بسم الله الرحمن الرحيم
الرد على المخالف من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر
احتجت إلى أن أؤصل لبحثى بهذا الفصل ، لأن بعض ضعفاء النفوس وقليلى العلم تضيق صدورهم عند مطالعة الردود ، ظنا منهم أن ذلك أقرب إلى الورع وصيانة أعراض المسلمين .
وإطلالة سريعة على تاريخ العلماء تنبيك على انه لم يخل عصر من العصور من الرد على المخالف ، ولو كان من خيرة المسلمين
ولما كان جل الأجزاب الاسلامية يعمل على وأد ما يسمى ( بالنقد الذاتى ) وإجهاض الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وإخلاء أعظم ثغور المسلمين من مرابط ، بحجة الستر على المسلمين تارة وجمع الكيد للكافرين تارة أخرى وغيرها من الحج العاطفية التى تجعل العقول تتخطف من أصحابها فى زمن الوهن العلمى ، كان لابد من رد الحق إلى نصابه ( ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حى عن بينة ) .
" والذين يلوون ألسنتهم باستنكار نقد الباطل وإن كان فى بعضهم صلاح وخير ولكنه الوهن وضعف العزائم حينا ، وضعف إدراك مدارك الحق والصواب أحيانا بل فى حقيقته من التولى يوم الزحف عن مواقع الحراسة لدين الله والذب عنه ، وحينئذ يكون الساكت عن كلمة الحق كالناطق بالباطل فى الإثم ، قال أبو على الدقاق : " الساكت عن الحق شيطان أخرس ، والمتكلم بالباطل شيطان ناطق ) .
والنبى صلى الله عليه وسلم يخبر بإفتراق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة ، والنجاة منها لفرقة واحدة على منهاج النبوة ، أيريد هؤلاء اختصار الأمة إلى فرقة وجماعة واحدة مع قيام التمايز العقدى المضطرب ؟!
أم أنها دعوة إلى وحدة تصدع كلمة التوحيد ؟! فاحذروا !
وما حجتهم إلا المقولات الباطلة :
لا تصدعوا الصف من الداخل !
لا تثيروا الغبار من الخارج !
لا تحركوا الخلاف بين المسلمين !
( نلتقى فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه ! ) وهكذا .
وأضعف الإيمان أن يقال لهؤلاء : هل سكت المبطلون لنسكت ، أم أنهم يهاجمون الاعتقاد على مرأى ومسمع ، ويطلب السكوت ؟ اللهم لا .... ونعيذ بالله كل مسلم من تسرب حجة اليهود ، فهم مختلفون على الكتاب ، ومخالفون للكتاب ، ومع هذا لا يظهرون الوحدة والاجتماع ، وقد كذبهم الله تعالى فقال سبحانه وتعالى : ( وتحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ) ، وكان من أسباب لعنتهم ما ذكره الله بقوله : ( كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه ) .
" ولهذا فإذا رأيت من رد على مخالف فى شذوذ فقهى أو قول بدعى ، فأشكر له دفاعه بقدر ما وسعه .
ولا تخذله بتلك المقولة المهينة " لماذا لا يرد على العلمانيين ؟! " .
فالناس قدرات ومواهب ، ورد الباطل واجب مهما كانت رتبته ، وكل مسلم على ثغر من ثغور ملته " .
وأصل هذا الباب النصوص الواردة فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر كقوله تعالى : ( ولتكن منكم أمة يدعون على الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ) .، قال ابن تيمية : " والأمر بالسنة والنهى عن البدعة هو أمر بمعروف ونهى عن منكر ، وهو من أفضل الأعمال الصالحة " .
ولا ينبغى للجماعات الإسلامية اليوم أن تضيق صدورها بالنقد ، لأنه من القيام بالقسط والشهادة لله للذين أمرنا بهما ولو مع أنفسنا وأهل ملتنا كما قال تعالى : ( يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا ) واللى هو الكذب ، والإعراض هو الكتمان كما قال ابن تيمية فكيف يطيب لمؤمن دعوة مع كتمان الأخطاء تسترا بالمجاملات السياسية بعد هذا ؟!
ولاشك أن الغيرة التى أودعها الله فى قلب كل مؤمن على محارمه هى التى تحركه إلى القيام بهذا الواجب ، كما قال النبى صلى الله عليه وسلم : " إن الله تعالى يغار ، وإن المؤمن يغار ، وغيرة الله أن يأتى المؤمن ما حرم الله عليه " .
وإذا كان كلما أراد المؤمن أن يقوم المسار قيل له : ليس ذا الوقت والكفار متربصون !
فمتى يعرف أخطاءه ؟ ومتى يحجم عنها ؟ ومتى يصح المريض ويقوى الضعيف ؟ وقد روى أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن مرآة المؤمن ، والمؤمن أخو المؤمن ، يكف عليه ضيعته ، ويحوطه من ورائه " .
وليس من الموالاة للمؤمنين فى شئ أن تنصر أخاك ظالما أو مظلوما " ، قيل : يا رسول الله ! هذا ننصره مظلوما ، فكيف ننصره ظالما ؟ قال : " تحجزه أو تمنعه من الظلم " وفى رواية لمسلم من طريق جابر بلفظ : " إن كان ظالما فلينهه ، فإنه له نصر " .
قال ابن تيمية فى هذا المعنى : " ويجب عقوبة كل من انتسب إليهم أو ذب عنهم أو أثنى عليهم أو عظم كتبهم أو عرؤف بمساعدتهم ومعاونتهم أو كره الكلام فيهم أو أخذ يعتذر لهم ، بأن هذا الكلام لا يدرى ما هو ؟ أو من قال إنه صنف هذا الكتاب ؟
وأمثال هذه المعاذير التى لا يقولها إلا جاهل أو منافق ، بل تجب عقوبة كل من عرف حالهم ولم يعاون على القيام عليهم ، فإن القيام على هؤلاء من أعظم الواجبات لأنهم أفسدوا العقول والأديان على خلق من المشايخ والعلماء والملوك والأمراء ، وهم يسعون فى الأرض فسادا ويصدون عن سبيل الله " .
وفى الرد على المخالف دفاع عن الاسلام من جبهتين :
" الأولى : الخطر الخارجى وهو الكافر المتحمض الذى يعرف نور الاسلام بما يكيده للإسلام والمسلمين من غزو يحطم فى مقاوماتهم العقدية والسلوكية والسياسية والحكمية ...
والثانية : مواجهة التصدع الداخلى فى الأمة بفشو فرق ونحل طاف طائفها فى أفئدة شباب الأمة ... إذ التصدع الداخلى تحت لباس الدين يمثل انكسارا فى رأس المال : المسلمين ، وقد كان للسالكين فى ضوء الكتاب والسنة – الطائفة المنصورة – الحظ الوافر والمقام العظيم فى جبر كسر المسلمين بردهم إلى الكتاب والسنة وذلك بتحطيم ما قامت عليه تلك الفرق المفرقة من مآخذ باطلة فى ميزان الشرع " .
ومن ضنائن العلم ما قرأته لابن تيمية فى التمييز بين معاملة الخوارج ومعاملة الكفار ، وهو يرفع اللبس المتبادر إلى الأذهان الكليلة من بعض الأحاديث التى يظهر منها ان الخوارج شر من الكفار مطلقا مع أن الصحابة لم يكفروهم ، قال رحمه الله : " وما زالت سيرة المسلمين على هذا ، ما جعلوهم مرتدين كالذين قاتلهم الصديق رضى الله عنه ، هذا مع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتالهم فى الأحاديث الصحيحة وما روى من أنهم " شر قتلى تحت أديم السماء خير قتيل من قتلوه " فى الحديث الذى رواه أبو أمامة ، رواه الترمذى وغيره أى أنهم شر على المسلمين من غيرهم ، فإنهم لم يكن أحد شرا على المسلمين منهم : لا لليهود ولا النصارى ، فإنهم كانوا مجتهدين فى قتل كل مسلم لم يوافقهم مستحلين لدماء المسلمين واموالهم وقتل اولادهم ، مكفرين لهم ، وكانوا متدينين بذلك لعظم جهلهم وبدعتهم المضلة ... " .
أى أن الخوارج أقل جريمة من الكفار فى الميزان العام الخير ، يكفى أنهم " من الكفر فروا " لكن بالنسبة لما يعانى منهم المسلمون وما يوقعون بهم من المحن والبلايا أعظم شرا من الكفار ، بل لا يخلص الكفار إلى المسلمين كما يخلص إليهم هؤلاء ، ولذلك قد تقدم عقوبتهم فى الدنيا قبل غيرهم ، وتأمل فقه ابن تيمية حين قال بعد كلامه السابق بصفحتين : " والعقوبة فى الدنيا تكون لدفع ضرره عن المسلمين ، وإن كان فى الآخرة خيرا ممن لم يعاقب ، كما يعاقب المسلم المتعدى للحدود ولا يعاقب أهل الذمة من اليهود والنصارى ، والمسلم فى الآخرة خير منهم " .
فاحفظ هذا ، وعض عليه بالنواجذ تتهاوى بين يديك عساكر الباطل المعطلة لمجاهدة البدع وأهلها ، كأولئك القائلين :
" توجهون سهامكم إلى إخوانكم والعلمانيون والشيوعيون أنشط ما يكونون فى نشر الخلافات بينكم ؟! " .
قال ابن تيمية : " إذ تطهير سبيل الله ودينه ومنهاجه وشرعته ودفع بغى هؤلاء وعدوانهم على ذلك واجب على الكفاية بإتفاق المسلمين ، ولولا من يقيمه الله لدفع ضرر هؤلاء لفسد الدين ، وكان فساده أعظم من فساد استيلاء العدو من اهل الحرب ، فإن هؤلاء إذا استولوا لم يفسدوا القلوب وما فيها من الدين إلا تبعا ، وأما أولئك فهم يفسدون القلوب ابتداء ، وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم : " إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم " ...
لماذا عنيت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين
بالرد على الفرق المنحرفة كالطرق الصوفية أكثر
من عنايتها بالرد على الإلحاد ، مع وجود الاستعمار
الفرنسى ؟
هذه شبهة ترد كثيرا على لسان من لم يتضلع بمنهج السلف يجيب عنها الشيخ محمد البشير الإبراهيمى رحمه الله بقوله :" وإنك لا تبعد إذا قلت : إن لقشو الخرافات وأضاليل الطرق بين الأمة اثرا كبيرا فى فشو الإلحاد بين أبنائها المتعلمين تعلما أوربا والجاهلين بحقائق دينهم ، لأنهم يحملون من الصغر فكرة ان هذه الأضاليل الطرقية هى الدين ، وأن أهلها هم حملة الدين ، فإذا تقدم بهم العلم والعقل لم يستسغها منهم علم ولا عقل ، فأنكروها حقا وعدلا وأنكروا معها الذين ظلما وجهلا ، وهذه إحدى جنايات الطرقية على الدين .
أرأيت أن القضاء على الطرقية قضاء على الإلحاد فى بعض معانيه وحسم لبعض أسبابه ؟!
وقد قرأت فى هذه الأيام لكاتب تونسى مقالا ينعى فيه على جمعية العلماء إهمالها لهذه الجهة من جهات الفساد وهى الإلحاد ، واعتذر عن علماء جامع الزيتونة بأنهم وإن قعدوا فى نواحى الإصلاح التى تخب فيها جمعية العلماء وتضع – قاموا فى حرب الإلحاد بما شكرهم عليه ، ولكنه خصر عملهم فى هذا السبيل فى خطب جمعية ينددون فيها بالإلحاد ويحذرونه ،وفات هذا الكاتب الفاضل أن جمعية العلماء لم تسكت عن الإلحاد ،ة بل هاجمته فى أمنع معاقله ، ونازلته فى أضيق ميادينه ،كما فاته أن صرعى الإلحاد لا يغشون المساجد ، فما تأثير الخطب الجمعية التى تلقى على المصلين ؟
وهل يداوى المريض بتحذير الأصحاء من المرض أو أسباب المرض ؟
إلا أن العالم المرشد كالطبيب لا ينجح فى إنقاذ المريض من الموت إلا بغشيان مواقع الموت ومباشرة جراثيم الموت " .
فالله أكبر ما أقوى المنهج السلفى ! وما أبخس الأحزاب لقدره !
إذن فمواجهة هؤلاء حماية لديار المسلمين من أن تغتال من تحتها ، بجهاد المنافقين الذين يتسللون الصفوف لواذا ، قال تعالى : (يأيها النبى جاهد الكفار والمنافقين ) ، قال ابن القيم : " وكذلك جهاد المنافقين إنما هو تبليغ الحجة .. " إلى أن قال : " فجهاد المنافقين أصعب من جهاد الكفار وهو جهاد خواص الأمة وورثة الرسل . والقائمون به أفراد فى العالم ، والمشاركون فيه والمعونون عليه – وإن كانوا هم الأقلين عددا – فهم الأعظمون عند الله قدرا .. " .
ولما كان هؤلاء منضوين تحت صفوف المسلمين ، فإن أمرهم قد يخفى على كثير من الناس ، فكان بيان حالهم – لمن ولاؤنا لهم فرض علينا – أكد ، ولذلك قال ابن تيمية : " وإذا كان أقوام ليسوا منافقين ولكنهم سماعون للمنافقين ، قد التبس عليهم أمرهم حتى ظنوا قولهم حقا ، وهو مخالف للكتاب ، وصاروا دعاة إلى بدع المنافقين ،كما قال تعالى : ( لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم ) فلابد من بيان حال هؤلاء بل الفتنة بحال هؤلاء أعظم فإن فيهم إيمانا يوجب موالاتهم وقد دخلوا فى بدع من بدع المنافقين التى تفسد الدين فلا بد من التحذير من تلك البدع وإن اقتضى ذلك ذكرهم وتعينهم بل لو لم يكن قد تلقوا تلك البدعة عن منافق لكن قالوها ظانين أنها هدى وانها خير وانها دين ولو لم تكن كذلك لوجب بيان حالهم " .
واما مواجهتهم من الخارج فلأن العدو لا يدخل عليك بيتك إلا إذا كانت منافذه مفتوحة أو ضعيفة والفرق الاسلامية المنحرفة عن الناجية هم منافذ الكفار وهل يجهل المسلمون أثر المتصوفة فى استعمار البلاد الاسلامية وإعانتهم الكفار على ذلك ؟
وقد قال ابن تيمية فى الشيعة الروافض : " وهم يستعينون بالكفار على المسلمين وقد رأينا ورأى المسلمون أنه إذا ابتلى المسلمون بعدو كافر كانوا معه على المسلمين ، كما جرى لجنكزخان ملك التتر الكفار ، فإن الرافضة أعانته على المسلمين .
وأما إعانتهم لهولاكو ابن ابنه لما جاء على خراسان والعراق والشام فهذا أظهر وأشهر من أن يخفى على احد ، فكانوا بالعراق وخراسان من أعظم انصاره ظاهرا وباطنا ، وكان وزير الخليفة ببغداد الذى يقال له ابن العلقمى منهم ، فلم يزل يمكر بالخليفة والمسلمين ، ويسعى بقطع أرزاق عسكر المسلمين وضعفهم وينهى عن قتالهم ويكيد انواعا من الكيد ، حتى دخلوا فقتلوا من المسلمين ما يقال : إنه بضعة عشر ألف ألف إنسان أو اكثر أو أق ... ولما انكسر المسلمون سنة غازان أخذوا الخيل والسلاح والأسرى وباعوهم للكفار النصارى بقبرص وأخذوا من مر بهم من الجند ، وكانوا أضر على المسلمين من جميع الأعداء ..."
قلت : ولذلك كان أئمتنا أفقه من أن يداهنوا المنحرفين عن منهج السلف ، بل رأوا جهادهم اكبر الجهادين ، كما قال يحيى بن يحيى شيخ البخارى ومسلم : " الذب عن السنة أفضل من الجهاد " ، رواه الهروى بسنده إلى نصر بن زكريا قال سمعت محمد بن يحيى الذهلى يقول سمعت يحيى بن يحيى يقول : " الذب عن السنة أفضل من الجهاد فى سبيل الله ، قال محمد قلت ليحيى : الرجل ينفق ماله ويتعب نفسه ويجاهد ، فهذا أفضل منه ؟! قال : نعم بكثير " .
وقال الحميدى شيخ البخارى : " والله! لأن أغزوا هؤلاء الذين يردون حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلى أن أغزوا عدتهم من الأتراك " ، ويعنى بالأتراك : الكفار .
وقد وجدت مثل هذا عند من هو أعلى طبقة من الحميدى ، قال عاصم بن شميخ : فرأيت أبا سعيد- يعنى الخدرى – بعد ما كبر ويداه ترتعش يقول " قتالهم – أى الخوارج – أجل عندى من قتال عدتهم من الترك " .
قلت : ولذلك قال ابن هبيرة فى حديث أبى سعيد فى قتال الخوارج : " وفى الحديث أن قتال الخوارج أولى من قتال المشركين ، والحكمة فيه أن قتالهم حفظ رأس مال الإسلام وفى قتال أهل الشرك طلب الربح ، وحفظ رأس المال أولى " .
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام : " المتبع للسنة كالقابض على الجمر ، وهو اليوم عندى أفضل من الضرب بالسيوف فى سبيل الله " .
وقال ابن القيم : " والجهاد بالحجة واللسان مقدم على الجهاد بالسيف والسنان " .
استعمال الشدة فى الانكار على المبتدعة لا يعنى الولاء للكفار
إن الأصل فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر اللين والرفق كما قال الله تعالى : ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هى أحسن ) ، وقال لموسى وهارون صلى الله عليهما وسلم : ( اذهبا إلى فرعون إنه طغى . فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى " وعن عائشة زوج النبى صلى الله عليه وسلم قال : " إن الرفق لا يكون فى شئ إلا زانه ، ولا ينزع من شئ إلا شأنه " .
لكن إذا كان المنكر لا يغير إلا بنوع من الخشونة فلا بأس باستعماله ، ولو كان مع المسلمين ، ألا ترى أن الله أباح القتال لذلك ، وليس فوق القتال خشونة ، فقال سبحانه : ( وإن طائفتان من أمر المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتوا التى تبغى حتى تفئ إلى أمر الله ) .
وقد يشتد المؤمن فى إنكاره على اخيه أكثر من مع عدوه ، ألم تر كيف لأن موسى صلى الله عليه وسلم مع فرعون ، واشتد على أخيه هارون صلى الله عليه وسلم حتى كان منه ما قصة الله تعالى بقوله : ( وأخذ برأس أخيه يجره إليه ) ، فهل لأحد ان يحتج عليه بالولاء والبراء متهما له بأنه يبسط لسانه ويده على أخيه ويلطف بالطواغيت ؟!
بل ربما كان النبى صلى الله عليه وسلم يعنف العلماء وأصحابه إذا اخطأوا أكثر من غيرهم وخذ على سبيل المثالب قوله لمعاذ حين أطال الصلاة بالناس : " أفتان أنت يا معاذ ؟! " ويقابله تلطفه بالأعرابى الذى بال فى المسجد كما قال صحيح البخارى وغيره .
وقال لأسامة بن زيد حين قتل فى المعركة مشركا بعد ان نطق بكلمة التوحيد : " يا أسامة ! أقتله بعدما قال : لا إله إلا الله ؟!" قال أسامة : " فما زال يكررها حتى تمنيت أنى لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم " .
وقد استفاد أسامة من هذا التعنيف فى النصح أيام الفتنة التى كانت بعد مقتل عثمان رضى الله عنه ، فأورثه تورعا عن دماء المسلمين ، قال الذهبى رحمه الله : " انتفع أسامة من يوم النبى صلى الله عليه وسلم ، إذ يقول له : ( كيف بلا إله إلا الله يا أسامة ؟!" فكف يده ، ولزم بيته ، فأحسن " .
قلت : الله أكبر ! ما أعظم التربية النبوية! وما أحقر التربية الحزبية ! يوم أن حرمت أصل ( الرد على المخالف ) وأبناؤها لا يتورعون عن دماء المسلمين ، اتخذوها هدرا باسم الجهاد ، ولا تكاد تقوم فتنة إلا وهم وقودها أو موقدها .
هذه نتيجة مداهنة بعضهم بعضا لؤهم الاشتغال بالكفار !! ولذلك قال ابن تيمية : " المؤمن للمؤمن كاليدين تغسل إحداهما الأخرى ،وقد لا ينقلع الوسخ إلا بنوع من الخشونة ، لكن ذلك يوجب من النظافة والنعومة ما نحمد معه ذلك التخشين " .
إذن فهذا اللين الذى تستعمله كثير من الجماعات الاسلامية مع أفراد أو جماعات من حمقى المتهورين – الذين كثيرا ما يتسببون فى استعداد الأعداء على المسلمين – ليس من الولاء فى شئ لأنه يزيدهم إغراقا فى ضلالهم لعدم شعورهم بعظم الجناية . ثم إن الشدة المسلوكة مع المسلمين أحيانا ، باعثها الغيرة عليهم من ان يروا ملطخين بشئ من القاذورات والسعى فى تمتيين الصف وسد خروقه حتى لا يؤتى من قبله ، فليعلم .
ولهذا قال العلامة عبد العزيز بن باز تحت عنوان : " الأدلة الكاشفة لأخطاء بعض الكتاب " : " ولا شك أن الشريعة الإسلامية الكاملة جاءت بالتحذير من الغلو فى الدين ، وأمرت بالدعوة إلى سبيل الحق بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتى هى أحسن ، ولكنها لم تمهل جانب الغلظة والشدة فى محلها حيث لا ينفع اللين والجدال بالتى هى أحسن ، كما قال سبحانه : (يأيها النبى جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ) وقال تعالى : ( يأيها الذين ءامنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين ) وقال تعالى : ( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتى هى أحسن إلا الذين ظلموا منهم ) ، أما إذا لم ينفع واستمر صاحب الظلم أو الكفر أو الفسق فى عمله ولم يبال بالواعظ والناصح ، فإن الواجب الأخذ على يديه ومعاملته بالشدة وإجراء ما يستحقه من إقامة حد أو تعزيز أو تهديد أو توبيخ حتى يقف عند حده وينزجر عن باطله " .
مع أن الذى يظهر فى مجاملات الأحزاب الاسلامية لأهل البدع والسكوت عن أخطائهم هو أنهم لما حصروا طريق عودة عز المسلمين فى صندوق الانتخابات ستذمروا من النقد ، لأنه ربما أتلف لهم الأصوات ، وهكذا السيئة تتبعها أخوات .
وهذا ومن أجل أن الله فرض علينا قدرا وجود المخالف – الذى يحسب على الإسلام – سلكنا طريق التصفية ، لأن الله فرض علينا شرعا الرد عليه ، كما بينته فى هذا الأصل .
ومن أجل أن الله كتب الرفعة لأهل العلم والتعليم – كما بينته فى الأصلين الذين قبل هذا – سلكنا طريق التربية ، وشرحه يأتى فى الورقات الآتية .
من كتاب ست درر من أصول أهل الأثر لفضيلة الشيخ عبد المالك بن أحمد المبارك رمضاني الجزائري