نقلت لكم هذا الموضوع فقد أعجبني و استفدت منه فاحببت أن تستفيدوا منه
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا وإمامنا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد، فهذه وقفات تربوية مع قصة الصحابي كعب بن مالك - رضي الله عنه - حين تخلف عن غزوة تبوك، فإن قصته - رضي الله عنه - اشتملت على دروس تربوية عظيمة يحسن بكل مسلم أن يتدبرها، كما اشتملت على كثير من الدروس والعظات والفوائد العلمية.
ومن خلال دراستي للقصة استفدت منها دروسا لنفسي خاصة، فأشار عليّ بعض الأخيار بنشرها، وقد ركّزت على الجوانب التربوية أكثر من غيرها، فإن الفوائد العلمية قد تناولها جهابذة من العلماء - رحمهم الله -.
ونظرا لكثرة الدروس رأيت تقطيع القصة ليسهل ارتباط الفوائد بالنص في ذهن القارئ الكريم.
أسأل الله - تعالى -أن ينفع بها كل من قرأها وكتبها وسمعها.
ترجمة كعب بن مالك رضي الله عنه
هو كعب بن مالك بن أبي كعب عمرو بن القين بن كعب بن سواد بن غُنم بن كعب بن سلمة الأنصاري، الخزرجي العَقَبِي الأحدي.
شاعر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه، وأحد الثلاثة الذين خُلِّفُوا عن غزوة تبوك، فتاب الله عليهم.
شهد العقبة، روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرابة ثلاثين حديثاً، اتفق الإمامان البخاري ومسلم على ثلاثةٍ منها، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بحديثين.
روى عنه بنوه: عبد الله، وعبيد الله، وعبد الرحمن، ومحمد، ومعبد بنو كعبٍ، وجابرٌ، وابنُ عباسٍ، وأبو أمامة، وعمر بن الحكم، وعمر بن كثير بن أفلح، وحفيده عبد الرحمن بن عبد الله، وآخرون.
قيل: كانت كنيته في الجاهلية أبا بشير.
وقال ابن أبي حاتم: وكان من أهل الصفة، وذهب بصره في خلافة معاوية([1]).
وقد ذكره عروة في السبعين الذين شهدوا العقبة.
وروى صدقة بن سابق، عن ابن إسحاق، قال: آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين طلحة بن عبيد الله، وكعب بن مالك. وقيل: بل آخى بين كعب والزبير([2]).
وعن حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن أبيه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آخى بين الزبير وكعب بن مالك، فارتث كعب يوم أحد، فجاء به الزبير يقوده، ولو مات يومئذ لورثه الزبير، فأنزل الله: "وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ"([3]).
وعن كعب: لما انكشفنا يوم أحد، كنت أول من عرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وبشرت به المؤمنين حيا سويا، وأنا في الشعب. فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كعباً بلأمته -وكانت صفراء- فلبسها كعب، وقاتل يومئذ قتالاً شديداً، حتى جرح سبعة عشر جرحاً([4]).
قال ابن سيرين: كان شعراء أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: حسان بن ثابت، وعبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك([5]).
قال ابن سيرين: أما كعب فكان يذكر الحرب، يقول: فعلنا ونفعل، ويتهددهم. وأما حسان فكان يذكر عيوبهم وأيامهم. وأما ابن رواحة فكان يعيرهم بالكفر([6]).
وقد أسلمت دوس فرقاً من بيت قاله كعب([7]):
نُخَيّرُهَا وَلَوْ نَطَقَتْ لَقَالَتْ *** قواطِعُهُنَّ دوساً أو ثَقيفَا([8])
دروس من قصته
روى البخاري في صحيحه قال: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَكَانَ قَائِدَ كَعْبٍ مِنْ بَنِيهِ حِينَ عَمِيَ قَالَ: سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ يُحَدِّثُ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ قِصَّةِ تَبُوكَ.
1) إن ظاهرة بروز الأسر العلمية في المدينة النبوية وغيرها ناتجة عن نجاح التربية. فعبد الرحمن يروي عن أبيه عبد الله، وعبد الله يروي القصة عن أبيه كعب. ولقد نبغتْ أسرٌ كاملةٌ في العلمِ والعملِ، مثلُ: آلِ المنكدرِ محمدٍ وعمرَ، وآلِ عقبةَ: إبراهيمَ وموسى ومحمدٍ، كُلُّهُمْ فقهاءُ محدِّثونَ، وآلِ عبدِ اللهِ بنِ أبي فروةَ: إسحاقَ وعبدِ الحكيمِ وعبدِ الأعلى ويونسَ وصالحٍ، وأبي الحسنِ، وإبراهيمَ، وعبدِ الغفارِ. ولو تأملنا حالة كثير من أهل العلم والدعوة في زماننا لوجدنا انفصاماً وخللاً كبيراً بينهم وبين أسرهم، وتباينا في الرؤى والهمم والتوجهات.
2) إفساح المجال للأبناء لخدمة والدهم، فمع توفر الخدم والعبيد عند الصحابة، إلا أن كعباً جعل قيادته لابنه عبد الله، فقارنْ بين هذا وبين من يعتمدون على الخدم والسائقين مع وجود أبنائهم، فيحرمونهم من الاستفادة من خبراتهم، ومن أجر البر.
3) من فضائل البر والصلة والملازمة للأب أن يحظى الابن بنصيب وافر من العلم والأدب، ولهذا روى هذه القصة العظيمة عبد الله من بين إخوانه لكونه قائد أبيه حين عمي، فمصاحبة الآباء أمر مهم ليتلقى الأبناء عنهم تجاربهم ويختصروا الطريق، حيث يصارحونهم إذا أخطأوا ولا يجاملونهم لحرصهم على مصالحهم، فإذا كان المسلم مأموراً بوعي التاريخ الماضي فالاستفادة من تجارب المعاصرين أولى:
ومن وعى التاريخ في صدره ***أضاف أعماراً إلى عمره
4) مع كثرة الخدم والعبيد في ذلك الوقت، إلا أن أبناء كعب لم يتركوا لهم فرصة لخدمة والدهم. وهذا دليل على وعي الأولاد، وعمق التربية، وكون الآباء قدوة لبنيهم، ومحل ثقتهم، فإذا تعب الأب في تربية أبنائه وغرس حبه والثقة به في قلوبهم فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً. قال - تعالى -: "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً"([9])، وسيجد أثر تربيته لهم في برهم إياه.
بعث عبد العزيز بن مروان ابنه عمر إلى المدينة يتأدب بها، وكتب إلى صالح بن كيسان يتعاهده، فكان يُلزمه الصلوات، فأبطأ يوماً عن الصلاة، فقال: ما حبسك؟ قال: كانت مرجلتي تسكن شعري، قال: بلغ منك حبك تسكين شعرك أن تؤثره على الصلاة؟! فكتب إلى عبد العزيز يذكر ذلك، فبعث إليه عبد العزيز رسولاً، فلم يكلمه حتى حلق شعره([10]).
انظر إلى عظم اهتمامهم بصلاة الجماعة وشدة حرصهم على تربية الولد، وكم صرف من أموال بسبب تعديل خطأ واحد نعده اليوم سهلاً، لقد كلف هذا الخطأ رحلة رجلين من المدينة إلى مصر ومن مصر إلى المدينة لمدة تزيد على شهرين، ولم يتساهل الشيخ ويتول تأديب الولد نيابة عن أبيه، ولم يكل الوالد خطأ ولده إلى الشيخ، بل أرادا أن يلقناه درساً لا ينساه، وبعد ذلك ماذا كان عمر بن عبد العزيز؟! قال بعض السلف: لما حفظوا الله حفظهم الله في أولادهم.
5) شرف الآباء شرف للأبناء، فالقصة من مناقب كعب، ونقلها للأبناء تربية لهم، فلا يليق بهم أن يقصروا عن سلوك طريق آبائهم. قال لبيد:
فَإِن أَنتَ لَم تَصدُقكَ نَفسُكَ فَانْتَسِبْ *** لَعَلَّكَ تَهديكَ القُرونُ الأَوائِلُ([11])
فينبغي للأب أن يكون مثلاً أعلى يفتخر الأبناء بالانتساب إليه، فهذا من أعظم الحوافز على سلوك سبيل المعالي، فتبقى مآثر الآباء في الأبناء.
وفي قصة عمرو بن سعيد بن العاص عبرة، لما مات أبوه قال له معاوية - رضي الله عنه -: يا غلام، إلى من أوصى بك أبوك؟ قال: إن أبي لم يوص بي ولكنه أوصى إلي، قال: بم أوصى إليك؟ قال: أوصى إلي أن لا يفقد إخوانه إلا شخصه([12]).
قَالَ كَعْبٌ: «لَمْ أَتَخَلَّفْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا إِلاَّ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، غَيْرَ أَنِّي كُنْتُ تَخَلَّفْتُ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ وَلَمْ يُعَاتِبْ أَحَدًا تَخَلَّفَ عَنْهَا، إِنَّمَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُرِيدُ عِيرَ قُرَيْشٍ حَتَّى جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّهِمْ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ، وَلَقَدْ شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ حِينَ تَوَاثَقْنَا عَلَى الإِسْلاَمِ، وَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهَا مَشْهَدَ بَدْرٍ وَإِنْ كَانَتْ بَدْرٌ أَذْكَرَ فِي النَّاسِ مِنْهَا. كَانَ مِنْ خَبَرِي: أَنِّي لَمْ أَكُنْ قَطُّ أَقْوَى وَلاَ أَيْسَرَ حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْهُ فِي تِلْكَ الْغَزَاةِ وَاللَّهِ مَا اجْتَمَعَتْ عِنْدِي قَبْلَهُ رَاحِلَتَانِ قَطُّ حَتَّى جَمَعْتُهُمَا فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ».
6) قال ابن القيم: «فيه جواز إخبار الرجل عن تفريطه وتقصيره في طاعة الله ورسوله، وعن سبب ذلك، وما آل إليه أمره، وفي ذلك من التحذير والنصيحة، وبيان طرق الخير والشر، وما يترتب عليها ما هو من أهم الأمور»([13]).
لقد كان عند السلف من الشجاعة ما يؤهلهم للاعتراف بأخطائهم، وبعض الناس اليوم يتنكرون لعيوبهم وأخطائهم: إما لأنهم لم يتوبوا، أولم يستفيدوا منها، وبعضهم إذا استفاد قَصَر الفائدة على نفسه، فنقول لهذا: إن لم يكن عندك جرأة الاعتراف، أو رأيت أنه يجر إلى مفسدة أكبر فاذكر الفائدة عن شخص ولا تسم، لينتفع غيرك وتكسب الأجر.
7) أهمية معرفة قيمة الأعمال والأحداث والأحوال «وَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهَا مَشْهَدَ بَدْرٍ...الخ».
من آثار الجهل بهذه الحقيقة اهتمام بعض الناس بالمفضول من الأعمال وترك الفاضل، كالحرص على ما يقوم به العامة، بدون موازين تميز الأهم من المهم، وهنا تظهر أهمية فقه الأولويات والموازنة. قال ابن القيم: «ليس الدين بمجرد ترك المحرمات الظاهرة، بل بالقيام مع ذلك بالأوامر المحبوبة لله، وأكثر الديّانين لا يعبأون منها إلا بما شاركهم فيه عموم الناس، وأما الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصيحة لله ورسوله وعباده، ونصرة الله ورسوله ودينه وكتابه، فهذه الواجبات لا تخطر ببالهم فضلاً عن أن يريدوا فعلها، وفضلاً عن أن يفعلوها، وأقل الناس ديناً وأمقتهم إلى الله: من ترك هذه الواجبات، وإن زهد في الدنيا جميعها، وقل أن ترى منهم من يحمر وجهه ويمعره لله ويغضب لحرماته، ويبذل عرضه في نصرة دينه، وأصحاب الكبائر أحسن حالاً عند الله من هؤلاء»([14]).
8) الاعتراف بالخطأ أمام الأبناء أمر محمود، مع أن المتعارف عليه لدى عامة الناس اللجاجة وعدم الاعتراف واختلاق المعاذير، وهذا من ضعف الشخصية وعدم الثقة بالنفس.
9) «لَمْ أَكُنْ قَطُّ أَقْوَى وَلاَ أَيْسَرَ حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْهُ»: في حديثه عن غناه وتوفر جميع الأسباب له عندما تخلف وفي هذا رد على المتقاعسين الذين يعلقون العمل الصالح أو تعلم العلم أو الدعوة على توفر بعض الحاجات، وتيسر الأحوال، وانفتاح الرزق، فيظنون أن هذا هو العائق الوحيد لهم. فكعب - رضي الله عنه - توفر له كل شيء، ومع ذلك لم يلحق بالجيش، بينما سأل آخرون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الراحلة وبكوا حينما لم يجدوا ما يحملهم عليه، وأبو ذر لما قعدت به راحلته حمل متاعه على ظهره ولحق برسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
10) السبَّاق لا يتخلف عن المشاركة في أعمال البر والخير، ولا يرضى بالدون، بل يتخطى العقبات، ولا تقعده الأخطاء، وإن تخلف أعطى درساً في تخلفه، فهو نفاع دائما. وهذا شأن صاحب البصيرة يستفيد من كل حدث يمر به في بناء نفسه وتزكيتها.
11) من كمال بصيرة الإنسان نسيان أعماله الصالحة وعدم رؤيتها، فكعب لم يذكر مشاهده كلها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يقل: كنت وكنت، ونافحت بشعري عن الإسلام والمسلمين وأنا قد قاتلت وفعلت وفعلت. قال ابن القيم: «فإن الله إذا أراد بعبد خيراً سلب رؤية أعماله الحسنة من قلبه، والإخبار بها من لسانه، وشغله برؤية ذنبه، فلا يزال نصب عينيه حتى يدخل الجنة، فإن ما تُقُبِّلَ من الأعمال رُفِعَ من القلب رؤيته ومن اللسان ذكره»([15]).
وبعض الناس اليوم يكثر من التمدح بأعماله وينسى نعم الله عليه فيها، وقد ضعف عن شكرها، كمن يقول: حججت كذا مرة، وشاركت بكذا وكذا من أعمال الخير. والأولى أن ينسى أعماله الصالحة، كما قال ابن مسعود - رضي الله عنه -: لا تعدوا حسناتكم فأنا كفيل بأنه لا يضيع شيء منها، ولكن أحصوا سيئاتكم([16]).
12) ما لام رسول - صلى الله عليه وسلم - أحداً ممن تخلف عن غزوة بدر لكون النفير ليس عاماً، وبعض الناس اليوم يلقي باللائمة على أبنائه أو إخوانه عند تخلفهم عن أداء عمل يريده مع أنه لم يأمرهم به أو يعزم عليهم، أو يحدد شخصاً بعينه يقوم به، فيغطي فشله الإداري باللوم والغضب.
13) ينبغي ترك اللوم للإنسان بعد فوات الأوان فيما لا يمكن تداركه، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يثرب على أحد أو يؤسفه على عدم مشاركته في بدر.
قَالَ كَعْبٌ: «وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يُرِيدُ غَزْوَةً إِلاَّ وَرَّى بِغَيْرِهَا، حَتَّى كَانَتْ تِلْكَ الْغَزْوَةُ، غَزَاهَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فِي حَرٍّ شَدِيدٍ، وَاسْتَقْبَلَ سَفَرًا بَعِيدًا وَمَفَازًا وَعَدُوًّا كَثِيرًا، فَجَلَّى لِلْمُسْلِمِينَ أَمْرَهُمْ لِيَتَأَهَّبُوا أُهْبَةَ غَزْوِهِمْ، فَأَخْبَرَهُمْ بِوَجْهِهِ الَّذِي يُرِيدُ».
14) قال ابن القيم: «ومنها أن الستر والكتمان إذا تضمن مفسدة لم يجز»([17]).
والبعض يكتم قضاياه الخاصة التي يحتاج فيها إلى إعانة فيبقي جزءاً كبيراً منها في الظل، سواء كانت القضية اجتماعية، أو صحية، وسواء عرض أمره على عالم ليستفتيه أو داعية ليرشده أو صديق لينصحه أو طبيب ليعالجه، رغم أن هذه الأمور تتأثر بما يكتم من المعلومات.
ومن طرائف الأخبار أن أعرابياً عضه ثعلب فأتى راقياً فقال الراقي: ما عضك؟ فقال: كلب، واستحى أن يقول ثعلب، فلما ابتدأ بالرقية قال: واخلط بها شيئاً من رقية الثعالب([18]).
15) في المعاريض مندوحة عن الكذب، وهي الأصل والنهج الذي اتبعه الرسول - صلى الله عليه وسلم - في غزواته. فينبغي للمسلم أن لا يفكر في الكذب، فالشريعة ولله الحمد جاءت بالمعاريض والتورية عند تحقق الضرر في الصراحة.
16) إعطاء الأمر حقه «فَجَلَّى لِلْمُسْلِمِينَ أَمْرَهُمْ لِيَتَأَهَّبُوا أُهْبَةَ غَزْوِهِمْ، فَأَخْبَرَهُمْ بِوَجْهِهِ الَّذِي يُرِيدُ»، فالأمر العظيم يحتاج إلى استعداد عظيم، ولا يكفي أن تترك الأمور كيف ما اتفق ونقول: نتوكل على الله؛ فإن الأخذ بالأسباب من التوكل.
والكثير من الناس اليوم يهمل واجباته ولا يعطيها حقها، فلا يهتم مثلاً بخطبة الجمعة إلا في يومها، ولا بالبحوث العلمية إلا في وقت تسليمها، ولا في الدروس إلا في يوم إلقائها، ولا في تربية الأولاد إلا عند المعاناة من مشاكلهم، فتبقى إدارتنا «إدارة أزمات وإطفاء حرائق» كما يقال.
17) مخالفة المعتاد عند الجاجة «إِلاَّ وَرَّى بِغَيْرِهَا، حَتَّى كَانَتْ تِلْكَ الْغَزْوَةُ»، فلا ينبغي أن يلزم المرء حالة واحدة تتحكم في حياته دون حاجة تدعو إلى ذلك، كمن يقول: نحن لنا سِنون على هذه الحال، وما نريد التغيير، ونحن على خير. فإذا كان يجدُّ للناس من الأحكام الشرعية بحسب ما يجد لهم من القضايا، فكيف بالعادات والأعمال الاجتهادية التي تتطلب ملاءمة الزمان والمكان.
قَالَ كَعْبٌ: «وَالْمُسْلِمُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَثِيرٌ، وَلاَ يَجْمَعُهُمْ كِتَابٌ حَافِظٌ، يُرِيدُ الدِّيوَانَ، قَالَ كَعْبٌ: فَمَا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَتَغَيَّبَ إِلاَّ ظَنَّ أَنْ سَيَخْفَى لَهُ مَا لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ وَحْيُ اللَّهِ، وَغَزَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تِلْكَ الْغَزْوَةَ حِينَ طَابَتْ الثِّمَارُ وَالظِّلاَلُ، وَتَجَهَّزَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ».
18) عدم كتابة الجند مع الكثرة فرصة للتغيب والتخلف: «وَالْمُسْلِمُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَثِيرٌ، وَلاَ يَجْمَعُهُمْ كِتَابٌ حَافِظٌ». ولكن التربية النبوية جاوزت كل التوقعات، حيث لم يتغيب إلا ثلاثة، وأما الباقون فبين معذور أو منافق.
كثيرون هم أهل الضعف الذين يحرصون على حضور المجامع الضخمة بحيث يظن بهم الخير، ويقلون ويتفلتون عند العمل الجاد والتكاليف. يكثرون عند الطمع ويقلون عند الفزع، فالتخلف يتضح وقت الشدائد، والمتقاعسون تحترق أوراقهم في تلك الأوقات، ويندمجون مع السباقين في وقت الرخاء:
سَيَذكُرُني قَومي إِذا جَدَّ جِدُّهُم *** وَفي اللَيلَةِ الظَلماءِ يُفتَقَدُ البَدرُ([19])
وقال آخر:
فَما أَكثَرَ الإِخوانَ حينَ تَعدُّهُم ***وَلَكِنَّهُم في النائِباتِ قَليلُ([20])
19) أهمية استشعار مراقبة الله: قال كعب: «فَمَا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَتَغَيَّبَ إِلاَّ ظَنَّ أَنْ سَيَخْفَى لَهُ مَا لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ وَحْيُ اللَّهِ»، وقال جابر: «كنا نعزل والقرآن ينزل.. »([21])، وقال عمر: «خشيت أن ينزل فيَّ قرآن»([22]).
وهنا تأتي أهمية ربط الناس بمراقبة الله - تعالى -لهم وتعاهدهم بذلك بين الفينة والأخرى، فإن الإيمان يَخْلَق كما يَخْلَق الثوب.
20) أثر التعلق بالدنيا في القعود عن عظائم الأمور: «حِينَ طَابَتْ الثِّمَارُ وَالظِّلاَلُ، وَتَجَهَّزَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ، فَطَفِقْتُ أَغْدُو لِكَيْ أَتَجَهَّزَ مَعَهُمْ فَأَرْجِعُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا». وكثير من الناس يمنعه من العمل الجاد المثمر - مع علمه بعظيم نفعه وأثره - صعوبة التضحية بالمال أو الجهد أو المرتبة أو الأصحاب..
فإذا كانت الدنيا قد قعدت برجل يعد من أفاضل الصحابة وممن شهد العقبة، فكيف بغيره، ولهذا ينبغي للمسلم لا سيما الداعية إلى الله الحذر والتوقي من مصيدة الدنيا التي تقعده عن الخير وهو لا يشعر.
حبُّ السلامةِ يَثْني همَّ صاحِبه *** عن المعالي ويُغرِي المرءَ بالكَسلِ
فإن جنحتَ إليه فاتَّخِذْ نَفَقاً *** في الأرضِ أو سلَّماً في الجوِّ فاعتزلِ([23])
ومن طبيعة الإنسان المتأصلة فيه الانشغال بالنعم عن شكرها والاعتراف بها للمنعم، وهكذا كل من خلت نفسه من التزكية والتربية نسي المتفضل عليه والمربي له بالنعم وأعرض عن ذكره وبارزه بالمعاصي. كما قال - تعالى -: "وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَؤُوساً"([24]). وقال - سبحانه -: "وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ"([25]).
____________________
([1]) الجرح والتعديل (7/160).
([2]) سير أعلام النبلاء (2/524).
([3]) سورة الأنفال: 75، سورة الأحزاب: 6. والأثر في التدوين في أخبار قزوين (4/194).
([4]) تاريخ دمشق (50/187-188).
([5]) السنن الكبرى للبيهقي (10/241).
([6]) تاريخ دمشق لابن عساكر (50/193).
([7]) أخرجه ابن أبي الدنيا في الإشراف على منازل الأشراف (ص301) بإسناده عن ابن سيرين، وانظر: سير أعلام النبلاء (2/525).
([8]) بيت من الوافر، من قصيدة مطلعها:
قَضَيْنَا مِنْ تِهَامَةَ كُلَّ رَيْبٍ*** وخيبَر ثمَّ أَجْمَمْنَا السّيُوفا
([9]) سورة الكهف: 30.
([10]) المعرفة والتاريخ (1/316).
([11]) بيت من الطويل، من قصيدة مطلعها:
أَلا تَسأَلانِ المَرءَ ماذا يُحاوِلُ *** أَنـَحبٌ فَيُقضى أَم ضَلالٌ وَباطِلُ
([12]) البيان والتبيين (ص 167)، وأنباء نجباء الأبناء (ص 134).
([13]) زاد المعاد (3/501).
([14]) عدة الصابرين (ص 121).
([15]) طريق الهجرتين (ص270).
([16]) انظر: سنن الدارمي (1/79).
([17]) زاد المعاد (3/501).
([18]) أخبار الحمقى والمغفلين (ص116).
([19]) بيت من الطويل لأبي فراس الحمداني.
([20]) بيت من الطويل لعلي بن أبي طالب - رضي الله عنه -.
([21]) صحيح البخاري (5/1998)، صحيح مسلم (2/1065).
([22]) صحيح البخاري (4/1915).
([23]) البيتان من بحر البسيط، للحسين بن علي الطغرائي من لاميته المشهورة بلامية العجم.
([24]) سورة الإسراء: 83.
([25]) سورة يونس:12