خطبة جمعة
الشيخ محمد صالح العثيمين
السلام عليكم و رحمة الله وبركاته
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان، وسلَّم تسليماً .
أما بعد:
أيها الناس، اتقوا الله تعالى، واعلموا أن الله بحكمته ورحمته فرَضَ عليكم فرائض فلا تضيعوها، وحَدَ حدوداً فلا تعتدوها، فَرَضَ عليكم تعظيم شعائره وحرماته:﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الحج:32] ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ﴾ [الحج: 30]، ألا وإن من شعائر الله: مناسك الحج والعمرة ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ﴾ [البقرة: 158]، فعظموا هذه المناسك فإنها عبادة عظيمة ونوع من الجهاد في سبيل الله .
سألت عائشة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هل على النساء جهاد ؟ قال:«عليهن جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة» .
عظموا هذه المناسك بالقيام بما أوجب الله عليكم والبعد عما حرم الله عليكم: ﴿فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ﴾ [البقرة: 197] .
عظموا هذه المناسك بالإخلاص لله - تعالى - فيها والاتباع لسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .
قوموا بما أوجب الله عليكم من الطهارة والصلاة جماعةًً في أوقاتها والنصح للمسلمين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلقدْ قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي بن أبي طالب:«لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمُر النَعم»(1)، واجتنبوا ما حرم الله عليكم من المحرمات العامة من الفسوق بجميع أنواعه، اجتنبوا الكذب، والغش، والخيانة، والغيبة، والنميمة، والاستهزاء بالمسلمين والسخرية منهم، اجتنبوا الاستماع إلى المعازف والأغاني المحرمة، اجتنبوا التدخين وهو: شرب الدخان فإنه حرام لما فيه من ضرر الأبدان وضياع الأموال، اجتنبوا هذه المحرمات في إحرامكم وفي جميع أحوالكم، واجتنبوا ما حرم الله عليكم تحريماً خاصاً بسبب الإحرام وهي ما يسميه أهل العلم بمحظورات الإحرام، اجتنبوا الرفث وهو: الجماع ومقدماته من اللمس والتقبيل والنظر بشهوة وتلذذ، فالجماع أعظم محظورات الإحرام، وأشدها تأثيراً مَنْ جامع في الحج قبل التحلل الأول فسَدَ حجه ولزم إنهاؤه وقضاؤه من العام المقبل و فديةٌ بدنةٌ ينحرها ويتصدق بها على الفقراء في مكة أو في منى، واجتنبوا الأخذ من شعر الرأس فإن الله يقول: ﴿وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّه﴾ [البقرة: 196]، وأَلْحَقَ جمهور العلم، ألحقوا شعر بقية البدن بشعر الرأس وقاسوا عليه إزالة الأظفار وقالوا: لا يجوز للمحرم أن يأخذ شيئاً من شعره أو أظفاره إلا أن ينكسر ظفره فيؤذيه فله أن يأخذ ما يؤذيه فقط، فمن حلق رأسه لعذر أو غيره فعليه فدية لقول الله تعالى: ﴿فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُك﴾ [البقرة: 196]، وبَيَّنَ النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك بأنه «صيام ثلاثة أيام أو إطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع أو شاةٌ يذبحها ويتصدق بها على المساكين»(2)ويكون الإطعام والذبح في مكة أو في المكان الذي فعل فيه المحظور، واجتنبوا قتل الصيد فإن الله يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾ [المائدة: 95]، سواءٌ كان الصيد طائراً كالحمام أم سائراً كالظباء والأرانب، فمن قتل صيداً متعمداً فعليه الجزاء وهو: إما ذبح ما يماثله من الإبل أو البقر أو الغنم يتصدق به على المساكين في مكة أو في منى، وإما تقويمه بدراهم يتصدق بما يساويها من الطعام على المساكين في مكة أو منى، لكل مسكين ربع صاع من البر أو نصفه من غيره، وإما أن يصوم عن كل إطعام مسكين يوماً، وأما قطع الشجر فلا تَعَلُّقَ له بالإحرام، فيجوز للمحرم ولغير المحرم أن يقطع الشجر إذا كان خارج أميال الحرم مثل: عرفة، يجوز للمحرم أن يقطع الأشجار فيها ولا يجوز للمحرم ولا لغير المحرم أن يقطع الشجر إذا كان داخل أميال الحرم مثل: مزدلفة ومنى ومكة إلا ما غرسه الآدمي بنفسه فله قطعه، ويجوز للإنسان أن يضع البساط على الأرض ولو كان فيها حشيش أخضر إذا لم يقصد بذلك إتلافه .
أيها المسلمون، اجتنبوا في الإحرام عقد النكاح وخطبة النساء، فقد صَحَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:«لا ينكح المحرم ولا يُنكح ولا يخطب»(3)، فلا يجوز للمحرم أن يتزوج سواء كان رجلاً أم امرأة، ولا أن يزوج غيره ولا أن يخطب امرأة، واجتنبوا الطيب بجميع أنواعه دهُناً كان أم بخوراً، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:«لا تلبسوا ثوباً مسَّه الزعفران ولا الورس»(4)، وقال في الرجل الذي مات بعرفة وهو محرم:«اغسلوه بماء وسدر ولا تخمروا رأسه ولا تحنطوه فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً»(5)، والحنوط هو: الطيب الذي يجعل على بدن الميت بعد تحنيطه، فلا يجوز للمحرم أن يدهن بالطيب ولا أن يتبخر به ولا أن يضعه في أكله أو شرابه ولا أن يتنظف بصابون مطيب، ويجوز له أن يغتسل ويزيل ما لوثه من وسخ، وأما التطيب عند عقد الإحرام فهو سنة ولا يضر بقاؤه بعد عقد الإحرام، فقد قالت عائشة رضي الله عنها:«كنت أطيب النبي - صلى الله عليه وسلم - لإحرامه قبل أن يُحرم»(6)وقالت:«كأني أنظر إلى وبيص المسك أي: بريقه في مفارق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مُحرم»(7)، واجتنبوا تغطية الرأس بما يغطى به عادةً و يلاصقه كالعمامة والغترة والطاقية، فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في المحرم الذي مات:«لا تخمروا رأسه»(8)أي: لا تغطوه، فأما ما لم تجرِ العادة بكونه غطاءً كالعفش يحمله المحرم على رأسه فلا بأس به وكذلك ما لا يلاصق الرأس كالشمسية ونحوها فلا بأس به؛ لأن المنهي عنه تغطية الرأس لا تظليل الرأس .
وعن أم الحصين - رضي الله عنها - قالت: «حجَجْتُ مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حجة الوداع فرأيت أسامة وبلالاً وأحدهما آخذٌ بخطام ناقة النبي - صلى الله عليه وسلم - والآخر رافع ثوبه يستره من الحر حتى رمى جمرة العقبة»(9)، وتحريم تغطية الرأس خاصٌ بالرجال، أما المرأة فيجوز أن تغطي رأسها وأما وجهها فالمشروع لها كشفه إلا أن يراها أحدٌ من الرجال غير محارمها فيجب عليها ستره، ولا يجوز للمرأة أن تلبس النقاب ولا البرقع ولا أن تلبس القفازين، واجتنبوا من اللباس ما نهى عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين سئل عما يلبس المحرم فقال:«لا يلبس القميص ولا العمامة ولا البرنس ولا السراويل ولا الخفاف»(10)وقال: «من لم يجد نعلين فليلبس الخفين ومن لم يجد إزاراً فليلبس السراويل»(11)، وتحريم هذا اللباس خاص بالرجال، فلا يجوز للرجل إذا أحرم أن يلبس القميص مثل ثيابنا هذه ولا ما كان بمعناه كالفنيلة والصدرية والكوت، ولا يلبس العمامة ولا ما كان بمعناها كالغترة والطاقية، ولا يلبس البرنس وهو: ثوب يوصل بغطاء للرأس ولا ما كان بمعناه كالمشالح، ولا يلبس السراويل سواء كان نازلاً عن الركبتين أم فوق الركبتين، ولا يلبس الخفين ولا ما كان بمعناهما كالشراب، ويجوز له لبس الساعة ونظارة العين وسماعة الأذن ولباس الخاتم وعقد الإزار وشبك الرداء إن احتاج إليه وإلا فالأولى أن لا يشبك الرداء، ولا يشبكه بمشابك متواصلة؛ لأنه إذا شبكه بذلك أشبه القميص، ويجوز للمرأة أن تلبس ما شاءت من الثياب المباحة لها قبل الإحرام غير متبرجةٍ بزينة؛ لأن النساء ليس لهن ثياب خاصة للإحرام، ويجوز للرجل والمرأة - أيضاً - تغيير ثياب الإحرام إلى ثياب أخرى يجوز لبسها سواء غيرها لوسخ ٍ أو نجاسةٍ أو غيرهما .
أيها المسلمون، هذه هي محظورات الإحرام إذا فعلها الإنسان جاهلاً لا يدري أو ناسياً لا يذكر أو مكرهاً غير مختار فإنه لا إثم عليه ولا فدية؛ لأن الله - عزَّ وجل - يقول: ﴿رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ [البقرة: 286] ويقول جلَّ ذكره: ﴿وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً﴾ [الأحزاب: 5] .
اللهم إنا نسألك أن تعمنا بمغفرتك ورحمتك، اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبِّت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار .
عباد الله، إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً، إن الله يعلم ما تفعلون، واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نِعَمِهِ يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون .
الحمد لله حمداً كثيراً كما أمر، وأشكره وقد تأذن بالزيادة لمن شكر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولو كره ذلك من أشرك به وكفر، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، سيد البشر، الشافع المشفع في المحشر، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه خير صحبٍ ومعشر، وعلى التابعين لهم بإحسان ما بدا الفجر وأنور، وسلَّم تسليماً كثيراً .
أما بعد:
أيها الإخوة المؤمنون، فإننا هذه الأيام في أيام مناسبات ثلاث، أحدها: مناسبة الحج، وقد تكلمنا على ما شاء الله من أحكامه، والثانية: مناسبة الأضاحي، والثالثة: مناسبة بيع النخيل .
أما الأضاحي سنة مؤكدة فعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - وجعلها الله - عزَّ وجل - من شعائره، واختلف العلماء في وجوبها على القادر، فذهب كثير من أهل العلم ومنهم أبو حنيفة وأصحابه إلى أن الأضحية واجبة على القادر، وأنَّ مَنْ كان قادراً فلم يضحِ فهو آثم واختار ذلك القول شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله؛ وعلى هذا فمَنْ كان عنده قدرة فليضحِّ عنه وعن أهل بيته، واعلموا أن الأضحية إنما تشرع عن الأحياء؛ لأن ذلك هو الوارد من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضحى عنه وعن أهل بيته ولم يضحِّ عن أحد ممن مات من أقاربه أو أهله، فإنه قد استشهد عمه حمزة بن عبد المطلب - رضي الله عنه - في أُحد ولم يضحِّ عنه، وماتت زوجته خديجة ولم يضحِّ عنها، وماتت بناته الثلاث: رقية، وأم كلثوم، وزينب ولم يضحِّ عنهن صلى الله عليه وسلم، ومات أبناؤه الصغار ولم يضحِّ عنهم، ولا أعلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أحد من أصحابه في عهده ضحوا عن ميت استقلالاً، وإنما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يضحي عنه وعن أهل بيته، وهذه العبارة تشمل الأحياء والأموات؛ وعلى هذا فالمشروع لنا - أيها المسلمون - أن نضحي بأضحية واحدة عنا وعن أهل بيتنا ويشمل ذلك أحياءنا وأمواتنا وفضل الله واسع، واعلموا أن من البدع ما يفعله بعض الناس يضحون في أول سنة يموت فيها الميت أضحية يسمونها: الحفرة، وبعضهم يسميها: الدفنة، يعتقدون أنها أمر واجب وأنه لا يشرك فيها أحد بل تكون للميت وحده وهذه بدعة لا أصل لها في الشريعة، وأما ما أوصى بها الأموات من الأضاحي فإنه يجب أن ينفذ كما أوصى الميت ولا يزاد فيها ولا ينقص .
أيها الناس، إنني عندما أقول: إن الأضحية عن الأحياء فقط لست أقول: إنها حرام عن الأموات، ولكنني أقول: إنها غير مشروعة، وإن المشروع إنما تكون عن الأحياء فقط، ومَنْ ضحى عن الميت استقلالاً فإنني لا أؤثمه، ولكني أقول: إن الأفضل أن تفعل كما فعل إمامنا محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تضحي بواحدة عنك وعن أهل بيتك ويشمل الأحياء والأموات .
أيها المسلمون، إن من رحمة الله، وإن من حكمة الله، وإن من نعمة الله على عباده أن الذين تخلفوا عن الحج في بلادهم شرع الله لهم شيئاً يوافقون به أهل الحج، فشرع لهم التقرب بالأضاحي كما شرع لأهل الحج التقرب بالهدي، وشرع لمن كان في البلدان وأراد أن يضحي أن لا يأخذ من شعره ولا من ظفره ولا من بشرته شيئاً، فقد ثبت النهي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حديث أم سلمة - رضي الله عنها - أنه إذا دخل العشر يعني: عشر ذي الحجة وأراد الإنسان أن يضحي عن نفسه فإنه لا يأخذ من شعره ولا من بشرته ولا من أظفاره شيئاً؛ ولهذا استعدوا بأخذ الشعور والأظفار قبل أن تدخل العشر؛ حتى تتمكنوا من اجتناب ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، واعلموا أن هذا النهي إنما يتعلق بمن يضحي لا بمن يضحى عنه، فإذا كان الإنسان يريد أن يضحي عنه وعن أهل بيته فإنه هو بنفسه يجتنب الأخذ من شعره وظفره وبشرته، وأما أهله فلا حرج عليهم ولا يلزمهم أن يجتنبوا شيئاً من ذلك، فلهم أن يأخذوا من شعرهم وأظفارهم وأبشارهم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:«إذا دخل العشر وأراد أحدكم أن يضحي»(12)ولم يقُلْ أن يضحي أو يضحى عنه؛ ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يضحي عنه وعن أهل بيته، ولم ينقل أنه كان ينهى أهل بيته عن الأخذ من ذلك فدلَّ هذا على أن الحكم خاص بمن يضحي وأن من يضحى عنه فهو في حلٍّ من هذا الحكم .
أيها الإخوة المسلمون، أما المناسبة الثالثة فهي: بيع النخيل أي: بيع ثمرات النخل، ولا شك أن ثمرات النخيل من نعمة الله علينا، فهو الذي خلقها ونمَّاها وهو الذي أبقاها حتى أزهاها فسبحانه من إله حكيم قادر، سبحان من لوَّن هذه الألوان العجيبة، بعد ذلك اللون الأخضر صارت حمراء وصفراء وبيَّن ذلك، فلله القدرة التامة رب العالمين، لو اجتمع الخلق كلهم على أن يخلقوا حبة واحدة وأن يغيروا ألوانها هذا التغير ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، ولكن الذي يقول للشيء: كن فيكون هو الذي خلقها ونماها ولونها بما تقتضيه حكمته .
أيها المسلمون، إن علينا في مقابل هذه النعمة العظيمة أن نشكر الله - تعالى - عليها وأن نلتزم بما أمرنا به من أحكام بيعها، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - «أنه نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها حتى تحمر أو تصفر»(13)، فلا يجوز للإنسان أن يبيع نخلة لم تحمر أو تصفر إلا أن يضمها إلى شيءٍ من نوعها ويبيعهن جميعاً فلا حرج في ذلك .
أيها الناس، كان من عادتنا في هذا البلد أن يباع الثمار على جماعة يشتركون فيه ثم يأخذ هؤلاء الجماعة في المناجشة في زيادة الثمن، واعلموا أن المناجشة محرمة، والمناجشة: أن يزيد الإنسان في السلعة من أجل أن يزيد الربح له وهذا محرم لا يجوز لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه، واعلموا أن كل كسب ينتج عن ذلك فإنه كسب محرم خبيث، إن أنفقتموه لم يبارك لكم فيه، وإن تصدقتم به لم يقبل منكم، وإن خلفتموه كان زاد لكم إلى النار، فاتقوا الله يا عباد الله، لا تناجشوا لا تزيدوا في السلع وأنتم لا تريدون شراءها، لا تزيدوا في السلع من أجل حظ البائع أو الاضرار بالمشتري فإن ذلك من العدوان، وأنتم إذا زدتم من أجل حظ البائع فواللهِ ما أعطيتموه حظاً ولكنكم أعطيتموه حظاً من الإثم والعدوان؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول:«انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً»قالوا: يا رسول الله، هذا المظلوم فكيف نصر الظالم ؟ قال:«تمنعه من الظلم فذلك نصرك إياه»(14)، فكيف بإنسان يعطي الظالم ما يكون باطلاً وأكلاً للمال بغير حق .
أيها المسلمون، إنكم - واللهِ - ميِّتون، وإنكم - واللهِ - مبعوثون، وإنكم - واللهِ - مجزيون بأعمالكم، وإنكم - واللهِ - مسؤولون عن كل الشريعة التي أنزلها الله عليكم وبلغكم علمها، فمن حَمَلَ علماً من شريعة الله كانت حجة له أو عليه يسأل عنه يوم القيامة، فالله الله عباد الله، لا يغلبنكم الإغواء, لا تغلبنكم الأنفس الأمارة بالسوء، لا يغلبنكم الشح؛ فإن الشح أهلك من كان قبلكم، وإن المال القليل المباح الحلال خير من المال الكثير المحرم، اللهم إنا نسألك علماً نافعاً ونسألك رزقاً طيباً واسعاً تغنينا به عن خلقك وتعيننا به على طاعتك يا رب العالمين، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم اجعلنا أزهد الناس فيما لا ينفعنا من مال أو غيره، واجعلنا أرغب الناس فيما ينفعنا ويقربنا إليك يا رب العالمين، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، واعلموا أن الله - عزَّ وجل - دعاكم إلى التوبة والعمل الصالح فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾[التحريم: 8] .
اللهم تقبَّل منا إنك أنت السميع العليم، وتُبْ علينا إنك أنت التواب الرحيم، واغفر لنا إنك أنت الغفور الرحيم، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين .
-------------------------
(1) أخرجه البخاري -رحمه الله تعالى- في كتاب الجهاد والسير من حديث سهل بن سعد في قصة علي أبي طالب رضي الله عنه (2724)، وأخرجه مسلم -رحمه الله تعالى- في كتاب فضائل الصحابه رضي الله عنهم (4423) ت ط ع .
(2) وأخرجه البخاري -رحمه الله تعالى- في كتاب الحج باب قول الله تعالى: "+فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ" وهو مخير فأما الصيام فثلاثة أيام من حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه، أخرجه الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في كتاب الحج من حديث كعب بن عجرة الأنصاري رضي الله تعالى عنه (2085) .
(3) أخرجه الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في كتاب النكاح من حديث عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه (2522) .
(4) أخرجه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في كتاب الحج من حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما ( 1707)، وأخرجه الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في كتاب الحج من ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ( 2012) ت ط ع .
(5) أخرجه الإمام البخاري في صحيحه في كتاب الجنائز من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنه (1186)، وأخرجه الإمام في صحيحه في كتاب الحج من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنه (2092) ت ط ع .
(6) أخرجه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في كتاب الحج (1429)، وأخرجه الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في كتاب الحج (2042) من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها . ت ط ع .
(7) أخرجه البخاري -رحمه الله تعالى- في كتاب الحج (1438)، ومسلم في كتاب الحج (2050) من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها . ت ط ع .
(8) سبق تخريجه .
(9) أخرجه الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في صحيحه في كتاب الحج (2288) من حديث أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها . ت ط ع .
(10) أخرجه البخاري -رحمه الله تعالى- في كتاب الحج (1711)، وأخرجه مسلم في كتاب الحج (2013) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما . ت ط ع .
(11) أخرجه البخاري -رحمه الله تعالى- في كتاب الحج (1712)، وأخرجه مسلم في كتاب الحج (2015) من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما . ت ط ع .
(12) أخرجه الإمام مسلم -رحمه الله تعالى- في كتاب الأضاحي (3653)، و أخرجه الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- في مسنده (25269) من حديث أم سلمة رضي الله تعالى عنها . ت ط ع .
(13) أخرجه البخاري -رحمه الله تعالى- في كتاب البيوع (2047) من حديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه .
(14) أخرجه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في كتاب الإكراه (6438) ( 2264)، وأخرجه الإمام أحمد -رحمه الله تعالى- في مسنده (12606)، وأخرجه الترمذي في سننه في كتاب الفتن (2181) من حديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه .