السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الخطبة الأولى:
الحمد لله، أرسل رسوله بالهدى ودين الحق؛ ليظهره على الدين كله، ونشكره على ما أولانا من واسع كرمه وفضله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هدى من هدى بفضله، وأضل من ضل بحكمته وعدله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المصطفى من جميع خلقه صلى الله عليه وعلى آله وأتباعه وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
"ففي هذا الشهر؛ شهر ربيع الأول من العام الثالث عشر من البعثة، وصل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة مهاجراً من مكة، من البلد الأول للوحي، وأحب البلاد إلى الله ورسوله، خرج من مكة مهاجراً بإذن الله بعد أن أقام بمكة ثلاث عشرة سنة، يبلغ رسالة ربه، ويدعو إليه على بصيرة، فلم يجد من أكثر قريش وأكابرهم سوى الرفض لدعوته، والإعراض عنها، والإيذاء الشديد للرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن آمن به" حتى آل الأمر بهم إلى تنفيذ خطة المكر والخداع؛ لقتل النبي - صلى الله عليه وسلم - فاجتمع كبراؤهم في دار الندوة، وتشاوروا ماذا يفعلون برسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين رأوا أن أصحابه يهاجرون إلى المدينة، وأنه لابد أن يلحق بهم ويجد النصرة والعون من الأنصار؛ الذين بايعوه على أن يمنعوه مما يمنعون منه أبناءهم ونساءهم، وحينئذ تكون له الدولة على قريش، فقال عدو الله أبو جهل: الرأي أن نأخذ من كل قبيلة فتىً شاباً جَلْداً، ثم نعطي كل واحدٍ سيفاً صارماً، ثم يعمدوا إلى محمد فيضربوه ضربة رجل واحد، فيقتلوه ونستريح منه، فيتفرق دمه في القبائل فلا يستطيع بنو عبد مناف؛ يعني: عشيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يحاربوا قومهم جميعاً، فحينئذ يرضون بالدية فنعطيهم إياها(م1)، الله أكبر، هكذا يخطط أعداء الله؛ للقضاء على رسول الله، وبهذا القدر من المكر والخديعة، ولكنهم كما قال الله عز وجل: +يَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ" [الأنفال: 30]، قال الله تعالى: +وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ" [الأنفال: 30]، "فأعلم الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - بما أراد المشركون وأذن له بالهجرة، وكان أبو بكر - رضي الله عنه - قد تجهز من قبل للهجرة إلى المدينة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: على رسلك؛ أي: انتظر، فإني أرجو أن يؤذن لي، فتأخر أبو بكر - رضي الله عنه - ليصحب النبي صلى الله عليه وسلم، قالت عائشة - رضي الله عنها -: فبينما نحن في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة في منتصف النهار، إذا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الباب متقنعاً، فقال أبو بكر: فداء له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر، فدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال لأبي بكر: أخرج من عندك، فقال: إنما هم أهلك بأبي أنت وأمي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد أذن لي في الخروج، فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله، قال: نعم، فقال: يا رسول الله، فخذ إحدى راحلتي هاتين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بالثمن؛ يعني: آخذها بالثمن لا هدية، ثم خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر، فأقاما في غار جبل ثور ثلاث ليال، يبيت عندهم عبد الله بن أبي بكر، وكان - رضي الله عنه - غلاماً شاباً، ذكياً واعياً، ينطلق في آخر الليل إلى مكة فيصبح مع قريش، فلا يسمع بخبر حول النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر إلا وعاه حتى يأتي به إليهما حين يختلط الظلام، فجعلت قريش تطلب النبي - صلى الله عليه وسلم - من كل وجه، وتسعى بكل وسيلة؛ ليدركوا النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى جعلوا لمن يأتي بهما أو بأحدهما ديته مائة من الإبل، ولكن الله - عز وجل - كان مع نبيه وصاحبه، يحفظهما بعنايته، ويرعاهما برعايته، حتى إن قريشاً ليقفون على باب الغار فلا يرونهما، قال أبو بكر - رضي الله عنه -: قلت للنبي - صلى الله عليه وسلم - ونحن في الغار: لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تحزن، إن الله معنا، ما ظنك يا أبا بكر بإثنين الله ثالثهما، حتى إذا سكن الطلب عنهما قليلاً خرجا من الغار بعد ثلاث ليالي متجهين إلى المدينة على طريق الساحل، فلحقهما سراقة بن مالك المدلجي على فرس له، فالتفت أبو بكر، فقال: يا رسول الله، هذا الطلب قد لحقنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تحزن، إن الله معنا، فدنى سراقة منهما؛ حتى إذا سمع قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غاصت يدا فرسه في الأرض، حتى مس بطنها الأرض، وكانت أرضاً صلبة، فنزل سراقة وزجرها، فنهضت فلما أخرجت يديها صار لأثرهما عثان ساطع في السماء؛ مثل الدخان، قال سراقة: فوقع في نفسي أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فناديتهم بالأمان فوقف النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن معه، فركبت فرسي حتى جئتهم وأخبرتهم بما يريد الناس بهم، وعرضت عليهم الزاد والمتاع، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنك تمر على إبلي وغنمي بمكان كذا فخذ منها حاجتك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا حاجة لي في ذلك، وقال له: اخفِ عنا، فرجع سراقة وجعل لا يلقى أحداً من الطلب إلا رده وقال: كفيتم هذه الجهة.
أيها المؤمنون، انظروا إلى حماية الله - عز وجل - لرسوله صلى الله عليه وسلم، فسبحان الله، رجل ينطلق على فرسه طالباً للنبي - صلى الله عليه وسلم – وصاحبه؛ ليظفر بهما فيفخر بتسليمهما إلى أعدائهما من الكفار فلم ينقلب حتى عاد ناصراً، معيناً، مدافعاً، يعرض عليهما الزاد والمتاع وما يريدان من إبله وغنمه، ويرد عن جهتهما كل من أقبل نحوها" وهكذا أيها المؤمنون، هكذا كل من كان الله معه فلن يضره أحد، وستكون العاقبة له، فكونوا مع الله يكن الله معكم قال الله تعالى: +إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ" [النحل: 128] "ولما سمع أهل المدينة من المهاجرين والأنصار بخروج النبي صلى الله عليه وسلم، كانوا يخرجون صباح كل يوم إلى الحرة؛ ينتظرون قدوم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحبه حتى يطردهم حر الشمس، فلما كان اليوم الذي قدم فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تعالى النهار واشتد الحر، رجعوا إلى بيوتهم، فإذا رجل من اليهود على أُطم من آطام المدينة ينظر لحاجة له، فأبصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه مقبلين يزود بهم الثرا، فلم يملك أن نادى بأعلى صوته: يا معشر العرب، هذا جدكم، يعني: هذا حظكم وعزكم الذي تنتظرون، فهب المسلمون للقاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معهم السلاح تعظيماً وإجلالاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإيذاناً باستعدادهم للجهاد والدفاع دونه - رضي الله عنهم -، فتلقوا النبي - صلى الله عليه وسلم - بظاهر الحرة، فعدل بهم ذات اليمين ونزل في بني عمرو بن عوف في قباء، وأقام فيهم بضع ليال، وأسس المسجد، ثم ارتحل إلى المدينة والناس معه وآخرون يتلقونه في الطرقات، قال أبو بكر - رضي الله عنه -: خرج الناس حين قدمنا المدينة في الطرق وعلى البيوت والغلمان والخدم يقولون: الله أكبر، جاء رسول الله، الله أكبر جاء محمد (2) وقال أنس ابن مالك - رضي الله عنه -: "إني لأسعى بين الغلمان وأنا يومئذٍ غلام والناس يقولون جاء محمد جاء محمد (3) هكذا يردد الناس هذه الكلمات فرحاً بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ الذي هو أحب الناس إليهم، فيا له من مقدم، ملأ القلوب فرحاً وسرورا، وملأ الآفاق بهجة ونورا "فقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، وكل قبيلة من الأنصار تنازع الأخرى زمام ناقته، النزول عندنا يا رسول الله في العدد والعدة والمنعة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: دعوها فإنها مأمورة، وإنما أنزل حيث أنزلني الله عز وجل، فلما انتهت البعير به إلى مكان مسجده بركت فلم ينزل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وثبت، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد أطلق لها الزمام فصارت غير بعيد، ثم التفتت خلفها فعادت إلى مكانها الأول فبركت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هذا إن شاء الله هو المنزل، وكان هذا المكان لغلامين يتيمين فدعاهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فساومهما ليشتريه منهما فيتخذه مسجداً، فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله، فأبى أن يقبله منهما هبة حتى اشتراه منهما - صلوات الله وسلامه عليه - ثم قال صلى الله عليه وسلم: أي بيوتنا أقرب؟ قال أبو أيوب: أنا يا رسول الله، هذه داري وهذا بابي، قال: فانطلق فهيئ لنا مقيلاً، ففعل رضي الله عنه، ثم جاء فقال: قوما على بركة الله (4) ثم جاء عبد الله بن سلام - رضي الله عنه - وكان حبراً من أحبار اليهود، عالماً من علمائهم، فقال: أشهد أنك رسول الله، وأنك جئت بحق، وقد علمت يهود أني سيدهم وابن سيدهم، وأعلمهم وابن أعلمهم، فادعهم فاسألهم عني قبل أن يعلموا أني أسلمت، فإنهم إن علموا بإسلامي قالوا فيِّ ما ليس فيِّ، فأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى اليهود فأتوا إليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا معشر يهود، ويلكم، اتقوا الله، فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول الله حقاً، وإني جئتكم بحق، قالوا: ما نعلم ذلك، قال: فأي رجل فيكم عبد الله بن سلام؟ فقالوا: سيدنا وابن سيدنا، وأعلمنا وابن أعلمنا، فقال: أرأيتم إن أسلم، قالوا: حاش لله، ما كان ليسلم، فأعاد عليهم القول فأعادوا عليه الجواب، وكان عبد الله بن سلام - رضي الله عنه - قد اختبأ لينظر ماذا يقولون، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا ابن سلام اخرج عليهم، فخرج فقال: يا معشر اليهود، اتقوا الله، فوالله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله، وأنه جاء بحق، فقالوا: كذبت، فأخرجهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال عبد الله للنبي صلى الله عليه وسلم: ألم أخبرك يا رسول الله أنهم قوم بهت، أهل غدر، وكذب، وفجور (5).
أيها المسلمون، هذه هجرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج من بلده؛ ليقيم دعوة الله، ويصلح بها عباد الله، وكان من جملة إصلاحاته صلى الله عليه وسلم إقامة المساجد قبل المساكن، فقد بنى مسجده - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يبني بيوت أهله؛ لأن المساجد مساكن أهل الحي كلهم، ومحل عبادتهم، ففيها يقيمون عبادة الله، ويتلون كتاب الله، ويقرؤون شريعة الله؛ لذلك كانت العناية بها وببنايتها من أهم الأمور.
أيها المسلمون، اتقوا الله - تعالى - واتخذوا من هذه الهجرة عبرة لكم، واصبروا على دينكم، واثبتوا عليه، ولا يهمنكم شيء في مقابلته، فإن الله - عز وجل - يقول: +إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ" [النحل: 128] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
- وجوب هجر المعاصي والتوبة إلى الله عز وجل –
الحمد لله، حمداً كثيراً كما أمر، وأشكره وقد تأذن بالزيادة لمن شكر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولو كره ذلك من أشرك به وكفر، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله سيد البشر، الشافع المشفع في المحشر، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه خير صحب ومعشر، وعلى التابعين لهم بإحسان ما بدى الفجر وأنور، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها المسلمون، فقد سمعتم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هاجر من بلد الله - تعالى – مكة؛ الذي هو أحب البلاد إلى الله عز وجل، وأحب البلاد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، هاجر منها لحماية دين الله والدعوة إليه، هاجر منها كارهاً ما كان عليه أهلها من الشرك والكفر، ولكن العاقبة صارت له ولله الحمد، فقد رجع إليها بعد ثماني سنوات فاتحاً لها، ظافراً منصوراً، هازماً للكفر والأصنام، والحمد لله أفلا يكون جديراً بنا أيها المسلمون أن نهجر ما أمرنا الله بهجره من المعاصي والفسوق؛ فإن المهاجر: من هجر ما نهى الله عنه إذا لم يكن له هجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام، وإن كثيراً من المسلمين اليوم لا يبالون بما فعلوا من المعاصي إلا أن يشاء الله، وإن من فعل معصية من المعاصي فعليه أن يتوب منها، ولا تكون التوبة نصوحاً إلا بخمسة شروط:
الأول:أن تكون خالصة لله عز وجل.
والثاني: أن يندم الإنسان على ما بدر منه من الذنوب.
والثالث: أن يقلع عن الذنب في الحال فإن كان الذنب يتعلق بآدمي فعليه أن يستحله منه أو يرد مظلمته إليه إن كانت مالاً.
الرابع: أن يعزم على أن لا يعود في المستقبل، فإن عاد في المستقبل فإن ذلك لا ينفعه، وهذا هو الشرط الرابع.
أما الشرط الخامس: فأن تكون التوبة في وقت القبول، وذلك بأن تكون قبل حلول الأجل، وقبل خروج الشمس من مغربها، فإن حضر الأجل فلا توبة؛ قال الله عز وجل: +وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ" [النساء: 18].
أيها المسلمون، لقد كثر بين الناس الكذب والخيانة لولاة الأمور، فقد كثر التساؤل في هذه الأيام عن قوم يشترون التمر من صاحب النخل بقيمته الحاضرة، ثم يأخذون من صاحب النخل اسمه، ثم يذهبون بالتمر إلى الحكومة؛ ليبيعوه عليها بثمن أكثر، ويقدمون اسم صاحب النخل الذي باع التمر وأخرجه من ملكه، يقدمونه إلى الحكومة تمويهاً وكذباً وخيانة؛ لأجل أن يربحوا هذا الربح الذي يأخذونه، وإني أقول لهم: إن هذا عمل محرم، حرام على صاحب البستان، وحرام على الذي اشترى التمر وقدمه إلى الحكومة، وهو كذلك خيانة للحكومة، خيانة لولاة الأمور الذين يجب علينا أن نعاملهم بالأمانة والصدق.
أيها الإخوة، إن هذا العمل وأعيده مرة أخرى؛ هو: أن يقوم أحد من الناس ويشتري التمر من صاحب البستان بثمن حاضر ينقده له أو لا ينقده - المهم أنه يشتريه - ويكون التمر ملكاً للمشتري، ويأخذ اسم صاحب البستان ليقدمه، أي: يقدم التمر إلى الحكومة مع اسم صاحب البستان من أجل أن يربح؛ لأنه إذا باعه على الحكومة باعه بأكثر من ثمنه الذي اشتراه به، وهذا العمل حرام على المشتري، وحرام على البائع؛ لأنه كذب وخيانة لولاة الأمور، وكل ربح يأتي من وراء ذلك فإنه خسارة وغرم على صاحبه، وسوف يحاسب عنه يوم القيامة، وهناك معاملة أخرى: يأتي الرجل إلى صاحب البستان فيشتري منه اسمه بدراهم: إما بألفين، أو ثلاثة، أو أكثر، ثم يشتري تمراً من السوق فيجلبه على الحكومة بالاسم الذي اشتراه من صاحب البستان؛ ليبيعه بأكثر مما اشتراه به من السوق، وهذا أيضاً محرم وكذب وخيانة للدولة، فاتقوا الله أيها المسلمون، وكونوا صادقين في معاملاتكم، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في المتبايعين: "إن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما" (6).
أيها المسلمون، احذروا من أكل الحرام، فإن أكل الحرام سبب لمنع الدعاء، سبب لعدم قبول الدعاء؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا" (7) وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال تعالى: +يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ" [البقرة: 172]، وقال تعالى: +يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ" [المؤمنون: 51]، ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم "الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب وملبسه حرام ومطعمه حرام وغذي بالحرام، قال النبي صلى الله عليه وسلم: فأنى يستجاب لذلك" (8) فاستبعد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يستجاب دعاء هذا الرجل مع أنه قد أتى بأسباب إجابة الدعاء؛ من رفعه يديه إلى السماء، وسؤاله ربه باسمه الرب، وكونه أشعث أغبر، وكونه مسافراً، ومع ذلك مع هذه الأسباب كلها استبعد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجيب الله دعوته؛ لأنه يأكل الحرام ويتغذى به، فاتقوا الله أيها المسلمون، وأطيبوا مأكلكم، ومشربكم، ومسكنكم، وملبسكم؛ حتى تكونوا طيبين، وحتى تكونوا مقبولين عند الله، واعلموا "أن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة في دين الله بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، فعليكم بالجماعة، ألا وهي: الاجتماع على دين الله، ومن أهم ذلك الاجتماع على الصلوات الخمس في المساجد، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار" (9) واعلموا أن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه، فقال - جل من قائل عليما -: +إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً"[الأحزاب: 56]، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، اللهم ارزقنا محبته، اللهم ارزقنا اتباعه ظاهراً وباطناً، اللهم توفنا على ملته، اللهم اسقنا من حوضه، اللهم أدخلنا في شفاعته، اللهم اجمعنا به في جنات النعيم مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، اللهم ارض عن خلفائه الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي أفضل أتباع المرسلين، اللهم ارضَ عن أولاده الغر الميامين، وعن زوجاته أمهات المؤمنين، وعن الصحابة أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم ارضَ عنا معهم بمنك وكرمك يا رب العالمين، اللهم أعز المسلمين في كل مكان، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك يا رب العالمين، اللهم كن معهم على عدوهم، اللهم من أراد بالمسلمين كيداً فاجعل كيده في نحره، وشتت شمله، وأفسد أمره، واهزم جنده، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا رب العالمين، اللهم من أراد المسلمين بسوء فشتت عليه الأمور، اللهم اجعل بأسهم بينهم، اللهم اجعل بأسهم بينهم، اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين يا رب العالمين، +رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ"[الحشر: 10].
عباد الله، +إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ" [النحل: 90-91]، واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم +وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ"[العنكبوت: 45].
-------------------
(م1) انظر هذه القصة في البداية والنهاية ذكرها الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في المجلد الثالث ص176.
(2) أخرجه الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه، في كتاب المناقب، باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة، من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها، وأخرجه الإمام أحمد رحمه الله تعالى في مسنده، من حديث البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه جـ1 ص2 (3)، وله رحمه الله تعالى برقم (3)، في مسند العشرة المبشرين بالجنة ت ط ع.
(3) أخرجه الإمام أحمد رحمه الله تعالى في مسنده، من حديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه جـ3 ص222 (13242).
(4) جزء من هذه القصة أخرجه الطبراني رحمه الله تعالى في المعجم الأوسط، من حديث عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنه جـ4 ص35 (3544)، وأخرجه سعيد بن منصور في سننه، قال: حدثني صديق بن موسى بن عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنه جـ2 ص347 (2978) وذكر القصة، وجزء من هذه القصة سبق تخريجها عند البخاري وعند أحمد رحمهما الله تعالى.
(5) أخرجه الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه، في كتاب أحاديث الأنبياء، باب خلق آدم صلوات الله عليه وذريته (3082)، وأخرجه الإمام أحمد رحمه الله تعالى في مسنده، في باقي مسند المكثرين من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين (13365)، من حديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه ت ط ع.
(6) أخرجه الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه، في كتاب البيوع، باب إذا بين البائعان ولم يكتما ونصحا (1937)، وأخرجه الإمام مسلم رحمه الله تعالى في صحيحه، في كتاب البيوع، باب الصدق في البيع (2852)، من حديث حكيم بن حزام رضي الله تعالى عنه ت ط ع.
(7) أخرجه الإمام مسلم رحمه الله تعالى، في كتاب الزكاة، باب قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها، من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (1686) ت ط ع.
(8) نفس الحديث السابق.
(9) أخرجه الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى في مسنده، في مسند المكثرين من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين (14455)، ومسلم رحمه الله تعالى، في كتاب الجمعة (1435)، والنسائي، في كتاب صلاة العيدين (1560)، وأبو داود، في كتاب الخراج والإمارة والفيء (2565)، وابن ماجه، في كتاب المقدمة (44)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه.