بيان حقيقة العبادة وتوحيدها للخالق سبحانه
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله صفوته من خلقه وأمينه على وحيه نبينا وإمامنا وسيدنا محمد وعلى آله وصحبه، ومن سلك سبيله واهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن الله جل وعلا أوجب على عباده أن يعبدوه ويتقوه ويأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، قال الله عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ}[1] فنبه سبحانه أنه خلق الثقلين الجن والإنس ليعبدوه وحده، وعبادته هي طاعة أوامره وترك نواهيه عن إيمان به سبحانه وإيمان برسله وعن إخلاص له في العبادة وعن إيمان بكل ما أخبرت به الرسل عليهم الصلاة والسلام، ومن هذه العبادة التي من أجلها خلق الثقلان أن يعظموا أوامره ونواهيه، وأن يصرفوا العبادة له سبحانه وحده دون كل ما سواه، وأن يطيعوا أوامره وأن ينتهوا عن نواهيه متبعين في ذلك ما دل عليه كتابه وجاءت به سنة نبيه عليه الصلاة والسلام، فقد أمر الله بذلك عباده في آيات كثيرات كما قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[2]، فبين سبحانه أنه خلقهم ليعبدوه ويتقوه فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ}[3] أي وحدوه، كما قال ابن عباس وغيره: كل عبادة في القرآن فمعناها التوحيد، ثم أكد سبحانه ذلك بقوله: {الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[4]، أي تتقونه جل وعلا بفعل أوامره وترك نواهيه سبحانه وتعالى، ثم بين سبحانه شيئاً من الدلائل على استحقاقه للعبادة فقال جل وعلا: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[5]، فهو سبحانه خالق الأرض وما فيها من جبال وأشجار وأنهار وبحار وحيوان وغير ذلك، وجعلها فراشا لعباده ليستعين بذلك عباده على أداء حقه سبحانه وتعالى فهو خلقهم ليعبدوه ويتقوه، وخلق لهم ما في الأرض من النعم وأنزل لهم المطر من السماء ليستعينوا بذلك على طاعته كما قال سبحانه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}[6]، فالأرض مهاد، والسماء سقف محفوظ، وأنزل من السماء المطر وهو الماء الذي أخرج به سبحانه أنواع الثمرات وأنواع الخيرات رزقاً للعباد ليستعينوا بذلك على أداء حقه وعلى ترك ما نهى عنه وعلى موالاة أوليائه، وعلى معاداة أعدائه سبحانه وتعالى. وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}[7]، وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ}[8]، وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا}[9] الآية، وقال تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ}[10]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}[11]، وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ}[12]، وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ}[13] الآية، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أنه سبحانه ربهم وإلههم ومعبودهم الحق جل وعلا، والدالة على أن المؤمنين به سبحانه هم أولى الناس بأن يعظموه ويتقوه وينقادوا لأمره سبحانه وتعالى، وقد أنزل سبحانه الكتب على أيدي الرسل لبيان هذا الحق العظيم الذي من أجله خلقهم وأمرهم بالتقوى والعبادة، فأنزل الله الكتاب العظيم القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم بين فيه حقه على عباده، وأوضح فيه تفاصيل ما شرع، وأمر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم ببيان ذلك والإرشاد إليه وتفصيل أحكامه كما قال عز وجل: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}[14]، فالله أنزل إليه الذكر وهو القرآن ليبين للناس ما أنزل إليهم، ويشرح لهم ما قد يشكل عليهم، فقام عليه الصلاة والسلام بالبيان والبلاغ أكمل قيام وأوضح للأمة دينها وشرح لها ما تحتاج إليه، فما من خير إلا دلها عليه، وما من شر إلا حذرها منه، كما صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ((ما بعث الله من نبي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلم لهم وينذرهم شر ما يعلمه لهم)) أخرجه مسلم في صحيحه. فكل الرسل عليهم الصلاة والسلام بعثوا بهذا الأمر ليدلوا الناس على خير ما يعلمون لهم، وينذروهم شر ما يعلمون لهم. ونبينا صلى الله عليه وسلم هو أكمل الأنبياء رسالة، وأكملهم بلاغا، وأعظمهم نصحا، فقد بلغ وأرشد وحذر، ودل على كل خير، وحذر من كل شر عليه الصلاة والسلام ومن ذلك أن الله سبحانه أمر عباده بالاتحاد والتعاون على البر والتقوى وأن يكونوا جسداً واحداً وبناء واحداً ضد أعدائه، وأن يتميزوا عن عدو الله الذي لم ينقد لأمره، ولم يعظم أوامره ونواهيه، ولم يخصه بالعبادة سبحانه وتعالى، حتى يتميز حزب الله من حزب عدوه الشيطان، وحتى يتميز أولياؤه عن أولياء عدوه الشيطان وحتى يتميز المطيعون له سبحانه المتبعون لشرعه المنقادون لأمره والواقفون عند حدوده عن أعدائه الذين خالفوا أمره وتولوا أعداءه وتعدوا حدوده، ولم ينقادوا لما جاء به الرسل، فقال عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[15] هكذا وصف سبحانه عباده المؤمنين الذين امتثلوا أمره سبحانه وتعالى وحققوا عبادته التي خلقوا لها فقال عنهم: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} بينهم المحبة والموالاة والنصح فيما بينهم ليسوا أعداءه ولكنهم أولياءه كل واحد يحب لأخيه الخير ويكره له الشر وينصحه ويدعوه إلى الخير ويعينه على البر والتقوى، ولا يغتابه ولا ينم عليه، ولا يكذب عليه، ولا يشهد عليه بالزور، ولا يخونه في المعاملة، ولا يغشه في ذلك بل هو وليه وحبيبه والناصح له، هكذا المؤمنون والمؤمنات بالله سبحانه وتعالى وصفهم سبحانه بأنهم أولياء، فالمؤمن ولي أخيه، والمؤمنة ولية أختها في الله، والمؤمنون والمؤمنات فيما بينهم جميعا أولياء رجالا ونساء كلهم أولياء، وهذا يميزهم عن أعدائهم أعظم تمييز، لتمسكهم بدينهم، وتناصحهم في ذلك، وكمال قيامهم بحق مولاهم سبحانه وتعالى كما مدحهم سبحانه في آية أخرى من سورة الأحزاب فقال سبحانه: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}[16]، هكذا يصف سبحانه أولياءه من الرجال والنساء بصفات عظيمة وأخلاق كريمة، ويخير سبحانه أنه أعد لهم مغفرة لذنوبهم وأجرا عظيما منه بدخولهم الجنة ونجاتهم من النار لإسلامهم وإيمانهم وتقواهم وقيامهم بحقه سبحانه وتعالى بخلاف أعدائه سبحانه فقد قال فيهم: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ}[17]، وقال سبحانه: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ}[18] فأعداؤه بعضهم من بعض وبعضهم أولياء بعض في الباطل والفساد. أما أولياؤه فهم ممتازون عن أعدائه ومنحازون عنهم وهم فيما بينهم أولياء يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، لا يمنعهم من ذلك قرابة ولا صداقة ولا حظ عاجل، ولا يحملهم ما بينهم من المحبة والولاية أن يسكتوا عن المنكر أو الأمر بالمعروف؛ لأن مقتضى هذه الولاية أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، وهكذا النصح لله ولعباده حتى يصلح مجتمعهم وتستقيم أحوالهم، وحتى يتميزوا عن أعدائهم، والمعروف ما أمر به الله ورسوله، والمنكر ما نهى عنه الله ورسوله، فالمؤمنون والمؤمنات فيما بينهم هكذا شأنهم متناصحون متحابون في الله يوالي بعضهم بعضا، وينصح بعضهم بعضا، ويحب كل واحد لأخيه الخير ويكره له الشر، ومع ذلك هم أيضا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فالولاية شأنها عظيم.
ومن جملة ما توجبه الموالاة في الله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يرضى من أخيه أن يعمل ما يغضب الله سبحانه عليه ويجره إلى دخوله النار، بل يحب له كل خير، ويكره له كل شر، ويأمر بما يرضي الله ويقربه إليه، وينهاه عما يغضب الله عليه ويجره إلى سوء المصير.
ومن صفات المؤمنين والمؤمنات العظيمة: أنهم يقيمون الصلاة كما شرع الله، يحافظون عليها ويدعون إليها، ويؤدونها كما أمر الله عن صدق وإخلاص، وعن طمأنينة وخشوع، ومداومة عليها، وأداء حقها، ليسوا كالمنافقين لا يؤدونها إلا رياء أو لغرض دنيوي. أما المؤمنون والمؤمنات فهم يؤدونها لله يرجون ثوابه ويخشون عقابه ويقيمونها كما أمرهم سبحانه، وهكذا أداؤهم للزكاة كما أمر الله، ويعلمون أن ذلك حق عليهم وأن ذلك من نعم الله عليهم وقد أحسن إليهم ووسع عليهم وأعطاهم المال وأوجب عليهم الشيء اليسير شكرا له سبحانه ومواساة لإخوانهم ثم قال بعد ذلك: {وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} وهذا تمام الإيمان وكمال الاتباع طاعة الله ورسوله في كل شيء، فإن المعاصي تنقص الإيمان وتضعفه، فأهل الإيمان الكمل يطيعون الله ورسوله في كل شيء ويبتعدون عن معصية الله ورسوله في كل شيء، وذلك من كمال إيمانهم وتقواهم لله سبحانه وتعالى، ومتى زلت القدم وجاءت الغفلة وحصل ما حصل مما يحصل من الإنسان من بعض الزلات بادروا بالتوبة والإصلاح، وكل فرد من المؤمنين والمؤمنات ليس معصوما ما عدا الرسل عليهم الصلاة والسلام، فمتى زلت قدم الإنسان فحصل منه هفوة وزلة من المعاصي بادر بالتوبة والإصلاح بادر بالإنابة إلى الله حتى تزول تلك الهفوة، وحتى يزول ذلك الضعف، وحتى يعود إلى كمال إيمانه وكمال تقواه لله سبحانه وتعالى، فإن الإيمان عند أهل السنة والجماعة قول وعمل يزيد وينقص، يزيد بالطاعات وبذكر الله وينقص بالمعاصي والغفلة عن ذكر الله.
ومن كمال أولياء الله المؤمنين ومقتضى إيمانهم الموالاة في الله والمعاداة في الله، وهم يتحرزون غاية التحرز من الاختلاط بأعداء الله ويحذرون مغبة ذلك، فإن الاختلاط بأعداء الله وهم الكفار من اليهود والنصارى والشيوعيين والوثنيين وسائر المعتقدات وغيرهم من سائر فرق الكفر خطير جدا وقد حصل بسبب ذلك بلاء عظيم وشر مستطير في العصور المتأخرة على المسلمين إلا من عصمهم الله ورحمهم فسلمهم سبحانه وتعالى من شرهم بسبب إيمانهم وتقواهم، وحذرهم من موالاة أعداء الله والركون إليهم، فالخلطة تجر شرا كثيرا وفسادا عظيما وخاصة عند قلة العلم وقلة الغيرة وضعف الإيمان وكثرة المغريات وقلة الناصحين والموجهين، فإن المخالط في الغالب يجره عدو الله إلى ما يحصل به له سخط الله، وبعده عن أسباب رحمته وإيقاعه له فيما يبعده من دينه؛ فتارة بتزيين الشرك له والكفر بالله حتى يسلخه من دينه، وتارة بتزيين المعاصي والمخالفات حتى يقع فيما ينقص دينه ويضعف إيمانه، والمعاصي كما قال أهل العلم بريد الكفر ووسيلة لسوء الخاتمة نعوذ بالله، من ذلك فأعداء الله لا يفترون عن أسباب تزيين الباطل؛ لأهل الإيمان ودعوتهم إليه وتشكيكهم في دينهم، وإدخال الشبهة عليهم حتى يتزعزع إيمانهم وإسلامهم ويبقوا حيارى أو ينتقلوا من دين الحق إلى دين الباطل كما قال عز وجل في سورة آل عمران: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ}[19]، والآيات في هذا المعنى كثيرة، ومن ذلك قول الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ}[20] يعني بالإقامة بين المشركين، {قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} أي قالت لهم الملائكة: {فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا}[21]، فبين في هذه الآية العظيمة خطر المشاركة والإقامة بين المشركين والمخالطة لهم وأن المخالطة تؤدي إلى خطر عظيم، وهذه نزلت في قوم من المسلمين كانوا بمكة فخرجوا مع أعداء الله في بدر وقتل منهم من قتل مع المشركين، والمشهور أنهم كانوا مكرهين ولو خرجوا مقاتلين طائعين كانوا مرتدين، ولكن بسبب إقامتهم بين المشركين اجترؤوا عليهم وساقوهم إلى ما ساقوهم إليه من المشاركة في قتال المسلمين. وقال بعض السلف إنهم كفروا بذلك لأنهم ظاهروا المشركين وساعدوهم فصاروا بذلك مثلهم؛ لأن من ظاهر المشركين وساعدهم على المسلمين صار مرتدا عن دينه لقوله تعالى:{وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[22]، فهم بين أمرين: من كان مواليا لهم مساعدا لهم موافقا لهم على قتال أولياء الله كفر، ومن كان مكرها لم يرض بذلك وإنما أكره عليه فقد أساء بإقامته بينهم وعدم بداره بالهجرة فكانت إقامته وسيلة وذريعة إلى أن خرج مقاتلا ومساعدا لأعداء الله، وبهذا يتبين خطر الإقامة بين المشركين والمخالطة لأعداء الله، فهو إن ساعدهم وظاهرهم على المسلمين ارتد عن دينه وكفر بذلك، وإن سلم من ذلك صارت إقامته وسيلة إلى أن يوافقهم في بعض الباطل أو على ترك بعض الحق، وربما خرج عن دينه بتشكيكهم له ودعوتهم له إلى الباطل وأنواع الكفر، فوجب على المسلم أن يحذر المخالطة لأعداء الله ويتميز عنهم ويبتعد عن مكائدهم حذرا من شرهم، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ}[23] الآية قال ما نصه: (كل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة وليس متمكنا من إقامة الدين فهو ظالم لنفسه مرتكب حراما بالإجماع) انتهى كلام الحافظ رحمه الله.
لأن المخالطة لهم والإقامة بينهم من المحرمات المعلومة من الدين بالضرورة في حق من لا يظهر دينه، ولهذا قال الحافظ رحمه الله: ارتكب محرما بالإجماع؛ لأن بقاءه بينهم وسيلة إلى ما لا تحمد عقباه من كفره بالله وموافقته لهم على باطلهم. وقد روى أبو داود والترمذي والنسائي بإسناد جيد عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أنا بريء من كل مسلم يقيم بين المشركين))، وما ذلك إلا لأن إقامته بينهم وسيلة إلى كفره بالله أو إلى نقص دينه وضعف قيامه بحق مولاه سبحانه وتعالى. وخرج النسائي رحمه الله بإسناد صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لا يقبل الله من مشرك عملا بعد ما أسلم أو يفارق المشركين)) والمعنى: حتى يفارق المشركين.
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، لكن من رزق الإيمان والعلم والبصيرة وخالطهم للدعوة إلى الله وبيان الحق والإرشاد إليه وإنكار الباطل فهذا لا شيء عليه لإظهاره دينه بدعوته لهم إلى الحق والهدى كما دعا الرسل وأولياء الله صنوف الكفار إلى الحق والهدى، فإذا خالطهم لهذا الأمر عن علم وعن بصيرة وعن قصد لإنقاذهم من الباطل وإخراجهم من الظلمات إلى النور فهذا له أجر عظيم؛ لأنه دعا إلى الله وأظهر دينه وتميز عن أعداء الله بانضمامه إلى أولياء الله ودعوته إلى حزب الله واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، فالدعاة إلى الله الذين تأهلوا لذلك وحصلوا من العلم على ما يعينهم على ذلك وتميزوا عن أعداء الله بإظهار الحق والدعوة إليه لهم أجر عظيم؛ لأنهم إنما خالطوهم للدعوة إلى الله وبيان الحق لهم، فهؤلاء على خير عظيم وعلى هدى من الله عز وجل كما فعلت الرسل ومن نصرهم من أولياء الله، وأما من خالطهم من غير علم ولا توجيه فهو على خطر عظيم من وجوه كثيرة: خطر من جهة ولايتهم عليه، وخطر من جهة عدم إنكاره الباطل عليهم وخطر من جهة قلة علمه، فقد يضل بسبب ما يلقون عليه من الشبه التي تحيره في دينه أو تسلخه من دينه ولا حول ولا قوة إلا بالله، فالواجب على كل مسلم أن يحذر خلطتهم والتساهل في القرب منهم، وأكثر من ذلك وأكبر أن يسافر إلى بلادهم، فإن السفر إلى بلادهم مع قلة العلم وقلة البصيرة فيه ضرر كبير وخطر عظيم، فإن الشرك بالله بينهم ظاهر والمعاصي بينهم ظاهرة من الزنا وشرب الخمور وغير ذلك، فالسفر إلى بلادهم ولا سيما مع قلة العلم وقلة الرقيب من أعظم الأسباب في الوقوع في الباطل واتباع ما يدعو إليه الشيطان من الشبهات الباطلة والشهوات المحرمة، وقد سافر كثير إليهم من أجل الدراسة أو السياحة أو العمل أو غير ذلك فرجعوا بشر عظيم، وانحراف شديد، وربما رجع بعضهم بغير دينه إلا من سلمه الله ورحمه وهم القليل، فالواجب على المسلمين أن يكون عندهم نفور من أعداء الله وحذر من مكائدهم أينما كانوا، وأن لا يقربوهم إلا دعاة إلى الحق وموجهين إلى الخير وناصحين حتى يتميز هؤلاء عن هؤلاء، وحتى يحذر المؤمن شرهم وشبههم وما يدعون إليه من الباطل، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم في مكة مع ضعفهم وخوفهم ومع أذى الكفار لهم يقومون بهذا الأمر ويدعون إلى الله ويوجهون إليه، ومنهم من خاف واستتر بإيمانه حتى يجعل الله له فرجا ومخرجا، ولا يخفى ما قد حصل في هذا العصر من الاختلاط الكثير، فالواجب على المؤمن أن يهتم بهذا الأمر وأن يحذر ما وقع فيه كثير من الناس من مخالطة أعداء الله والأنس بهم، وأن تكون المخالطة للبيان والإيضاح والدعوة إلى الحق والتوجيه والنصح لا للمودة والصداقة والتساهل بأمر الله عز وجل، فإن هذا فيه شر عظيم وعواقب وخيمة والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وأسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يوفقنا وجميع المسلمين للعلم النافع والعمل الصالح، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا جميعا وأن ينصر دينه ويعلي كلمته ويخذل أعداءه، وأن يوفق المسلمين في كل مكان للفقه في دين الله والاستقامة عليه وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه، وأن يوفق قادة المسلمين في كل مكان لما فيه رضاه وصلاحهم وصلاح شعوبهم، وأن ينصر بهم الحق وأن يوفقهم لتحكيم شريعة الله والدعوة إليها والحذر مما يخالفها، وأن يوفق ولاة أمرنا وأن يعينهم على ما فيه رضاه، وأن يصلح لهم البطانة وينصر بهم الحق، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهديه إلى يوم الدين.
[1] سورة الذاريات الآية 56.
[2] سورة البقرة الآيتان 21-22.
[3] سورة البقرة الآية 21.
[4] سورة البقرة الآية 21.
[5] سورة البقرة الآية 22.
[6] سورة البقرة الآية 29.
[7] سورة النساء الآية 1.
[8] سورة الحج الآية 1.
[9] سورة آل عمران الآيتان 102،103.
[10] سورة فاطر الآية 5.
[11] سورة الحجرات الآية 13.
[12] سورة لقمان الآية 33.
[13] سورة البينة الآية 5.
[14] سورة النحل الآية 44.
[15] سورة التوبة الآية 71.
[16] سورة الأحزاب الآية 35.
[17] سورة الأنفال الآية 73.
[18] سورة التوبة الآيتان 67-68.
[19] سورة آل عمران الآيات 118-120.
[20] سورة النساء الآية 97.
[21] سورة النساء الآيات 97-99.
[22] سورة المائدة الآية 51.
[23] سورة النساء الآية 97.
موقع الشيخ ابن باز رحمه الله