الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فقد قمت قبل برهة من الزمن بطباعة كتاب الإمام أبي الحسن علي بن عمر الدارقطني الموسوم بـ: الأحاديث التي خولف فيها مالك بن أنس، نشرتْه مكتبةُ الرشد بـالريـاض عـام 1418هـ، والكتاب مشتمل على مباحث عدَّة في علل الحديث، ذكر مؤلِّفُه بعض الأحاديث والآثار التي رواها مالك في موطئه وخارجه، خالفه في روايتها جمع من أصحابه من حيثُ السندُ والمتن، فرجَّح وعلَّل وخطَّأ وصوَّب، فقمت بتحقيق ذلك الكتاب الفذِّ في بابه، وبيَّنت مواضع الحديث في الموطأ وغيره، وكذا الروايات المخالفة لمالك، ودعَّمت ذلك كلِّه بأقوال أهل الشأن في تعليل أحاديث مالك أو تقويتها، وكان الكتاب مرتَّبًا على شيوخ مالك بدءً بالإمام الزهري، إلاَّ أنَّه تخلَّل أحاديث الزهري نقص في أصل النسخة الخطية ومصوراتها، وكنتُ ذكرت في مقدِّمة الطبعة أنَّ النقص يُحتمل أن يكون بمقدار ورقة فقط، وكان من تيسير الله عزَّ وجلَّ أن وقفت على بعض ذلك النقص وألحقته بالكتاب، وهو الحديث الثاني منه، وذلك الحديث ذكره الإمام ابنُ رُشيد في كتابه السَنَن الأبين، وبعد طباعة الكتاب وقفتُ على نصٍّ آخر في كتاب نادر للإمام ابن عبد الهادي رحمه الله، ذكره وعزاه لكتاب الدارقطني هذا، وبما أنَّ الكتاب قد يتأخَّر طبعه مرَّة ثانية أحببت أن أوقف كلَّ مَن له عناية بعلل الحديث، ومَن كان قد اقتنى نسخة من الكتاب المطبوع بتحقيقي، على هذا الحديث الناقص ؛ ليتسنَّى له إلحاقه في نسخته والاستفادة منه، ولعل بهذا الحديث الذي ذكره ابن عبد الهادي يكتمل كتاب الدارقطني، وأكون بذلك قد جمعتُ بين إخراج الكتاب كما وُجد، وتكميل ما فيه من نَقص، واللهَ أسأل أن يجعل عملي فيه خالصًا لوجهه الكريم، وبالله تعالى التوفيق:
النصُّ الناقص:
قال الإمام ابن عبد الهادي في شرح علل الحديث لابن أبي حاتم (ل:57/أ،ب مخطوط) (ص248 طبعة الفاروق الحديثة للطباعة والنشر):
«وقال الدارقطني في الأحاديث التي خولف فيها مالك: روى مالكٌ في الموطأ، عن الزهري، عن عبَّاد بنِ زياد مِن ولد المغيرة بن شعبة، عن المغيرة بن شعبة: أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلَّم ذهب لِحاجتِه في غَزوة تَبوك ...
فذَكَرَ قِصَّةَ وُضوئِه، والْمسح على الخفَّين.
خالفه صالِح بنُ كيسان، ومَعمر، وابنُ جريج، ويونس، وعمرو بن الحارث، وعُقيل بن خالد، وعبد الرحمن بن خالد بن مُسافر، وغيرُهم، فرووه عن الزهري، عن عبّاد بن زياد، عن عروة بن المغيرة بن شعبة، عن أبيه، فزادوا على مالك في الإسناد: عروة بن المغيرة.
وبعضُهم قال: عن ابنِ شهاب، عن عبَّاد بن زياد، عن عروة وحَمزة ابنَي المغيرة، عن أبيهما، قال ذلك عُقيل، وعبد الرحمن بن خالد، ويونس بن يزيد من رواية الليث عنه.
ولم ينسب أحدٌ منهم عبَّادًا إلى المغيرة بن شعبة، وهو عبَّاد بنُ زياد بنِ أبي سفيان، قال ذلك مصعب الزبيري، وقاله علي بن المديني، ويحيى بن معين، وغيرُهم، ووَهِم مالكٌ رحمه الله في إسناده في موضعين، أحدُهما قولُه: عباد بن زياد مِن ولد المغيرة بن شعبة، والآخَر: إسقاطه مِن الإسناد عروة وحمزة ابنَي المغيرة، والله أعلم» اهـ من شرح العلل لابن عبد الهادي.
التعليق على كلام الدارقطني:
حديث مـالك أخرجه في المـوطـأ (ص:106 ـ رواية القعنبي)، و(ل:5/أ مخطوط ـ رواية ابن بكير).
وأمّا يحيى الليثي فقد وهم على مالك في إسناد هذا الحديث، فقال (1/75 ـ 76) (79) عن مالك، عن ابن شهاب، عن عباد بن زياد من ولد المغيرة بن شعبة، عن أبيه المغيرة بن شعبة به.
فقوله: «عن أبيه» مما وهم فيه على مالك. انظر: التمهيد (121/11)، وأطراف الموطأ للداني (244/2).
تخريج الروايات المخالفة لرواية مالك كما ذكرها الدارقطني:
فأمّا رواية صالح بن كيسان فهي عند أحمد في المسند (4/249)، وأبي عوانة في صحيحه (1/215).
ومعمر عند ابن عبد البرّ في التمهيد (11/122).
وابن جريج عند مسلم في صحيحه (1/317) (274).
ويونس بن يزيد عند النسائي في السنن (1/62)، وأبو داود في السنن (1/123) (149)، وابن حبّان في الصحيح (5/206) (2224).
وعمرو بـن الحـارث عند النسـائي في السنن (1/62)، وابن خزيمة في الصحيح (1/102) (203).
كلُّ هؤلاء رووه عن الزهري، عن عباد بن زياد، عن عروة بن المغيرة، عن المغيرة بن شعبة.
وذكر الدارقطني أنَّ عُقيلاً وعبد الرحمن بن خالد بن مسافر ويونس ـ من رواية الليث ـ رووه عن الزهري، عن عباد، عن عروة وحمزة ابني المغيرة، عن أبيهما.
ورواية يونس هذه أخرجها الفسوي في المعرفة والتاريخ (1/398)، وابن عبد البرّ في التمهيد (11/123).
وتقدَّم أنَّه رواه أيضًا عن عروة وحده، عن أبيه.
وأخرجه الطبراني في الكبير (20/377) من طريق يونس، عن الزهري، عن عباد، عن حمزة وحده، عن أبيه المغيرة.
قال ابن عبد البرّ: «وربما حدّث به ابن شهاب عن عباد بن زياد عن عروة بن المغيرة عن أبيه ولا يذكر حمزة بن المغيرة، وربما جمع حمزة وعروة ابني المغيرة في هذا الحديث عن أبيهما المغيرة». التمهيد (11/121).
فالخلاصة أنَّ مالكًا رحمه الله وهم في قوله: «عباد بن زياد من ولد المغيرة بن شعبة»، وفي إسقاط الواسطة بين عباد والمغيرة، وهو عروة أو حمزة ابني المغيرة.
وعباد بن زياد هو ابن أبي سفيان، وليس من ولد المغيرة بن شعبة، كما قال ذلك مصعب الزبيري كما في مسند أحمد (4/274)، ومسلم في التمييز (ص171)، وكذا نقله الدارقطني كما تقدَّم عن ابن المديني وابن معين، وهو قول أبي حاتم وغيره.
انظر: الجرح والتعديل (6/80)، وعلل الحديث (1/69)، والعلل للدارقطني (7/107)، وتاريخ دمشق (26/234).
وذكر الداني في أطراف الموطأ (2/245) احتمالاً لسبب وهَم مالك فقال: «وأَظُنُّ الوَهَمَ دخلَ فيه بِأَنْ سَقَطَ لمالكٍ من الإسنادِ كلمةُ (عن) بين عَبَّاد ورَجُل، فحَدَّثَ به كذلك. والحديثُ على هذا مقطوعٌ.
وقد ثَبتت كلمةُ (عن) عند رَوْح بنِ عُبادة قال فيه: عن مالك، عن الزهري، عن عَبَّاد، عن رجل من ولد المغيرة، عن أبيه المغيرة».
وذكر الدارقطني رواية روح هذا، ثمّ قال: «فإِنْ كان رَوْحٌ حَفِظَهُ عن مالك هكذا فقد أَتَى بالصواب عن الزهري». العلل (7/107).
ثمَّ ذكر ترجيح رواية الجماعة على رواية مالك، وهو الصواب كما تقدَّم نقله عن بعض الأئمة.
والله أعلى وأعلم، وصلَّى الله وسلم على نبيِّنا وعلى آله وصحبه.