شرح حديث
"إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات"
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللّهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: "إِذَا شَرِبَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ".
وفي رواية لمسلم: "إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيُرِقْهُ...".
وفي رواية له أيضاً: "أُولاَهُنَّ بِالتُّرَابِ".
ولمسلم من حديث عبدالله بْنِ المُغَفَّل صلّى الله عليه وسلّم: "وَعَفِّرُوهُ الثَّامِنَةَ فِي التُّرَابِ".
ألفاظ الحديث:
• (إِذَا شَرِبَ الْكَلْبُ): وفي الرواية الأخرى: " إذا ولغ الكلب " ولَغ الكلب يلَغ بفتح اللام في الموضعين ولَغاً وولوغاً، وحكي في المضارع كسر اللام (يلِغ) والمعنى إذا شرب أو أدخل طرف لسانه في الإناء وحركه، و(أل) في الكلب للاستغراق، فيشمل جميع أنواع الكلاب لأن الصيغة صيغة عموم فلا فرق بين الكلب المأذون فيه ككلب الصيد والماشية والزرع والحراسة وغير المأذون فيه.
• (فَلْيُرِقْهُ): أي فليصبَّه على الأرض، ويقال: راق الماء وأراقه وهَرَاقَه وأَهْرَاقَه يُهْرِيْقُهُ.
• (عَفِّرُوهُ): قال ابن منظور: العَفَر: ظاهر التراب والجمع أعفار، وعفَّره في التراب: مرَّغه فيه أو دسَّه " [انظر: " لسان العرب" [المجلد التاسع من باب العين].
من فوائد الحديث:
الفائدة الأولى: الحديث دليل على أن ريق الكلب نجس نجاسة مغلظة حيث أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بغسل ما
ولغ فيه الكلب سبع مرات إحداهن بالتراب، وهل يقاس في عدد الغسلات بوله وغائطه في الأواني؟ على قولين:
القول الأول: أن بول الكلب وغائطه في الأواني لابد من غسله سبعاً أيضاً، وهذا قول جمهور العلماء.
وعلُّلوا ذلك: بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم نص على الولوغ فقط لأن هذا هو الغالب من فعل الكلب عند الأواني فهو يلغ فيها ولا يجعل بوله ورجيعه في هذه الأواني وما خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له كما يقوله الأصوليون فتكون نجاسة الكلب عامة في ذلك لا في الولوغ فقط.
والقول الثاني: أن الغسل سبعاً خاص بالولوغ فقط، وأما بوله ورجيعه فهما كسائر النجاسات التي لا يشترط فيها التسبيح ولا التثويب بل تغسل حتى تذهب نجاستها.
واستدلوا: بظاهر حديث الباب ففيه الولوغ دون غيره، ورجح هذا القول الشوكاني [انظر: " السيل الجرار " (1/ 37)]، وقال النووي [انظر: " المجموع" (2/ 586)]: " وهذا متجه، وهو قول قوي من حيث الدليل " وهو كما قال رحمه الله وهذا القول هو الأظهر والله أعلم.
وهل شعر وبدن الكلب إذا مس ثوب الإنسان طاهر أم نجس؟ على قولين:
والأظهر والله أعلم: أن شعره طاهر، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية والجمهور على نجاسته.
قال شيخ الإسلام: " أما الكلب فللعلماء فيه ثلاثة أقوال معروفة:....
الثالث: أن ريقه نجس وأن شعره طاهر.
وهو الرواية الأخرى عن أحمد وهذا أرجح الأقوال فإذا أصاب الثوب أو البدن رطوبة شعره لم ينجس بذلك، وإذا ولغ في الماء أريق، وذلك لأن الأصل في الأعيان الطهارة فلا يجوز تنجيس شيء ولا تحريمه إلا بدليل..... " [انظر: " مجموع الفتاوى "(21/ 616)].
الفائدة الثانية: في الحديث دليل على وجوب تطهير ما ولغ فيه الكلب سبع مرات ووجوب التطهير بالتراب مع الماء سواء خُلط التراب مع الماء حتى يتكدر أو يصب الماء على التراب، وهل يقوم مقام التراب شيءٌ من المنظفات كالأشنان والصابون؟ على قولين:
والقول الراجح والله أعلم: أنه لا يجزئ أن تكون المنظفات كالصابون والأشنان بدلاً عن التراب.
ويدل على ذلك:
أ- حديث الباب حيث نص على التراب فيجب إتباعه.
ب- أن السدر والأشنان كانت موجودة على عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم ولم يشر إليهما وهذا دليل على أن التراب مراد بعينه.
ج- أن في التراب مادة تقتل الجراثيم التي تخرج من لعاب الكلب وهذا لا يحصل مع المنظفات الأخرى كما أثبت ذلك الطب الحديث.
الفائدة الثالثة: أن تعدد الغسلات خاص بنجاسة الكلب وهل يقاس عليه الخنزير؟ على قولين:
القول الأول: أن الخنزير يقاس على الكلب فتغسل نجاسته سبع مرات لأنه أشر من الكلب وأخبث وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة.
القول الثاني: أن تعدد الغسلات خاص بنجاسة الكلب وأن نجاسة الخنزير تغسل كغيرها من النجاسة حتى تذهب عين النجاسة وهذا القول هو الأظهر والله أعلم.
ويدل على ذلك:
1- ورود النص في نجاسة الكلب فقط دون غيره.
2- أن الخنزير مذكور في القرآن وموجود على عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم ولم يرد إلحاقه بالكلب فنجاسته كغيره من النجاسات.
الفائدة الرابعة: ورد موضع التراب في أحاديث الباب على وجهين ظاهرهما التعارض ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند مسلم " أولاهن بالتراب " وفي حديث عبد الله بن مغفل رضي الله عنه عند مسلم أيضا "وعفروه الثامنة في التراب"وفي هاتين الروايتين إشكالان.
الأول: في عدد الغسلات مع التراب والثاني: في موضع التراب.
وجواب الإشكال الأول: وهو أن حديث أبي هريرة رضي الله عنه يشير إلى سبع غسلات مع التراب، وحديث عبدالله بن مغفل رضي الله عنه يشير إلى سبع غسلات من دون التراب لأنه قال " وعفروه الثامنة في التراب " والجمع بينهما أن يقال: هي سبع غسلات مع التراب وأما جعل التراب ثامنة لأن التراب جنس غير جنس الماء، فُجُعل اجتماعهما في المرة الواحدة معدوداً باثنتين فكأن التراب قام مقام غَسْلَةٍ مستقلة فسميت ثامنة كما في حديث ابن مغفل وهي في اجتماعها مع الماء تعتبر غسلة واحدة كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه " أولاهن بالتراب " أي أولى هذه الغسلات السبع بالتراب.
ومن أهل العلم من أخذ برواية ابن مغفل رضي الله عنه فجعلها ثمان غسلات مع التراب لأنها زيادة صحابي وهي مقبولة وفيه معنى الاحتياط.
قال النووي: " وأما رواية وعفروه الثامنة بالتراب فمذهبنا ومذهب الجماهير أن المراد اغسلوه سبعاً واحدة منهن بالتراب مع الماء فكأن التراب قائم مقام غسله فسميت ثامنة لهذا والله أعلم " [انظر: "شرح مسلم"( 2/ 149)].
والإشكال الثاني في موضع التراب حيث ورد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه في الأولى وورد في حديث ابن مغفل رضي الله عنه في الثامنة وجاء عند الترمذي " أولاهن أو أخراهن " وعند الدار قطني " إحداهن " فمن أهل العلم من ألغى التراب لوجود الاضطراب في موضعه فقالوا تتساقط رواياته لأنه كما هو معروف في علوم الحديث [أنه إذا تساوت وجوه الاضطراب ولا يمكن الترجيح فإنها تتساقط، وأما إذا ترجح بعضها فالحكم للرواية الراجحة ولا يقدح فيها رواية من خالفها].
وهنا يمكن الترجيح. إذاً لا تساوي بين وجوه الاضطراب فأرجح الروايات رواية (أولاهن) في حديث أبي هريرة رضي الله عنه لما يلي:
أ- لكثرة الرواة، فقد روى هذه الرواية عن أبي هريرة رضي الله عنه ابن سيرين ورواها عن ابن سيرين ثلاثة: هشام بن حسان، وحبيب بن الشهيد، وأيوب السختياني.
ب- وجودها في أحد الصحيحين وهو صحيح مسلم، والصحيحان من وجوه الترجيح عند التعارض.
ج- من حيث المعنى فجعل التراب أولاً بحيث يزيل التراب الماء الذي يأتي بعده وأما لو جُعل التراب آخراً لاحتجنا إلى غسله أخرى بعده لتذهب أثره.
قال ابن حجر: " (أولاهن) أرجح من حيث الأكثرية والأحفظية والمعنى لأن تتريب الأخيرة يقتضي الاحتياج إلى غسله أخرى لتنظيفه " [انظر: " الفتح "(2/ 276)]
وأما الرواية التي في حديث عبدالله بن مغفل رضي الله عنه " وعفروه الثامنة في التراب " فهذا لا يعني أنها الأخيرة وإنما يكون معناها أن التراب تطهير ثامن يضاف إلى الغسلات السبع، فهي ثامنة باعتبار زيادتها على سبع الغسلات بالماء، وعلى هذا المعنى لو جُعل في الأولى فلا تعارض ولأن جعل التراب آخراً يِردُ عليه ما يرد على ما سبق من الروايات بحيث نحتاج إلى غسله أخرى بعده لتذهب بأثر التراب.
الفائدة الخامسة: رواية مسلم " إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه... " تدل على وجوب إراقة ما في الإناء من ماء أو غيره مما ولغ فيه الكلب لأن الأواني في الغالب صغيرة فيكون ما فيها من ماء وغيرِه قليل لا يدفع النجاسة بنفسه فلو كان ما في الإناء كثير يدفع النجاسة بنفسه أو كان طاهراً لم يأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بإراقته لأن في ذلك إتلاف للمال وإضاعته، وذلك منهي عنه، ولكن هذه اللفظة (فليرقه) طعن فيها بعض الحفاظ لتفرد علي بن مسهر، فقد جاءت من (طريق علي بن مُسْهِر أخبرنا الأعمش، عن أبي رَزِيْن وأبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه)، وأشار مسلم إلى تفرد علي بن مُسْهِر بهذه اللفظة.
وقال النسائي: لا أعلم أحداً تابع علي بن مسهر على قوله: " فليرقه " [انظر: "سنن النسائي"( 1/ 53)].
وعلي بن مُسْهِر ثقة وثَّقه أحمد بن حنبل ويحي بن معين والعجلي وغيرهم، فهو أحد الحفاظ متفق على عدالته كما ذكر ذلك ابن الملقن وغيره إلا أن علي بن مُسْهِر خالف جمع من الحفاظ الذين لم يذكروها وهذا مما يوجب الحكم بشذوذها، -تعالى- ونقل ابن حجر عن ابن عبدالبر أنه قال عن هذه اللفظة: " لم يذكرها الحفاظ من أصحاب الأعمش كأبي معاوية وشعبة" [انظر: " الفتح" (1/ 365)].
مستلة من إبهاج المسلم بشرح صحيح مسلم (كتاب الطهارة)
رابط الموضوع: https://www.alukah.net/sharia/0/118935/#ixzz6FeLUHMN3