ليبلوكم أيكم أحسن عملا
لفضيلة الشيخ ربيع بن هادي عمير المدخلي
كتبه حينما كان في الدراسات العليا بمكة المكرمة
مقال نشر في مجلة الجامعة الإسلامية في العدد 24 في شهر ربيع الثاني لعام 1394هـ في الصفحة (101-110)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله إمام الموحدين وقائد الغر الميامين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، وبعد:
فإن الله العليم الحكيم في خلقه وشرعه وقدره وفي أقواله وأفعاله قد خلق هذا الكون الكبير السموات والأرض وما فيها من آيات عظيمة مما يشاهد وما لا يشاهد وما يعلمه الإنسان وما لا يعلمه لحكمة عظيمة وغاية جليلة هي ابتلاء البشر في هذه الحياة الدنيا واختبارهم أيهم أحسن عملاً، كما ذكر ذلك في محكم ذكره {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}, وهذا الابتلاء هو المذكور في قوله: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} وهو المقصود في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ} ومن هنا يعلم الإنسان مكانته في هذا الوجود ويعرف قيمته.
وأن هذا الامتحان والابتلاء الذي أعده الله له أمر له خطره بحيث سخر من أجله هذا الكون العلوي والسفلي فالسماوات بأفلاكها وكواكبها وشمسها وقمرها قد سخرت لك أيها الإنسان لتقوم بأداء هذا الامتحان على أكمل الوجوه، قال الله تبارك وتعالى: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)
وشكر الله المذكور في الآية يتحقق بالقيام بتلك الغاية التي خلقت من أجلها, والتفكير الجاد في هذا الكون والتدبر الواعي للقرآن والسنة يؤديان إلى القيام بهذا الشكر، والله تبارك وتعالى يلفت أنظار عباده إلى حسن عنايته بالإنسان {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ}, فيها حض لعباده الواعين الذين أدركوا المهمة التي خلقوا من أجلها أن يغتنموا الفرصة التي أتيحت لهم فلا يضيعوها, ثم بيّن لهم أنه قد أعدّ لهم كل ما من شأنه أن يساعدهم على القيام بواجبهم على أتم الوجوه وأن لهم منزلة عظيمة عند الله بحيث أن ما يشاهدونه مما بين أيديهم وما خلفهم من السموات والأرض قد سخر لهم حتى يشعروا بعظم النعمة وجسامة المسؤولية {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ).
إمكانية الإنسان
وإن الله سبحانه قد زود الإنسان بطاقات ومواهب ترفعه إلى مستوى المسؤولية التي ألقيت على كاهله وتؤهله للخلافة في الأرض فزوده بما يلي:
1_ بالعقل الذي يميز به بين الحق والباطل والضار والنافع وأناط التكاليف وربطها بوجوده ورفع التكاليف عند فقدانه.
2_ وهيأ تكوينه وتركيبه الجسمي أحسن تهيئة وأعده أحسن إعداد وخلقه في أحسن تقويم يتلاءم تمام التلاؤم والموافقة مع ما كلفه الله به من أعمال وواجبات فيزاولها ويقوم بها بسهولة ويُسر فهو يختلف عن سائر الحيوانات بهذا التركيب الجميل الممتاز والتقويم الأحسن، كلفه بالطهارة على اختلاف أنواعها وتكوينه الجسمي يساعده على القيام بها. وكلفه بالصلاة وهيئته قد أعدها الله أحسن إعداد للقيام بهذا الواجب فهو يستطيع كل أفعال الصلاة من قيام وركوع وسجود كما يستطيع أن يؤدي كل الأقوال من قراءة وتسبيح وسائر الأذكار.
3_ وزوده إلى جانب ما ركزت فيه من فطرة الاعتراف بالله بإرسال الرسل وإنزال الكتب التي فيها يترتب تفاصيل وبيان كل الواجبات والتكاليف التي يجب أن ينهض بها وما يترتب عليها من سعادة ونعيم وجزاء حسن إن هو قام بها وأداها على الوجه المطلوب، وقبل هذا زوده إلى جانب ما فُطر عليه من فطرة الله وما يؤيد هذه المعرفة من آيات كونية باهرة يشاهدها بعينه ويسمعها بأذنه فتوحي إلى قلبه بما فيها من روعة وجمال وعظمة وإبداع بقدرة خالقها الهائلة وعلمه المحيط الشامل وحكمته العليا التي تضع كل شيء في موضعه, زوده بما يعرف به من صفات خالقه ونعوت جلاله مما يزيده علماً وبصيرة ومحبة وتعلقاً بهذا الرب العظيم .
وعلى ضوء ما سبق من ذكر الخالق العظيم الموصوف بصفات الكمال ونعوت الجلال, ومن ذكر العبد الذي زوده الله بوسائل عظيمة تؤهله لمعرفة الله وعبادته والقيام بالخلافة في أرضه نستطيع أن نقول إن توحيد الله الذي جاءت به الرسل ودعت إليه ونزلت لبيانه الكتب السماوية نوعان:
1_ توحيد المعرفة والإثبات.
2_ توحيد الطلب والقصد.
فتوحيد المعرفة والإثبات _ وهو يشمل توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات, هو إثبات حقيقة ذات الرب تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله على أساس تنزيهه عن مشابهة المخلوقين, وهذا المبدأ وهو مبدأ التنزيه يرتكز على أدلة وبراهين من القرآن العظيم مثل قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}, {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً}, {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ).
وبتعبير آخر نقول إنه يجب الإيمان بما ورد في القرآن والسنة من صفات الله من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل, وهذا المنهج هو منهج السلف الصالح وهو الصراط المستقيم الذي يضمن للمؤمن السلامة من التخبط في ظلمات التشبيه والتعطيل .
إذا المشبه كما يُقال يعبد صنماً والمعطل يعبد عدماً, وأدلة هذا النوع من التوحيد كثيرة جداً نذكر ما يتيسر، قال تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ, هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ, هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
جمعت هذه الآية بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات،
وقال تعالى: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ, هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ, هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} الحديد.
وقال تعالى: {طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى. إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى. تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى. الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى. لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى. وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى. اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى).
وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ, يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} السجدة.
وقال تعالى: {الم اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
وقال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ).
دلت هذه الآيات على صفات كمال تليق بجلاله وعظمته وهي الإلهية وعلم الغيب والشهادة والرحمة والملك والقدوسية والهيمنة والعزة والجبروت والكبرياء وكونه السلام المؤمن الخالق البارئ المصور والمختص بالأسماء الحسنى وخضوع أهل السماوات والأرض له والعزة والحكمة والأولية والتفرد بالإحياء والإماتة والقدرة الشاملة والأولية المطلقة التي لم يسبقها شيء والآخرية التي ليس بعدها شيء والاستواء على العرش وكونه في السماء على الوجه اللائق به .
وله صفات أخرى مثل السمع والبصر والإرادة دلت عليها أدلة أخرى من الكتاب والسنة لا يتسع المقام لذكرها كلها يجب أن يكون موقف المؤمن إزاءها موقف الإيمان الكامل والتسليم المطلق وأن يتلقاها بصدر رحب ونفس مطمئنة لا يتسرب إليها حرج أو شك,
إلا أنه مع الأسف قد لعب الشيطان برؤوس أناس اختلفت نظراتهم ومواقفهم من هذه الصفات ما بين غال في الإثبات إلى أن انحدر إلى مستوى لا يليق به فشبه الله بخلقه ولم يقرأ مثل قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}, مما يفيد التنزيه وما بين معطل جريء جحد صفات الكمال ونعوت الجلال وهم ما بين شجاع أعلى هذا الجحد وأبدى صفحته غير هياب ولا متلعثم وما بين مختف وراء ستار من التحريفات سميت تأويلات, وبين ذلك الإفراط وهذا التفريط منهج السلف الصالح وعلى رأسهم رسول الله وصحابته الكرام والتابعون لهم بإحسان وأئمة الهدى, هذا المنهج هو كما قدمنا الإيمان بما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل .
ولنذكر هنا ثلاث صفات يتجلى له من خلال الكلام عليها أن الحق كان فيها حليف أهل السنة والجماعة وأن طريقهم هو الطريق المستقيم الذي لا يجوز العدول والإنحراف عنه.
1_ صفتا العلو والاستواء على العرش،
أما صفة الاستواء فقد وردت في القرآن الكريم في سبعة مواضع,
1_ في سورة الأعراف
2_ وفي سورة يونس.
3_ وفي سورة هود.
4_ وفي سورة طه.
5_ وفي سورة السجدة.
6_ وفي سورة الرعد.
7_ وفي سورة الحديد.
وأما صفة العلو فقد دلت عليها نصوص كثيرة من الكتاب والسنة مثل :
قوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِم).
وقوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ).
وقوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُه).
وقول الرسول صلى الله عليه وسلم للجارية "أين الله؟ قالت: في السماء, قال: اعتقها فإنها مؤمنة", وقصة معراج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الله في السماء،
وقد ألفت كتب في موضوع العلو والاستواء؛ مثل اجتماع الجيوش الإسلامية للإمام ابن القيم, والعلو للعلي الغفار للذهبي بلغت الأدلة فيها ما يقارب ألف دليل, والواقع أن القليل منها يكفي المؤمن الصادق ويقنعه ويفرض عليه الإيمان بهاتين الصفتين العلو والاستواء.
ثانيا: صفة الرحمة
قال بعض العلماء وهو ابن الوزير وقد أخذته الدهشة من موقف الأشاعرة كيف تجرؤوا على تأويل صفة الرحمة وقد وردت في القرآن أكثر من خمسمائة مرة بأسلوبي التأكيد التكرار, والتأكيد والتكرار عند علماء البلاغة يرفعان احتمال المجاز لو قلّ هذا التكرار والتأكيد فكيف لا يرتفع المجاز عن كلام الله وإن أكد وكرر بالمئين.
فمن ذينك الأسلوبين- التكرار والتأكيد- قوله تعالى في صدر كل سورة ما عدا سورة التوبة {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} مائة وثلاث عشرة مرة, وفي أثناء سورة النمل بعض آية {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}, ثم اختتام كثير من الآيات القرآنية باسمه تعالى الرحيم
وإنه لموقف مدهش غريب ولون من التناقض غريب من قوم يدعون أنهم هم أهل السنة والجماعة, وقد ألفت كتب كثيرة جداً في بيان الطريق الصحيح في الإيمان بصفات الله والرد على المعطلة والمشبهة, منها كتاب التوحيد لإمام الأئمة ابن خزيمة, والسنة للإمام أحمد بن حنبل, والرد على بشر المريسي لعثمان بن سعيد الدارمي, والسنة للالكائي, وغيرها من المؤلفات, وفي تراجم أمهات السنة منها ما هو صريح في الرد على الجهمية وهم المعطلة فتجد مثل الإمام أبي داود يقول- عقب حديث أورده فيه ذكر صفة الاستواء والنزول-: "وفي هذا رد على الجهمية", وابن ماجه يقول في ترجمة في كتابه أورد تحت هذه الترجمة أحاديث في الصفات قال في الترجمة:"باب الرد على الجهمية" ويورد تحتها كثيراً من الأحاديث في الصفات ممّا يشجع طالب الحق على التمسك بكل ما ورد في الكتاب والسنة من الصفات, والعض عليها بالنواجذ.
وأما توحيد الربوبية وهو الإيمان بأن الله وحده هو الخالق الرازق المحي المميت والمدبر لشؤون الكون فأدلته كثيرة جداً, منها ما تقدم ذكره في الآيات السابقة ومنها قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}, {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ}, {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْض}, {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}, {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً},{إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}, {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا}, {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ).
والآيات الكونية السماوات وما فيها من كواكب وأفلاك وإبداع صنعها وروعة جمالها ونظم سير السيارات منها في دقة مدهشة والأرض وما فيها من جبال راسية, وبحار زاخرة وما فيها من حيوان وأشجار ونبات وأزهار من أعظم الأدلة على خالقها العليم القدير الحكيم وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد، وقال أعرابي حينما سئل عن الله: "إن البعرة تدل على البعير والسير يدل على المسير فسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج وبحار ذات أمواج ألا تدل على اللطيف الخبير".
فهذا النوع من التوحيد من الأمور البديهية المسلمة عند جميع الأمم وفي جميع النحل إلا من كابر عقله وفطرته, وقد قصّ الله علينا في القرآن موضوع رسالات جميع الرسل إنه توحيد العبادة, وإن الرسل إنما كانوا يدعون أممهم إلى عبادة الله وحده، قال الله تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}, وحكى عن المشركين أنهم كانوا معترفين بوجود الله, وأنه خالق السماوات والأرض,{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}, {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ، فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ).
ومن الأدلة على هذا النوع وأن لهذا الكون خالقا أنشأه وأوجده؛ قانون السببية؛ وهو أنه لا بد لكل حادث من محدث، وإليه يرمز قوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ؟} أي أوجدوا من غير موجد أم هم أوجدوا أنفسهم؟ أي لا هذا ولا هذا بل الله أوجدهم، وظاهرة العناية والحكمة في هذا الكون تدل على الخالق الحكيم, وأنه لا مجال للمصادفة العمياء التي يزعمها عمي القلوب والأبصار الصم والبكم الذين لا يعقلون.
أما توحيد العبادة فهو محور جميع الرسالات السماوية ومعناه إفراد الله تعالى بجميع أنواع العبادة, والعبادة هي الخضوع المطلق لله وتوجيه العبادات والمطالب والرغبات كلها إليه, أو بتعبير آخر هي أمر جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية, وتوجيه أيّ عبادة لغير الله المعبود الحق يعتبر شركاً به ومخالفة دنيئة لما فرضه الله على عباده وانحرافاً شنيعاً عن الغاية الرئيسية التي خلق الله الإنسان من أجلها وسخر له ما في السموات والأرض كي يتسنى له القيام بها على الوجه المطلوب، وإذا استعرضنا القرآن نجد أن مدار جميع الرسالات وهدفها الأصيل هو إرجاع الناس إلى هذه الغاية الخطيرة كلما انحرفوا عنها قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ}، وقال:{وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ},وقال:{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُه}, وقال تعالى:{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُه}. وهذا النوع من التوحيد هو معنى لا إله إلا الله؛ فإن قولهم جميعاً {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} هو نفس معنى لا إله إلا الله, والمعنى الحقيقي لهذه الكلمة: لا معبود بحق إلا الله, وليس معناها لا خالق ولا رازق إلا الله,كما يتوهم بعض الناس ممن لا يفهم معناها, بل معناها ما ذكرنا لا معبود بحق إلا الله كما نقل ذلك عن ابن عباس وجماعة من أهل التفسير واللغة.
ونرى لزاماً علينا أن نكشف عن معنى العبادة وأنواعها التي هي مدلول لا إله إلا الله, وأن صرفها لغير الله يُعد شركاً به وإبطالاً لمضمون هذه الكلمة، فمنها الدعاء قال تعالى:{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}, وقال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}, وقال تعالى- زاجرا عن دعاء غيره من ميت وغائب-:{وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ}, وقال تعالى:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ}. وقال تعالى:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً}, وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "من مات وهو يدعو من دون الله نداً دخل النار", ومنها الاستعانة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله"
ومنها الاستغاثة وهي دعاء في حال الشدة, ومن الأدلة عليها ما تقدم في الدعاء ومنها قوله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ).
ومنها الذبح قال تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ).
وقال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله من ذبح لغير الله".
ومنها الرجاء قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} ومنها الإنابة قال تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ}، ومنها التوكل قال تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}, ومنها المحبة قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} ومنها الخشية والخوف {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ},{فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ}, وقال تعالى في مدح الأنبياء: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}، ومنها الركوع والسجود قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).
ومنها الخشوع قال تعالى:{وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً}. ونستخلص من الأدلة السابقة أن الدعاء عبادة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدعاء هو العبادة".
والاستعانة بالمخلوق في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله عبادة والاستغاثة بالمخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله عبادة.
والصلاة والذبح والنحر والرجاء والإنابة والتوكل والمحبة والخشية والرغبة والرهبة والركوع والسجود والخشوع هذه الأمور كلها عبادات لا يجوز أن يتوجه بها العبد إلا لله ولا يصرفها إلا لجلاله, وإن صرفها لغير الله يعد شركاً به في خالص حقه, وإن منهاج جميع الرسل وهدف كل الرسالات هو إفراده سبحانه بالعبادة التي لم يخلقوا إلا لكي يقوموا بها لله وحده مخلصين له الدين، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.