1- مذهب السلف أعلم وأحكم وأسلم
هذه العبارة العظيمة: "مَنْهَجُ السَّلَفِ أَسْلَمُ وَأْعَلَمُ وَأَحْكَمُ"، ذَكَرَهَا شيخُ الإسلام ابنُ تَيْمِيَّةَ -رحمه الله تعالى- في معرض رَدِّهِ على أهل الكلام والمَنْطِقِ، الزاعمين بأن طريقةَ السلف أسلمُ، وطريقةَ الخلف أعلمُ وأحكمُ
ورَدَّ على ما بَنَوْا عليه هذه القاعدةَ الفاسدةَ؛ والتي تتلخص في أمرين:
الأمر الأول:جَهْلُهُمْ بطريقة السلفِ.
والأمر الثاني:خَطَأُهُم وضلَالُهُم بتصويب طريقة الخَلَف.
فقد زعموا في هاتين المُقدّمتَيْن أن السلفَ كانوا لا يَعْلَمُونَ إلا ظَوَاهِرَ النصوص التي ليست لها معانٍ، فَهُمْ يفهمون على أنها ألفاظٌ جوفاءُ؛ خصوصًا في باب الأسماء والصفات.
ثم رتَّبوا على ذلك أن الحقَّ هو تلك التأويلاتُ الفاسدةُ التي تَوَصَّل إليها الخَلَفُ[1]
فننقض المقدمة الأولى ثم ننتقل إلى الثانية.
قولهم طريقة السلف هي التفويض يقال لهم: 1- قول السلف أمروها كما جاءت يدل على إثباتهم للصفات
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: في الفتوى الحموية: عن الوليد بن مسلم قال: سألت مالك بن أنس وسفيان الثوري والليث بن سعد والأوزاعي عن الأخبار التي جاءت في الصفات؟ فقالوا: أمروها كما جاءت. وفي رواية: فقالوا: أمروها كما جاءت بلا كيف. فقولهم رضي الله عنهم: "أمروها كما جاءت" رد على المعطلة.. اهـ.
ذكر شيخ الإسلام الآثار عن الإمام مالك وشيخه ربيعة بن أبي عبد الرحمن من قولهم: " الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول". ثم قال:
وَلَوْ كَانَ الْقَوْمُ قَدْ آمَنُوا بِاللَّفْظِ الْمُجَرَّدِ مِنْ غَيْرِ فَهْمٍ لِمَعْنَاهُ - عَلَى مَا يَلِيقُ بِاَللَّهِ - لَمَا قَالُوا : الِاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ وَلَمَا قَالُوا : أَمِرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ بِلَا كَيْفٍ فَإِنَّ الِاسْتِوَاءَ حِينَئِذٍ لَا يَكُونُ مَعْلُومًا بَلْ مَجْهُولًا بِمَنْزِلَةِ حُرُوفِ الْمُعْجَمِ اهـ.(مجموع الفتاوى:5/41)
وقال : وَأَيْضًا : فَقَوْلُهُمْ : أَمِرُّوهَا كَمَا جَاءَتْ يَقْتَضِي إبْقَاءَ دَلَالَتِهَا عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ فَإِنَّهَا جَاءَتْ أَلْفَاظٌ دَالَّةٌ عَلَى مَعَانٍ ؛ فَلَوْ كَانَتْ دَلَالَتُهَا مُنْتَفِيَةً لَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يُقَالَ : أَمِرُّوا لَفْظَهَا مَعَ اعْتِقَادِ أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْهَا غَيْرُ مُرَادٍ ؛ أَوْ أَمِرُّوا لَفْظَهَا مَعَ اعْتِقَادِ أَنَّ اللَّهَ لَا يُوصَفُ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ حَقِيقَةً وَحِينَئِذٍ فَلَا تَكُونُ قَدْ أُمِرَّتْ كَمَا جَاءَتْ اهـ. (مجموع الفتاوى:5/41-42)
2_ نفي الكيفية يدل على إثباتهم للصفات:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فَإِنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى نَفْيِ عِلْمِ الْكَيْفِيَّةِ إذَا لَمْ يُفْهَمْ عَنْ اللَّفْظِ مَعْنًى ؛ وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إلَى نَفْيِ عِلْمِ الْكَيْفِيَّةِ إذَا أُثْبِتَتْ الصِّفَاتُ .
وَأَيْضًا : فَإِنَّ مَنْ يَنْفِي الصِّفَاتِ الْخَبَرِيَّةَ - أَوْ الصِّفَاتِ مُطْلَقًا - لَا يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَقُولَ بِلَا كَيْفٍ فَمَنْ قَالَ : إنَّ اللَّهَ لَيْسَ عَلَى الْعَرْشِ لَا يَحْتَاجُ أَنْ يَقُولَ بِلَا كَيْفٍ فَلَوْ كَانَ مَذْهَبُ السَّلَفِ نَفْيَ الصِّفَاتِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَمَا قَالُوا بِلَا كَيْفٍ . اهـ. (مجموع الفتاوى:5/41)
قال أيضا رحمه الله: وَلَا يُقَالُ حِينَئِذٍ بِلَا كَيْفٍ ؛ إذْ نَفْيُ الْكَيْفِ عَمَّا لَيْسَ بِثَابِتِ لَغْوٌ مِنْ الْقَوْلِ . اهـ. (مجموع الفتاوى:5/42)
3_ القول بالتفويض لم يعلم في القرون الثلاث
لم يعرف القول بالتفويض بهذا المعنى في القرون الثلاثة الأولى، والذي ينقل عنهم مخطئ لا دليل عنده
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وَهُمْ مُخْطِئُونَ فِيمَا نَسَبُوا إلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِلَى السَّلَفِ مِنْ الْجَهْلِ كَمَا أَخْطَأَ فِي ذَلِكَ أَهْلُ التَّحْرِيفِ وَالتَّأْوِيلَاتِ الْفَاسِدَةِ وَسَائِرُ أَصْنَافِ الْمَلَاحِدَةِ اهـ (مجموع الفتاوى:5/3
4_ جاء في أقوال السلف التصريح بإثبات الصفات.
قَالَ مَالِكٌ : إنَّ اللَّهَ فِي السَّمَاءِ وَعِلْمُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ " وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ " نَعْرِفُ رَبَّنَا فَوْقَ سَبْعِ سَمَوَاتِهِ عَلَى الْعَرْشِ بَائِنًا مِنْ خَلْقِهِ وَلَا نَقُولُ كَمَا قَالَتْ الْجَهْمِيَّة إنَّهُ هَهُنَا - وَأَشَارَ إلَى الْأَرْضِ " وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ : { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ } قَالَ : " عِلْمُهُ " قَالَ الشَّافِعِيُّ : إنَّهُ عَلَى عَرْشِهِ فِي سَمَائِهِ يَقْرُبُ مِنْ خَلْقِهِ كَيْفَ شَاءَ " قَالَ أَحْمَدُ : " إنَّهُ مُسْتَوٍ عَلَى الْعَرْشِ عَالِمٌ بِكُلِّ مَكَانٍ " وَإِنَّهُ يَنْزِلُ كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا كَيْفَ شَاءَ وَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَيْفَ شَاءَ (هذه الآثار ذكرها ابن تيمية في الفتاوى:4/181)
وقيل لمالك: {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5] كيف استوى؟ فقال مالك رحمه الله تعالى: (استواؤه معقول، وكيفيته مجهولة، وسؤالك عن هذا بدعة، وأراك رجل سوء) وهذا أثر مشهور معروف
رَوَى أَبُو بَكْرٍ البيهقي فِي " الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ " بِإِسْنَادِ صَحِيحٍ عَنْ الأوزاعي قَالَ : كُنَّا - وَالتَّابِعُونَ مُتَوَافِرُونَ - : نَقُولُ إنَّ اللَّهَ - تَعَالَى ذِكْرُهُ - فَوْقَ عَرْشِهِ وَنُؤْمِنُ بِمَا وَرَدَتْ فِيهِ السُّنَّةُ مِنْ صِفَاتِهِ . وَقَدْ حَكَى الأوزاعي - وَهُوَ أَحَدُ " الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ " فِي عَصْرِ تَابِعِ التَّابِعِينَ : الَّذِينَ هُمْ " مَالِكٌ " إمَامُ أَهْلِ الْحِجَازِ وَ " الأوزاعي " إمَامُ أَهْلِ الشَّامِ وَ " اللَّيْثُ " إمَامُ أَهْلِ مِصْرَ وَ " الثَّوْرِيُّ " إمَامُ أَهْلِ الْعِرَاقِ - حَكَى شُهْرَةَ الْقَوْلِ فِي زَمَنِ التَّابِعِينَ بِالْإِيمَانِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَوْقَ الْعَرْشِ وَبِصِفَاتِهِ السَّمْعِيَّةِ . وَإِنَّمَا قَالَ الأوزاعي هَذَا بَعْدَ ظُهُورِ مَذْهَبِ جَهْمٍ الْمُنْكِرِ لِكَوْنِ اللَّهِ فَوْقَ عَرْشِهِ وَالنَّافِي لِصِفَاتِهِ ؛ لِيَعْرِفَ النَّاسُ أَنَّ مَذْهَبَ السَّلَفِ خِلَافُ ذَلِكَ (قاله ابن تيمية في الفتاوى:5/39)
وعن عبد الله بن المبارك -رحمه الله تعالى - وقد صح عنه صحة قريبة من التواتر -أنه قيل له بماذا نعرف ربنا؟ قال: بأنه فوق سماواته على عرشه، بائن من خلقه.
وقال نعيم بن حماد الخزاعي: مَنْ شَبَّهَ اللَّهَ بِخَلْقِهِ فَقَدْ كَفَرَ وَمَنْ جَحَدَ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ فَقَدْ كَفَرَ وَلَيْسَ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ وَلَا رَسُولُهُ تَشْبِيهًا (راجع الفتاوى:5/110)
5_ ذم الله لمن لا يتدبر القرآن ويشمل ذلك الأسماء والصفات
وهذا أمر مهم أن قول هؤلاء فيه الطعن في السلف وأنهم يدخلون في ذم الله عز وجل لأن الله أمر بتدبر القرآن وذم من ترك التدبر قال تعالى: { أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا } النساء:82
وقال تعالى: { أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } محمد:24
6_ لا يمكن أن يكون السلف في هذا الباب لا يعلمون شيئا
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
..لأَنَّ مَنْ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى حَيَاةٍ وَطَلَبٍ لِلْعِلْمِ أَوْ نَهْمَةٍ فِي الْعِبَادَةِ يَكُونُ الْبَحْثُ عَنْ هَذَا الْبَابِ وَالسُّؤَالُ عَنْهُ وَمَعْرِفَةُ الْحَقِّ فِيهِ أَكْبَرَ مَقَاصِدِهِ وَأَعْظَمَ مَطَالِبِهِ ؛ أَعْنِي بَيَانَ مَا يَنْبَغِي اعْتِقَادُهُ لَا مَعْرِفَةُ كَيْفِيَّةِ الرَّبِّ وَصِفَاتِهِ . وَلَيْسَتْ النُّفُوسُ الصَّحِيحَةُ إلَى شَيْءٍ أَشْوَقَ مِنْهَا إلَى مَعْرِفَةِ هَذَا الْأَمْرِ . وَهَذَا أَمْرٌ مَعْلُومٌ بِالْفِطْرَةِ الوجدية فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ مَعَ قِيَامِ هَذَا الْمُقْتَضِي - الَّذِي هُوَ مَنْ أَقْوَى الْمُقْتَضَيَاتِ - أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنْهُ مُقْتَضَاهُ فِي أُولَئِكَ السَّادَةِ فِي مَجْمُوعِ عُصُورِهِمْ هَذَا لَا يَكَادُ يَقَعُ فِي أَبْلَدِ الْخَلْقِ وَأَشَدِّهِمْ إعْرَاضًا عَنْ اللَّهِ وَأَعْظَمِهِمْ إكْبَابًا عَلَى طَلَبِ الدُّنْيَا وَالْغَفْلَةِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى ؛ فَكَيْفَ يَقَعُ فِي أُولَئِكَ اهـ (مجموع الفتاوى:5/
بهذا تبين لنا بطلان المقدمة الأولى.
أما المقدمة الثانية وهي تصحيح عقيدة الخلف وأنها أحكم وأعلم فنقول:
1_ هذه المقدمة بنيت على المقدمة السابقة وقد بينا بطلان تلك المقدمة فبطلت هذه المقدمة.
2_ هذه مقالة متناقضة
لأن السلامة نتيجة، والعلم مقدمة، بمعنى أن العلم يورث السلامة، فإذا قيل: إن مذهب السلف أسلم لزم أن يكون مبنياً على علم صحيح.
وإذا قيل: إن مذهب الخلف أعلم.
لزم أن يكون أسلم؛ لأن من حقق العلم فقد أصاب السلامة في دينه، وأصاب مقصود الله ومراده سبحانه وتعالى.
أما القول بأن مذهب السلف أسلم، ومذهب الخلف أعلم وأحكم؛ فإن هذا تناقض