باب الإعتكاف ن : يشرع الإعتكاف في المساجد *****في أي وقت وبأي مســـجد إلا إذا أدخـــل فــــيها الجمعــــــة ***** فالجامع اشترطه كيلا يدعه ش : معنى الاعتكاف في اللغة : لزوم الشيء ، وحبس النفس عليه ، سواء كان خيرا أم شرا . وفي الشرع : هو لزوم المسلم العاقل - ولو مميزا - مسجدا لطاعة الله على صفة مخصوصة . وهو على قسمين : واجب ، ومسنون . فالواجب : ما عينه المسلم وألزم به نفسه كالنذر مطلقا ومعلقا ، فإنه يجب الوفاء به على الوجه الذي عينه عملا بقول الله تعالى ( يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا )) [ سورة الإنسان : 7 ] . وبما جاء في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" من نذر أن يطيع الله فليطعه ، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه " ، وبما روى أحمد وأبو داود عن بريدة رضي الله عنه أن امرأة قالت : يا رسول الله ، إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدف ، فقال : أوفي بنذرك " . فهذه النصوص فيه دليل على وجوب الوفاء بما ألزم المسلم به نفسه من عبادة شرعية ، سواء كانت اعتكافا ، أو غيره من المشروعات ، أو عمل شيء من المباحات . وأما المسنون : فللمسلم فعله متى شاء من ليل أو نهار سواء كان زمنا قليلا أو كثيرا ، وله قطعه كذلك متى شاء إذ إن المتطوع أمير نفسه في كثير من أبواب النوافل والفضائل . أعود إلى قول الناظم : يشرع الاعتكاف في المساجد *****في أي وقت وبأي مسجد أي : أن الاعتكاف من السنن المشروعة ، ومحله المساجد ؛ لأنها بنيت لذكر الله والصلاة سواء كانت الحرمين والأقصى أو غيرها من المساجد في سائر البقاع الأخرى ، وسواء تصلى فيها الجمعة أو الجماعة فقط ، خلافا للشافعية الذين لا يرون انعقاد الاعتكاف إلا في مسجد جامع . والحق أن هذا الشرط لا يؤخذ على إطلاقه ، غير أن العلماء قد اختلفوا في خروج المعتكف لشهود جنازة أو عيادة مريض أو صلاة جمعة أيبطل اعتكافه أم لا : فذهب إلى القول بالبطلان علي بن أبي طالب والحسن البصري وإبراهيم النخعي ، وذهب إلى القول بعدم البطلان جماعة آخرون كالشافعي والثوري وإسحاق بشرط أن يكون المعتكف قد شرط ذلك في ابتداء اعتكافه . ولأجل هذا الخلاف وخروجا منه فقد رأى الناظم أن من كان يوم الجمعة من جملة أيام اعتكافه فعليه أن يجعل اعتكافه في مسجد جامع ، لئلا يقع في الخلاف الذي رأيت عند خروجه من محل اعتكافه ، ولئلا يقع في المأثم الذي يترتب على التخلف عن صلاة الجمعة مع القدرة على الحضور إليها . لهذا وذاك قال الناظم : إلا إذا أدخل فيها الجمعة *****فالجامع اشترطه كيلا يدعه أي : إذا كان يوم الجمعة داخلا في جملة أيام المعتكف فألزمه بأن يكون اعتكافه في مسجد جامع ؛ لئلا يضطر يوم الجمعه إلى الذهاب إلى الجامع الذي تقام فيه ويدع اعتكافه ؛ فيكون ذلك سببا في بطلانه عند جماعة من الفقهاء ، وسيأتي الكلام قريبا على ما يجوز للمعتكف أن يخرج لقضائه وما لا يجوز . ن : وليس فيه الصوم شرطا بل ورد *****بالليل والــنهار نص معـــتمد لكـــــــــنه فـــــي رمضـــــان آكـــــدا *****لا سيما العشر الأواخر اجهـدا فيها بجــــد واجـــــتهاد فــــــي العمل *****لكـــي بــــذا تـــنال غاية الأمل ش : في هذه الأبيات الثلاثة بحث مسألة واحدة وهي : هل يشترط الصوم لصحة الاعتكاف ، أم من شاء أن يعتكف صائما فحسن ، ومن شاء أن يعتكف مفطرا فلا حرج ؟ والجواب هو :أن الاعتكاف لا يخلو إما أن يكون في نهار رمضان أو في غير رمضان ، فإذا كان في نهار رمضان فإن المعتكف يلزمه الصوم بحكم الفرض الذي عليه ولا خيرة له فيه ما دام قادرا ، أما إذا كان الاعتكاف في غير رمضان فقد اختلف العلماء في اشتراط الصوم فيه وعدمه على رأيين : الرأي الأول : أنه لا اعتكاف إلا بصوم ، روي عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما وبه قالت الحنفية ومالك والأوزاعي ، غير أنه لا دليل لديهم يصلح الإستناد إليه فيما علمت . الرأي الثاني : أن المعتكف إذا اعتكف بالنهار وصام فحسن ، ونور على نور ، وإن لم يصم فاعتكافه صحيح ، وليس الصوم شرطا فيه ، وهذا اختيار الناظم ، وهو المؤيد بالدليل الذي رواه البخاري ومسلم وغيره ، عن عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما : " أن عمر بن الخطاب سأل النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام ، قال : أوف بنذرك " . فهو دليل صريح على جواز الاعتكاف بدون صوم . ثم إن الاعتكاف في شهر رمضان أكثر في الاستحباب وأبلغ في الأجر ، ولذا فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم استحبابه والحث عليه من قوله وفعله وتقريره ، فقد جاء في صحيح البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخذري رضي الله عنه :" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتكف في العشر الأوسط من رمضان ، فاعتكف عاما حتى إذا كان ليلة إحدى وعشرين وهي الليلة التي يخرج من صبيحتها من اعتكافه ، قال : من كان اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر فقد أريت هذه الليلة ، ثم أنسيتها ، وقد رأيتني أسجد في ماء وطين من صبيحتها فالتمسوها في العشر الأواخر والتمسوها في كل وتر . فمطرت السماء في تلك الليلة ، فوكف المسجد ، فبصرت عيناي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى جبهته أثر الماء والطين من صبح إحدى وعشرين " . ثم استمر فعله وفعل أزواجه من بعده على إحياء العشر الأواخر من رمضان بالاعتكاف والجد والاجتهاد ؛ لينالوا غاية ما يتمنون وما يؤملون من رضا ربهم ودخول جنته ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم :" كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله ، ثم اعتكف أزواجه من بعده " إحياء لسنته ، ورغبة في ثواب الله الذي وعد به على شكره وحسن عبادته . وإلى هذه المعاني أشار الناظم بقوله : لكنـــــــه فـــــــي رمضان آكدا *****لاسيما العشر الأواخر اجهدا فـــيها بجد واجـــتهاد في العمل *****لكـــي بذا تنال غاية الأمـــل ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ن : وما لعاكف خروج عنه *****إلا لأمر لـــيس بــد مــنه وسُنّ من بـعد صلاة الفــجر *****دخوله في الاعتكاف فادر ش : قوله : وما لعاكف خروج عنه *****إلا لأمر ليس بد منه أي : ليس للمعتكف أن يخرج من معتكفه إلا للحاجة التي لابد له منها وقد اتفق العلماء على جواز الخروج لما يسمى بحاجة الإنسان - أي : البول والغائط - ، واختلفوا في غيرهما من الحاجات الأخرى كالأكل والشرب والعلاج ، وشهود الجمعة ، وعيادة المريض ، وتشييع الجنازة ، ومرافقة المرأة الزائرة حتى تصل المكان الذي تأمن فيه على نفسها ، وغير ذلك من الحاجات . والذي يظهر لي في هذه الحاجات المختلف فيها : أن ما كان منها لا يمكن استغناء المعتكف عنه كالأكل والشرب والعلاج وشهود الجمعة وتشييع المرأة الزائرة إلى دارها فإنه لا يبطل به الاعتكاف لالتحاقه بالبول والغائط في الحاجة والضرورة ، وما أمكن الاستغناء عنه من سائر الحاجات كعيادة المريض وتشييع الجنازة إذا قام به غير المعتكف وزيارة قريب أو صديق للحديث معه فإن هذه الحاجات وما شابهها يبطل بها الاعتكاف ؛ لما جاء في الصحيحين عن عروة وعمرة أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدخل رأسه وهو في المسجد فأرجله ، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة إذا كان معتكفا ." ولما روى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت :" السنة على المعتكف ألا يعود مريضا ، ولا يشهد جنازة ، ولا يمس امرأة ، ولا يباشرها ، ولا يخرج إلا لما لابد منه ". قوله : وسُنّ من بعد صلاة الفجر *****دخوله في الاعتكاف فادر أي :أنه يشرع لمن أراد أن يعتكف يوما أو أياما معلومات أن يدخل معتكفه عند طلوع الفجر من اليوم الذي يعزم فيه على الاعتكاف ، ويكون خروجه بعد غروب الشمس من آخر أيام اعتكافه التي سماها وأمضاها ، وذلك بأن ينوي اعتكاف يومي الخميس والجمعة مثلا ، فإنه يدخل معتكفه فجر يوم الخميس ، ويخرج من معتكفه بعد غروب يوم الجمعة ، وإذا أراد اعتكاف ليلة فقط دخل معتكفه عند غروب الشمس ، ويخرج عند طلوع الفجر من صبيحتها ، هذا الذي اختاره الناظم هو قول جماعة من الفقهاء مستدلين بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم :" أنه كان إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ، ثم دخل معتكفه ". بينما يرى جماعة آخرون أنه يدخل معتكفه من أول الليل لما ثبت عند البخاري عن أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" من كان اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر ". والعشر اسم لعدد الليالي، وأول الليالي العشر ليلة إحدى وعشرين . والقول الأول هو الراجح ؛ لأن اليوم يصدق على ما بعد طلوع الفجر إلى غروب الشمس ، ولهذا يقال لمن أمسك عن المفطرات بنية الصوم من طلوع الفجر إلى غروب الشمس : إنه صام يوما . تنبيه : وفي نهاية هذا الباب أحب أن أنبه على أمور مهمة : الأول منها : أن للاعتكاف أركانا وشروطا ومبطلات . فأما أركانه فاثنان : أولهما : عقد النية كغيره من العبادات لقول النبي صلى الله عليه وسلم :" إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرىء ما نوى ". وثانيهما : اللبث في المسجد إذ لا اعتكاف شرعا إلا في المسجد ؛ لقول الله تعالى ( ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد )) [ سورة البقرة 187 ] . فإن الآية صريحة في أن الاعتكاف إنما يكون في المسجد ؛ لأن الله خص تحريم المباشرة بالاعتكاف فيه ولم يذكر غيره . وأما شروطه : فإن الفقهاء اشترطوا في المعتكف أن يكون مسلما وذلك لأن الإسلام شرط في صحة كل عبادة من العبادات الشرعية ، ومن جملتها الاعتكاف . ثانيا : أن يكون مميزا يفرق بين العادات والعبادات ، وبين العبادات بعضها عن بعض ، ولو لم يكن بالغا فليس البلوغ شرط صحة وقبول ، وإنما هو شرط تكليف . ثالثا : أن يكون طاهرا من الحدث الأكبر كالجنابة والمرأة من الحيض والنفاس ، فإن طرأ شيء من ذلك أثناء الاعتكاف وجب على المعتكف أن يخرج من معتكفه حتى يتطهر ثم يعود ، فيبني على اعتكافه : (( وما جعل عليكم في الدين من حرج )) [ سورة الحج 78 ] . وأما مبطلات الاعتكاف : فالجماع كما في قوله تعالى ( ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد )) . والمراد بالمباشرة هنا : الجماع ، وقد أجمع أهل العلم أن الجماع عمدا مفسد للاعتكاف . وثانيا : الخروج من المعتكف لغير حاجة يباح له الخروج إليها . الأمر الثاني : اختلف العلماء في أقل مدة الاعتكاف وأكثرها إذا كان تطوعا على عدة أقوال ، أعدلها : أن أقله لحظة مع النية ، ولا حد لأكثره ، كما قال بذلك الإمام الشافعي وقريب منه ما قال به الحنفية ، ورواية عن الإمام أحمد بأن أقله ساعة ، ولا حد لأكثره . الأمر الثالث : للمعتكف آداب ينبغي له مراعاتها ، وله مباحات لا حرج عليه في تعاطيها . أما الآداب التي يستحسن له أن يراعيها فهي : 1 - كثرة الذكر على الوجه المشروع كقراءة القرآن والتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير والتوبة والاستغفار . 2 - التوسع في دراسة العلوم الشرعية التي يزاد بها فقها في دينه وتقوى وورعا في تنسكه . 3 -الإكثار من نوافل الصلاة ، لاسيما قيام الليل الذي هو دأب الصالحين ، ومائدة المتقين ، وسجية المحسنين . وأما ما يباح له فأمور منها : أ - خروجه لتوديع أهله وقد أشرت إلى ذلك أثناء الشرح كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع صفية ففي الصحيحين عنها رضي الله عنها أنها قالت :" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتكفا فأتيته أزوره ليلا ، فحدثته ثم قمت ، فانقلبت فقام معي ليقلبني، وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد ، فمر رجلان من الأنصار، فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : على رسلكما ، إنها صفية بنت حيي . قالا : سبحان الله يا رسول الله . قال : إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم ، فخشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا - أو قال : - شرا " . ب - ترجيل شعره ، وحلق رأسه ، وتقليم أظافره ، وتنظيف بدنه ، ولبس أحسن ثيابه ، فقد كانت عائشة رضي الله عنها ترجل رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وتغسله وهو في معتكفه . ج - الخروج للحاجة التي لابد منها كالبول والغائط ، وما يلحق بهما من كل ما دعت الحاجة إليه ، ولم يمكن الاستغناءعن الخروج إليه . د - الأكل في المسجد والشرب والنوم والحديث في أمور الحياة التي لابد منها ، والله أعلم .