اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية على ما تناقلته وسائل الإعلام من القذف والسب والطعن في عرض زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- وأم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- مكذبًا للكتاب والسنة المطهرة.
وإحقاقًا للحق ودفعًا عن عرض أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- الذي هو عرض النبي -صلى الله عليه وسلم.
كتبت اللجنة البيان الآتي:
إن من أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة وجوب محبة صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وتوقيرهم والترضي عنهم؛ فهم الذين صحبوا خاتم الأنبياء والمرسلين، وهم الذين عايشوا نزول الوحي، وهم الذين مدحهم الله في كتابه وأثنى عليهم المصطفى -عليه الصلاة والسلام- في سنته، وكفى بذلك منقبة وفضيلة.
قال الله تعالى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ، وقال تعالى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ، وقال تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ .
وثبت عنه -عليه الصلاة والسلام- كما عند البخاري ومسلم أنه قال: «خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» وقال أيضًا -عليه الصلاة والسلام: «لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبًا ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه» متفق عليه. والأحاديث في تزكيتهم وذكر فضائلهم جماعةً وأفرادًا كثيرة جدًّا .
ومن أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة كذلك وجوب محبة آل بيت النبي -عليه الصلاة والسلام- ومعرفة حقهم وتنزيلهم المنزلة اللائقة بهم؛ فهم وصية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما ثبت بذلك الخبر من قوله -عليه الصلاة والسلام- في صحيح مسلم: «أذكركم الله في أهل بيتي ثلاثًا» وقد روى البخاري ومسلم أن أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- قال: "والذي نفسي بيده لقرابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحب إلي أن أَصِل من قرابتي" وقال -رضي الله عنه- كذلك كما في صحيح البخاري: "ارقبوا محمدًا في أهل بيته".
ولا شك أن أزواجه وذريته -عليه الصلاة والسلام- من أهل بيته، ويدل لذلك قوله تعالى:يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا .
ومن معتقد أهل السنة والجماعة أن المرء لا يبرأ من النفاق إلا بسلامة المعتقَد في الصحابة وآل البيت، يقول الطحاوي: (ومن أحسن القول في أصحاب النبي وأزواجه الطاهرات من كل دنس وذرياته المقدسين من كل رجس فقد برئ من النفاق)، وقال: (ونحب أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا نفرط في حب أحد منهم، ولا نتبرأ من أحد منهم، ونبغض من يبغضهم وبغير الخير يذكرهم، ولا نذكرهم إلا بخير، وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان) .
وبهذا يتبين أن سب صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو التعرض لعرضه -عليه الصلاة والسلام- بقذف أزواجه جرم عظيم، وخصوصًا الصديقة بنت الصديق، وهي المبرأة من فوق سبع سماوات، وكانت أحب أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- إليه، وكانت أفقه نساء الأمة على الإطلاق؛ فكان الأكابر من الصحابة -رضي الله عنهم أجمعين- إذا أشكل عليهم الأمر في الدين استفتوها.
ومناقبها -رضي الله عنها- كثيرة مشهورة، فقد وردت أحاديث صحيحة بخصائص انفردت بها عن سواها من أمهات المؤمنين -رضي الله عنهن وأرضاهن- ومنها :
1 - مجيء الملك بصورتها إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- في سَرَقَةٍ من حرير قبل زواجها به -صلى الله عليه وسلم- فقد روى البخاري ومسلم من حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: «أُرِيتُكِ في المنام ثلاث ليال جاءني بك الملك في سرقة من حرير، فيقول: هذه امرأتك، فأكشف عن وجهك فإذا أنت هي، فأقول: إن يكن هذا من عند الله يمضه» .
2 - ومن مناقبها -رضي الله عنها- أنها كانت أحب أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد صرح بمحبتها لما سئل عن أحب الناس إليه، فقد روى البخاري عن عمرو بن العاص -رضي الله عنه «أنه أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: فقلت: أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة قلت: فمن الرجال؟ قال: أبوها» .
قال الحافظ الذهبي -رحمه الله: (وهذا خبر ثابت وما كان -عليه الصلاة والسلام- ليحب إلا طيبا، وقد قال: «لو كنت متخذا خليلًا من هذه الأمة لاتخذت أبا بكر خليلًا، ولكن أخوة الإسلام أفضل» ، فأحب النبي -صلى الله عليه وسلم- أفضل رجل من أمته وأفضل امرأة من أمته؛ فمن أبغض حبيبي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهو حري أن يكون بغيضًا إلى الله ورسوله، وحبه عليه السلام لعائشة كان أمرًا مستفيضًا) .
3 - ومن مناقبها -رضي الله عنها- نزول الوحي على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو في لحافها دون غيرها من نسائه -عليه الصلاة والسلام-، فقد روى البخاري عن هشام بن عروة عن أبيه قال: «كان الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة، قالت عائشة: فاجتمع صواحبي إلى أم سلمة فقلن: يا أم سلمة والله إن الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة وإنا نريد الخير كما تريده عائشة، فمري رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يأمر الناس أن يهدوا إليه حيث كان أو حيث ما دار، قالت: فذكرت ذلك أم سلمة للنبي -صلى الله عليه وسلم- قالت: فأعرض عني فلما عاد إلي ذكرت له ذلك فأعرض عني. فلما كان في الثالثة ذكرت له فقال: يا أم سلمة لا تؤذيني في عائشة فإنه والله ما نزل علي الوحي في لحاف امرأة منكن غيرها» .
قال الحافظ الذهبي -رحمه الله: (وهذا الجواب منه دال على أن فضل عائشة على سائر أمهات المؤمنين بأمر إلهي وراء حبه لها، وأن ذلك الأمر من أسباب حبه لها) .
4 - ومن مناقبها -رضي الله عنها- أن جبريل -عليه السلام- أرسل إليها سلامه مع النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد روى البخاري عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يومًا: «يا عائشة هذا جبريل يقرئك السلام فقلت: وعليه السلام ورحمة الله وبركاته ترى ما لا أرى تريد رسول الله -صلى الله عليه وسلم» . قال النووي: وفيه فضيلة ظاهرة لعائشة -رضي الله عنها.
5 - ومن مناقبها -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بدأ بتخييرها عند نزول آية التخيير، وقرن ذلك بإرشادها إلى استشارة أبويها في ذلك الشأن لعلمه أن أبويها لا يأمرانها بفراقه، فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة، فاستن بها بقية أزواجه -صلى الله عليه وسلم-، فقد روى البخاري ومسلم عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: «لما أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بتخيير أزواجه بدأ بي فقال: إني ذاكر لك أمرًا فلا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك، قالت: وقد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه قالت: ثم قال: إن الله جل ثناؤه قال: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا ، قالت: فقلت: أفي هذا أستأمر أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة، قالت: ثم فعل أزواج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مثل ما فعلت» .
6 - ومن مناقبها -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يحرص على أن يمرض في بيتها، فكانت وفاته -صلى الله عليه وسلم- بين سحرها ونحرها في يومها، وجمع الله بين ريقه وريقها في آخر ساعة من ساعاته في الدنيا وأول ساعة من الآخرة، ودفن في بيتها، فقد روى البخاري عن عائشة -رضي الله عنها- «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان في مرضه جعل يدور في نسائه ويقول: أين أنا غدًا؟ حرصًا على بيت عائشة قالت: فلما كان يومي سكن» ، وعند مسلم عنها أيضًا قالت: «إن كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يتفقد يقول: أين أنا اليوم؟ أين أنا غدا؟ استبطاء ليوم عائشة قالت: فلما كان يومي قبضه الله بين سحري ونحري» وروى البخاري أيضَا عنها «أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يسأل في مرضه الذي مات فيه يقول: أين أنا غداً؟ أين أنا غدا؟ يريد يوم عائشة، فأذن له أزواجه يكون حيث شاء، فكان في بيت عائشة حتى مات عندها، قالت عائشة: فمات في اليوم الذي يدور علي فيه في بيتي، فقبضه الله، وإن رأسه لبين نحري وسحري، وخالط ريقه ريقي، ثم قالت: دخل عبد الرحمن بن أبي بكر ومعه سواك يستن به، فنظر إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت له: أعطني هذا السواك يا عبد الرحمن فأعطانيه، فقضمته ثم مضغته فأعطيته رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فاستن به وهو مستند إلى صدري» وفي رواية أخرى بزيادة «فجمع الله بين ريقي وريقه في آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة» .
7 - ومن مناقبها -رضي الله عنها- إخبار رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأنها من أصحاب الجنة، فقد روى الحاكم بإسناده إلى عائشة -رضي الله عنها- قالت: «قلت يا رسول الله: مَن مِن أزواجك في الجنة؟ قال: أما إنك منهن، قالت: فخيل إلي أن ذاك أنه لم يتزوج بكرًا غيري» وروى البخاري عن القاسم بن محمد «أن عائشة اشتكت فجاء ابن عباس فقال: يا أم المؤمنين تقدمين على فرط صدق على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعلى أبي بكر» وفي هذا فضيلة عظيمة لعائشة -رضي الله عنها- حيث قطع لها بدخول الجنة؛ إذ لا يقول ذلك إلا بتوقيف.
8 - ومن مناقبها -رضي الله عنها- ما رواه البخاري ومسلم عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام» ففي هذا الحديث يبين النبي -صلى الله عليه وسلم- أن فضل عائشة زائد على النساء كزيادة فضل الثريد على غيره من الأطعمة.
9 - ومن مناقبها -رضي الله عنها- نزول آيات من كتاب الله بسببها، فمنها ما هو في شأنها خاصة، ومنها ما هو على الأمة عامة، فأما الآيات الخاصة بها والتي تدل على عظم شأنها ورفعة مكانتها شهادة الباري -جل وعلا- لها بالبراءة مما رميت به من الإفك والبهتان، وهو قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ إلى قوله تعالى الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ .
وقد قال بعض المحققين فيها أيضًا: (ومن خصائصها أن الله -سبحانه وتعالى- برأها مما رماها به أهل الإفك، وأنزل في عذرها وبراءتها وحيًا يتلى في محاريب المسلمين وصلواتهم إلى يوم القيامة، وشهد لها بأنها من الطيبات ووعدها المغفرة والرزق الكريم، وأخبر سبحانه أن ما قيل فيها من الإفك كان خيرًا لها، ولم يكن ذلك الذي قيل فيها شرًّا لها ولا خافضًا من شأنها، بل رفعها الله بذلك وأعلى قدرها وأعظم شأنها، وصار لها ذكرًا بالطيب والبراءة بين أهل الأرض والسماء، فيالها من منقبة ما أجلها!).
وبهذا وغيره يتبين فضلها ومنزلتها -رضي الله عنها وأرضاها- وأن قذفها بما هي بريئة منه تكذيب لصريح القرآن والسنة يخرج صاحبه من الملة، كما أجمع على ذلك العلماء قاطبة، ونقل هذا الإجماع عدد من أهل العلم.
فالواجب على كل مسلم محبة صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والترضي عنهم أجمعين، وتوقيرهم ونشر محاسنهم، والذب عن أعراضهم، والإمساك عما شجر بينهم؛ فهم بشر غير معصومين، ولكن نحفظ فيهم وصية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونتأدب معهم بأدب القرآن، فنقول: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ .
هدى الله الجميع لصراطه المستقيم، واتباع سيد المرسلين وصحابته الغر الميامين، والحمد لله رب العالمين .