الثقافة , هل هي مجرد كلام ؟
ماهي الأسس التي تقوم عليها ثقافتنا، وما هي المعايير التي يجب أن نستخدمها في مقاربتها أو تقييمها والحكم عليها ومحاولة تقويمها، أو تحديد مواطن الصحة والخطأ فيها؟
وهل هذه الأسس مقنعة، شكلاً ومضموناً ووسائل واساليب مثاقفة، وتصمد أمام التحولات والآراء الأخرى، ومن أين وكيف جاءت هذه الاسس، وكيف دامت، ولا تزال تعيش، وهل تملك مقومات البقاء والتطور بل والقدرة على معايشة ومجاورة ومحاورة غيرها من الثقافات، وما هي طبيعة العلاقة القائمة بينها وبين انسانها المعاصر؟
في العصر العربي الجاهلي، كان الشعر يوزن بالغناء، ثم بالبحور التي وثقها الخليل، وبالنحو والصرف وفنون البلاغة أيضاً بعد ذلك، واصبح الشعر الآن يوزن بالصور واللغة والانحرافات والصدمات وفتح الفضاءات وتحريك الراكد وتغيير الجغرافيا السابقة، وعلى كافة المستويات، في الحس والتصور والقيم والقناعات والادراك.
فبأي شيء نزن ثقافتنا «أو ثقافاتنا» الحاضرة أو المعاصرة ونقارب انتاجها المعرفي والابداعي، اذا استبعدنا ما هو «تمظهر وصنعة وتجارة»؟
الثقافة القديمة، كانت وما تزال توزن من قبل اصحابها ومريديها بمقدار خضوعها واتباعها لتعليمات وقواعد ونظم ثابتة ومفروضة ومحددة سلفاً وغير قابلة للنقاش أو التعديل والتطوير والتحديث في نظرهم وعلى الرغم من سوء فهمهم هذا، لأن هذه المعايير ليست نابعة في الاصل من جوهر واهداف الثقافة ولا من جدلياتها ولا مما فرضته مراحل تكوينها ومسيرة تطورها وتعالقها بالانسان ووجوده وتطوره الاجتماعي، ولو كانت كذلك لم تصبح ثقافة أو هي ثقافة مزورة ومكذوبة ودخيلة على الحضارة الانسانية التي لا تعرف الوقوف في محطة واحدة.
الثقافة جسد، أهم مفاصله حاجات الانسان وذائقته «مادياً وروحياً»، وعلى التوافق بين بُنيتها ووجوده يتوقف الاقتناع بها كثقافة والنظر إليها والتعايش معها ويتم ابتكار بُنى ثقافية جديدة وخاصة تتولد من تعايشهما وتجادلهما وتصادمهما احياناً.
نعرف جميعاً أن الثقافة كانت مشافهة، وإلى أن تطورت إلى كتابة ودخلت الآن مرحلة ثقافة الحواس التي تغلب عليها حاسة البصر، وفيما يسمى الآن بعصر الثقافة البصرية، وفي عودة طبيعية إلى عناصر الكون والواقع المحسوس، والتي بدأ فيها الانسان يرى ويكتب بعدما كان يسمع ويقول «فقط»، وفيما يمكن أن يكون أول انجازات ومميزات الثقافة الجديدة.
النمطية مثلاً خاصية من خواص الثقافة القديمة، وترتبط بالماضي، أما الاختلاف فهو من خواص الثقافة الجديدة، أو، هكذا يجب أن تكون لكي تحصل على صفة «الجديدة» ولتنفي عنها صفة الثبات والجمود والسكون.
الثقافة القديمة تقوم على الممنوعات، مع أن الاصل في الاشياء الاباحة، ففي الشعر «مثلاً» وفي القافية «بخاصة» ولدى العروضيين القدامى واتباعهم (يجب الامتناع عن الجمع بين حروف غير موسيقية كالثاء والخاء والشين والصاد والضاد والطاء والظاء والغين والذال والواو والزاي)، وقيود الوزن والقافية وحدود الاساليب والمعاني مليئة بما يجب ويمتنع ويكره وروده وبما هو عيب أو قبيح.
في حين تقوم الثقافة الجديدة على، وتهدف إلى اجتياح الممنوعات والقيود والحدود والقواعد التي تعوقها وتعوق الابداع وتمنعهما من الحركة المتواصلة والتجديد الواعي المغاير المفتوح الفضاءات والمجالات، ولتعلن نهاية عصر الشروط والمواصفات ولينتهي معه الوزن والقافية والقوالب الجاهزة والطرق المستهلكة والتي لم تعد صالحة الآن وان كان بعضهما قد وجد في فترة ما من فترات الماضي الثقافي والابداعي القديم.
وبما أن الثقافة الجديدة كذلك، فهي واقعية، وغير متعالية أو نخبوية أو معزولة أو برج عاجية، فيما تقترن بواقع انسانها المعاصر وهمومه واحلامه واسئلته ووعيه المتجدد، وبكل ما يحيط به من اشياء مهما تناهت هذه الاشياء في الصغر أو اعتقد اصحاب الثقافة القديمة أنها عديمة الاهمية لأنهم «الخاصة» الذين لا يشعرون بما يشعر به غيرهم.
الثقافة القديمة هي الاخذ من كل فن بطرف، للتسلية والمنادمة والمباهاة وتحصيل المنافع الدنيوية الشخصية، أما الجديدة فلا تكتسب قيمتها الا اذا اقترنت بالفعل وطابق القول العمل، فهي ليست مجرد «كلام» وليست مجرد ترديد لمعلومات ارشيفية ومعرفة سالفة ومحفوظات يتم ترديدها في المناسبات بقدر ما هي طاقة متعددة الاشكال والمضامين والتقنيات ومتوافقة مع ما يقتضيه الانسان المعاصر لها متلاحمة مع رغباته وعواطفه وذات حضور اجتماعي معاصر وحي ونشط وذات قدرة على التخييل والتأثير والتغيير ومقترنة بالفعل وداعية إليه بما هي سلوك يقوِّم الكلام.
تقوم الثقافة الجديدة على الانسان، وتكتسب قيمتها منه، فيما هي ذاته وحياته وقيمه وقد تحولت إلى مشترك حضاري عام لا يعترف بالحدود المادية والفكرية والاجتماعية، في الوقت نفسه الذي تمنع فيه ثقافة الماضي الانسان من التفكير أو الحلم أو التجديد وتطلب منه «فقط» أن يعترف ويطبق هذا الاعتراف في اقواله بأن ليس في الامكان اعظم ولا أفضل ولا أكثر جدوى مما كان، وان عليه فقط أن يقوم باجترار الماضي وآثاره الفنية والثقافية والابداعية وان يتغنى به ويمجده دون وعي ولا فرز ولا تمييز وان يبكي عليه ويحققه ويعيد مذاكرته ويحافظ على قيمتهما هو تقادمهما وغوصهما في الماضي البعيد وانتسابهما إليه، ومن حيث ان مصلحة ومنافع اصحاب هذه الثقافة القديمة تدفعهم إلى حمل الناس على ما لا يطيقون وما لا تقبله عقولهم واذواقهم المتجددة.
لم يبدأ الشعر وينتهي عند زهير بن ابي سلمى وابنه كعب وجرير وابي العتاهية ومحمود سامي البارودي وغيرهم، كما لن تتوقف مسيرة الشعر الجديد لان اصحاب الثقافة القديمة يريدون ذلك، واذا كانت مرحلة السياب وادونيس ونزار التي انتهت على الرغم من بقاء طوابير من التلاميذ خلف كل واحد منهم إلى الآن هي ما يراهنون عليه، فالمراحل الشعرية التي تلتها وسوف تليها ستواصل تجديدها وتحديثها للشعر مبتعدة أكثر وأكثر عن الحدود القديمة التي منعت اقتران الكلام بالسلوك مؤكدة أن (اعذب الشعر أكذبه)، في حين تؤكد الثقافة الجديدة الآن ومستقبلاً أهمية الصدق مثلماً تؤكد سقوط الثقافة الكاذبة والابداع المزور والمصطنع.
من كتاب : من أين لهم هذه القوة , ومن يكسب الرهان ؟ عبدالله سعد اللحيدان . بيروت . طبعة 2009 .
منقول