إنّ الصيام فريضة عظيمة، يربيّ في النفوس الإرادات والملكات، ويغرس في جنابها الفضائل والكمالات، وفيه تتدرب النفوس على حمل المكروه وتحمّل المشاق والأعباء، وضبط نوازع الهزل والعبث فيها والتحكم في الأهواء.
وفي الصوم امتحان لصبر الإنسان، والصبر رائد النصر، وقد جعله الله زمنا للنشاط وتكثيف الطاعات، وموسمًا للبذل والتسابق في الخيرات فلا يصحّ أن يكون مدعاة للعجز والكسل، وذريعة إلى التقصير في العمل؛ لأنه من الناحية الصحّية قوّة للجسم يدفع عنه كثيراً من الأمراض ويشفي فيه كثيراً من العلل، وهو من الناحية المعنوية يعطي المسلم قوّة الإيمان وصفاء النفس ونقاء الروح التي لها أكبر الأثر في سعادة الأمم أفرادًا وجماعات.
ودليل هذا ذلك السجل الحافل بالانتصارات المظفرة، والمنجزات العظيمة التي حققها النبيّ صلى الله عليه وسلّم ورعيل الصحابة ومن بعدم من الصالحين في فتوحاتهم وحروبهم في مثل هذا الشهر المبارك الكريم الذي هو شهر رمضان.
وفي هذه السطور قبسات وإشارات من أحداث تاريخنا المجيد ارتبطت بنفحات شهر القرآن، ما بين فتح وجهاد، ونصر وتمكين يجد القارئ فيها ـ وبلا شك ـ ما يثير العظة والاعتبار ويبعث في نفسه بوادر الإجلال والإكبار.
ـ1 نزول القرآن في رمضان
إنّ أعظم حدث وقع في شهر رمضان هو ـ بلا جدال ـ نزول القرآن الكريم، قال تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾[البقرة : 158]، وقال تعالى في الليلة التي بدأ فيها هذا النّزول: ﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِين﴾[الدخان: 3] وهي التي سمّاها ليلة القدر، قال تعالى: ﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْر وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْر ﴾[ القدر: 1-2]، والضمير في ﴿أَنْزَلْنَاهُ﴾ عائدٌ على القرآن الكريم وإن لم يتقدّم ذكره لدلالة المعنى عليه، كما قال تعالى: ﴿حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَاب﴾[ص:32] ولم يتقدّم للشمس ذكر.
قال ابن كثير(1) بعد نقله الاتّفاق على يوم بعثته صلى الله عليه وسلّم وهو يوم الاثنين(2): «ثمّ قيل كان ذلك في شهر ربيع الأوّل، كما تقدّم عن ابن عبّاس وجابر أنّه ولد عليه السلام في الثاني عشر من ربيع الأوّل يوم الاثنين، وفيه عرج به إلى السماء، والمشهور أنّه بعث صلى الله عليه وسلّم في شهر رمضان، كما نصّ على ذلك عبيد بن عمير ومحمّد بن إسحاق وغيرهما».
ومما يؤيّد هذا القول ويعزّز موقعه ما ثبت في صحيح البخاري عن ابن عبّاس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كلّ ليلة من رمضان فيدارسه القرآن فَلَرَسول الله صلى الله عليه وسلّم أجود بالخير من الريح المرسلة».
قال الحافظ في الفتح (1/43): «وفيه إشارة إلى أنّ ابتداء نزول القرآن كان في شهر رمضان؛ لأنَّ نزوله إلى السماء الدنيا جملة واحدة كان في رمضان كما ثبت في حديث ابن عبّاس، فكان جبريل يتعاهده كلّ سنة فيعارضه بما نزل عليه من رمضان...».
وقال ابن القيّم في الزاد (1/77): «واختلف في شهر البعث فقيل: لثمان مضين من ربيع الأول سنة إحدى وأربعين من عام الفيل، هذا قول الأكثرين، وقيل بل كان ذلك في رمضان واحتج هؤلاء بقوله تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾، قالوا: أوّل ما أكرمه الله تعالى بنبوّته، أنزل عليه القرآن، وإلى هذا ذهب جماعة، منهم يحي الصرصري حيث يقول في نونيّته:
وأَنْتَ عَلَيْهِ أَرْبَعُونَ فَأَشْرَقَتْ ***
شَمْسُ النُبُوَّةِ في رَمَضَانِ والأوّلون قالوا: إنّما كان إنزال القرآن في رمضان جملة واحدة في ليلة القدر إلى بيت العزّة، ثم نزل منجّما بحسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة، وقالت طائفة : ﴿أُنْزِلََ فِيهِ الّقُرْآنُ﴾، أي في شأنه وتعظيمه وفرض صومه، وقيل كان ابتداء المبعث في شهر رجب».
وخلاصة القول أنّ نزول القرآن كان في شهر رمضان، سواء قلنا بنزوله فيه جملة واحدة، وهذا ممّا لا خلاف فيه لدلالة الكتاب عليه، ولحديث عبد الله ابن عبّاس، أو قلنا إنّ بدء الوحي ونزول أوّل آيات القرآن كان في رمضان على ما هو المشهور من مذاهب العلماء.
والحكمة في تنزيل القرآن في هذا الشهر، ومدارسة جبريل للنبيّ صلى الله عليه وسلم فيه، يتبيّن منها الغرض من الترغيب في تلاوة الكتاب الكريم، وهو تعويض الصائم ما تركه من شهوات نفسه لله، ومدّه بالغذاء المبارك الذي به قوام الأرواح وزكاء النفوس، فكانت الحكمة والله أعلم أن اختار الله شهر رمضان ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ﴾[القصص:68] ليكون موسم تجديد الصلة بالله والرجوع إلى دينه والعكوف على كلامه، فيتجدّد تطهير البشر بهدى من إله الأوّلين والآخرين، وتتشبّع الألسنة والقلوب بتلاوة وتدبّر كلام قيّوم السماوات والأرضين.
يتبع