قال الشيخ أحمد بن عبد الرحمن بن قدامة المقدسي رحمه الله تعالى :
” اعلم: أن في الصوم خصيصة ليست فى غيره، وهى إضافته إلى الله عز وجل حيث يقول سبحانه: “الصوم لى وأنا أجزى به” 1 ، وكفى بهذه الإضافة شرفاً، كما شرَّف البيت بإضافته إليه فى قوله: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} [الحج: 26]. وإنما فضل الصوم لمعنيين:
- أحدهما: أنه سرّ وعمل باطن، لا يراه الخلق ولا يدخله رياء.
- الثاني: أنه قهر لعدو الله، لأن وسيلة العدو الشهوات، وإنما تقوى الشهوات بالأكل والشرب، وما دامت أرض الشهوات مخصبة، فالشياطين يترددون إلى ذلك المرعى، وبترك الشهوات تضيق عليهم المسالك.
وفى الصوم أخبار كثيرة تدل على فضله وهى مشهورة.
فى سنن الصوم
يستحب السحور، وتأخيره، وتعجيل الفطر، وأن يفطر على التمر. ويستحب الجود في رمضان، وفعل المعروف، وكثرة الصدقة، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم . ويستحب دراسة القرآن، والاعتكاف فى رمضان: لا سيما فى العشر الأواخر، وزيادة الاجتهاد فيه. وفى الصحيحين من حديث عائشة رضى الله عنها قالت: كان النبى صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر [يعنى الأخير]، شد مئزره، وأحيا الليل، وأيقظ أهله 2 . وذكر العلماء في معنى شد المئزر وجهين:
- أحدهما: أنه الإعراض عن النساء.
- الثاني: أنه كناية عن الجد والتشمير فى العمل.
قالوا: وكان سبب اجتهاده فى العشر طلب ليلة القدر.
بيان أسرار الصوم وآدابه
وللصوم ثلاث مراتب: صوم العموم، وصوم الخصوص، وصوم خصوص الخصوص:
فأما صوم العموم فهو كفّ البطن والفرج عن قضاء الشهوة.
وأما صوم الخصوص: فهو كف النظر، واللسان، واليد، والرِّجل، والسمع، والبصر، وسائر الجوارح عن الآثام.
وأما صوم خصوص الخصوص: فهو صوم القلب عن الهمم الدنيئة، والأفكار المُبعِدَة عن الله تعالى، وكَفّهُ عما سوى الله تعالى بالكُليّة، وهذا الصوم له شروح تأتى فى غير هذا الموضع.
فمن آداب صوم الخصوص: غض البصر، وحفظ اللسان عما يؤذى من كلام محرم أو مكروه، أو ما لا يفيد، وحراسة باقي الجوارح.وفى الحديث من رواية البخارى، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: ” من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ” 3 .
ومن آدابه: أن لا يمتلئ من الطعام في الليل، بل يأكل بمقدار، فإنه ما ملأ ابن آدم وعاءً شراً من بطن. ومتى شبع أول الليل لم ينتفع بنفسه فى باقيه، وكذلك إذا شبع وقت السحر لم ينتفع بنفسه إلى قريب من الظهر، لأن كثرة الأكل تورث الكسل والفتور، ثم يفوت المقصود من الصيام بكثرة الأكل، لأن المراد منه أن يذوق طعم الجوع، ويكون تاركاً للمشتهى.
فأما صوم التطوع، فاعلم أن استحباب الصوم يتأكد في الأيام الفاضلة، وفواضل الأيام بعضها يوجد فى كل سنة، كصيام ستة أيام من شوال بعد رمضان، وكصيام يوم عرفة، ويوم عاشوراء، وعشر ذي الحجة، والمحرم.
وبعضها يتكرر في كل شهر، كأوله، وأوسطه، وآخره، فمن صام أول الشهر وأوسطه وآخره فقد أحسن. غير أن الأفضل أن يجعل الثلاثة أيام البيض.
وبعضها يتكرر في كل أسبوع وهو يوم الاثنين، ويوم الخميس.
وأفضل صوم التطوع: صوم داود عليه السلام، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، وذلك يجمع الثلاثة معان:
- أحدها: أن النفس تعطى يوم الفطر حظها، وتستوفى فى يوم الصوم تعبدها، وفى ذلك جمع بين ما لها وما عليها، وهو العدل.
- والثاني: أن يوم الأكل يوم شكر، ويوم الصوم يوم صبر، والإيمان نصفان: شكر وصبر.
- والثالث: أنه أشق على النفس من المجاهدة، لأنها كلما أنِسَت بحالة نَقَلَت عنها.
فأما صوم الدهر: ففى أفراد مسلم من حديث أبي قتادة رضى الله عنه أن عمر رضي الله عنه سأل النبى صلى الله عليه وسلم فقال: كيف بمن يصوم الدهر كله؟ فقال: “لا صام ولا أفطر -أو- لم يصم ولم يفطر” 4 .
وهذا محمول على من سرد الصوم فى الأيام المنهي عن صيامها: فأما إذا أفطر يومي العيدين وأيام التشريق فلا بأس بذلك ؛ فقد روي عن هشام بن عروة رحمه الله : أن أباه كان يسرُد الصوم، وكانت عائشة رضى الله عنها تسرُد. وقال أنس بن مالك رضى الله عنه، سرد أبو طلحة الصوم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين عاماً.
واعلم: أن من رُزِقَ فطنة، عَلِمَ المقصود بالصوم، فحمّل نفسه قدر ما لا يعجزه عما هو أفضل منه. فقد كان ابن مسعود قليل الصوم، وكان يقول: إذا صمت ضعفت عن الصلاة وأنا أختار الصلاة على الصوم.
وكان بعضهم إذا صام ضعف عن قراءة القرآن، فكان يكثر الفطر حتى يقدر على التلاوة، وكل إنسان أعلم بحاله وما يصلحه ” انتهى
المصدر : مختصر منهاج القاصدين ، للشيخ العلامة أحمد بن عبد الرحمن بن قدامة المقدسي ، [ من صفحة 38 إلى 40 ]
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – البخاري ( 1904) و مسلم (1151)
2 – البخاري (2024) ومسلم (1174)
3- البخاري (1903)
4- مسلم (1162)