الحمد لله ، والصّلاة والسّلام على رسولِ الله ، وعلى آله وصحبه ومَن والاه .
أمـَّـا بَعْدُ:
فقد جمعنا مجلسٌ علميٌّ مع بعض إخواننا طلبة العلم - في ليلة السابع عشر من شهر رمضان سنة (1424 هـ) - نتباحثُ فيه شؤونَ الدعوةِ ، ومسائلَ العلمِ .
ووقَع مِن لساني (!) - أثناء البحثِ - فِعلُ (أُحَبِّذُ ..) - في طيِّ الكلام - ؛ فاستدركَ عليَّ بعضُ الحاضرين مِن الإخوةِ النّاشئين - الَّذين نرجو لهم التّقدم والازدياد - أنَّ هذا (لا يجوزُ في اللُّغة)!! مُعللاً ذلك بكونه فِعلاً ماضيًا (جامِدًا) ، والجامد لا يُصاغُ منه فعلٌ مشتقّ!!
ففاجأَنِي كلامه - هكذا -! لكنِّي طلبتُ - للتوثق والاستفادة - مراجعة كتابِ «تاجِ العروس» - لِمَا أعلمه فيه من توسع واستيعابٍ - ؛ فلم يكن موجودًا ..
.. لكنَّه أحضرَ كتابَ «لسان العرب» (1) ، وقرأ منه ما يؤيد دعواه ؛ فلم أجدْ - والحالة هذه - إلاَّ السكوتَ ؛ لضعفِ المكتبة العلمية الموجودة - ثمة -
ولكنِّي ختمتُ البحثَ (!) بقولي - مُداعبًا -: «لن (أُحَبِّذَ) بعد اليوم استعمالها ..»! فضَحِكَ القوْم ..
واليَوْم:
وجدتني - في مكتبتي - أراجعُ المصادِرَ والمراجِعَ اللُّغويَّةَ الَّتي تسعفني بها ذاكرتي ، وتعينني عليها مكتبتي!
فكان أوّلَ ذلك كتابُ «القاموس المحيط» - للفيروزآبادي - ؛ إذ قال (ص424) : «لا تُحَبِّذْنِي تَحْبِيذًا : لا تقُلْ لي: حَبَّذا».
ومنه انطلقت إلى «تاج العروس من جواهر القاموس» (2/558) - للعلامة الزبيدي- ؛ فقال - شارحًا ، ومبينًا ، ومستدركًا -:
«(لا تُحَبِّذْنِي تحبيذا): أهملَه الجوهري ، وصاحب «اللسان» ، وقال الصّغاني عن الفراءِ: أي: (لا تقل لي: حَبَّذَا) ؛ هكذا رواه ، وهو من الألفاظ المُولَّدة المنحوتة من قولهم: (حَبَّذَا - في المدح ، ولا حَبَّذَا - في الذمِّ) ، وفي زيادة مثله على «الصحاح» نظرٌ .
قال شيخنا (2): ثم ظاهر كلامه - بل صريحه - ؛ أنها لا تستعمل إلا في النهي ؛ لأنه جاء بالفعل مقرونًا بـ(لا) - النّاهية - ، وفسّرها بقوله: (لا تقل لي: حبَّذَا) ، والصواب: أن الذين استعملوها استعملوها بغير نهي ؛ فقالوا: (حّبَّذَهُ يُحَبِّذُهُ تَحْبِيذًا ، قال له: حَبَّذَا ، ولا تُحبِّذ: لا تقل ذلك) .
وهو لفظٌ منحوت من لفظ (حَبَّذَا) المُركَّب من (حَبّ) و(ذَا) ، وإلاَّ لكان آخره حرف علّة - كما لا يخفى - ؛ وهذا إنما قاله بعض النحويين ، وليس من اللغة في شيء ؛ فلذلك لم يذكره الجوهريُّ وغيرُهُ من أئمة اللغة . انتهى» .
ولخَّصَهُ في كتابه - الآخر - «التكملة والذيل والصلة لِما فات صاحب "القاموس" من اللغة» (2/351) - حاذفًا كلام شيخه ، واستدراكَه! - .
وقال العلامة الصغاني في «التكملة والذيل والصلة لكتاب "تاج اللغة وصِحاح العربية"» (2/374):
«الفراء: لا تُحَبِّذْنِي ؛ أي: لا تقل لي: حَبَّذَا» .
وقال أحمد رضا في «معجم متن اللغة» (2/9):
«حَبَّذَهَ: قال له: حَبَّذَا - مُوَلَّد من حَبَّذَا» .
وفي «المعجم الوسيط» (1/151):
«حَبَّذَ فُلانًا: قال له: حَبَّذا ، وحَبَّذَ الأمرَ: مدحه وفضله (محدثة) (3)» .
وفي كتاب «معجم الأغلاط اللغوية المعاصرة» (ص141-142) - بعد نقله الإجمالي من عددٍ من المصادر السابقة - ومشيرًا إلى «التاج» ، و«متن اللغة»، و«المعجم الوسيط» ؛ قال:
«وأنا أرى رأي هذه المعجمات .
وأقترحُ على مجمعي دمشق والقاهرة - اللذين أصدرا المعجمين الأخيرين - ، وعلى مجمعي بغداد وعمان:
الموافقة على أن نقول:
حَبَّذَ الأمرَ يُحَبِّذُهُ تحبيذًا ، وحَبِّذ الأمرَ ، ولا تُحَبِّذْهُ ؛ لأن ستّة معاجم نفيسة قد وافقت على ذلك ، ولأن هذا الفعل (حَبَّذَ) قد أزال معظم أدبائنا (جمـــوده) ، ولأن الاشتقاق منه سهل ، وليس مستحيلاً ؛ مثل الأفعال الجامدة: نعم ، وبئس ، وليس .
لِذا لا أرى بأسًا بقولنا:
أستحسِنُ الأمر ، أو أحبذ الأمر» .
أقول: وبقوله - رحمه الله - أقول.
وهو قول جيد قوي ؛ لا أرى ما يخدشه ، ولا ما يعكر صفوه (4) .
والله الموفق .
وصلى الله على نبينا محمدٍ ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
ـــــــــــــــــــــــــ
(1)- ونص كلامه - تامًّا - في (1/547-548- ترتيبه) - منه -: «حبذ: ذكر الأزهري هذه الترجمة في (الحاء والذال والباء) ، قال: وأمّا قولهم: (حبذا كذا وكذا) ، بتشديد الباء ؛ فهو حرف معنى أُلِّفّ من (حَبّ) و(ذا).
وقال في آخر الفصل: و(حبذا) في الحقيقة فعل واسم: (حَبّ) بمنزلة: (نِعْم) ، و(ذا) فاعل بمنزلة: (الرجل) ، وقد ذكرناه نحن في ترجمة (حبب) فيما تقدم . والله أعلم» .
قلتُ: والكلام في «تهذيب اللغة» (4/469) - للأزهري - .
(2)- هو - فيما أرجح - العلامة محمد بن الطيب الفاسي ؛ المتوفي سنة (1170 هـ) - كما ذكره الزبيدي في مقدمة «التاج» (1/3) .
وله ترجمة في «سلك الدرر» (4/91) للمرادي .
(3)- وكذا في «المعجم الوجيز» (ص131) ؛ لكن بحذف كلمة (محدثة)! .
(4)- وبخاصة أن له نظائر ؛ ففي «القاموس» (1611): «صَهٍ .. كلمة زجر للمتكلم ؛ أي اسكُت .
و(صَهْصَهْ) بهم: أسكتهم ؛ فقال لهم: صَهْ صَهْ» .. وانظر «التاج» (36/429) .
كتبه في مجلس واحد
علي بن حسن بن عبد الحميد الحلبي الأثري
بين عصري يوم الأربعاء
17 - رمضان - 1424 هـ
نقلاً عن كتيب بعنوان:
« دَفعُ المُؤَاخَذَةِ فِي اشْتِقَاقِ " حَـــبَّـــــذَا " »
للشيخ/
علي الحلبي الأثري .