعل خيراً إلا هذه الكلمة.
الشيخ الألباني: طيب؛ شو يَرِدُ عليه؟
السائل: يرِدُ عليه؛ أنَّ هذا الرجل لم يمكَّن من فعل الخيرات؛ كقاتل التسع والتسعين نفساً!.
أحد الحاضرين معقباً: ومُكِّن من فعل السيئات مائة سجل؟!
فقال الشيخ الألباني مؤيِّداً للمعقِّب: هكذا يعني!.
ثم قال الشيخ سائلاً ومستنكراً: والأحاديث المتواترة في الشفاعة يوم القيامة "أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من خير"، وفي رواية "من إيمان"؛ لم يتمكَّن من أعمال الإيمان؟!
وفي الأحاديث الصحيحة أي الأعمال أفضل؟ أعمال أفضل؛ وذكر منها الصلاة والحج وما شابه ذلك، لم يتمكَّن من الاعمال الصالحة كلها، ولذلك ما بقي في قلبه إلا ذرة من إيمان وذرة من خير؟
وهكذا يسوقه علماء السلف الذين تلقينا العقيدة منهم؟!
لما يسوقوا الشفاعة وأحاديث الشفاعة يعنون الذين ما استطاعوا أن يعملوا عمل الخير؟!
لقد وقعتم فيما أنكرتم على مَنْ خالفكم من أهل الأهواء.
إنكم تلفون وتدورون على الأحاديث الصحيحة وتتأولونها مع فكرة قائمة في أذهانكم!، لن تستطيعوا حتى اليوم أن تثبتوها بالأدلة من الكتاب والسنة إلا بالتأويل!.
وعلى كل حال؛ فالأدلة التي أنت ذكرتها هي حجة عليك، لأنك تتأولها بما يشبه تعطيل المؤوِّلة لنصوص الكتاب والسنة فيما يتعلق بالصفات الإلهية!، فنحن الآن لا فرق بيننا وبين أهل الكلام من حيث التعطيل؛ الفرق شكلي!، أولئك يعطلون النصوص المتعلقة في الصفات الإلهية، وهؤلاء يعطلون النصوص المتعلقة بالأحكام الشرعية!، والتعطيل واحد!)).
10) قال الغامدي: ((ذكر بعض من خالف أهل السنة في فهمهم لنصوص أحاديث الشفاعة وهم الأشاعرة المرجئة الضالة؛ وأكتفي هنا بذكر مثالين فقط:
1-"..أخذ الغزالي في إحياء علوم الدين من هذا الحديث أن العمل ليس ركناً في الإيمان, إذ الركن لا يحتمل السقوط إلا بانتفاء الحقيقة, وقد أخرج الله تعالى من النار قوماً جاءوا بالتصديق المجرد ..." وتابعه الزبيدي كما في شرحه الإحياء ، انظر بحث : "دراسة حديث الجهنميين " للسلمي
2- قال ابن حزم في ((المحلى)) (1 / 62، طبعة دار الكتب العلمية): "ومن ضيع الأعمال كلها فهو مؤمن عاص ناقص الإيمان لا يكفر".
-وقال في الفصل 4 / 90، طبعة عكاظ: "و قد بين عليه السلام ذلك بأنه يخرج من النار من في قلبه مثقال حبة شعير من خير ثم من في قلبه مثقال برة من خير، ثم من في قلبه مثقال حبة من خردل، ثم من في قلبه مثقال ذرة إلى أدنى أدنى أدنى من ذلك، ثم من لا يعمل خيراً قط إلا شهادة الإسلام، فوجب الوقوف عند النصوص كلها المفسِّرة للنص المجمل"
- وقال في كتاب الدّرّة بعد أن ناقش المرجئة في عدم اشتراط النّطق في الإيمان: "وإنّما لم يكفر من ترك العمل وكفر من ترك القول، لأنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم حكم بالكفر على من أبى من القول وإن كان عالماً بصحّة الإيمان بقلبه، وحكم بالخروج من النّار لمن علم بقلبه وقال بلسانه وإن لم يعمل خيراً قط" الدّرّة ص337ـ338 الطّبعة الأولى، تحقيق أحمد بن ناصر الحمد ورفيقه، انظر بحث حول حديث الشفاعة تضمن الباب السابع وهو بعنوان :"توضيح ما اعتمدوا عليه من كلام ابن حزم..."
قلت: مرجع ابن حزم فيما سبق هو حديث الشفاعة، وقد فهمه فهماً خاطئاً.
اكتفي بهذا، والله أعلم وأحكم، وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم)).
أقول: على كلامه هذه ملاحظات:
الأولى: أحال الغامدي في كلامه هذا إلى بحثين: بحث "دراسة حديث الجهنميين" لعبد الرحيم بن صمايل السلمي كتبه مؤلفه في عام 26/12/1423هـ، والآخر " بحث في مسألة: ترك عمل الجوارح توضيح ما اعتمد عليه المخالف من كلام العلماء" الباب السابع/ "توضيح ما اعتمدوا عليه من كلام ابن حزم" لمجهول يكتب في الانترنت تحت صفحة "الشيخ الموحد"!، إذن هذه دراسات معاصرة وبحوث جديدة، والغامدي قال في أول مقاله هذا: ((فأهل السنة يقولون بأحاديث الشفاعة ولكن طريقتهم في ذلك هي جمع النصوص بعضها إلى بعض في مكان واحد على سبيل الاستقراء، ويرجعون في هذا كله للعلماء المتقدمين الذين جمعوا النصوص، لأنهم حفَّاظ،وليسوا باحثين يدرسون العقيدة من جديد))، فكيف يعتمد الغامدي على أمثال هؤلاء الباحثين الجدد فضلاً عن المجاهيل الذين يكتبون بأسماء مستعارة؟!
الثانية: أنَّ هذا التأصيل الذي عزاه إلى الغزالي أخذه السلمي هذا من ظاهرة الإرجاء لسفر الحوالي كما في حاشية بحثه المشار إليه، والحوالي قال هناك معقباً على حديث الشفاعة وناقلاً لمذهب المخالفين له: ((ووجه الاستدلال منه: أنه أخرج من النار قوماً جاءوا بتصديق مجرد لا عمل معه، فدل ذلك على أنَّ العمل ليس ركنا في الإيمان كما يقول أهل السنة والجماعة، إذ الركن لا يحتمل السقوط إلا بانتفاء الحقيقة، وهؤلاء حقيقة الإيمان ثابتة لهم، بل قال قائل منهم: إنَّ قلبه طافح بالإيمان))، وعلَّق في الحاشية على كلمة "قال قائل منهم: إنَّ قلبه طافح بالإيمان": ((وهو أبو حامد الغزالي وتبعه الزبيدي، شرح الإحياء (5/243)، وقد قالها فيمن لم ينطق باللسان، أما من نطق وصدق فقد جعل تكفيره هو مذهب المعتزلة))، وعند الرجوع إلى "الإحياء" نلاحظ أنَّ الغزالي قال بالنص: ((والقائل بهذا قائل بنفس مذهب المعتزلة، إذ يقال له: من صدَّق بقلبه وشهد بلسانه ومات في الحال، فهل هو في الجنة؟ فلا بد أن يقول نعم، وفيه حكم بوجود الإيمان دون العمل، فنزيد ونقول: لو بقي حياً حتى دخل عليه وقت صلاة واحدة فتركها ثم مات أو زنى ثم مات فهل يخلد في النار؟ فإن قال: نعم، فهو مراد المعتزلة، وإن قال: لا فهو تصريح بأنَّ العمل ليس ركناً من نفس الإيمان ولا شرطاً في وجوده ولا في استحقاق الجنة به، وإن قال أردت به أن يعيش مدة طويلة ولا يصلي ولا يقدم على شيء من الأعمال الشرعية، فنقول: فما ضبط تلك المدة؟ وما عدد تلك الطاعات التي بتركها يبطل الإيمان؟ وما عدد الكبائر التي بارتكابها يبطل الإيمان؟ وهذا لا يمكن التحكم بتقديره، ولم يصر إليه صائر أصلاً
الدرجة الرابعة: أن يوجد التصديق بالقلب - قبل أن ينطق باللسان أو يشتغل بالأعمال - ومات، فهل نقول: مات مؤمناً بينه وبين الله تعالى؟ وهذا مما اختلف فيه، ومن شَرَطَ القول لتمام الإيمان يقول: هذا مات قبل الإيمان؛ وهو فاسد، إذ قال صلى الله عليه وسلم: "يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان،" وهذا قلبه طافح بالإيمان، فكيف يخلد في النار؟!)).
والمقصود أنَّ الغزالي يعتقد أنَّ مجرد التصديق يكفي في إثبات كمال الإيمان، ويعتقد أنَّ العمل خارج عن اسم الإيمان وليس ركناً من أركانه، وأنَّ الجنة تستحق بالإيمان وإن لم يكن معه عمل، قياساً على من صدَّق بقلبه - ولم يتمكَّن من النطق بلسانه ولا عمل بجوارحه شيئاً – ومات، وهذا قياس فاسد من عدة وجوه ليس هذا موضعها.
لكن هل أهل السنة اليوم يعتقدون عقيدة الغزالي هذه؟!
إذن ما المقصود من ذكر كلامه هنا يا غامدي؟!
المقصود هو تصوير الأمر على خلاف حقيقته، فالغامدي وأمثاله يحاولون أن يصوِّروا أهل السنة بأنهم على مذهب الإرجاء بشتى الأساليب الماكرة، والله المستعان.
الثالثة: إدخال الغامدي العلامة ابن حزم رحمه الله في مذهب الأشاعرة المرجئة الضالة غلط ظاهر، فابن حزم ليس من الأشاعرة في مسائل الصفات ولا من المرجئة في مسائل الإيمان!، بل يُحمد رحمه الله في مسائل القدر والإيمان والإرجاء لموافقته الحديث وأهله، ويُذم في مسائل الصفات لأنه وافق المعتزلة وأهل الفلسفة والكلام في إثبات الأسماء ونفي الصفات بالكلية، كما يُذم في مسائل أخرى، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في [المجموع 4/18-20]: ((وَكَذَلِكَ أَبُو مُحَمَّدٍ بْنُ حَزْمٍ فِيمَا صَنَّفَهُ مِنْ الْمِلَلِ وَالنِّحَلِ؛ إنَّمَا يُسْتَحْمَدُ بِمُوَافَقَةِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ مِثْلَ مَا ذَكَرَهُ فِي مَسَائِلِ "الْقَدَرِ" وَ "الْإِرْجَاءِ" وَنَحْوِ ذَلِكَ، بِخِلَافِ مَا انْفَرَدَ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ فِي التَّفْضِيلِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ فِي "بَابِ الصِّفَاتِ" فَإِنَّهُ يُسْتَحْمَدُ فِيهِ بِمُوَافَقَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ لِكَوْنِهِ يَثْبُتُ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، وَيُعَظِّمُ السَّلَفَ وَأَئِمَّةَ الْحَدِيثِ، وَيَقُولُ إنَّهُ مُوَافِقٌ لِلْإِمَامِ أَحْمَد فِي مَسْأَلَةِ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهَا، وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ مُوَافِقٌ لَهُ وَلَهُمْ فِي بَعْضِ ذَلِكَ.
لَكِنَّ الْأَشْعَرِيَّ وَنَحْوَهُ أَعْظَمُ مُوَافَقَةً لِلْإِمَامِ أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَمَنْ قَبْلَهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ فِي الْقُرْآنِ وَالصِّفَاتِ، وَإِنْ كَانَ أَبُو مُحَمَّدٍ بْنُ حَزْمٍ فِي مَسَائِلِ الْإِيمَانِ وَالْقَدَرِ أَقْوَمَ مِنْ غَيْرِهِ، وَأَعْلَمَ بِالْحَدِيثِ، وَأَكْثَرَ تَعْظِيمًا لَهُ وَلِأَهْلِهِ مَنْ غَيْرِهِ، لَكِنْ قَدْ خَالَطَ مِنْ أَقْوَالِ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ فِي "مَسَائِلِ الصِّفَاتِ" مَا صَرَفَهُ عَنْ مُوَافَقَةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ فِي مَعَانِي مَذْهَبِهِمْ فِي ذَلِكَ، فَوَافَقَ هَؤُلَاءِ فِي اللَّفْظِ وَهَؤُلَاءِ فِي الْمَعْنَى، وَبِمِثْلِ هَذَا صَارَ يَذُمُّهُ مَنْ يَذُمُّهُ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِين وَعُلَمَاءِ الْحَدِيثِ بِاتِّبَاعِهِ لِظَاهِرِ لَا بَاطِنَ لَهُ، كَمَا نَفَى الْمَعَانِيَ فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالِاشْتِقَاقِ، وَكَمَا نَفَى خَرْقَ الْعَادَاتِ وَنَحْوَهُ مِنْ عِبَادَاتِ الْقُلُوبِ، مَضْمُومًا إلَى مَا فِي كَلَامِهِ مِنْ الْوَقِيعَةِ فِي الْأَكَابِرِ وَالْإِسْرَافِ فِي نَفْيِ الْمَعَانِي وَدَعْوَى مُتَابَعَةِ الظَّوَاهِرِ، وَإِنْ كَانَ لَهُ مِنْ الْإِيمَانِ وَالدِّينِ وَالْعُلُومِ الْوَاسِعَةِ الْكَثِيرَةِ مَا لَا يَدْفَعُهُ إلَّا مُكَابِرٌ؛ وَيُوجَدُ فِي كُتُبِهِ مِنْ كَثْرَةِ الِاطِّلَاعِ عَلَى الْأَقْوَالِ وَالْمَعْرِفَةِ بِالْأَحْوَالِ وَالتَّعْظِيمِ لِدَعَائِمِ الْإِسْلَامِ وَلِجَانِبِ الرِّسَالَةِ مَا لَا يَجْتَمِعُ مِثْلُهُ لِغَيْرِهِ، فَالْمَسْأَلَةُ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا حَدِيثٌ يَكُونُ جَانِبُهُ فِيهَا ظَاهِرَ التَّرْجِيحِ، وَلَهُ مِنْ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالضَّعِيفِ وَالْمَعْرِفَةِ بِأَقْوَالِ السَّلَفِ مَا لَا يَكَادُ يَقَعُ مِثْلُهُ لِغَيْرِهِ مِنْ الْفُقَهَاءِ)).
والكلام الذي ذكره الغامدي عن ابن حزم هو في مسائل الإيمان، وشيخ الإسلام ابن تيمية لم ينتقده في ذلك، فعلام الإنكار عليه إذن؟!
ومما قاله ابن حزم رحمه الله أيضاً كما في [المحلى 3/ 333]: ((لقد رجَّانا اللهُ تعالى في العفو والجنة حتى نقول: قد فُزنا، ولقد خوَّفنا عز وجل حتى نقول: قد هلكنا؛ إلا أننا على يقين من أن لا خلود على مسلم في النار وإنْ لم يفعل خيراً قط غير شهادة الإسلام بقلبه ولسانه، ولا امتنع من شرٍّ قط غير الكفر)).
إنَّ الغامدي في نقله عن الغزالي وابن حزم يحاول أن يصوِّر للمخدوعين به وبأمثاله أنَّ الشيخ الألباني رحمه الله والشيخ ربيعاً حفظه الله وغيرهم من أهل العلم والسنة ليس لهم سلفٌ فيما يقولون به إلا الغزالي وابن حزم!!، وهذا كذب قبيح وتلبيس شنيع، بل سلفهم في ذلك عشرات الأئمة الكبار، وقد ذكر منهم الشيخ ربيع حفظه الله في عدة مقالات جملة منهم، وذكرتُ منهم أكثر من ثلاثين إماماً، فمن أراد أن ينظر في ذلك فليرجع إلى رسالتي "نصب الراية في دراسة لفظة لم يعملوا خيراً قط الواردة في حديث الشفاعة رواية ودراية"، ومقالي " أقوال أئمة السلف وعلماء الإسلام في عدم تكفير تارك عمل الجوارح".
كتبه / الشيخ رائد آل طاهر
منقول من شبكة سحاب السلفية حفظها الله