فضل شهر الله المحرم
عن أبي هريرة قال : قال رسول الله : ( أفضلُ الصيام بعد رمضان شهرُ الله المحرم ، وأفضلُ الصلاة بعد الفريضة صلاةُ الليل ) وفي رواية: ( الصلاة في جوف الليل ) أخرجه مسلم (1) .
* * *
الحديث دليل على فضل صيام شهر الله المحرم ، وأن صيامه يلي فضل شهر رمضان في الأفضلية ، وفضل الصيام فيه جاء من فضل أوقاته وتعظيم الأجر فيه ، لأن الصيام من أفضل الأعمال عند الله تعالى .
وشهر الله المحرم هو الشهر الذي تبدأ به السنة الهجرية ، كما تمَّ الاتفاق على ذلك في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب ، وهو أحد الأشهر الحرم التي ذكر الله في كتابه ، فقال تعالى : إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ [التوبة/36] وعن أبي بكرة عن النبي قال : ( … السنة اثنا عشر شهراً ، منها أربعة حرم : ثلاثة متوالية ، ذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، ورجبُ مُضَرَ الذي بين جمادى وشعبان ) متفق عليه(2) .
وقد أضاف الله تعالى هذا الشهر إليه تشريفاً وتعظيماً ، لأن الله تبارك وتعالى لا يضيف من الأشياء إليه إلا خواصُها كبيت الله ، ورسول الله ، ونحو ذلك ، وسمي محرماً تأكيداً لتحريمه ، لأن العرب كانت تتقلب فيه ، فتحله عاماً وتحرمه عاماً .
وقوله تعالى : فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ أي : في هذه الأشهر المحرَّمة ، لأنها آكد وأبلغ في الإثم من غيرها ، قال قتادة : ( إن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئةً ووزراً من الظلم فيما سواها ، وإن كان الظلم على كل حال عظيماً ، ولكن الله يُعَظِّمُ من أمره ما يشاء ) (3) .
وقد جعل الله هذه الشهور الهلالية مواقيت للناس ، لأنها علامات محسوسة يعرف كل أحد بدايتها ونهايتها ، ومما يؤسف عليه أن كثيراً من المسلمين تركوا التاريخ الهجري ، وأخذوا بتاريخ النصارى الميلادي المبني على أشهر وهمية غير مبنية على مشروع ولا معقول ولا محسوس .
وهذا دليل الضعف والانهزامية والتبعية لغير المسلمين ، ومن مفاسده : ربط المسلمين وناشئتهم بتاريخ النصارى ، وإبعادهم عن تاريخهم الهجري الذي ارتبط برسولهم وبشعائر دينهم وعبادتهم (4) ، فالله المستعان .
وقد دل الحديث على أن أفضل ما يتطوع به من الصيام بعد رمضان صوم شهر الله المحرم ، والظاهر أن هذا محمول على أنه أفضل شهر يُتطوع بصيامه بعد رمضان ، أما التطوع بصيام بعض الأيام منه فقد يكون بعض الأيام أفضل من أيامه كيوم عرفة ، وستة أيام من شوال .
وظاهر الحديث فضل صيام شهر المحرم كاملاً ، وحمله بعض العلماء على الترغيب في الإكثار من الصيام في شهر المحرم لا صومه كله ، لقول عائشة رضي الله عنها : ( … ما رأيت رسول الله استكمل صيام شهر قط إلا رمضان ، وما رأيته في شهر أكثر منه صياماً في شعبان ) أخرجه مسلم (5) .
اللهم أيقظنا من رقدات الغفلة ، وارزقنا الاستعداد قبل النُّقلة ، وألهمنا اغتنام الزمان وقت المهلة ، ووفقنا لفعل الخيرات ، وترك المنكرات ، وصلّى الله وسلم على نبينا محمد …
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) صحيح مسلم (1163) .
(2) صحيح البخاري (4662) ومسلم (1679) .
(3) تفسير بن كثير (4/89-90) .
(4) انظر : التشبه المنهي عنه ص (542) .
(5) صحيح مسلم (1156) (175) .
يوم عاشوراء في التأريخ
عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : ( كان يوم عاشوراء تصومه قريش في الجاهلية ، وكان رسول الله يصومه في الجاهلية ، فلما قدم المدينة صامه ، وأمر بصيامه ، فلما فُرِضَ رمضان ترك يوم عاشوراء ، فمن شاء صامه ، ومن شاء تركه ) أخرجه البخاري ومسلم (1) .
* * *
الحديث دليل على أن أهل الجاهلية كانوا يعرفون يوم عاشوراء ، وأنه يوم مشهور عندهم ، وأنهم كانوا يصومونه ، وكان النبي يصومه - أيضاً - ، واستمر على صيامه قبل الهجرة ، ولم يأمر الناس بصيامه ، وهذا يدل على قدسية هذا اليوم وعظيم منـزلته عند العرب في الجاهلية قبل بعثة النبي ، ولهذا كانوا يسترون فيه الكعبة ، كما في حديث عائشة - أيضاً - رضي الله عنها ، قالت : ( كانوا يصومون عاشوراء قبل أن يفرض رمضان ، وكان يوماً تُسْتَرُ فيه الكعبة … الحديث ) أخرجه البخاري (2) ، قال القرطبي : ( حديث عائشة يدل على أن صوم هذا اليوم كان عندهم معلوم المشروعية والقدر ، ولعلهم كانوا يستندون في صومه إلى أنه من شريعة إبراهيم وإسماعيل - صلوات الله وسلامه عليهما - فإنهم كانوا ينتسبون إليهما ، ويستندون في كثير من أحكام الحج وغيره إليهما …) (3).
والذي يستفاد من مجموع الأدلة أن صوم عاشوراء كان واجباً في أول الأمر بعد هجرة النبي إلى المدينة ، على الصحيح من قولي أهل العلم (4) ، لثبوت الأمر بصومه ، وعن سلمة بن الأكوع قال : ( أمر النبي رجلاً من أسلم أن أذن في الناس : أن من كان أكل فليصم بقية يومه ، ومن لم يكن أكل فليصم ، فإن اليوم يوم عاشوراء ) متفق عليه (5) .
ولما فرض رمضان في السنة الثانية من الهجرة نُسِخَ وجوبُ صومِ عاشوراء ، وبقي الاستحباب ، ولم يقع الأمر بصوم عاشوراء إلا في سنة واحدة ، وهي السنة الثانية من الهجرة حيث فرض عاشوراء في أولها ، ثم فرض رمضان بعد منتصفها ، ثم عزم النبي في آخر عمره - في السنة العاشرة - على ألا يصومه مفرداً بل يصوم قبله اليوم التاسع ، كما سيأتي - إن شاء الله - وهي صورة من صور مخالفة أهل الكتاب في صفة صيامهم .
اللهم يا من لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة ، ارزقنا التوبة إليك والإنابة ، وأيقظنا يا مولانا من نوم الغفلة ، ونبهنا لاغتنام أوقات المهلة ، اللهم اجعلنا ممن توكل عليك فكفيته ، واستهداك فهديته ، واستنصرك فنصرته ، وتضرع إليك فرحمته ، وصلّى الله وسلم على نبينا محمد …
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) صحيح البخاري (2002) ومسلم (1125) .
(2) أخرجه البخاري (1952) .
(3) المفهم (3/190) .
(4) الفتاوى (25/311) .
(5) صحيح البخاري (2007) ومسلم (1135) ، وله شاهد من حديث الرُّبَيِّع بنت معوِّذ عند البخاري (1960) ومسلم (1136) وشواهد أخرى عند أحمد وغيره .
الحكمة من صيام يوم عاشوراء
عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : قدم رسول الله المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء ، فسئلوا عن ذلك ، فقالوا : هذا اليوم الذي أظهر الله فيه موسى وبني إسرائيل على فرعون ، فنحن نصومه تعظيماً له ، فقال رسول الله : ( نحن أولى بموسى منكم ، فأمر بصيامه) أخرجه البخاري ومسلم ، وفي رواية لمسلم : ( فصامه موسى شكراً ، فنحن نصومه … )(1) .
* * *
في الحديث بيانٌ للحكمة العظيمة من مشروعية صيام يوم عاشوراء ، وهي تعظيم هذا اليوم وشكرُ الله تعالى على نجاة موسى عليه الصلاة والسلام وبني إسرائيل ، وإغراق فرعون وقومه ، ولهذا صامه موسى عليه السلام شكراً لله تعالى ، وصامته اليهود ، وأمة محمد أحق بأن تقتدي بموسى من اليهود ، فإذا صامه موسى شكراً لله تعالى ، فنحن نصومه كذلك ، ولهذا قال النبي : ( نحن أولى بموسى منكم ) وفي رواية : ( فأنا أحق بموسى منكم ) أي : نحن أثبت وأقرب لمتابعة موسى عليه السلام منكم ، فإنا موافقون له في أصول الدين ، ومصدقون لكتابه ، وأنتم مخالفون لهما بالتغيير والتحريف ، والرسول أطوع وأتبع للحق منهم ، فلذا صام يوم عاشوراء ، وأمر بصيامه تقريراً لتعظيمه ، وتأكيداً لذلك .
وعن أبي موسى قال : كان يوم عاشوراء يوماً تعظمه اليهود ، وتتخذه عيداً ، فقال رسول الله : ( صوموا أنتم ) أخرجه البخاري ومسلم ، وفي رواية لمسلم : ( كان أهل خيبر يصومون يوم عاشوراء يتخذونه عيداً ، ويُلبسون نساءهم فيه حليهم وشارتهم ، فقال رسول الله : ( فصوموا أنتم )(2) .
وظاهر هذا أن من حكمة صومه مخالفة اليهود ، وذلك بعدم اتخاذه عيداً ، والاقتصار على صومه ، لأن يوم العيد لا يصام ، وهذا أوجه من مخالفة اليهود في كما أن صوم النفل يهيئ المسلم للترقي في درجات القرب من الله تعالى ، والظفر بمحبته ، كما في الحديث القدسي : ( ما تَقرَّب إليّ عبدي بأفضل مما افترضته عليه ، ولا يزال عبدي يتقرب إلىّ بالنوافل حتى أحبَّه … الحديث )(3) .
وأعلم أن كل نص جاء فيه تكفير بعض الأعمال الصالحة للذنوب ، كالوضوء وصيام رمضان وصيام يوم عرفة ، وعاشوراء وغيرها ، أن المراد به الصغائر ، لأن هذه العبادات العظيمة ، وهي الصلوات الخمس والجمعة ورمضان إذا كانت لا تُكَفَّر بها الكبائر - كما ثبت في السنة - ، فكيف بما دونها من الأعمال ؟
ولهذا يرى جمهور العلماء أن الكبائر كالربا والزنا والسحر وغيرها ، لا تكفِّرها الأعمال الصالحة ، بل لا بد لها من توبة أو إقامة الحد فيما يتعلق به حد .
فعلى المسلم أن يباد بالتوبة في هذه الأيام الفاضلة من جميع الذنوب صغيرها وكبيرها ، لعل الله تعالى أن يتوب عليه ويغفر ذنبه ،
ويقبل طاعته ، لأن التوبة في الأزمنة الفاضلة لها شأن عظيم ، فإن الغالب إقبال النفوس على الطاعات ، ورغبتها في الخير ،
فيحصل الاعتراف الذنب ، والندم على ما مضى ، لا سيما ونحن في بداية عام جديد ، وإلا فالتوبة واجبة في جميع الأزمان .
اللهم يا مصلح الصالحين أصلح فساد قلوبنا ، واستر في الدنيا والآخرة عيوبنا ، اللهم حبب إلينا الإيمان ، وزينه في قلوبنا ،
وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان ، واجعلنا من الراشدين ، وصلّى الله وسلم على نبينا محمد …
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) صحيح البخاري (3943) ومسلم (1130) (127) (128) .
(2) صحيح البخاري (2005) ومسلم (1131) (129) (130) .
(3) رواه البخاري (6502) .
استحباب صيام اليوم التاسع مع العاشر
عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رسول الله لما صام يوم عاشوراء وأمر بصيامه قالوا : يا رسول الله ، إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى ، فقال رسول الله : ( فإذا كان العام المقبل - إن شاء الله - صمنا اليوم التاسع ) قال : فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله . أخرجه مسلم ، وفي رواية له : ( لئن بقية إلى قابل لأصومن التاسع )(1) .
* * *
الحديث دليل على أنه يستحب لمن أراد أن يصوم عاشوراء أن يصوم قبله يوماً ، وهو اليوم التاسع ، فيكون صوم التاسع سنة وإن لم يصمه النبي ، لأنه عزم على صومه ، والغرض من ذلك - والله أعلم - أن يضمه إلى العاشر ليكون هديه مخالفاً لأهل الكتاب ، فإنهم كانوا يصومون العاشر فقط ، وهذا تشعر به بعض الروايات في مسلم ، وقد صح عن ابن عباس - رضي الله عنهما - موقوفاً عليه : ( صوموا التاسع والعاشر خالفوا اليهود )(2) .
وفي هذا دلالة واضحة على أن المسلم منهي عن التشبه بالكفار وأهل الكتاب ، لما في ترك التشبه بهم من المصالح العظيمة ، والفوائد الكثيرة ، ومن ذلك قطع الطرق المفضية إلى محبتهم والميل إليهم ، وتحقيق معنى البراءة منهم ، وبغضهم في الله تعالى ، وفيه - أيضاً - استقلال المسلمين وتميزهم .
وقد ذكر أهل العلم أن أفضل المراتب في صيام عاشوراء ، صوم ثلاثة أيام : التاسع والعاشر والحادي عشر ، واستدلوا بحديث ابن عباس : ( خالفوا اليهود وصوموا قبله يوماً وبعده يوماً )(3) ، وهذا حديث ضعيف ، لا يعول عليه ، إلا أن يقال إن صيام الثلاثة يأتي فضلها زيادة على فضل عاشوراء لكونها من شهر حرام ، يوم عاشوراء ، وسيأتي - إن شاء الله - وجه آخر من المخالفة ، وهو صوم التاسع قبله .
وقد ضلَّ في هذا اليوم طائفتان :
طائفة شابهت اليهود فاتخذت عاشوراء موسم عيد وسرور ، تظهر فيه شعائر الفرح كالاختضاب والاكتحال ، وتوسيع النفقات على العيال ، وطبخ الأطعمة الخارجة عن العادة ، ونحو ذلك من عمال الجهال ، الذين قابلوا الفاسد بالفاسد ، والبدعة بالبدعة .
وطائفة أخرى اتخذت عاشوراء يوم مأتم وحزن ونياحة ، لأجل قتل الحسين بن علي - رضي الله عنهما - تُظهر فيه شعار الجاهلية من لطم الخدود وشق الجيوب ، وإنشاد قصائد الحزن ، ورواية الأخبار التي كذبها أكثر من صدقها ، والقصد منها فتح باب الفتنة ، والتفريق بين الأمة ، وهذا عمل من ضلَّ سعيه في الحياة الدنيا ، وهو يحسب أنه يحسن صنعاً .
وقد هدى الله تعالى أهل السنة ففعلوا ما أمرهم به نبيهم من الصوم ، مع رعاية عدم مشابهة اليهود فيه ، واجتنبوا ما أمرهم الشيطان به من البدع ، فلله الحمد والمنة .
اللهم فقهنا في ديننا ، وارزقنا العمل به والاستقامة عليه ، ويسِّرنا لليسرى ، وجنبنا العسرى ، واغفر لنا في الآخرة والأولى ، وصلّى الله وسلم على نبينا محمد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) صحيح مسلم (1134) .
(2) أخرجه عبد الرزاق (4/287) والطحاوي (2/78) والبيهقي (4/278) عن ابن جريج ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، وإسناده صحيح .
(3) أخرجه البيهقي (4/287) وهو رواية عنده للحديث الآتي .