مسألة: صيام يوم السبت تطوعاً
عن الصماء بنت بسر أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: "لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افترض الله عليكم، إن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنبة أو عود شجر فليمضغه" أخرجه الترمذي.
[حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (6/36، والترمذي في كتاب الصوم باب النهي أن يخص يوم السبت بصوم، حديث رقم (744)، وأبو داود في كتاب الصوم باب النهي أن يخص يوم السبت بصوم، حديث رقم (2421)، وابن ماجه في كتاب الصيام باب ما جاء في صيام يوم السبت، حديث رقم (1726). والحديث قال عنه الترمذي: "هذا حديث حسن"، وحقق العلامة الألباني صحته في تحقيق جدير بالمطالعة لكثرة فوائده في "إرواء الغليل" (4/11، حديث رقم (960)].
والحديث يدل بظاهره على تحريم صيام يوم السبت في التطوع مطلقاً.
وجه الدلالة: أنه – صلى الله عليه وسلم – نهى عن صيام يوم السبت ثم خصص من النهي صيامه فيما "افترض الله" فبقي ما عدا محل التخصيص على التحريم.
وبيان ذلك: أن النهي عن صيام يوم السبت يشمل الصور التالية:
- صيام يوم السبت في الفرض.
- صوم يوم السبت مفرداً على وجه التخصيص.
- صوم يوم السبت مفرداً لا على وجه التخصيص.
- صوم يوم السبت مقترناً بيوم قبله أو بيوم بعده.
والحديث استثنى من النهي صوم السبت فيما افترض الله بقوله – صلى الله عليه وسلم – : "إلا فيما افترض الله"، وبقيت الصور الأخرى تحت النهي؛ فلا يجوز صيام يوم السبت لا مفرداً ولا مقترناً في غير ما افترض الله.
لكن هذه الدلالة جاء ما يعارضها؛ فقد ثبتت مشروعية صيام يوم السبت في غير ما افترض الله تعالى، من ذلك:
1- ما جاء في فضل صيام يوم عرفة ويوم عاشوراء.
عن أبي قتادة قال: "سئل [رسول الله – صلى الله عليه وسلم –] عن صوم يوم عرفة؟ فقال: يكفر السنة الماضية والباقية. وسئل عن صوم يوم عاشوراء؟ فقال: يكفر السنة الماضية" أخرجه مسلم.
[أخرجه مسلم في كتاب الصيام باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر، حديث رقم (1162)، وهو جزء من الحديث طويل. وانظر جامع الأصول (6/335)].
فهذا الحديث يدل على فضيلة صيام يوم عاشوراء ويوم الوقفة، ولا يخلو من أن يكون قد جاء في سنة من السنوات يوم الوقفة أو يوم عاشوراء يوم السبت، ولم ينقل أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – ترك صيامهما لأنهما جاءا في يوم السبت، كما لا أعلم ذلك عن السلف الصالح رضوان الله عليهم.
2- ما جاء في صيام الأيام البيض.
عن جرير بن عبدالله عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال : "صيام ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدهر، وأيام البيض صبيحة ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة" أخرجه النسائي.
[حديث حسن. أخرجه النسائي في كتاب الصيام باب كيف يصوم ثلاثة أيام من كل شهر (4/221). والحديث حسنه محقق جامع الأصول (6/329)، والألباني في صحيح سنن النسائي (2/508].
عن أبي ذر قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : "يا أبا ذر إذا صمت من الشهر ثلاثة أيام، فصم ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة" أخرجه الترمذي.
[حديث حسن. أخرجه الترمذي في كتاب الصوم باب ما جاء في صوم ثلاثة أيام من كل شهر، حديث رقم (761)، وأخرجه النسائي في كتاب الصيام باب ذكر الاختلاف على موسى بن طلحة في الخبر في صيام ثلاثة أيام من الشهر (4/222-224). والحديث حسنه الترمذي، ومحقق جامع الأصول (6/329)، والألباني في صحيح سنن النسائي (2/509)].
قلت: وصيام الأيام البيض لا يخلو أن يقع في شهر متضمناً ليوم السبت، ولم ينقل أن الرسول – صلى الله عليه وسلم – ترك صيامهما أو ترك صيام يوم منها، بل المنقول عنه عليه الصلاة والسلام "أنه كان لا يفطر أيام البيض في حضر ولا سفر" أخرجه النسائي.
[إسناده حسن عن ابن عباس. أخرجه النسائي في كتاب الصيام باب كيف يصوم ثلاثة أيام من كل شهر. والحديث حسنه ومحقق جامع الأصول (6/329)].
3- ما جاء في صوم يوم الجمعة.
عن جويرية بنت الحارث – رضي الله عنها – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة فقال: "أصمت أمس؟ قالت: لا. قال: تريدين أن تصومي غداً؟ قالت: لا. قال: أفطري" أخرجه البخاري.
[أخرجه البخاري في كتاب الصوم باب صوم يوم الجمعة، حديث رقم (1986)].
عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : "لا يصوم أحدكم يوم الجمعة إلا يوماً قبله أو بعده" أخرجه الشيخان.
[أخرجه البخاري في كتاب الصيام باب صوم يوم الجمعة، حديث رقم (1985)، ومسلم في كتاب الصيام باب كراهية صيام يوم الجمعة منفرداً، حديث رقم (1144). انظر جامع الأصول (6/359)].
والحديثان يدلان على أنه يكره إفراد يوم الجمعة بصيام لأنه – صلى الله عليه وسلم – لما علم أن جويرية لم تصم يوم الخميس، ولا تريد صيام يوم السبت، أمرها بالفطر، وحديث أبي هريرة نص في تحريم إفراد صيام يوم الجمعة، وجواز صيامه إذا قرن معه صوم يوم قبله أو يوم بعده.
[المغني (3/165-166)].
والحديث يدل على جواز صوم السبت مقترناً بيوم الجمعة.
وقد قال ابن خزيمة – رحمه الله – : "في أخبار النبي – صلى الله عليه وسلم – في النهي عن صوم يوم الجمعة إلا أن يصام قبله أو بعده يوماً دلالة على أنه قد أباح صوم يوم السبت إذا صام قبله يوم الجمعة أو بعده يوماً".
ثم قال بعد سياقه لحديث أبي هريرة – رضي الله عنه – : "فقد رخص رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في صوم يوم السبت إذا صام صائم يوم الجمعة قبله".
[صحيح ابن خزيمة (3/317-31].
4- ما جاء في صيام يوم السبت والأحد.
عن كريب قال: أرسلني ابن عباس وناس من أصحاب النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى أم سلمة: أي الأيام كان أكثرها صياما؟ قالت: يوم السبت والأحد. فأنكروا علي وظنوا أني لم أحفظ؛ فردوني. فقالت مثل ذلك فأخبرتهم؛ فقاموا بأجمعهم، فقالوا: إنا أرسلنا إليك في كذا وكذا فزعم هذا أنك قلت كذا وكذا. قالت: صدق، كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يصوم يوم السبت والأحد أكثر ما يصوم من الأيام، ويقول: "إنهما يوما عيد للمشركين فأنا أحب أن أخالفهم" أخرجه النسائي في الكبرى.
[حديث حسن. أخرجه أحمد في المسند (6/323-324)، وأخرجه النسائي في الكبرى (2/146) في كتاب الصيام باب صيام يوم الأحد، حديث رقم (2776)، وابن خزيمة (3/31 حديث رقم (2167)، وابن حبان (الإحسان 8/381) حديث رقم (3616). والحديث صححه ابن خزيمة وابن حبان، وقوى إسناده محقق الإحسان].
قلت: والحديث يدل على جواز صيام يوم السبت إذا صام المسلم يوم الأحد بعده.
وقد بوب ابن حبان – رحمه الله – على الحديث: "ذكر العلة التي من أجلها نهى عن صيام يوم السبت مع البيان بأنه إذا قُرن بيوم آخر جاز صومه".
[صحيح ابن حبان (الإحسان 8/381)].
والجمع بين هذه الأحاديث وبين حديث الصماء أن يقال: حديث الصماء دلّ على جواز صوم يوم السبت فيما افترض الله تعالى. ودلت تلك الأحاديث على جواز صوم يوم السبت مقترناً بيوم قبله أو يوم بعده، أو صومه دون تخصيص؛ فيبقى تحت النهي صورة الإفراد على وجه التخصيص، فلا يجوز صوم يوم السبت على هذه الصورة.
فالمخصص المتصل أخرج من النهي صورة صيام يوم السبت فيما افترض الله.
والمخصص المنفصل أخرج من النهي صورة صيام يوم السبت مقترناً بيوم قبله أو يوم بعده، أو منفرداً بدون قصد تخصيص.
فلم يبق تحت دائرة النهي إلا صورة النهي عن صيام يوم السبت منفرداً على وجه التخصيص.
قال ابن قدامة – رحمه الله – : "المكروه إفراده، فإن صام معه غيره لم يكره لحديث أبي هريرة وجويرية".
[المغني (3/166)].
وقد قال أبو داود عن حديث الصماء: "هذا الحديث منسوخ".
[سنن أبي داود (2/806)].
ولعل وجه القول بالنسخ ما ذكره ابن حجر – رحمة الله عليه – بعد أن ذكر قول أبي داود بالنسخ؛ قال: "يمكن أن يكون أخذه من كونه – صلى الله عليه وسلم – كان يحب موافقة أهل الكتاب في أول الأمر ثم في آخر أمره قال: خالفوهم. فالنهي عن صوم يوم السبت يوافق الحالة الأولى، وصيامه إياه يوافق الحالة الثانية، وهذه صورة النسخ والله أعلم" اهـ.
[التلخيص الحبير (2/216-217)].
قلت: القول بالنسخ لا دليل عليه، ولا يصار إليه لمجرد التعارض مع إمكان الجمع، خاصة وأن الأصل عدم النسخ.
والجمع ممكن بما قدمته لك.
ولا يقال: يجمع بين النصوص بتقديم الحاظر على المبيح أو بتقديم القول على الفعل؛ لا يقال ذلك؛ لأن هذا مصير إلى الترجيح مع إمكان الجمع.
وفرق بين الترجيح والجمع.
فالترجيح يحصل فيه العمل بدليل واحد وطرح الآخر.
والجمع يحصل فيه العمل بالدليلين دون طرح أحدهما بالكلية.
فتقديم الحاظر على المبيح من طرق الترجيح، وليس من باب الجمع، وكذا تقديم القول على الفعل؛ تأمل.
وإذا تقرر ذلك، فاعلم أنه لا يصار إلى الترجيح مع إمكان الجمع.
ومما يرجح ذلك الأمور التالية:
1- أنه عُهد من الشارع النهي عن تخصيص أيام معلومة بالصوم على الإفراد، وجوازه في حال الاقتران، أو حال لا يراد به التخصيص.
كالنهي عن صيام يوم الجمعة.
وكالنهي عن أن يتقدم رمضان بصوم يوم ولا يومين، عن أبي هريرة – رضي الله عنه – : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : "لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين إلا أن يكون رجل كان يصوم صومه فليصم ذلك اليوم" متفق عليه.
[أخرجه البخاري في كتاب الصوم باب لا يتقدم رمضان بصوم يوم ولا يومين، حديث رقم (1914)، ومسلم في كتاب الصيام باب لا تتقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين، حديث رقم (1082). انظر جامع الأصول (6/354)].
2- أن هذه الطريقة منقولة عن جمهور السلف والخلف.
قال الترمذي – رحمه الله – : "ومعنى كراهته في هذا أن يخص الرجل يوم السبت بصيام؛ لأن اليهود تعظم يوم السبت" اهـ.
[سنن الترمذي (3/120)].
وتقدم معك كلام ابن خزيمة – رحمه الله –، وتلميذه أبي حاتم ابن حبان – رحمه الله –.
قال الوزير يحيى بن محمد بن هبيرة – رحمه الله – : "اتفقوا على أنه يكره إفراد يوم الجمعة أو يوم السبت بصوم، إلا أن يوافق عادة. وعن أبي حنيفة – في قول – : لا يكره. وقال مالك: يكره إفراد يوم الجمعة خاصة.
وقد روى المزني عن الشافعي أنه قال: لا يتبين لي أن أنهى عن صيام يوم الجمعة إلا على الاختيار، لمن كان إذا صامه منعه عن الصلاة التي لو كان مفطراً لفعلها" اهـ.
[الإفصاح (1/252). وما نقله عن مالك فيه نظر، انظر الكافي صفحة (129)].
3- ولأن الجمع مقدم على النسخ والترجيح. ولأنه لا يصار إلى القول بالنسخ أو القول بالترجيح لمجرد التعارض مع إمكان الجمع.
4- أنه قد جاءت رواية للحديث تدل على هذا الجمع وهي وإن كانت ضعيفة إلا أنها لا تنزل عن درجة الاعتبار ويشهد لمعناها الأحاديث السابقة التي تدل على جواز صيام يوم السبت مقترناً بصوم يوم قبله أو بعده.
أخرج الإمام أحمد في مسنده: "حدثنا يحيى بن إسحاق قال: أخبرنا ابن لهيعة قال: أخبرنا موسى بن وردان قال: عن عبيد الأعرج قال: حدثتني جدتي: أنها دخلت على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وهو يتغذى، وذلك يوم السبت، فقال: تعالي فكلي. فقالت: إني صائمة. فقال لها: صمت أمس؟ فقالت: لا. قال: فكلي، فإن صيام يوم السبت لا لك ولا عليك".
[مسند أحمد (6/36. والحديث في سنده ابن لهيعة، وعبيد الأعرج هذا لم أعرفه].
فهذا الحديث – وإن كان من طريق من لا يحتمل تفرده إلا أنه – مما يصحح ذلك الوجه من الجمع، وتلك الأحاديث تقويه؛ إذ كلها يصدّق بعضها بعضاً، والمراد منها متفق.
[تهذيب مختصر السنن (3/299)].
قال ابن القيم الجوزية – رحمه الله – : "وعلى هذا: يكون معنى قوله – صلى الله عليه وسلم – "لا تصوموا يوم السبت" أي: لا تقصدوا صومه بعينه إلا في الفرض؛ فإن الرجل يقصد صومه بعينه، بحيث لو لم يجب عليه إلا صوم يوم السبت، كمن أسلم ولم يبق من الشهر إلا يوم السبت، فإنه يصومه وحده.
وأيضا فقصده بعينه في الفرض لا يكره، بخلاف قصده بعينه في النفل؛ فإنه يكره. ولا تزول الكراهة إلا بضم غيره إليه أو موافقته عادة، فالمزيل للكراهة في الفرض مجرد كونه فرضاً، لا المقارنة بينه وبين غيره. وأما في النفل فالمزيل للكراهة ضم غيره إليه، أو موافقته عادة، ونحو ذلك".
[نهذيب السنن (3/299-300)].
هذا، والله أعلم.
[كتاب: (الترجيح في مسائل الصوم والزكاة) للشيخ د. محمد عمر سالم بازمول، صفحة (88-95) طبعة دار الهجرة ودار ابن عفان]