إسعاد الصُّحبة بأن السلف الصالح على أن للعيد خطبتين لا خطبة
الحمد لله القوي المتين، المؤمن المهيمن، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وهادياً إلى الحق المبين، وعلى آله وأصحابه الراشدين المتقين، ومن تبعه وتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، أيها القارئ السُّنِّي اللبيب - سدَّدك الله وزادك هدى -:
فهذه وريقات فقهية في تثبيت ما مشى عليه أسلافنا الماضون -رحمهم الله تعالى - في شأن العيد، وأن له خطبتين يُفصَل بينهما بجلوس لا خطبة واحدة.
وأسأل الله تعالى أن ينفع بها، وأن يجعلها أجرًا وفقهًا وأُنسًا للكاتب والقارئ والناشر، إنه جواد كريم.
وسوف يكون الكلام عن هذه المسألة في ثلاثة فروع:
الفرع الأول / عن أقوال أهل العلم في تقرير جريان العمل على الخطبتين.
أولاً: قال ابن حزم الأندلسي - رحمه الله- في كتابه "المحلى"(3/ 543 - مسألة:543):
فإذا سلَّم الإمام قام فخطب الناس خطبتين يجلس بينهما جلسة، فإذا أتـمَّها افترق الناس، فإن خطب قبل الصلاة فليست خطبة، ولا يجبُ الإنصات له، كلُّ هذا لا خلاف فيه إلا في مواضع نذكرها إن شاء الله تعالى.اهـ
ثم لم يذكر بعد ذلك خلافـًا في الخطبتين.
فإذا لم يكن خلاف بين مَن تقدَّمنا من أهل العلم في الخطبتين، وأجمعوا عليهما، فينبغي أن لا يكون بيننا، والأسلم لنا متابعتهم واتخاذهم في ذلك قدوة.
ثانيـًا: قال جمال الدين ابن عبد الهادي الحنبلي -رحمه الله- في كتابه "مغني ذوي الأفهام" (7/ 350 مع شرحه "غاية المرام" للعبيكان):
وإذا فرغ من الصلاة يخطب (و) خطبتين كالجمعة.اهـ
قال شارحه الشيخ عبد المحسن العبيكان -سدَّده الله-:
ش: فإذا سلَّم من الصلاة خطبهم خطبتين، وأشار المؤلف إلى أن ذلك باتفاق الأربعة.اهـ
وذلك لأن الواو (و) في كتب الحنابلة -رحمهم الله- تعني: اتفاق مذهبهم مع المذاهب الثلاثة في حكم المسألة.
ثالثـًا: قال العلامة محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله - في كتابه "الشرح الممتع"(5/ 145):
هذا ما مشى عليه الفقهاء - رحمهم الله - أن خطبة العيد اثنتان...اهـ
رابعـًا: قال الإمام عبد العزيز بن عبد الله بن باز -رحمه الله- كما في كتاب "مسائل الإمام ابن باز"(ص:82 ـــ تقييد وجمع: عبد الله بن مانع):
العلماء ألحقوا العيد بالجمعة في الخطبتين، فلا ينبغي العدول عنه.اهـ
وقال أيضاً:
وتتابع العلماء على ذلك.اهـ
وقال أيضاً كما في "فتاوى نور على الدرب"(13/ 364):
خطبة العيد خطبتان، يخطب خطبتين كالجمعة، هكذا قال أهل العلم.اهـ
الفرع الثاني / عن الآثار التي تؤكد جريان العمل في زمن السلف الصالح على الخطبتين.
أولاً: أثر عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود -رحمه الله -.
فقد قال الإمام ابن قدامة -رحمه الله- في كتابه "الـمُغني"(2/ 239):
وقال سعيد - يعني: ابن منصور في"سننه"-:
حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن عن أبيه عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: (( يكبر الإمام على المنبر يوم العيد قبل أن يخطب تسع تكبيرات، ثم يخطب، وفي الثانية سبع تكبيرات )).اهـ
وهذا إسناد صحيح.
و(عبيد الله) هذا، قد قال عنه الحافظ ابن عبد البر - رحمه الله - في كتابه "التمهيد"(9/ 7):
يُكنى أبا عبد الله، كان أحد الفقهاء العشرة ثم السبعة الذين عليهم كانت الفتوى تدور بالمدينة، وكان عالماً فاضلاً، مقدماً في الفقه.اهـ
وقال الحافظ ابن حبان-رحمه الله - في كتابه "الثقات"(5/ 63):
أبو عبد الله من سادات التابعين، وكان يعد من الفقهاء السبعة.اهـ
وأخرجه ابن أبي شيبة -رحمه الله- في "مصنفه"(2/9/5866) فقال:
حدثنا وكيع عن سفيان عن محمد بن عبد الرحمن القارىء عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: (( من السُّنة أن يكبر الإمام على المنبر في العيدين تسعًا قبل الخطبة، وسبعًا بعدها )).
وأخرجه عبد الرزاق -رحمه الله- في"مصنفه"(3/290رقم:5672) فقال:
عن معمر عن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد القارىء عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أنه قال: (( يكبر الإمام يوم الفطر قبل أن يخطب تسعًا حين يريد القيام، وسبعًا في [ كذا ]، عالجته على أن يفسر لي أحسن من هذا فلم يستطع، فظننت أن قوله: حين يريد القيام في الخطبة الآخرة )).
ورجال إسناديهما أئمة ثقات غير محمد بن عبد القارئ، فقد ذكره الحافظ ابن حبان - رحمه الله - في كتابه "الثقات"، وروى عنه جمع، ومنهم: الزهري وسفيان ومعمر وابنه عبد الرحمن.
وقد احتج بأثره هذا إمام أهل السنة والحديث أحمد بن حنبل -رحمه الله -.
فقال العلامة أبو عبد الله بن مفلح - رحمه الله - في كتابه "الفروع"(2/ 142):
قال أحمد: قال عبيد اللَّه بن عبد الله بن عتبة: (( إنَّهُ مِنْ السُّنَّةِ )).اهـ
ثانيـًا: أثر إسماعيل بن أمية -رحمه الله-.
فقد قال عبد الرزاق الصنعاني -رحمه الله- في "مصنفه"(3/290رقم:5671):
عن معمر عن إسماعيل بن أمية قال: (( سمعت أنه يُكبَّر في العيد تسعًا وسبعًا- يعني: في الخطبة )).
وإسناده صحيح.
وإسماعيل بن أمية - رحمه الله - من أتباع التابعين.
وهذان الأثران يؤكدان الخطبتين، وجريان العمل في عهد السلف الصالح على ذلك.
الفرع الثالث / عن الإجابة على القول: بأن ظواهر الأحاديث الواردة في خطبة العيد يشعر بخطبة واحدة فقط.
ذهب بعض أهل العلم والفضل من المعاصرين- رفع الله قدرهم وأعلى ذكرهم وأكرمهم بالجنة ورؤية الكريم الرحمن- إلى أن للعيد خطبة واحدة، وقالوا:
ظاهر أحاديث خطبة النبي -صلى الله عليه وسلم- في العيد يُشعر بخطبة واحدة.
وجوابـًا على هذا يقال:
أولاً: إن ما ورد في الأحاديث النبوية محتمل وليس بصريح.
وذلك لأن هذه الأحاديث ليس فيها النص على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يخطب في يوم العيد إلا خطبة واحدة.
وغاية ما ورد فيها:
أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس في يوم العيد.
ومن أمثلة ذلك:
ما أخرجه البخاري (978) ومسلم (885) - رحمهما الله- في "صحيحيهما" عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: (( إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ يَوْمَ الْفِطْرِ، فَصَلَّى، فَبَدَأَ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ، ثُمَّ خَطَبَ النَّاسَ، فَلَمَّا فَرَغَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَ، وَأَتَى النِّسَاءَ، فَذَكَّرَهُنَّ...)).
ثانيـًا: إن حمل هذا اللفظ وأمثاله على خطبة واحدة مدفوعٌ بالإجماع الذي نقله ابن حزم الأندلسي - رحمه الله - في كتابه "المحلى"(3/ 543 - مسألة:543).
ثالثـًا: ظواهر هذه الأحاديث معروف مشهور عند السلف الصالح، وأئمة أهل السنة والحديث، ومع ذلك لم تكن الخطبة الواحدة قولهم ولا فقههم ولا عملهم، وهم عند الجميع أعلم بالنصوص وأفهم وأتبع، ومتابعتهم وعدم الخروج عن فهمهم وفقههم وعملهم أحقُّ وأسلم وألزم.
رابعـًا: إنه يَكْـبُر أن تكون السُّنة خطبة واحدة ثم يتتابع أئمة السنة والحديث من أهل القرون المفضلة على مخالفتها، بل ولا يكاد يعرف بينهم منكر، ومبيِّن للسنة، لا سيما والخطبة ليست من دقائق المسائل التي لا يطلع عليها إلا الخواص، بل من المسائل الظاهرة التي يشهدها ويشاهدها ويدركها العالم والجاهل، والصغير والكبير، والذكر والأنثى، ومع ذلك فالذي أدركوه هو الخطبتين.
وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
وكتبه:
عبد القادر بن محمد بن عبد الرحمن الجنيد.
سحاب السلفية